• محاضرة لمجمع سلطان العلماء
  • 2021-05-05

اسأل عن الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الحكمة من السؤال عن الله بعد الانتهاء من رمضان:
أيها الأخوة الأحباب؛ كل عام وأنتم بخير، ونحن في العشر الأخير من شهر رمضان، هذا العشر المبارك الذي فيه ليلة مباركة، لو أن الإنسان قام بها حق القيام لكانت خيراً له من ألف شهر يعبد الله فيها عبادة جوفاء.
أيها الأخوة الأحباب؛ عنوان لقائنا اليوم: " اسأل عن الله ".
أيها الكرام؛ العنوان مقتبس من آية قرآنية، ذلك أن الله تعالى لما فرض على عباده الصيام بدأت آيات الصيام في سورة البقرة بقوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
[ سورة البقرة]

ثم جاءت الآية الثانية:

أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
[ سورة البقرة]

ثم جاءت الثالثة:

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
[ سورة البقرة]

ثم جاءت الرابعة:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
[ سورة البقرة]

ثم يتابع المولى جلّ جلاله في الآية الخامسة:

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ...(187)
[ سورة البقرة]

فما معنى أن ترد هذه الآية بين آيات الصيام؟ إن الناظر للوهلة الأولى، أو القارئ للوهلة الأولى قد لا يجد مناسبة في وجود هذه الآية بين آيات الصيام، لكن لو أنك نظرت في هذه الآية لوجدتها من مقاصد الصيام، فالله تعالى عندما قال: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) انتهى رمضان، قال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) وكأن الله تعالى يقول: لا بدَّ أن يسألك عبادك عني إذا انقضى رمضان لأنهم في رمضان ذاقوا طعم القرب، صاموا نهاره، وقاموا ليله، وجدوا من الأنس بالله تعالى والفرح به وحسن لقائه ما وجدوه، فاشتاقوا إلى الأنس بالله، واشتاقوا إلى القرب من الله فسيسألون عن الله (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي).

السؤال مفتاح العلم:
أيها الكرام؛ كلنا نسأل، منْ مِنَ الناس لا يسأل؟ السؤال - كما قالوا- مفتاح العلم، كل إنسان يسأل، لكننا نتفاوت في الشيء المسؤول عنه، فهناك من الناس من يسأل عن الدنيا فحسب، كل سؤاله عن الدنيا، يمضي نهاره يسأل عن أسعار العملات، وعن البورصة، وعن ارتفاع وانخفاض السلع، وعن التجارة، وعن الرياضة، وربما ينتقل إلى أبعد من ذلك فيسأل -نسأل الله العافية - عن البعيدين والمنحرفين عن منهج الله تعالى، يسأل عن الدنيا، سواء في بعض الأسئلة المباحة، أو ينتقل إلى المحرم نسأل الله السلامة، لكنه لا يسأل إلا عن الدنيا.
السؤال عن الأحكام الشرعية ومدلولاته
وهناك إنسان راقٍ ينتقل سؤاله من السؤال عن الدنيا إلى السؤال عن الأحكام الشرعية، فيسألك: هل هذا حلال أم حرام؟ كيف أؤدي زكاة مالي؟ هل صحت صلاتي؟ هل يجوز أن أدفع هذا المال لهذه الجهة أم إنه رشوة محرمة؟ هل هذه المعاملة ربوية أم تجارية صحيحة؟ إلى غير ذلك، فيسأل عن أحكام دينه، وهذا يدل على أنه قد فقه، وأنه يخاف على آخرته، ويخاف أن يقع في المحظور، هذا إنسان راقٍ، وهناك إنسان بعد أن يسأل عن أحكام شرعه ينتقل إلى سؤال أرقى وأعظم، فهو لا يسأل فقط عن أحكام الشرع، وإنما يسأل عن المشرع جلّ جلاله، لا يسأل عن الأوامر فحسب وإنما يسأل عن الآمر.
هذا معنى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) المؤمن يسأل أحياناً عن الدنيا، لأن الدنيا مطية الآخرة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بصلاحها فقال: "وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا " لكنه لا يمضي وقته كلَّه في السؤال عن الدنيا، وإنما ينتقل إلى أعظم من ذلك فيسأل عن آخرته، وعن أحكام دينه، وعن الحلال والحرام، لأنه يخشى الوقوع في الحرام فتفسد عليه آخرته، ثم ينتقل لأعظم مسؤول فيسأل عن الخالق جلّ جلاله، عن الآمر، هناك أمر وهناك آمر، الإنسان لو اكتفى بالسؤال عن الأمر لربما بعد حين يعلم الحكم الشرعي ويختلق مئة عذر وعذر ليتفلت من تنفيذ الحكم الشرعي، وهذا واقع مشاهد، قد يعلم أن هذا كذب وحرام لكنه يفعله، ويعلم أن تلك المعاملة ربوية، لكنه يرابي، نسأل الله السلامة، رغم علمه بالحرام، لذلك ورد عن بعض السلف: لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت.
لكن الإنسان حينما يسأل عن الآمر يسأل عن الله، عن خشية الله، عن حبّ الله، عن الله العظيم، عن الله الرحيم، عن الله الغفور، عن الله الجبار، عندما يسأل عن الله فإن الآمر يعظم في نفسه، فلا يهون عليه أن يرتكب معصية تخالف أمر الآمر، لأنه يعلم ويعرف الآمر، وليس مجرد معرفة بالأمر.

