• محاضرة في الأردن
  • 2021-09-20
  • عمان
  • الأردن

إن وعد الله حق

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.


استعجال غير المؤمن طيبات الدنيا:
وبعد أيها الأخوة الكرام؛ سورة الروم بدأت بقوله تعالى:

الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
[ سورة الروم ]

وختمت السورة بقوله تعالى:

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
[ سورة الروم ]

الإنسان من طبيعته أنه يستعجل
فتناسب المبدأ مع الختام، في المبدأ (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ*بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ) وكأن المؤمن يسأل: متى نصر الله؟ وقد أثبت الله تعالى في قرآنه أن بعض المؤمنين سألوا متى نصر الله؟ الإنسان من طبيعته أنه يستعجل، أي إذا قلت له: بعد شهر تستلم مبلغاً من المال، باليوم الخامس والعشرين يبدأ يسأل، كم بقي؟ يومان، ثلاثة، خلق الإنسان عجولاً.

خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
[ سورة الأنبياء]

فالإنسان يحب أن يصل إلى مبتغاه بأسرع ما يمكن، ولماذا يستحق المؤمنون الجنة؟ لأنهم صبروا، صبروا ابتغاء وجه الله، الجنة غيب، والمؤمن صبر حتى وصل إلى دار السلام بسلام، أي حبس النفس عن مطلبها بالاستعجال، بينما غير المؤمن استعجل طيباته في الحياة الدنيا، يريد أن يكون كل يوم - والعياذ بالله - مع امرأة تحل أو لا تحل له، لا يوجد مشكلة، يريد كل يوم مبلغاً مالياً كبيراً يعيش به كما يريد، من حلال، من حرام، لا يوجد مشكلة، يريد أن يبني مجده على أنقاض الناس، وغناه على فقر الناس، لا يوجد عنده مشكلة، لا يوجد عنده منظومة قيم، واليوم العالم للأسف الشديد بشكل أو بآخر يتحول إلى إلغاء منظومة القيم، الدين وغيره، أي أن يصبح الإنسان حراً بالمطلق، يفعل ما يحلو له، لا يوجد ممنوعات، ولا مسموحات، ولا شيء حلال، ولا شيء حرام، بينما المؤمن يصبر، يحبس النفس عن شهوةٍ، وينتظر موعود لله تعالى فيفضي إلى موعود الله، وهو يصل إلى دار السلام بسلام، غير المؤمن يستعجل طيباته، هو خلق من عجل فيريد كل شيء في الحاضر، تقول له: اصبر ولك الجنة، هو يريد الدنيا ، يريد الدنيا ولا يريد الآخرة، لأن الدنيا محسوسة وسريعة، ويصل إليها في وقتها، بينما الآخرة تحتاج إلى صبر.

