أذواق نبوية راقية

  • محاضرة في الأردن
  • 2021-06-07
  • عمان
  • الأردن

أذواق نبوية راقية

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

قصة جابر بن عبد الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أيها الأخوة الكرام ؛ اليوم اخترت لكم موقفاً من كتابي الذي طُبع قبل أيام: "موقف وعبرة"، أكرمني الله تعالى به، جمعت به خمسة وأربعين موقفاً من السيرة النبوية وقص الصحابة، والسلف الصالح، واستنبطت منها الدروس والعبر، فاخترت أن يكون موقف اليوم من هذه المواقف.
الموقف رواه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح، وهو مجموعة من الأدبيات والذوقيات النبوية الرفيعة العالية في تعامله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، سميت الموقف: جملُ جابر، الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنه يروي فيقول:

{ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: في غزوة ذات الرِّقاع )) }

[أخرجه البخاري ومسلم والنسائي]

غزوة ذات الرقاع غزاها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة للهجرة النبوية الشريفة ضد قبيلة غطفان، بعد أن بلغه أنهم يعدون العدة لغزو المدينة، سميت ذات الرقاع لقلة الرواحل فيها، النوق والجمال، فاضطر المسلمون إلى لف الخرق - الرقاع - والجلود على الأرجل ليتابعوا المشي من شدة ما لقوه من عناء، لفوا الخرق والجلود على أرجلهم فسميت غزوة ذات الرقاع.
يقول جابر: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع مرتحلاً على جمل لي ضعيف، فلما قفل رسول الله - أي رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم جعلت الرفاق تمضي، وجعلت أتخلف، جمله ضعيف لا يستطيع المشي، فجعل يتخلف عن رفاقه، حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا جابر؟ قلت: يا رسول الله ! أبطأ بي جملي هذا، قال: فأنخه - أنزله على الأرض - وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمله ثم قال: أعطني هذه العصا من يدك، أو قال: اقطع لي عصا من شجرةٍ.
دقة رواة الحديث الشريف
انظروا إلى دقة الرواة عندما يروون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يأتيك رجل في آخر الزمان يقول لك: وما أدرانا أن هذا صحيح! وأن هذا حصل، وأن هذا لم يحصل؟ وهم كانوا يتسابقون لنقل همسة من همساته صلى الله عليه وسلم، وضحكة من ضحكاته، وتمعر في وجهه، ينقلون الحركات، يسمونها اليوم: لغة الجسد، وإذا شك الراوي يقول: أو قال كذا، حتى يكون أميناً في النقل، لا يوجد كلام، ووصف، وسنة في الأرض كلها وصلت إلى قوم كما وصلت سنة نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا حتى تؤمن بكل خلية من خلاياك أن هذا الكلام قد تكلم به يوماً رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن هذا الوصف حاصل في رسول الله حتماً، توقن لمجرد أن تقرأ، والله هؤلاء الذي يشككون لو قرؤوا وفتحوا صحيح البخاري، وقرؤوا قراءة واعية فقط دون أي أدلة لأيقنوا أن هذا يقين لا يخالطه شك لشدة أمانة الرواة وعدالتهم، وضبطهم في نقلهم لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: اقطع لي عصا من شجرة؟ قال: ففعلت، قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخسه بها نخسات، أي طعن جنبه بالعود عدة طعنات، ثم قال: اركب، فركبت فخرج، والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة - أي يسابق ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم - هذه من بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معجزاته الحسية، نبينا صلى الله عليه وسلم أعظم معجزة جاء بها على الإطلاق هي القرآن الكريم، لأنه معجزة معنوية مستمرة إلى قيام الساعة، لا يستطيع ذو عقل أن ينكرها، لكن مع معجزته العظيمة القرآن الكريم جعل الله له بعض المعجزات الحسية، وهذه واحدة منها، نخس الجمل نخسات، فمضى وأصبح يواهق ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يباريها ويسابقها، قال: وتحدث معي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال - انظروا الآن إلى هذا الأدب الذي لا يدانيه أدب -: أتبيعني جملك هذا يا جابر؟! الآن صار جمله سريعاً، قال: أتبيعني جملك هذا يا جابر؟ قلت: يا رسول الله بل أهبه لك هبةً، قال: لا، ولكن بعنيه بالثمن، قال: قلت: فسمني به، يحتاج مساومة، أي مفاصلة بالعامية، أخذ وعطاء، أي اعرض عليّ ثمنه كم تريد؟ سمني به، قال: قد أخذته بدرهم، درهم ! قلت: لا، إذاً يغبنني رسول الله صلى الله عليه وسلم، درهم واحد؟ هذا غبن، أتمنى هبة، لكن درهم ! إذاً يغبنني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بدرهمين، قال: لا، قال: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع لي حتى بلغ الأوقية بالوزن، قلت: قد رضيت، اتفقوا على البيع، قال: قد رضيت تأكيداً؟ قلت: نعم، قلت: هو لك، البيع إيجاب وقبول، والثمن معلوم، والبضاعة جاهزة للتسليم، انتهت شروط البيع، انعقد البيع، صار البيع وانتهى.
ثم قال لي: يا جابر! هل تزوجت بعدُ؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: أثيباً أم بكرا؟ الثيب؛ هي التي كان لها زوج، ومات عنها، أو طُلقت، أي كان لها زوج قبل ذلك، والبكر التي لم يسبق لها أن تتزوج، قلت: ثيباً، امرأة مات زوجها، قال: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ لماذا لم تختر صغيرة تكون أعفَّ لنفسك، من مقاصد الزواج الإعفاف، ويبدو أن جابر في هذا الوقت كان في عمر الشباب، فسأله: لماذا لم تأخذ جارية؟ والجارية سميت جارية لأنها تجري، تعبيراً عن صغر سنها، قال: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ قلت: يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعاً، عندي أخوات، سبع بنات فنكحت امرأة جامعة، أريد واحدة كبيرة في العمر تعرف كيف تربي الأولاد، تجمع الأولاد، تجمع رؤوسهن، وتقوم عليهن، قال: أصبت إن شاء الله، فعلك عين الصواب.
الآداب النبوية في القصة
قال: أما إنا لو قد جئنا صراراً - الصرار؛ موضع قريب من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعد عنها ثلاثة أميال - أمرنا بجزور فنحرت، وأقمنا عليها يومنا ذلك، أي قبل أن نصل إلى المدينة بثلاثة أميال نجلس في موضع صرار ونأمر بجزور ناقة، أو جمل فتنحر الناقة، ونقوم عليها نأكل ونشرب في هذا المكان يومنا ذلك، يوم كامل، أربع وعشرون ساعة، وسمعت بنا - انظروا إلى الآداب النبوية - زوجته سمعت بوصوله قال: فنفضت نمارقها، أي الوسائد التي يتكأ عليها، جهزت البيت لاستقبال زوجها، قلت: والله يا رسول الله ما لنا من نمارق، نحن ما عندنا أصلاً متكآت، نجلس على الأرض، على البسط، من الفقر، والله يا رسول الله ما لنا من نمارق، قال: إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عمل عملاً كيساً، كيس أي جيد، قال: فلما جئنا صراراً أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزور فنُحرت فأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل ودخلنا إلى المدينة، فأخبرت المرأة الحديث، أخبر زوجته بما حدث معه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنتم تخيلوا الحدث المهم الذي صار معه، تخيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرى معه هذا الحوار، يباسطه، ويسأله عن زوجته، واشترى الجمل، أمر عظيم جداً ليس أمراً عادياً، فحدث زوجته فوراً بما كان، انظروا إلى زوجته، قال: فأخبرت المرأة الحديث، وما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فدونك، فسمعاً وطاعةً، أي لا تتأخر، الجمل صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد أن يسلمه المبيع، ثم جلست في المسجد قريباً منه، يبدو أن جابراً متعلق بالجمل، الجمل صار خمس نجوم.
قال: فجلست بالمسجد قريباً منه، قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى الجمل، فقال: ما هذا؟ قالوا: يا رسول الله ! هذا جمل جاء به جابر، فقال: أين جابر؟ فدُعيت، قال: تعالَ يا بن أخي، هذا من التودد، خذ برأس جملك فهو لك، الجمل لك، فدعا بلالاً فقال: اذهب بجابر فأعطيه أوقيةً، أي تأخذ الثمن والجمل يرجع لك، أحلى بيعة، قال: اذهب به فأعطه أوقية، فذهبت معه وأعطاني أوقية، وزادني شيئاً يسيراً هذا من الإحسان، قال: فو الله ما زال هذا المال ينمي عندنا، يزداد نمواً، ونرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب الناس، أي صارت حروب وكذا، لكن بقي هذا المال ينمو في بيت جابر رضي الله عنه، وأرضاه.