شرف السؤال من شرف المسؤول عنه:
يجب أن يكون سؤالنا عن الأمر والآمر معاً
لذلك أيها الأخوة الأحباب، أيها الكرام، أيها المتابعون؛ يجب أن ننتبه إلى أن يكون سؤالنا عن الأمر والآمر معاً (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) ما قال: عن أمري، وما قال: عن نهيي، وما قال: عن شرعي، وإنما قال: (عَنِّي)، وشرف السؤال من شرف المسؤول عنه، أما قوله: (وَإِذَا) فتفيد تحقق الوقوع، عندنا أداتان إذا وإن، إذا لتحقق الوقوع ، وإن لاحتمال الوقوع، فالله تعالى حينما قال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
[ سورة الحجرات]

فالفاسق قد يأتي بنبأ وقد لا يأتي، فقال: ( ِنْ جَاءَكُمْ) لكن عندما قال:

إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)
[ سورة النصر]

فنصر الله آتٍ لا محال، فإذا لتحقق الوقوع.
وهنا عندما يقول تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) فإنما يريد أن يقول لك: لا بدَّ من أن تسأل عن الله، لا بد في رمضان، ولا بد بعد انقضاء رمضان أن تسأل عن الله، لأنك ذقت من طعم القرب منه ما ذقت، فلن تؤثر الدنيا كلَّها على رضاه، ولن تؤثر شيئاً في الأرض على ساعة لقاء بمولاك، وعلى ساعة صلة بخالقك.
إذاً: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) نسب العبادَ إلى ذاته العلية تشريفاً لهم، فأنت عندما تكون عبداً لله فهذا شرف لك، لكنك عندما تقول: أنا عبد لفلان من البشر فهذا انتقاص من كرامتك، لكنك عندما تخلص العبودية لله فإنما يكون هذا منتهى شرفك وعزك، عندما تخضع لله وتسجد له (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) فالله تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد.

الله تعالى أقرب للإنسان من حبل الوريد:
يوجد عشرات الآيات في كتاب الله تعالى:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (189)
[ سورة البقرة]

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ (222)
[ سورة البقرة]

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ (217)
[ سورة البقرة]

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (105)
[ سورة طه]

