مع الصديق رضي الله عنه - 1

  • محاضرة في الأردن
  • 2021-06-14
  • عمان
  • الأردن

مع الصديق رضي الله عنه - 1

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

تعريف بالخليفة أبي بكر الصّدّيق:
وبعد أيها الأخوة الأحباب؛ حديثنا اليوم ماتع شيق، لأنه كما قالوا: بذكر الصالحين تتعطر المجالس، والحديث عن الصالحين يعطر المجلس، فكيف إذا كان الحديث عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف إذا كان الحديث عن أعظم صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟
في بضع لقاءات سنتعلم من الصديق رضي الله عنه وأرضاه، الخليفة الراشدي الأول، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أحبابنا الكرام ؛ أولاً الاسم: أبو بكر الصّدّيق، الصّدّيق ؛ مبالغة من الصدق فكلما أكثر الإنسان من الصدق سمي صديقاً.

{ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدي إِلي البِرِّ، وإِن البِرَّ يهدي إِلى الجنةِ، وإِن الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حتى يُكتَب عند الله صِدِّيقا، وإِن الكذبَ يهدي إِلى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يهدي إِلى النارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ ليكذبُ حتى يكتبَ عندَ اللهِ كذَّابا ) }

[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي ومالك]

الإنسان كلما أكثر من الصدق، وتحرَى الصدق، يصل إلى الصّدّيق، فهي مبالغة من الصدق، يقال: صدق ؛ فهو صادق، والمبالغة صدّيق.
الله تعالى هو خالق الزمن
أبو بكر رضي الله عنه لما أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، ثم عُرج به من هناك إلى السماء السابعة، حتى وصل إلى سدرة المنتهى، صلى الله عليه وسلم، ذهب وعاد في ليلة واحدة، بل في وقت قصير، لأن الله تعالى هو خالق الزمن، وإن شاء عطل الزمن، لأن الزمن خلق من مخلوقات الله، والمعجزة في الأصل - وهذا على الهامش قبل أن نتحدث عن الصديق - لا تتصور عادة، أما عقلاً فتقع المعجزة، اليوم لو قلت لإنسان: أريد أن أقول لك شيئاً غريباً عجيباً، قال لك: تفضل، قلت له: والله أنا ذهبت بالليل من عمان للقدس، ورجعت والفجر لم ينبلج بعد، يقول لك: ماذا حدث؟ خير إن شاء الله ! هذه قبل 1400 سنة كانت معجزة، لأن الذهاب كان على الجمل، فالوقت لا يكفي، أما اليوم فيوجد طائرة، فالعقل يصدق المعجزة، لأنها هي ضمن نطاق العقل وليست خارج نطاق العقل، لكن هي خارج نطاق المألوف.
نحن نعلم أن الجذع لا يصدر صوتاً، الجذع يبكي؟ جذع الشجرة يبكي، الصحابة سمعوا صوته يبكي، هل الأمر هذا يناقض العقل؟ لا، عندما يبكي ابنك الصغير، هذه ليست معجزة؟ ولد ينطق، ويتكلم، وله حبال صوتية.
فنحن أحياناً نعيش معجزات أشد من المعجزات الحسية، لكن الناس لا ينتبهون لها، سيدنا موسى عندما ألقى العصا فأصبحت:

فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)
[ سورة طه]

فارتجف سيدنا موسى، لماذا؟ لأن العصا في الأصل لا تتحرك.
العصفور يتحرك بالأصل، لو كان لا يتحرك، ورأيته يتحرك فإنك تضطرب، فنحن نعيش معجزات يومية بكل لحظة، أنت عندما ترى العصفور هذه معجزة، هذا النبات معجزة، كيف ينمو، لكن المعجزة غير مألوفة فقط ليخبر الله تعالى بها أن هذا الذي يكلمكم بكلام إنما هو نبيّ، ورسول، فأعطيته شيئاً غير مألوف، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع، وحدث الناس أنه ذهب ورجع، الناس كذبوا هذا الأمر، سيدنا أبو بكر لم يسمع من رسول الله، جاؤوه، وباعتباره هو أول من آمن من الرجال، فجاؤوه ليعبثوا بثوابته، قالوا له: إن صاحبك هذا، يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم، يزعمُ - والزعم كما قالوا مطية الكذب - أنه أُسري به، ثم عرج إلى السماء، ثم عاد في ليلة واحدة، الآن انظروا إلى جواب أبي بكر، قال: إن قال هذا فقد صدق.
أول شيء؛ أنا لست متأكداً أنه تكلم أم لم يتكلم، قد تنقلون كلاماً لم يحصل، فسيدنا أبو بكر قال: فإن قال فقد صدق، أي الموضوع انتهى لأننا نصدقه بوحي السماء، فهذا أقل، يقول: أنا جئت بوحي من الله، نصدقه، فهذه حادثة بسيطة جداً، طبعاً أنت لك أن تتخيل في هذا العصر وبالمعطيات الموجودة كيف كان موقف الصديق، فهذا أول درس من دروس الصديق رضي الله عنه أنه يتلقى الخبر من الله، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه اليقين، ولا يناقش قضية جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح، أو في قرآن الله.