الكلام في اللغة العربية خبر أو إنشاء:
أحبابنا الكرام؛ هذه السورة افتتحت(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ*بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ) كأن سائلاً يسأل: متى نصر الله؟ جاء ختام السورة (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ).
الإنشاء لا يحتمل التصديق والتكذيب
أحبابنا الكرام؛ هذه الآية فيها إنشاءان وخبر، ماذا يعني الخبر؟ وماذا يعني الإنشاء؟ هذا موضوع في اللغة العربية لكنه لطيف جداً، الإنشاء في البلاغة هو كل كلام تقوله لا يحتمل التصديق والتكذيب، إذا ناديت لإنسان: يا محمد! هل يحتمل ذلك أن يقول لي: أنت صادق أو أنت كاذب؟ أنا لا أخبره بشيء، أناديه، فالنداء إنشاء، إذا قلت لإنسان: ادرس، هل يحتمل ذلك أن يقول لي: أنت صادق أو كاذب؟ لا، أنا آمره بشيء، إن شاء نفذ، وإن شاء ترك، هذا إنشاء، إذا قلت له: لا تلعب، هذا إنشاء، أما عندما أقول: الشمس ساطعة، فهذا خبر، إذا قلت عند الساعة الثامنة ليلاً: الشمس ساطعة، جميعكم يقول: أين الشمس الساطعة؟ تكذبون خبري، لأن الخبر غير صحيح، وإذا قلت لك: الليلة باردة، إذا شخص يشعر بالبرد، يقول: نعم صحيح، أما إذا شخص يشعر بالدفء فيقول لي: لا، معتدلة.
فالخبر يحتمل التصديق والتكذيب، والإنشاء لا يحتمل التصديق والتكذيب، والكلام في اللغة العربية إما أن يكون خبراً أو إنشاءً.
فكلمة (فَاصْبِرْ) هذا إنشاء، أمر، الأمر إنشاء (فَاصْبِرْ) (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) هذا إنشاء لأنه نهي، والنهي إنشاء، (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)بينهما يوجد خبر (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أربع كلمات (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) إذا كنت تصدق هذا الخبر الذي جاءك عن الله بأن ما وعد به حق لا يمكن أن يأتيه الباطل، حق مطلق، فإنك ستصبر (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) لأنك صدقت بالخبر، أما الذي لا يصدق أن وعد الله حق فلن يصبر.

المؤمن صابر لأنه أيقن أن وعد الله حق:
أحبابنا الكرام؛ موسى عليه السلام مع العبد الصالح، الذي - وهو الأرجح رواية- هو الخضر، عندما قال له:

قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66)
[ سورة الكهف]

ماذا قال له الخضر؟

قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68)
[ سورة الكهف]

أنا سأقوم بأعمال أنت لا تعرف شيئاً عنها، سأقتل غلاماً بعد قليل، سأتلف سفينة، سأقيم جداراً لأشخاص لؤماء منعوا الطعام والشراب ولن آخذ عليه أجراً، سيقوم بسلوكات غريبة، أنت لن تستطيع أن تصبر لأنك لم تحط خبراً بالموضوع، والإنسان متى يصبر؟ حينما يحيط بالأمر خُبراً، أنت أحياناً تحيط بالأمر خُبراً.
طالب في الجامعة، المواد الدراسية صعبة، وقت التنزه والاستمتاع بالحياة ضيق جداً، لا يوجد عنده وقت إلا للكتاب، لكنه صابر على الكتاب، لماذا؟ لأنه قبل أيام حضر حفلة تخريج من سبقوه، وقد أنهوا سنوات الدراسة، وأُكرموا، وأُلبسوا ثوب التخرج من الجامعة، وصفق لهم الجميع، ووضعت صورهم في بهو الجامعة، فهو يصبر على الدراسة لأنه أحاط خبراً بالنتيجة التي ستأتي بعد حين، فهو يصبر.
المؤمن يصبر بإخبار الله تعالى له
المؤمن يصبر، هل أحاط خُبراً بالجنة والنار؟ نعم، كيف؟ بإخبار الله تعالى له وبإخبار رسول الله له، فإما أن تصبر لأنك رأيت بعينك النتائج، فتصبر حتى تبلغها وتصل إليها، وإما أن تصبر لأن خبراً صادقاً أتاك يؤكد لك أن النتيجة قادمة، فالمؤمن عندما يصبر إنما يصبر بإخبار الله تعالى له، بأن لك جنة، وبأن الله عز وجل سيعطيك مقابل صبرك عطاءً لا حدود له فتترك الشيء الآني السريع الزائل، وتتطلع إلى الباقي الدائم.
فهذا الرجل الخضر قال: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) لا أنت رأيت وفهمت النتائج التي ستحصل، ولم يخبرك أحد بها، فلن تستطيع الصبر، متى سكن روع موسى عليه السلام؟ عندما أخبره في نهاية القصة.

قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78)
[ سورة الكهف]

أما الغلام، وأما السفينة، وأما الجدار، ولما أحاط خُبراً بالموضوع سكت ولم ينبس ببنت شفة، صار الموضوع واضحاً، نحن المؤمنين نصبر لأننا أحطنا خُبراً، وهذا الخُبر الذي أحطنا به أحطنا به من خلال الخبر الصادق الذي جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخبرتكم قبلاً بقصة هذا الرجل من السلف الصالح، الذي قال بين قومه: لقد رأيت الجنة والنار عياناً، فقالوا له: يا هذا انظر فيم تقول؟ لا أحد رأى الجنة والنار عياناً انظر فيم تقول؟ قال: والله لقد رأيت الجنة والنار، قالوا: كيف ذاك؟ قال: رأيتهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤيتي لهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق عندي من رؤيتهما بعيني، لأن بصري قد يزيغ، وقد يطغى، أما بصره:

مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
[ سورة النجم]

فلما أخبرنا أنه رأى الجنة والنار ليلة أُسري به فكأننا رأينا، فالآن نحن متيقنون من وعد الله الحق، فلذلك نصبر.

أنواع الصبر:
أحبابنا الكرام؛ (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) جاءت في القرآن ثلاث مرات، هذه المرة الأولى بسورة الروم، الآية الأخيرة (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) سنعود إليها، في سورة غافر جاءت مرتين:

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
[ سورة غافر]

والثالثة:

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
[ سورة غافر]

ثلاث مرات: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) انظروا الآيات جميلة جداً، في الظلال سيد قطب يفسرها تفسيراً رائعاً جداً، كل واحدة كيف جاءت بمكانها.
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) هذه تكلمنا عنها، وعد في المنتصف، صبر (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ).
الصبر في الأصل هو حبس النفس، أي النفس تريد شيئاً، وأنت تمنعها عن هذا الشيء، هذا هو الصبر، حبس النفس.
الصبر ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على قضاء الله وقدره، الصبر على الطاعة:

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
[ سورة طه ]

الصبر على الطاعة يبعد الشهوات
واصطبر مبالغة من واصبر (وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) كيف الصبر على الطاعة؟ أنتم الآن صابرون جميعاً على كلامي، هذا صبر على الطاعة، هو للأمانة وأنا معكم لو كانت الجلسة جلسة لهو، مسامرة، أجمل من درس علم، أي أسهل على النفس، موضوع أجمل، أحياناً الإنسان يتذوق الجمال بأذواق عالية، يقول لك: والله أحلى جلسة علم مع الأخوة، لكن أنا أتكلم عن الأسهل على النفس، ما الأسهل؟ أن تجلس في مجلس علم، أو أن تجلس للمسامرة مع أصدقائك، والمزح، والنكات، فالآن هذا مجلس صبر، إنك تصبر على شيء، عندما تقف بين يدي الله وتقول: الله أكبر، تحتاج إلى الصبر، لأن النفس تنازعك مثلاً لعدم القيام من الفراش لصلاة الفجر، تنازعك لتأخير الصلاة والاستعاضة عنها بمتابعة شيء على الشاشة، فأنت تحتاج إلى المصابرة على الطاعة، تحبس النفس عن الشهوات، والمعاصي، وتلزمها بالطاعة إلزاماً، هذا الصبر على الطاعة.
الصبر عن المعصية؛ أنت تمشي في الطريق، وعرضت لك امرأة متبرجة فغضضت بصرك عنها إرضاءً لله، الآن صبرت، لأن النفس تقول لك: توجه وانظر، والأمر الشرعي غض البصر.
أنت في مكتبك جاءك مبلغ مالي، شيك وقع الرقم الذي تريده مقابل توقيع غير قانوني فيه أذى للناس، فمنعت نفسك من هذا التوقيع من أجل أن تكسب رضا الله، فصبرت على المعصية، صبرت على الطاعة، صبرت عن المعصية، أي كففت نفسك عن المعصية إرضاءً لله تعالى.
الصبر الثالث: صبر على قضاء الله، قد يأتيك أشياء من قضاء الله تكرهها، كأن يتوفى لك صديق، حبيب، قريب، وكلنا معرضون، وقد يأتي مرض فجأة، أو حادث سير، تصاب سيارتك بأذى كبير تحتاج إلى إصلاح، صار معك حادث، كلنا معرضون هذا قضاء وقدر، فأنت صبرت، أي حبست النفس عن أن تقول شيئاً لا يرضي الله، كأن تقول: لماذا حدث ذلك معي؟ لماذا أنا من بين كل الناس؟ لماذا يفعل الله ذلك بي؟ والعياذ بالله هناك أناس يتسخطون على قضاء الله، فأنت صبرت، حبست النفس، يا رب أنا راضٍ، عندك قضاء وقدر انتهى، لا يمنع الصبر عن القضاء والقدر من بكاء العين، أو حزن القلب، لأن هذه مشاعر يقدسها الإسلام " إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن " لكن ما كان من العين والقلب فمن الله، وما كان من اليد، لطم الخدود، وشق الجيوب، ومن اللسان فمن الشيطان، اللسان يتسخط، واليدان تتحركان بالضرب والويلات، هذه من الشيطان، أما القلب فيحزن والعين تدمع وهذا لا يناقض الصبر، حتى نكون واقعيين الإسلام واقعي، أي لا يريد للإنسان أن يكون بلا مشاعر، أنت صابر، لا تحزن، قال: " إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا " اللسان لا ينطق إلا بما يرضي الله، هذا الصبر على قضاء الله، أيضاً يحتاج إلى حبس النفس، منع النفس من رغباتها في لحظة وقوع القضاء والقدر، بلحظة الوقوع.