لا يوجد واسطةٌ بين السؤال والجواب
لكنه عندما قال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) لم يقل: فقل، لأنه قريب، فناسب أن يقول: (فَإِنِّي قَرِيبٌ) فوراً، لئلا يدع بين السؤال والجواب واسطةً قد توهمك بأنك تحتاج إلى الوصول إليه إلى شيء ما، وإنما هو قريب منك، فلا يحتاج الكلام إلى قل، فقال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) فالله تعالى من أسمائه القريب، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وهذا القرب ليس قرباً مكانياً، بل هو قرب معنوي، بمعنى أنك ما إن تلفظ لفظة إلا والله تعالى يعلمها، وما إن تنظر نظرة إلا والله تعالى يعلمها، أحياناً قريب لك يسكن بجوارك لكنك لا تطرق بابه، لأنك تعلم أنه لن يجيبك، وعندك صديق يبعد عنك آلاف الأميال يقيم في أمريكا، لكنك إذا وقعت في ضائقة أمسكت هاتفك واتصلت به لأنه أقرب إليك من جارك الذي أمامك، الباب بالباب كما يقال، ولله المثل الأعلى، فربنا جلّ جلاله قريب منا، تدعوه فيسمعك، تناجيه فيقبلك، تطلب منه فيعطيك، تستأنس به وتشتاق إلى لقائه فيملأ قلبك رضاً، وحباً، وسكينة، فهو قريب جلّ جلاله (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) فشرط الإجابة أن تدعو خالقك، فالله تعالى إذا دعوته أجابك، لكن لن يستجيب لك حتى تستجيب له، قال: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) لن يستجيب لك حتى تستجيب له، فإن لم تستجب له لن يستجيب لك، هذا يشبه قوله تعالى:

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
[ سورة البقرة]

ويشبه قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
[ سورة محمد]

تذكر الله عز وجل بذكر اللسان، وذكر القلب، وذكر الطاعة، فيذكرك الله تعالى بالسكينة، والحب، والرضا، والخير، تنصر الله بطاعته فينصرك على من هو أقوى منك بفضله.
الآن تستجيب له، لأوامره ونواهيه، فتفعل ما أمرك، وتجتنب ما نهاك عنه وزجرك يستجيب لك، لدعائك، هذا الجزاء من جنس العمل، فاستجب لله حتى يستجيب لك جلّ جلاله قال: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) فالله تعالى بدأك بالإحسان، وبدأك بإجابة دعائك، قبل أن يأمرك بإجابة أمره، من أجل أن يبين لك جلّ جلاله أنه يحبك ويريد إجابتك.

إجابة الله لدعائنا لا تكون إلا وفق ما يريد الله جلّ جلاله:
لكن يجب أن ننتبه إلى أمر مهم، وهو أن إجابة الله لدعائنا لا تأتي وفق ما نريد دائماً، وإنما يجيبنا وفق ما يريد هو جلّ جلاله، لأن الله يعلم وأنتم لا تعلمون، ولأنه:

وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً (11)
[ سورة الإسراء]

قد يسأل الله تعالى شيئاً يظن أن فيه خيراً له، وفي الحقيقة هو شر له ولكنه لا يعلم فيستجيب لك وفق علمه، ووفق حكمته، من هنا جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: يُستَجَابُ لأحَدِكم مَا لم يَعجَلْ، يقولُ: دَعوتُ رَبي، فلم يَستَجِبْ لي ' أخرجه الجماعة إلا النسائي وفي أخرى لمسلم قال: ' لا يَزَالُ يُسْتَجابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بإثم أو قَطِيعَةِ رَحِمٍ ما لم يستعجلْ قيل: يا رَسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوتُ، وقد دَعَوتُ فلم أرَ يستجيب لي فَيَسْتَحْسِرُ عند ذلك، ويَدَعُ الدعاءَ، وفي رواية الترمذي قال: ما من رجل يَدْعُو اللهَ بِدُعَاءٍ إِلا استُجِيبَ لَه، فإمَّا أنْ يُعَجَّلَ له في الدنيا، وإمَّا أنْ يُدَّخَرَ له في الآخرة، وإمَّا أنْ يُكَفَّرَ عنه من ذُنُوبِهِ، بِقَدْرِ مَا دَعَا، ما لَمْ يَدْعُ بِإِثمٍ، أو قَطيعةِ رَحِّمٍ، أو يَسْتَعْجِلْ، قالوا: يا رسولَ الله، وكيف يَسْتَعجِلُ؟ قال: يقول: دَعَوتُ رَبي فما استَجَابَ لي '. وفي أخرى له قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: 'مَا مِنْ عَبدٍ يَرفَعُ يَدَيْهِ حتى يَبدُوَ إِبطُهُ يَسألُ اللهَ مَسأَلَة، إلا آتَاهُ اللهُ إيَّاهَا مَا لَمْ يَعْجَلْ، قالوا: يا رسولَ الله، وكيفَ عَجَلَتُهُ؟ قال: يقول: قد سَألتُ وسأَلتُ فلم أُعْطَ شَيئا }