العبر من قصة جابر مع رسول الله:
1. مراعاة الضعفاء:
هذا هو الموقف، وأما الدروس والعبر، العبرة الأولى: نستنبطها من قول جابر رضي الله عنه: وجعلت أتخلف حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أدب نبوي رفيع أيها الأخوة، سيروا بسير أضعفكم، هذا ليس حديثاً لكن معناه صحيح، سيروا بسير أضعفكم، هذا من الآداب النبوية، واحد عنده جمل سريع مضى به، ربما آخر يستطيع المشي سريعاً، النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتفقد مؤخرة الرحل كما ورد في الأحاديث، أي ينظر إلى الضعفاء، كان يقول: أبغوني الضعفاء، لا تبعدوهم.

{ عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: أُبْغُوني ضُعَفَاءكم، فإنما تُرزقُونَ وتُنصرون بضعفائكم }

[أبو داود والترمذي والنسائي]

الضعيف إن كان ضعيفاً فأعنته
أحبابنا الكرام ؛ الضعيف إن كان ضعيفاً فأعنته، أو إن كان فقيراً فأطعمته، أو إن كان عارياً فكسوته، أو إن كان عطشان فسقيته، أو إن كان جاهلاً فعلمته، الضعف مختلف الأنواع، يكافئك الله تعالى بمكافأة من جنس صنيعك فينصرك على من هو أقوى منك، أنت انتصرت للضعيف فأنا سأنصرك على القوي الذي يتجبر ويطغى، هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنما تُرزقُونَ وتُنصرون بضعفائكم) هذا معنى من جهة.
من الجهة الثانية: ومهم جداً ما يسمى اليوم بالعرف الحديث، بالدول الحديثة: تمتين الجبهة الداخلية، الضعفاء إذا أحسوا أن المجتمع يرعاهم وقفوا مع الأقوياء وقفة رجل واحد فأصبح المجتمع كتلة واحدة لا يمكن أن تخرق، فتقوية الضعيف قوة للمجتمع، بقانون إلهي وبسنن كونية يعرفها أهل الاقتصاد.
لذلك جابر رضي الله عنه قال: تخلفت حتى أدركني رسول الله، أي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينسَ الضعفاء في آخر الصف، وإنما جعل يسعى إليهم حتى وصل إليهم.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، فتجوّز رجل فصلى صلاة خفيفة فبلغ ذلك معاذاً فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا، وإن معاذاً صلّى بنا البارحة فقرأ البقرة، فتجوّزت فزعم أني منافق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( يا معاذ أفتّان أنت؟ - قالها ثلاثاً -، اقرأ {والشمس وضحاها} و { سبّح اسم ربك الأعلى }. ونحوها) متفق عليه واللفظ للبخاري.
هذا الأدب النبوي، مراعاة الضعفاء، أن تصلي بالبيت وحدك تريد أن تقرأ في الركعة جزءاً، على بركة الله، هذا أجمل موقف بين يدي الله، كلما أطلت أخذت الأجر أكبر، لكن إذا وقفت إماماً معك أخوانك واتفقتم فعلى بركة الله، أما لا تعلم من وراءك فلا، يجب أن تكون القراءة يسيرة بشكل لا يعسر على الناس ولا يضيق عليهم.
عن أبي هريرة: أن امرأةً سوداءَ كانتْ تَقُمُّ المسجد - أو شابًّا - ففقَدَها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات، قال: «أفلا كنتم آذَنتُموني»، فكأنهم صغَّروا أمرَها، أو أمره، فقال: «دُلُّوني على قبره»، فدَلُّوه، فصلَّى عليها، ثم قال: «إن هذه القبورَ مملوءةٌ ظُلْمةً على أهلها، وإن الله تعالى يُنوِّرُها لهم بصلاتي عليهم» (متفق عليه).
مراعاة النبي الكريم للضعفاء
النبي صلى الله عليه وسلم كان من رعايته للضعفاء أن امرأة كانت تقم المسجد فتوفيت ليلاً، بالعرف المجتمع هي امرأة تنظف المسجد، بالعرف المجتمعي هي في أدنى الدرجات، عند ربنا عز وجل قد تكون في أعلى الدرجات، لكن بعرف الناس في أدنى الدرجات، فلما سمع بموتها سأل عنها، قالوا: ماتت، غضب النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفلا آذنتموني؟ أي لِمَ لم تخبروني بوفاتها؟ قال: فقام على قبرها، فوقف عليه فصلى عليها، بعد أن دفنت في القبر وهذا استثناء من الحكم العام، لأن صلاة الجنازة لا تصح بعد الدفن، لكن النبي صلى الله عليه وسلم استثناء من الحكم العام، وإكراماً لهذه الضعيفة وقف على قبرها فصلى عليها.
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه دخل في عهده عمرو بن الطفيل ابن عمر الدوسي، وكانت قد قطعت يده في معركة اليمامة، قطعت يده فاستحى بيده المقطوعة فأخذ جانباً ولم يتقدم للطعام، قال عمر: تفضل، اعتذر، قال: لا أريد، قال: لعلك إنما تأخرت عن الطعام خجلاً من يدك المقطوعة، فسكت، فعلم أنه كذلك، فقال له: والله لا أذوق هذا الطعام حتى تخلطه بيدك المقطوعة، والله ما منا أحد بعضه في الجنة إلا أنت.
رعاية الضعفاء فن، رعاية الضعفاء ليست دائماً بالمال.