المؤمن لا ينكر أمراً من أوامر الله:
المؤمن لا ينكر أمراً من أوامر الله
مشكلة العالم الإسلامي لا أحد يقول لنا معجزة وأشياء خلاف العقل ونصدقها، موضوع ضمن عقلنا، وضمن المنطق، وضمن العادة، ورغم ذلك تجد الكثير من الناس يناقشون بالأشياء التي أمر الله بها رغم أنها واردة بأوامر صريحة في القرآن، هذا ضعف يقين، ممكن إنسان وكلنا ذو خطأ أن يأتيه الأمر فيخطئ، فيعصي الله، فيستغفر، كلنا ذاك الرجل، لكن المؤمن لا ينكر أمراً من أوامر الله، قد يعصي لكن لا ينكر انتبهوا، الفرق بين الكلمتين، قد يعصي الله لكنه لا ينكر فرضاً فرضه الله، ولا ينكر نهياً نهى عنه الله، ولا يحاكم الأمور بعقله الضعيف القاصر، يقول أحدهم: قطع يد السارق لم يدخل بعقلي، من أنت حتى تقول هذا؟
يقولون هذا عندنا غيرُ جائزٍ قل فمن أنتمُ حتى يكون لكم عندُ؟
أنت من؟ أنت عبد ضعيف مخلوق، ربنا عز وجل قال:

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
[ سورة المائدة]

قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ (140)
[ سورة البقرة]

فاليوم مناقشة القضايا الدينية بمنطلق عقلي، أنا لا أقول عدم فهم القضايا الدينية ـ يجب أن نفهمها، وأن نسأل عن حكمها، لكن ليس من باب الإنكار، وإنما من باب التعلم، من باب التعلم الجائز، أما من باب الإنكار فلا ينبغي أن ينكر ما عُلم من الدين بالضرورة، قد يعصي الإنسان ربه ويعود إليه لكن لا ينبغي أن ينكر.
أحد السلف الصالح قال للناس: لقد رأيت الجنة والنار عياناً، أي أنا رأيت الجنة والنار بعيوني، هل يوجد واحد منكم من رأى الجنة والنار بعينه؟ قال لهم: لقد رأيت الجنة والنار عياناً، نحن سمعنا عن الجنة والنار، قرأنا عن الجنة والنار، وصدقنا هذا مئة بالمئة، لكن ما رأينا بالعين، فقال له أحدهم: يا هذا ! انظر فيم تقول؟ كأنك أخطأت، تريد أن تقول: سمعت عن الجنة، أو أنا موقن بالجنة، فقال الرجل: والله لقد رأيت الجنة والنار عياناً، قالوا: كيف ذلك؟ قال: والله لقد رأيتهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤيتي لهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق عندي من رؤيتي لهما بعيني، لأن بصري قد يزيغ وقد يطغى، أما بصره:

مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)
[ سورة النجم]

يريد أن يعلمنا هذا الرجل من السلف الصالح درساً أن المؤمن عنده إيمان بالخبر، ويقين بالخبر.