[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي ومالك]

(ما من رجل يَدْعُو اللهَ بِدُعَاءٍ إِلا استُجِيبَ لَه) وانظروا إلى هذا الأسلوب أسلوب حصر وقصر (ما من رجل يَدْعُو اللهَ بِدُعَاءٍ إِلا استُجِيبَ لَه) دون استثناء لكن ما هذه الاستجابة؟ قال: (فإمَّا أنْ يُعَجَّلَ له في الدنيا) يسأل الله مالاً فيؤتيه المال، يسأل الله شهادة علمية فيوفق إليها، يسأل الله زوجة صالحة فيزوج من زوجة صالحة، هذا تعجيل في الدنيا لأن الله تعالى بعلمه، وبحكمته، وبخبرته علم أن هذا العبد ينفعه المال الآن، أو ينفعه الجاه الآن، أو تنفعه الزوجة الآن، فيجيبه فيعجل له، قال: (وإمَّا أنْ يُدَّخَرَ له في الآخرة) إنسان يريد شيئاً من الدنيا، وهو لا يعلم أن فيه مضرة، فيؤخر.
أنت تحب ابنك حباً جماً، جاء وطلب منك جوالاً من أحدث طراز، وأنت تملك ثمنه وتستطيع إحضاره له، لكنك تعلم بعلمك الذي لا يعلمه هذا الطفل، وبخبرتك في الحياة التي لا يعلمها هذا الطفل، تعلم أنك لو جئت له بالجوال الآن فإنه سيكون مضراً لجسمه، ولنفسه، وسيفسد عليه دينه وأخلاقه ودراسته، فتجيبه لكنك تؤجل له، فإذا ما نجح في التوجيهي أو في الشهادة الثانوية تحضره له وتقول: قد أصبحت واعياً تعرف مخاطره، وتعرف أن تتلافى أخطاره، فتقدمه له، فأنت أجبته، لكن ادخرته له بعد وقت.
طفل محموم يطلب الحلوى، وقد منع عنها، والطبيب أمر والده ألا يطعمه الحلوى، الابن يريد الحلوى ويبكي من أجل أن يأخذها، والأب يعلم أن مصلحته ليست بالحلوى فيؤخره.
الله تعالى عنده العلم كله
لله المثل الأعلى، الله تعالى عنده العلم كله، والخبرة كلها، فهو العليم الخبير، فقد يطلب الإنسان شيئاً لا مصلحة له فيه، فالله تعالى يؤجل له الإجابة، ولكن يثيبه على دعائه لأن الدعاء عبادة، فيكفيك وأنت تدعو الله أن تعلم يقيناً أن الله يسمعك، ويحبك، وقد حصلت ثواب الدعاء بمجرد الدعاء، سواءً تحققت الإجابة أو تأخرت، ثم إن الله تعالى يؤخر لك الإجابة إلى حين أو يدخرها لك إلى يوم القيامة فتجد أثر ما دعوته، حتى إنك ولا أبالغ لترضى وتحمد الله ألف مرةٍ ومرة أنه لم يعجل لك في الدنيا، تماماً كإنسان يريد مئة الآن، فأجلت له ثم أعطي مليوناً، فيحمد الله أنها أُجلت ولم يعطَ، ويوم القيامة يجد أثر دعائه، وأثر ما أجله الله له من خير، وسيرضى بما قسمه الله له، فقال: إما أن يعجل له في الدنيا، أو يدخر له في الآخرة، أو يغفر له بقدر ما دعا.
الثاني لم يستجب لله، عنده ذنوب ومعاصٍ ويدعو الله، ومن كرم الله تعالى أنه لا يسأله عبد إلا أعطاه، فلو كان عاصياً فإنه يغفر له من ذنوبه بمقدار دعائه، فنحن عندما نقف بين يدي الله، وندعو الله تعالى، ورمضان شهر الدعاء، وما بعد رمضان ينبغي أن نستمر على الدعاء، وعندما نقف وندعو الله تعالى يجب أن ننتبه إلى أن إجابتنا محققة في الدنيا، أو في الآخرة أو في المغفرة، وكلها لا تفاضل بينها، والذي يعرف الله لا يفاضل بين هذه الإجابات الثلاثة، وإنه يرضى ما رضيه الله له، فإن رضي الله له التعجيل في الدنيا حمد الله على ما عجل له، وإن أراد له التأخير إلى الآخرة حمد الله على ما أخر، فالله هو المقدم، وهو المؤخر، وإن غفر الله له ذنوبه كان في أعلى مقام، وكان في أسعد حال، لأن دعاءه قد استجيب بمغفرة ذنوبه، وما أعظم ذلك، فيجب أن ننتبه إلى هذا المعنى.