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم لن تَسَعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بَسْط الوجه وحسنُ الخلق }

[أخرجه أبو يعلى وابن أبي شيبة]

إذا دخلت وعامل القمامة الذي على الباب يعمل قلت له: أعطاك الله العافية، السلام عليكم، جزاك الله عنا كل خير، يترنم بها طول نهاره، الإحسان إلى الضعيف فن، ليس بالمال فقط، المال جزء لكنه ليس كل شيء، الابتسامة، ربما تربت على كتف يتيم، الضعفاء كثر، وما أحوجنا إلى رعايتهم، لا أقول: ما أحوجهم إلى رعايتنا، بل ما أحوجنا نحن إلى رعايتهم لينصرنا الله عز وجل ويرزقنا.
إذاً هذه العبرة الأولى.

2. على الإنسان أن يتفقد من حوله:
الداعية الناجح يطمئن على تلاميذه
العبرة الثانية: الداعية الناجح يطمئن على تلاميذه ويتواضع لهم، ويسأل عنهم وعن حاجاتهم، هل تزوجت يا جابر؟ تبيعني جملك يا جابر؟ اطمأن عنه، إذا كنت مدير شركة، وعندك موظفون، وهناك موظف حزين، سألته: ما بك؟ ربما تكون زوجته عندها ولادة، وحاجته كلها لمئة وخمسين ديناراً لا يجدها ليدخل زوجته المشفى وتلد، ربما يكون عنده مشكلة، عنده هم، عنده شيء، فالإنسان عندما يتفقد من حوله هذا من الآداب النبوية العظيمة.
كان الصحابة الكرام إذا دخل أحدهم المسجد، في أكثر من حديث، يقول: أيكم محمد؟ معنى هذا ليس له موضع خاص، ولا هيئة، ولا هيبة خاصة، ولا يجعل لنفسه كهنوت كما يقال، وإنما يجالس أصحابه كواحد منهم، فيدخل الرجل ويقول: أيكم محمد؟ في رواية قال: هذا الرجل الأبيض المتكئ، أيكم محمد؟

3. الرفق والملاطفة:
العبرة الثالثة: حوار سيدنا رسول الله مع جابر، مع المزاح البريء اللطيف، تبيعني جملك؟ سمني به؟ الملاطفة.