الإيمان بالغيب أول صفة من صفات المؤمنين:
أصلاً أيها الأحباب ؛ نحن اليوم عندما نلتزم بأوامر الله، أقول لك: قال الله، تقول لي: سمعاً وطاعة، عندما يأتيك مبلغ من حرام، أو من رشوة، أو من ربا تقول: أنا لا آخذ المال الحرام، يأتي شخص ثان، تاجر مثلك، وربما عنده أموال مثلك، أو أكثر، يأتيه مبلغ من المال من حرام، لا يوجد عنده مشكلة، يأخذه، ما الفرق؟ لماذا هو أخذه وأنت لم تأخذه؟ الفرق باختصار أنه أنت يوجد شيء بالغيب مؤمن به، هو ما آمن به، الله عز وجل قال:

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
[ سورة البقرة]

امتناع المؤمن عن الحرام
أول صفة للمؤمنين بسورة البقرة قبل أن يقيموا الصلاة وقبل أن يؤتوا الزكاة، قال:(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) فأنت عندك منظومة قيم، وأنت مؤمن بها يقيناً، وأنت لا تراها، لكن إيمانك بها أشد من الرؤية، فعندما يأتيك قرش من حرام لا تأخذه لأنك تعرف أن هذا عليه حساب، هو برؤيته يظن أن هذا القرش مكسب، فيأخذه ويضعه بجيبه، ويقول: لم يرني أحد، إذاً لماذا يمتنع المؤمن عن الحرام؟ من الغيب، والغيب خبر، أما الشخص الذي يقول لك: لا أصدق شيئاً حتى أراه بعيني، فهذا الشخص قل له: والمخلوقات الأخرى لا تصدق حتى ترى بعينها، فلا تفتخر بهذا الكلام، يقول لي أحدهم: والله لا أصدق حتى أرى بعيني، أقول له: لا تقلها أمام أحد نهائياً، صدق ولو لم تر بعينك، إذا كان المخبر صادقاً، إذا الرؤية مطلوبة بالحواس، هناك أشياء تعالجها بحواسك الخمس، لكن أنت لا تكتفي بالنظر، أنت تنتقل من النظر إلى الأثر، هذا الكون أثر من آثار الله، فتؤمن بوجود الله من خلال وجود خلق الله، ثم تنتقل من الأثر إلى الخبر، نظر، أثر، خبر، الخبر يختص به المؤمنون بالغيب.
نحن اليوم عندنا عدة أمور لم نرها بأعيننا، ولا يوجد لها شيء ملموس حتى نستدل على وجودها، لكن نؤمن بها لأن الله أخبرنا وهذه عظمة الدين، الإيمان بالملائكة خبر، اليوم الآخر خبر، تفاصيل اليوم الآخر خبر، القدر خبر، هذه عظمة المؤمن، ولذلك يعيش مطمئناً، لأنه عنده أخبار يؤمن بها، الآخرون غير داخلة بحساباتهم أصلاً.

دروس تعلمناها من أبي بكر الصديق:
سيدنا أبو بكر أول درس يعلمنا إياه، ونتعلم في هذا اللقاء من أبي بكر رضي الله عنه: إن قال فقد صدق، أنت اليوم عندما يأتيك خبر من الله، أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم فتتلقى الخبر وكأنك تراه بعينيك، انظر في القرآن الكريم عندما يقول تعالى:

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)
[ سورة النجم]

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
[ سورة الفيل]

إذا أخبرك الله فكأنك ترى بعينيك
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير كيف فعل الله بعاد، ولم ير كيف فعل ربه بأصحاب الفيل، لأنه كان وقت أصحاب الفيل صغيراً، ولد عام الفيل، لماذا لم يقل له: لم تسمع كيف فعل ربك بعاد؟ لأن الله يخبرك، إذا أخبرك الله فكأنك ترى بعينيك، الخبر من الله رؤية بصرية.
الأمر الثاني: سيدنا أبو بكر الصديق ورد ذكره في القرآن الكريم، قال تعالى:

وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)
[ سورة الزمر]

قال علماء التفسير: وفي أسباب النزول الذي جاء بالصدق هو محمد صلى الله عليه وسلم، قال: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) هنا إشارة إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
هو أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من الرجال، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم الصّدّيق، كما في الصحيح، لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم جبل أُحد وحصل ارتجاف بالجبل، فيقول صلى الله عليه وسلم مخاطباً أُحد:

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صَعِدَ أُحُدا وأبو بكر وعمر وعثمان فَرَجَفَ بهم، فقال: اثبتْ أحُدُ - أُراه ضربه برجله - فإِنما عليك نبيّ وصِدِّيق وشَهيدَانِ }

[أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي]

سيدنا عمر وعثمان شهيدان، والصّدّيق أبو بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم أنه علم أن سيدنا عمر وسيدنا عثمان لن يموتا الميتة الطبيعية، وإنما ميتة الشهادة.

أبو بكر الصّدّيق أفضل أمة الإسلام بعد رسول الله:
هو أبو بكر الصّدّيق أفضل الأمة، أفضل أمة الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفضل الأمة بعد رسول الله هو أبو بكر الصديق، في صحيح البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال:

{ عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قال: كنتُ جالساً عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَقْبَل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه، حتى أَبْدَى عن ركبته، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا صاحبُكم فقد غامر فسلّم، فقال: إِني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعتُ إِليه، ثمَّ نَدِمْتُ فسألته أن يغفر لي، فأبى عليَّ، فأقبلتُ إِليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر - ثلاثاً - ثمَّ إِنَّ عمر نَدِمَ، فأتى منزل أبي بكر، فقال: أَثَمَّ أبو بكر؟ قالوا: لا، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فجعل وَجْهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَتَمَعَّر، حتى أَشْفَق أبو بكر، فجَثا على ركبتيه، وقال: يا رسول الله، وَاللهِ أنا كنتُ أَظلم - مرتين - فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الله بعثني إِليكم، فقلتُم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقَ، ووَاسَاني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ - مرتين - فما أُوذِيَ بعدها }

[أخرجه البخاري]

أبو الدرداء في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِذْ أَقْبَل أبو بكر -رضي الله عنه- آخذا بطرف ثوبه) أمسك طرف الثوب من أجل أن يسرع، ومن يفعل ذلك يدل على أن عنده مشكلة، أي مستعجل يرفع ثوبه، قال (حتى أَبْدَى عن ركبته) لم ينتبه فظهرت ركبته قال: (حتى أَبْدَى عن ركبته فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا صاحبُكم فقد غامر) منذ أن رآه قادماً من بعيد على هذه الهيئة قال: قد غامر؛ أي قد دخل في مغامرة، أي هناك شيء حصل معه جعله يأتي في هذه الهيئة، وفي هذه السرعة، صلى الله عليه وسلم، فوصل أبو بكر (فقال: إِني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء) صار أخذ ورد، مجتمع الصحابة مجتمع راق جداً، لكن لا نخرجهم عن بشريتهم، سبحان الله في أي مجتمع يحدث أحياناً سوء تفاهم، لكن لا يصير - والعياذ بالله – هناك خروج عن الأدب، ولا خروج عن الإسلام، وعن الدين، لا، مناوشات بسيطة (فقال: إِني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعتُ إِليه) أي استعجلت قليلاً، وتكلمت كلاماً كان من المفروض ألا أتكلمه (فأسرعتُ إِليه) أي أنا أخطأت معه فخرجت كلمة من فمي (فأسرعتُ إِليه، ثمَّ نَدِمْتُ) فندمت على ما كان مني، أخطأت بحق عمر (فسألته أن يغفر لي) سامحني يا عمر أرجوك، قال: (فأبى عليَّ) رفض ، كان أيضاً منزعجاً، قال له: لا أسامحك (فأبى عليَّ، فأقبلتُ إِليك) أي أنا منزعج.
الأخوة الإيمانية عند السلف الصالح
انظر الأخوة الإيمانية، سيدنا أبو بكر لم يرض أن يؤجلها، فوراً في اليوم نفسه، بل في اللحظة نفسِها ذهب لعند رسول الله (فأقبلتُ إِليك، فقال) انظروا الآن رد النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه، ما سأله عن الحادثة، ولا قال له: ماذا حدث؟ ولم يقل له: معك حق، أو ليس معك حق، قال: (يغفر الله لك يا أبا بكر ـ ثلاثاً) انتهى، أنت لا يوجد عليك شيء (يغفر الله لك يا أبا بكر، قال: ثمَّ إِنَّ عمر نَدِمَ) سيدنا عمر بعد أن رفض مصالحته ندم، قال: ماذا فعلت أنا؟! هذا أبو بكر (فأتى منزل أبي بكر) ذهب لعند سيدنا أبي بكر (فقال: أَثَمَّ أبو بكر) أبو بكر موجود؟ (قالوا: لا، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فجعل وَجْهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَتَمَعَّر) سيدنا رسول الله تغير لونه (حتى أَشْفَق أبو بكر) أي خاف على رسول الله من شدة انزعاجه (حتى أَشْفَق أبو بكر فجَثا على ركبتيه) سيدنا أبو بكر قام وجثا على ركبتيه (وقال: يا رسول الله، وَاللهِ أنا كنتُ أَظلم) أنا الذي ظلمته، الغلط مني، أنا المخطئ وأريد أن أتخلص من خطئي (وَاللهِ أنا كنتُ أَظلم - مرتين - فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الله بعثني إِليكم، فقلتُم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقَ) انظروا الدقة النبوية (فقلتُم: كذبتَ) واجهتموني بوجهي (كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقَ) حتى بغيابي قال، صدق، ليس بوجهي، بوجهي أكيد، لكن حتى بغيابي كان يقول: إن قال فقد صدق (وقال أبو بكر: صدقَ، ووَاسَاني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ - مرتين-) أبو بكر اتركوه لا أحد يتكلم معه، قال أبو الدرداء: (فما أُوذِيَ ـ أبو بكر ـ بعدها) أبو بكر صار خطاً أحمر (فهل أنتم تاركون لي صاحبي) هذا صاحبي لا أحد يتكلم معه.
الخلاصة أخواننا الكرام، هذا الرجل سيدنا أبو بكر أفضل الرجال بعد النبي، وأفضل الأمة بعد نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى:

إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
[ سورة التوبة]

يقول أحد العلماء الكرام من السلف، قال: ألا ترى كيف قال: لا تحزن، ولم يقل: لا تخف، لأن حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم شغله عن خوفه على نفسه، أنت بالغار تتخيل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأبي بكر: لا تخف، هو لم يرَ منه خوفاً، هو رأى منه حزناً، رغم أن الموقف موقف خوف، خوف أن يروهم، خوف أن يصلوا إليهم، خوف أن يأتي شيء من هوام الأرض فيفعل شيئاً، شغله حزنه على رسول الله من أن يخاف على نفسه، فقال له: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) ما قال: لا تخف، قال (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، أن أبا بكر حدثه قال:

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال أبو بكر: نظرتُ إِلى أقدام المشركين ونحن في الغار على رؤوسنا. فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إِلى قَدَمْيه أبْصَرَنَا تحت قدميه. فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ }

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي]

(نظرتُ إِلى أقدام المشركين ونحن في الغار على رؤوسنا) المشركون صعدوا فوق الغار، ونحن في الغار (فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إِلى قَدَمْيه أبْصَرَنَا تحت قدميه. فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟) أي أبو بكر هو صاحب الغار، وهذه لم تحصل إلا لأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.

الفرق بين الهجرة والإسراء والمعراج:
أحبابنا الكرام ؛ ربنا عز وجل في رحلة الهجرة أراد أن يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كل الأسباب، أي ترك له الهجرة كي يرتبها.
في الإسراء والمعراج عطل الله الأسباب
أما في الإسراء والمعراج فقد عطل الله الأسباب، بعث له البراق، وتعطل الزمن، وذهب ورجع والفراش ما يزال ساخناً، هذه رحلة خارج المألوف، الهجرة؟ لا، الهجرة رحلة تعليمية، لو أراد ربنا عز وجل لبعث براقاً كبراق الإسراء، فيركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراق ويخرج بثانية، من مكة للمدينة بلحظة واحدة، ولا يراه أحد من المشركين، ولا أحد يلحق به، ولا يلجأ إلى الغار، ولا القصة كلها، لماذا لم يفعل الله جلّ جلاله هذا؟ الهجرة تعليم، الإسراء خارج القوانين، أما الهجرة فقوانين، يا مسلم اتخذ الأسباب، لا تقل: يا رب وأنت جالس بفراشك، قل: يا رب بعد أن تتخذ الأسباب، تحرك وتوكل، فالهجرة تعلمنا أن نتخذ الأسباب ثم نتوكل على رب الأرباب.
فلذلك لما وصلوا إلى الغار - هنا موطن الشاهد - لماذا أراد الله تعالى بعد كل الإجراءات التي اتخذوها أن يصل إليهم المشركون؟ وصلوا ووقفوا فوق الغار، لأن ربنا عز وجل يريد أن يعلمك أنك لو اتخذت كل الأسباب لن تنجو إلا بأمر الله، لكن ينبغي أن تأخذ بكل الأسباب لأنك تتعبد الله بهذه الأسباب، هو موضوع تعبد لله، اسلك الطريقين معاً، سلوك الأسباب، وسلوك التوكل على رب الأرباب معاً.

قصة تبين اعتراف عمر بن الخطاب بفضل أبي بكر رضي الله عنه:
أبو بكر رضي الله عنه عندما دخل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار - وصلوا للغار، أبو بكر رضي الله عنه دخل قبله إلى الغار ليتفقده، ولينظر لئلا يصيبه شيء - جعل يتفقده قبله، في طريق الهجرة كان يمشي حيناً أمام النبي صلى الله عليه وسلم، حيناً خلفه، حيناً عن يمينه، حيناً عن شماله.
اعتراف سيدنا عمر بالفضل
يروى أن رجالاً في عهد عمر رضي الله عنه اجتمعوا، فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر، فسمع بهم عمر، سمع أن هناك أناساً يتكلمون أنك أنت أحسن شخص، تعرفون في كل زمن أناس للخليفة، قالوا له: والله ما رأينا خيراً منك، قال: فأحدّ النظر فيهم حتى قام رجل، وقال: والله رأينا من هو خير منك، قال: من؟ قال: أبو بكر، قال: كذبتم جميعاً وصدق، لقد كنت أضل من بعيري، وكان أبو بكرٍ أطيب من ريح المسك، هذا الاعتراف بالفضل.
فيروى أنهم كانوا في مجلس ذكروا عمر بخير، ففضلوه على أبي بكر، فبلغه ذلك فقال عمر رضي الله عنه:

{ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ذكر رجال على عهد عمر رضي الله تعالى عنه فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قال: فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، فقال عمر رضي الله عنه: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لينطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي؟ فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك: فقال: يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني قال: نعم، والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من ملمة إلا أن تكون بي دونك فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار فدخل واستبرأه حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الحجرة، فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الحجرة، فدخل واستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل، فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر }

[أخرجه الحاكم]

المؤمن يعترف لإخوانه بفضلهم
ليس فقط من عمر (وليوم من أبي بكر خير من آل عمر) هذا كلام سيدنا عمر قال: لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر إلى الغار فجعل يمشي ساعة عن يمينه، وساعة عن شماله، وساعة من أمامه، وساعة من خلفه، حتى فطن له رسول الله، انتبه الرسول، هذا لا يقف بمكان، ساعة ليست بمعنى ستين دقيقة، أي وقت سريع فقال: (فقال يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي، فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك) أخاف من الذين يطلبونك فأمشي خلفك (ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك) الرصد أن يكون أحد ينتظرك، فكلما تذكرت الطلب أمشي خلفك، أذكر الرصد أمشي أمامك، فيقول صلى الله عليه وسلم له: (لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني) أي إذا كان هناك مشكلة تريد أن تتلقاها أنت؟ (قال: نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من ملمة إلا أن تكون بي دونك فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ) الحجرة، (فدخل واستبرئ ثم قال انزل يا رسول الله فنزل فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر) هذا الاعتراف بالفضل، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل، المؤمن يعترف لإخوانه بفضلهم، ولا يظهر وحده ويعتم على الآخرين، وإنما يعطي كل ذي حق حقه، فسيدنا عمر ما أراد أن يتوجه الناس إليه بأصابع التعظيم، ويتناسون فضل أبي بكر وهو السابق في الإسلام، وهو صاحب الهجرة وصاحب الغار، فما أراد ذلك، وانتصر للحق، هذا أيضاً درس من الدروس التي ينبغي أن نتعلمها.
أحبابنا الكرام؛ هذا طبعاً غيض من فيض في الحديث عن سيدنا أبي بكر الصديق، وأنا أريد إن شاء الله في اللقاءات القادمة إن يسر الله لنا، ونسأل الله أن يديم علينا هذه الاجتماعات الطيبة أن نتابع إن شاء الله في الحديث عن الصديق رضي الله عنه وأرضاه ومواقفه الطيبة، لأنها تعلمنا دروساً ودروساً.
والحمد لله رب العالمين