الإيمان بأن الله على كل شيء قدير:
الإيمان بالله أثناء الدعاء
قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) تستجيب لله طاعة فيستجيب لدعائك حباً وكرامةً، ثم قبل الاستجابة له ينبغي أن يسبقها الإيمان قال: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) فأنت إيمانك بالله أثناء الدعاء أنك تؤمن أن الله تعالى يعلم حالك فهو عليم، وتؤمن أنه يسمع دعاءك فهو سميع، وتؤمن أنه جلّ جلاله يحبك وإلا لم يجبك، فلا يجيب إلا من يحب، وتؤمن أنه على كل شيء قدير، فتدعوه بأشياء لا تسأله لأحد من خلقه، فتسأله الشفاء والعافية والمغفرة والخير، وهذا ليس إلا بيد الله وحده، وكل شيء في الوجود بيد الله وحده، فأنت تؤمن بوجوده، وتؤمن بعلمه، وتؤمن بخبرته، وتؤمن بسمعه، وبصره، وبمحبته لك، وبأنه على كل شيء قدير، هذا معنى أنك تقول: يا رب (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) لولا أنك تؤمن بكل ذلك لما دعوته، فمن منا يدعو غير موجود! ومن منا يدعو غير قدير!
هل يعقل أن تقف بباب مؤسسة تعلم أن حاجتك لا يقضيها إلا مدير المؤسسة، ثم تتذلل أمام الحاجب ليوقع لك وهو لا يملك أن يوقع لنفسه أصلاً توقيعاً؟ هل هذا من العقل؟ مستحيل! تطلب لقاء المدير لأن الأمر يُحل عنده، ولله المثل الأعلى، فهل يعقل أن تقف لتطلب من إنسان وتترك السؤال ممن بيده الأمر كله (وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) لعلك تصل إلى الرشد، والرشد هو الهداية، ويقال: إنسان راشد أي أصبح عاقلاً، فالإنسان لا يُعطى صفة الرشد إلا بعد الإيمان، أما إذا وجدت إنساناً ذكياً متأنقاً تاجراً وبعيداً ومعرضاً عن الله تعالى فاعلم أنه غير راشد، ولو أنه كان راشداً لهدي إلى صراط مستقيم، ولو كان راشداً لخشي الله فالعلم هو الخشية، قال تعالى:

إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
[ سورة فاطر]

أي إن العلماء وحدهم هم من يخشون الله تعالى.

حبّ الله عامل مهم من عوامل الارتقاء إليه سبحانه:
أيها الكرام ؛ نحن علاقتنا مع الله علاقة حب، علاقة:

يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ..(54)
[ سورة المائدة]

لو أراد الله تعالى أن تكون العلاقة به علاقة إجبار لأجبرنا، قال تعالى:

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
[ سورة يونس]

ربنا عز وجل لو شاء أن نأتيه قسراً لفعل، وقد فعل مع الملائكة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
[ سورة التحريم]

لكنه بنى علاقته مع بني البشر على الحب ليرتقوا بالحب، ولينهضوا إلى الله بالحب.