{ عن عائشة رضي الله عنها أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ الرِّفقَ لا يكونُ في شيء إِلا زَانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيء إِلا شانَهُ }

[أخرجه مسلم وأبو داود]


4. الزواج من المرأة الثيب:
زواج جابر من امرأة ثيب
العبرة الرابعة: موضوع الزواج، جابر تزوج من امرأة ثيب، نحن اليوم في مجتمعاتنا ألفنا عادات ليست من الدين في شيء، اليوم إذا امرأة توفي زوجها، ثم تزوجت لربما الناس جميعاً لاموها، كيف تتزوج؟ أليس لزوجها قيمة عندها؟ لماذا تزوجت ولم يجف ترابه؟ متى يجف ترابه؟ لا أحد يعلم، سنتان، ثلاث، عشر، في الشرع يجف ترابه بعد أربعة أشهر وعشرة أيام، إذا انتهت عدتها، لا يعني أنها لا تحب زوجها، لكن سنة الحياة أن المرأة تكون شابة ويموت زوجها، يجب أن يخصص لها المجتمع من يقوم على رعايتها، وإعفافها، هذا طهر في المجتمع، نظرات المجتمع ينبغي ألا ننظر إليها، حتى الرجل أيضاً أحياناً يتزوج بعد زوجته، لماذا تزوج يا أخي؟ لماذا تزوج؟ لأنه يحتاج إلى امرأة، يحتاج إلى امرأة لحاجاته الجسدية، والنفسية، والاجتماعية، وقدر الله أن ابتلاه بوفاة زوجته، ولا يعني زواجه الثاني أنه لا يحب الأولى، أبداً، فيجب أن نخرج من عادات المجتمع.
فهو تزوج امرأة ثيباً، مات زوجها، وهي في المقابل رعت أخواته البنات، ليس أولاده، انظر إلى المجتمع عندما يكون متماسكاً، المرأة عندما تتربى أن هذا الولد يدخلك الجنة ولو لم يكن ابنك، تزوجت ورعت سبع بنات، النبي صلى الله عليه وسلم قال: قد أصبت، لأن هذا شيء كان شائعاً في المجتمع.
اتصل بي أحدهم يسألني: إن والدتي صغيرة في العمر وتوفى والدي، وتريد أن تتزوج، قلت: يا أخي زوجها، أليس على خلق ودين؟ قال: بلى، ولكن والله لا يقبل عقلي هذا الأمر، قلت له: منذ متى توفي والدك؟ هل انتهت العدة؟ قلت: ما دام انتهت العدة، وهي تريد الزواج، وتقدم لها من يريدها، لماذا تمنعها من شيء أحله الله لها؟ لو قالت: لا أريد، هذا حقها، لو هي قالت: عندي أولاد صغار أريد أن أتفرغ لتربيتهم، على العين والرأس، أسأل الله أن تدخل الجنة بتربية أولادها، لكن أحياناً هناك حالات تتزوج وهذا حقها.
فأنا الذي أردته تزوج امرأة ثيباً، وكان له مطلب أن ترعى بنات، أخواته الصغار وهي قبلت بذلك.
والله أعرف حالات في المجتمع عندنا في دمشق، لأطفال شبوا ونشؤوا في طاعة الله، إذا ذكرت أمامهم زوجة أبيهم بكوا حنيناً لها بعد وفاتها، وكأنها أمهم، لأنها ربتهم وتعبت عليهم.
في المجتمع المسلم هناك شيء اسمه الغيب، لا يدركه إلا من يفهم معنى الغيب نحن لا نعيش عالم الشهادة فقط.

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
[ سورة البقرة]

المرأة عندما تؤمن بالغيب ترعى ابناً ليس ابنها لأنها تبتغي بذلك أجر الله، وفي الدنيا يعزها الله، ويكرمها الله، والرجل كذلك عندما يتزوج أحياناً امرأة متزوجة، ولها ولد يرعاه لها ويطعمه، وهو يبتغي في ذلك أجراً عظيماً عند الله.