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبرِي، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فقالت لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى }

[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي]

لأنه بعد الصدمة الأولى بعد ساعة الكل يصبر، وما الذي يستطيع أن يفعله غير أن يصبر؟ لكن البطولة أن يوطن الإنسان نفسه إذا وقع مكروه القضاء أن يصبر، أن يحبس اللسان عن أن يقول شيئاً لا يرضي الله، وأن يحبس اليد، لأنه في بعض العادات تتحرك اليد فيحبس اللسان واليد، هذا معنى الصبر، حبس النفس.
الآن عندما يقول ربنا جل جلاله (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) فأنت بحاجة إلى الصبر على الطاعة، وعن المعصية، وعلى القضاء والقدر، لأن الله وعدك، فلم تصبر على الصلاة؟ لأنك تعلم بأن وعد الله حق، وبأن المصلي له الجنة إن شاء الله عندما تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، وأنت عندما تصبر عن المعصية لأنك تعلم أن ترك القرش من حرام إنما هو عظيم عند الله تعالى، ووعدك بأنه سيخلف عليك أضعافاً مضاعفة في الدنيا، ثم سيدخلك إن شاء الله الجنة في الآخرة، وأنت عندما تصبر على قضاء الله وقدره لأن وعد الله حق، فقد وعدك إن رضيت بقضائه وقدره أن يكون لك عنده مكان عليٌّ إن شاء الله، فكل الموضوع متعلق بأنك خبرت بأن وعد الله حق.

علاقة الصبر باليقين:
كلما ازداد اليقين ازداد الصبر
(وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) الصبر له علاقة باليقين، ، هذه علاقة طردية، كلما ازداد اليقين عندك ازداد صبرك، كلما نقص اليقين نقص الصبر، كلما كنت متيقناً من وعد الله يزداد صبرك.
فلما قال: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) غير الموقن الذي يشك بوعد الله، الذي لا يؤمن بالله عز وجل، يستخف الإنسان عندما يبتعد عن الصبر، كيف يستخفه؟ يجعله خفيفاً، المؤمن قوي، وازن، ثابت، راسخ، لا تثنيه سبائك الذهب اللامعة، ولا سياط الجلادين اللاذعة عن دينه، قوي، الشهوات، الشبهات لا يوجد عنده مشكلة إن شاء الله، أي لا يوجد مؤمن يسمع شبهة على وسائل التواصل الاجتماعي عن دينه، ويقول: والله تضعضعت، المؤمن لا يتضعضع دينه أمام الشبهات، ولا أمام الشهوات، يقول لك: أنا والله مواظب جداً على صلاتي وكذا، لكن امرأة أغرتني، هذا لا يصح، طبعاً كل إنسان يقع بالمعصية، ويطلق بصره ويستغفر، لا نريد أن نكون مثاليين، يتكلم بكلمة سيئة ثم يرجع يعتذر، هذا وضع طبيعي، لكن لا يذهب دينه أمام امرأة، أو أمام شهوة، أو أمام شبهة طارئة معاذ الله، المؤمن عنده ثبات يخطئ فيعود، لكن لا يوجد عنده أن يذهب دينه من أجل الشهوات والشبهات، فهذا الذي لا يوقن يستخفه، وأنت عندما تجلس معه، وهو لا يوجد عنده يقين بالآخرة حديثه كله عن الدنيا، وعن المكاسب الدنيوية، ولا تدقق، ولا تتشدد، ولا تكن متعنتاً، تحرك قليلاً، هذا القرش ليس حراماً، هذه ليست فوائد هذه عوائد، ليست فوائد ربوية هذه عوائد، وهذه هبة من الدولة يمنحونك إياها، وهذه المرأة مثل أختك، يدهوره، الذي لا يوقن يذهب بك والعياذ بالله بعيداً، أما الموقن بوعد الله عز وجل فيقويك.
لذلك قال ابن عطاء الله: لا تصحب من لا ينهض بك إلى الله حاله، أو يدلك على الله مقاله، أي إذا جلست معه، نتيجة حاله الطيبة مع الله تقول عندما تخرج: والله نهضنا إلى الله، أو يدلك على الله مقاله، إذا تحدث يتحدث عن الله عز وجل، حتى لو تحدث بالدنيا ضمن ضوابط الشرع، لا يتحدث عن الدنيا خارج ضوابط الشرع، غيبة، نميمة، لا يتحدث، ينهض بك حاله، أو يدلك على الله مقاله.
فهنا أحبابنا الكرام (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) إياك من غير الموقن، علاقة الصبر باليقين علاقة حتمية وطيدة جداً جداً، قال تعالى:

وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
[ سورة السجدة ]

(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) متى؟ قال: (لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) فقالوا: بالصبر واليقين تنال الإمامة بالدين، وقال تعالى:

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
[ سورة آل عمران ]

مهما تكالب عليك الأعداء بالصبر والتقوى ترد كيدهم إن شاء الله.

الحق هادف وثابت والباطل عابث وزائل:
إذاً: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) الآية الثانية في سورة غافر:

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
[ سورة غافر ]

ذنوبك هي الحائل بينك وبين تحقيق وعد الله لك
ما علاقة (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) هنا؟ الآيات تريد أن تقول لك: إن وعد الله حق، لكن عليك أن تنشغل بالاستغفار لذنبك، لأن ذنوبك قد تكون هي الحائل بينك وبين تحقيق وعد الله لك، إذا كان ربنا عز وجل يقول لك: الوعد محقق، ربنا عنده وعد وعنده وعيد، الوعيد لأهل النار والعياذ بالله، والوعد لأهل الجنة، وعده محقق، ووعيده إن شاء أنفذه، وإن شاء عفا جلّ جلاله، رحمته سبقت غضبه جلّ جلاله، لكن الوعد محقق (وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) ما معنى حق؟ حق من حقَّ يحقُّ إذا ثبت، كل شيء ثابت وهادف يسمى حقاً، وكل شيء عابث وزائل يسمى باطلاً.

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)
[ سورة الإسراء ]

أي زائل، كيف يكون الحق شيئاً ثابتاً؟ إذا أردنا أن ننشئ جامعة، الجامعات بالعالم عمرها حوالي مئة، أو مئة وخمسين سنة، جامعة عريقة، مبدئياً نقول بغض النظر عن المناهج: الجامعة حق، لأن هدفها تخريج الطلاب، تخريج جيل تعليمي، فهي شيء ثابت وله هدف، إذا أردنا أن ننشئ سيركاً بأيام عيد الفطر، ماذا نصنع؟ خيمة وألعاب، يقيمونها ثلاثة أيام ثم يزيلونها، لأنه شيء عابث وزائل، ما الذي يجري في السيرك؟ يأتون يستمتعون بالفيل ثم يدفعون مالاً ويخرجون، فهو شيء عابث ليس له هدف، ماذا استفدنا؟ لا يوجد فائدة، وزائل، يقام يومين ثم يزيلونه، خيمة، فهذا الحق وهذا الباطل.
فوعد الله حق بمعنى أنه ثابت ومحقق، ودائم ومستمر، فقال: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) لأنه ينبغي ألا تنشغل بالعوائق التي تمنع تحقيق وعد الله الحق، وعد الله الحق لك، أنت المشكلة عندك، الكرة في ملعبك (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) لا تنشغل، متى سيأتي وعد الله؟ وعد الله قادم، سواء في الدنيا، وسواء في الآخرة، لكن أنت بالنسبة لك (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) انظر إلى أخطائك، إلى مكان الخلل عندك، عليك ألا تنشغل بالوعد (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) وكن مع ربنا عز وجل بالصبح والمساء، لا تقطع صلتك بالله عز وجل، والوعد محقق.

مهمة الإنسان فقط أن يثبت على الحق:
وعد الله محقق لا محالة
أما الآية الثالثة أيضاً في سورة غافر: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) انتهينا، قال: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) معنى هذا أن وعد الله حق لكن ليس من الضروري أن تراه أنت، أتكلم عن الوعد الذي بالدنيا، وعد الله محقق وستراه إن شاء الله لا شك في ذلك، لكن في الدنيا ليس ضرورياً أن ترى وعد الله الحق، وعد الله حق ننتظره من خمسين سنة لا يوجد مشكلة، أنت ثابت على الحق انتهى، انتهت مهمتك، ربنا عز وجل يريد أن يحرر فلسطين بحياتنا أم بعد وفاتنا؟ والله لا أعرف (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) ليس كل الذي نعدهم، لأن كل الذي نعدهم ليوم القيامة (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) ولن ترى مصير الطغاة، ولن ترى مصير المؤمنين العز والتمكين، قال: (فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) إنهم راجعون لعندنا، لا تخف، إذاً أنت لا تشغل نفسك برؤية عملك، أنت اشغل نفسك بعملك أنت، هل أنت تمشي على الحق أم لا؟ أما النتائج فدورة الحق والباطل قد تطول أطول من عمرك، كيف يعني دورة الحق والباطل؟
رمضان إذا جاء بحزيران، بالصيف مثلاً بحزيران، كل كم سنة يأتي بحزيران؟ كل ثلاث وثلاثين سنة، نحن أدركنا من عدة سنوات رمضان بحزيران، لا نعرف هل نلحق مرة ثانية أم لا؟ يجوز الذين بعدنا يلحقون حزيران، يجوز أن يكون جزء منا بعد ثلاث وثلاثين سنة غير موجود، أطال الله أعمار الجميع بالطاعة إن شاء الله، لكن هذه سنة الحياة، ممكن أن نلحقه مرة أو مرتين أما الثالثة فنكون قد انتهينا.
إذاً دورة الأرض، وتغير الفصول، وتغير موعد رمضان قد يكون أطول من عمري وعمرك، فما بالك بدورة الحق والباطل؟ الصراع.

إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
[ سورة الإسراء ]

اليقين بأن عصر التمكين قادم
وممكن أن تطول الفترة مئة سنة، جيل كامل يعيش عصر عدم التمكين، لكن أنا موقن بأن عصر التمكين قادم، لأن الله عز وجل وعد، لكن أنا ليست مهمتي أن أدركه أو لا، لا أعرف، الموضوع صار أكبر مني ومنك، لكن أنا أستطيع أن أكون جندياً في خدمة الوصول إلى هذا الهدف، ويوم يصير وأنا تحت أطباق الثرى يكفيني شرفاً أنني كنت ثابتاً على الحق بهذا الوقت، وما غيرت، وما بدلت، وربيت أولادي على هذا الشيء، وما حدت عن المبدأ، ولا دخلت الشهوات، ولا عصفت بي الشبهات، بقيت ثابتاً، ولقيت الله عز وجل وهو عني راض.
فقال: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) النبي صلى الله عليه وسلم هل رأى الفتوحات التي جرت في عهد سيدنا عمر؟ ما رآها، لكنه كان موقناً بها، قال:

{ عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر، وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذل والصغار والجزية }

[أخرجه الطبراني، والإمام أحمد]

النبي صلى الله عليه وسلم رأى الآن المسجد الموجود بالقرب من القطب الشمالي والجنوبي وبلغ ما بلغ الليل والنهار؟ لا، لكنه كان موقناً بأن الإسلام سيصل إلى القطبين، هو ما رأى، هو أشرف الخلق، وأحب الخلق إلى الله، فهل أراد الله عز وجل إكراماً له أن يريه؟ قال له: لا، الموضوع سنن، يوجد سنة بالحياة، شيء يطول ويقصر، فقال له: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) اترك الموضوع، أنت جرد نفسك لله، واترك النتائج، النتائج تأتي في الوقت الذي يريده الله لحكمة يعلمها الله، وفي الوقت الذي يستحق فيه المؤمنون ذلك النصر، والتمكين، والتأييد.
فهذه الآيات الثلاثة تنوعت: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)، (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ)، (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ).

النظر والأثر والخبر:
يأتي اليقين لأن المُخبر هو الله جل جلاله
أحبابنا الكرام؛ هذا الدرس عنوانه: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) نحن لن نصبر إلا إذا عرفنا أن وعد الله حق، فلنعزز يقيننا بأن وعد الله حق، وكيف يأتي هذا اليقين؟ من أن المُخبر هو الله جل جلاله.
وقلت سابقاً وأختم بذلك: نحن عندنا نظر، وأثر، وخبر، النظر هو ما تدركه بحواسك الخمس أو استطالاتها، الاستطالات أي الميكروسكوب والتليسكوب، الوسائل المادية التي تدرك بالحواس، هذا نظر، فإذا قال الإنسان: أنا أرى طاولة، كلنا نراها، هل هناك أحد لا يرى هذه الطاولة الآن؟ هذا نظر، يقين أم ليس يقيناً؟ يقين، هل أحد عنده شك بأن هنا لا يوجد طاولة؟ أبداً، لأن هذا نظر، يقين.
الأثر؛ نحن الآن نسمع صوتاً بعيداً، يبدو أن هناك حفلة، هذا الصوت يوحي بوجود حفلة، فرح، أو شيء، عرفنا هذا من نوع الصوت، كيف استدلينا؟ من خلال أثر على شيء لا نراه، لكن يوجد حفلة، الصوت هو أثر لشيء آخر، أو الدخان من هناك، والله يوجد نار، هذا أثر، هذا من خلاله نستدل على وجود خالق للكون، العاقل لا يستطيع أن يفهم وجود أثر من غير مؤثر، فيقول: هذا الكون له خالق.
الثالث هو الخبر، الخبر شيء لا يوجد له عين لنراه، ولا يوجد له أثر لنستدل من خلاله على المؤثر، لكن يوجد شيء مكتوب عندنا، منطوق، مسموع عن خبر، وهذا الخبر إذا كان صادقاً فهو يقين يشبه يقين النظر والأثر، فكيف إذا كان هذا الخبر من الله؟ فهو أصدق ما يكون، أصدق من رؤية البصر، فعندما نقول: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) هو يقين لأن الله تعالى أخبر به في قرآنه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأخبر به رسوله في سنته، وهو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فالوعد حق من خلال اليقين الخبري، وبعضهم من خلال اليقين الاستدلالي، الأثري، لأنه كما قلنا: الكون يشهد بوجود الله، ووحدانيته، وبكماله.

الإله العظيم سيتصرف بالعدل ووعده الحق نافذ لا محال:
يوجد شيء أرجو الله أن يوفقني لتفصيله، قلنا: الخبر الصادق أنا أؤمن به، لكن أيضاً يوجد شيء له آثار تجعلني أنا أؤمن بوجود المؤثر، والخبر الصحيح، كيف؟ إذا كنت تريد أن تشتري كيلو بندورة، تنزل إلى البائع بجوار بيتك، التقليدي قبل السوبر ماركت تقول له: أعطني كيلو بندورة، تأخذ كيساً وتملؤه ثم تعطيه نصف دينار، وتحمل الكيلو وتمشي، هل هناك أحد يقف عند بائع البندورة ويقول له: سجل لي عرض أسعار كامل لأرى أي أنسب سعر بندورة بالسوق؟! لا يوجد عرض أسعار، إما خذ ما تريد أو امش هذا اسمه: بيع معاطاة، أدفع لك، وتعطيني، وأمشي.
إذا كان هناك مهندس بشركة كبيرة، أوفدته الشركة إلى شركة مايكرو سوفت من أجل شراء مئتي حاسب من الطراز الأول الصناعي من أجل الشركة، فهذا أول شيء يبدأ إيميلات و مراسلات قبل السفر، عندما يصل إلى هناك يحجز فندقاً، وينزل، ويأخذ عروض أسعار ثم يحجز، يعمل العقد، ويوقع، ويدفع عربوناً ينتقل لبلده تأتي البضاعة، مايكرو سوفت بهذا البناء الضخم، وبالشركة الكبيرة تتصرف هكذا.
كمال الخلق يدل على كمال التصرف
جارك على سلامته هو ربما أهم من مايكرو سوفت عند الله، جارك يتصرف بالمعاطاة، أخذ وعطاء، ما معنى ذلك؟ قالوا: كمال الخلق يدل على كمال التصرف، فأنت عندما تنظر في الكون، موعد شروق الشمس الذي لا يتخلف لثانية، المجرات التي وصل إليها العلماء، ما في السماوات من نجوم بعدد ما في الأرض من مدر وحجر، هذا الكون العظيم بهذا الخلق المذهل، أيعقل أن خالقه لا يكون وعده حقاً وحسابه دقيقاً؟

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
[ سورة المؤمنون]

مستحيل ! فأنت من خلال عظمة الخلق تدرك أن هذا الإله العظيم الذي خلق الكون سيتصرف بالعدل ووعده الحق، ونافذ لا محال، (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ)، أرجو أن تكون واضحة، هذا كمال الخلق يدل على كمال التصرف، انظروا ربنا عز وجل يقول:

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
[ سورة النبأ]

بعضهم يقول: يوجد يوم آخر، وبعضهم يقول: لا يوجد يوم آخر، أي غير مؤمنين بالله الحق، اليوم الآخر (وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) قال:

ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً (17)
[ سورة النبأ ]

الذي خلق الكون بهذه الطريقة سيحاسبك، وعده حق، مستحيل أن يكون خلق الكون عبثاً، ثم نموت كلنا، ويذهب كل واحد بحال سبيله، وانتهى، هناك ظالم ومظلوم، وجنة ونار وحساب، إذا ما آمنت من خلال الخبر يكفيك أن تنظر إلى الكون حتى تؤمن بوعد الله الحق.
والحمد لله رب العالمين