الله تعالى سميع مجيب:
أيها الكرام ؛ أسألكم بالله لو أن ملكاً من ملوك الأرض واعد الناس في ليلة من الليالي قبيل الفجر بساعة أن يلتقيهم بساحة من ساحات البلد الكبرى، في ميدان من ميادين البلد الكبرى، وقال: من يأتي إلى هذا المكان في تلك الليلة، ويسأل سؤالاً أعطيته، بربكم هل سيبقى أحد من أهل البلد إلا وسيكون في تلك الساحة في تلك الليلة؟ أجزم أن هناك أناساً سيبيتون قبل الموعد المحدد بليال حتى يحجزوا مكاناً متقدماً في الساحة ليسألوا الملك، ملك الأرض، ملك من ملوك الأرض ليسألوه سؤالاً من الأسئلة، الكل سيأتي يومها.
الإجابة لكل سؤال مستحيلة
الآن أسألكم بالله عليكم: هل حضوره مؤكد أم ممكن؟ واجب أم جائز؟ ممكن جائز، وليس مؤكداً واجباً أبداً، قد يموت قبل أن يأتي، وقد ينصحه الحراس بألا يأتي لحالة أمنية تمنع ذلك، الحضور ممكن وجائز لكنه ليس مؤكداً، الآن إن أتى هل يستطيع أن يسمع كل الأصوات وفي وقت واحد؟ مستحيل ! لو أنه سمعها - وهذا من باب الجدل - لو أنه سمع كل الحاجات، أو أخذها على أوراق، هل يستطيع أن يلبيها، لو كتب له إنسان: أريد أن تغفر ذنوبي، هل يستطيع أن يغفر الذنوب؟ لو كتب له إنسان: أريد أن أشفى من مرضي، هل يستطيع ملك من ملوك الأرض أن يشفي إنساناً من مرضه؟ الناس يأتون رغم أن الحضور ممكن جائز، ورغم أن السماع يكاد يكون مستحيلاً، ورغم أن الإجابة لكل سؤال مستحيلة، فهو لا يملك من أمره شيئاً حتى يملك أمور البشر، والناس يأتون، ثم اسمع إلى قوله صلى الله عليه وسلم:

{ عن جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر }

[أخرجه أبو يعلى والطبراني والبزار والإمام أحمد]

إن حضوره جلّ جلاله، وإن نزوله إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بكماله، نسلم الأمر له، نؤمن به، ولا ندخل في تفصيلاته، لكن نزوله إلى السماء الدنيا مؤكد جلّ جلاله، وسماعه لكل مخلوق يناجيه مؤكد، فهو السميع لا يشغله سمع عن سمع جلّ جلاله، ولا حاجة عن حاجة، وبعد ذلك جلّ جلاله قدرته مطلقة فيمكن أن يجيبك إلى كل ما تريد وفق ما تحدثت به عن إجابة الدعاء قبل قليل.

شهر رمضان فرصة عظيمة للصلح مع الله:
شهر رمضان فرصة مهمة
أيها الكرام ؛ شهر رمضان فرصة مهمة كي نسأل عن الله، كي نقترب من الله، كي نضاعف صلتنا بالله، كي نحسن القرب منه، كي نحسن مناجاته، لا ينبغي أن ينقضي رمضان إلا وقد نعمنا من القرب من الله، وعندها لابد أن نسأل عن الله ليس في رمضان فقط وإنما في العام كله، فإذا وصلنا إلى الله وصلنا إلى كل شيء، ابن آدم اطلبنِي تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، رب ماذا فقد من وجدك؟ و ماذا وجد من فقدك؟
من فاته منك وصل حظـــــه الندم ومن تكن همه تسمو به الهمـــم وناظر في سوى معناك حق لــــــه يقتص من جفنه بالدمع وهو دم فـــــي كل جارحة عين أراك بهــــا مني وفي كل عضو للثناء فـــــــم فإن تكلمت لـــــــــــــــم أنطق بغيركم وإن كتمت فشغلي عنكم بـــــــــــكم أخذتم الروح مني في مــــــــــلاطفة فلست أعرف غيراً مذ عرفتــــــــكم تركت كل طريق في محبتــــــــكـــــم إلا طريقاً تؤدي بي لـربعـــــــــــــــكم
{ علي بن وفا }
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يبارك لنا فيما بقي من شهر رمضان، وأن يعيننا فيه على الصيام والقيام وغض البصر وحفظ اللسان، وأن يبلغنا ليلة القدر، وأن يغفر لنا ذنوبنا فيها، وأن يجعلنا من عتقاء هذا الشهر من النيران، نحن وآباؤنا وأمهاتنا ومن علمنا ومن له فضل علينا، آمين اللهم آمين.
والحمد لله رب العالمين