5. تجهز النساء لاستقبال الرجال بعد غيابهم:
والعبرة الخامسة في هذا الموقف: هذا الأدب النبوي، أما إنا لو جئنا صراراً لأمرنا بجزور فنحرت فأقمنا يومنا، النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح نهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً، في رواية: يتخونهم، إذا جئت إلى البيت في الليل وكنت مسافراً، ولم تخبر زوجتك بقدومك، وفتحت الباب فجأة بالليل، فكأن المرأة تحس أن زوجها يظن بها الظنون فجاء فجأة ليرى هل هي وحدها أم دخل أحد إلى بيته في غيابه؟ وهذا يكسر شيئاً بين الرجل والمرأة، لأنه شيء عظيم أن يكون الرجل في خشية من شيء من زوجته دون قرينة، وإنما لمجرد أنه يريد أن يراقبها، ولكن الأدب أيضاً في هذا الموضوع، الأدب النبوي في هذا الموضوع قال: فعلمت زوجتك فنفضت نمارقها، أي لا يريد الإسلام أن يضيع لحظة لقاء ناجح بين رجل وزوجته بعد غياب من أجل ألا يعلمها بقدومه، أما والله أنا قادم، يتصل: أنا سآتي في اليوم الفلاني، وطائرتي الساعة كذا، فالزوجة تعلم بقدومه، تحضر له بعض الطعام، ترتب بيتها، تزين نفسها، هذا من آداب الإسلام.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على زمانه خليوي أو هاتف، يقيم قريباً من المدينة يوماً كاملاً، يصل الخبر أنه وصل، وغداً القدوم، فالنساء تتجهز لاستقبال الأزواج، وهذا من آداب الإسلام الراقية.

6. المرأة الصالحة كنز لا يقدر بثمن:
الزوجة الصالحة رزق
أيضاً من العبر في هذا الموضوع قول الزوجة لزوجها: دونك رسول الله، فسمعاً وطاعة، وهذا من فقه هذه المرأة التي أثنى عليها رسول الله، قال: قد أصبت، عندما قال امرأة جامعة، ما معنى امرأة جامعة؟ أي عندما أخبرها ما قالت: والله كيف تبيع الجمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الجمل صار ثمنه أكثر من ذلك، بعته بأوقية!! ثم جملنا هذا ليس لنا، قالت: دونك فسمعاً وطاعةً، أي إذا كان متردداً، هي دفعته دفعاً، نفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله أيها الكرام ؛ أحياناً تجد مواقف باهرة للنساء، هذه المرأة التي كانت خلف الستر، وسمعت أباها يقول لأمها: إن رسول الله يخطب إليك ابنتك، فالت له: نعم لرسول الله، قال: بل لجليبيب، قالت: جليبيب ! لا والله لا أزوجها جليبيباً، وقد منعناها فلاناً وفلاناً فسمعت قولهما، قالت: يا أبي ويا أمي ! من خطبني إليكما؟ قالا: رسول الله، قالت: وتردان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ادفعا بي إليه فإنه لا يضيعني.
السيدة هاجر رضي الله عنها عندما قالت لإبراهيم عليه السلام: آلله أمرك بهذا؟ عندما تركها وابنها بواد غير ذي زرع، فأشار أن نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا، اذهب.
فهذه المرأة زوجة جابر امرأة صالحة، قالت: دونك فسمعاً وطاعة لرسول الله، نفذ الأمر فوراً، نفذ الأمر، وهذه هي البطانة الصالحة، لكن في المقابل الله تعالى يقول في قرآنه:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
[ سورة التغابن]

وهل يكون الزوج أو الولد عدواً؟ قال العلماء: هذه عداوة المآل، في الواقع أحباب لكن عندما تجبر زوجها على أن يأكل من الحرام ليكفيها أصبحت عدواً له في المآل، وعندما يبيع دينه، ويقول لك: من أجل الأولاد، والله أنا لا أريد شيئاً من الحياة، فقط أريد أن أكمل لهم تعليمهم بأحسن المدارس، ويظن أنه هو الرازق، فيبيع دينه لأجل أولاده (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) احذر أن تجعل من زوجك أو ولدك عدواً لك من خلال طاعتك لهم في معصيتك لربك.
أحبابنا الكرام ؛ هذا الموقف كله ذوقيات نبوية، وكله آداب نبوية رفيعة من أرقى ما يمكن أن يكون، فليتنا نتخلق جميعاً بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونداوم على طاعته لعل الله عز وجل يحشرنا في زمرته، وتحت لوائه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته