أثر فهم الواقع في رسالة الداعية

  • الملتقى العلمي الدولي الأول للشباب
  • 2019-07-05
  • تركيا
  • يالوفا

أثر فهم الواقع في رسالة الداعية

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.

من فاته منك وصلٌ حظه النـدم ومن تكن همه تسمو به الهمــــمُ وناظرٌ في سوى معناك حق لـه يقتص من جفنه بالدمع وهو دمُ
 في كل جارحة عيـن أراك بهـــــــا مني وفي كل عضو للثناء فـــــــــمُ
 فإن تكلمتُ لـم أنطـق بغيركــــــــمُ وإن كـتـمـت فـشغـلـي عـنـكم بـكــــمُ
 أخذتمُ الروح مني فـي ملاطفــةٍ فلست أعرف غيراً مذ عرفتكـــــــــمُ
 نسيت كل طريقٍ كنـتُ أعرفهــــا إلا طريقـاً تؤديــنـــــــــي لربعــكـــــــــمُ ***
{ علي بن وفا - شاعر صوفي }

يا رب ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟

وبعد فيا أيها الأخوة الأحباب، يسعدني ويشرفني ويخيفني أن أتحدث بحضرة شيخنا، يسعدني ويشرفني لأنه شرفٌ عظيمٌ لتلميذٍ مثلي أن يتكلم في حضرة شيخه، ويخيفني لأن الكلام بعده قلَّ من يستمع إليه، بارك الله بكم، فاستمعوا وأنصتوا لعلكم ترحمون.

ملازمة الدكتور بلال للدكتور النابلسي في حله وترحاله :
أخواننا الكرام؛ أنا تعلمت على يد شيخنا في مسجد النابلسي في مدينة دمشق، بدأت رحلتي معه قبل ثلاثين سنة، حضرته عشر سنوات ثم لازمته عشرين سنة، ملازمةً شديدةً في سفره وفي حله وفي ترحاله، لذلك قبل أن أبدأ بالموضوع الذي أحببت أن أثيره في هذا اللقاء أحب أن أعلق على كلام شيخنا من ملازمتي له، لأنني أحب ما يسمى اليوم النمذجة، أي الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي اليوم نموذج لداعية، لا أقول: ناجح، كلمة ناجح قليلة في حقه، أطبق ذكره في الآفاق، فأريد أن أضع يدي على بعض الأسرار من أجل أن أفيد من هذا النموذج.

قواعد الدعوة إلى الله عند الدكتور النابلسي :
قبل أن أدلف إلى الموضوع الذي أريد التحدث عنه، قواعد الدعوة التي تحدث عنها شيخنا، وترك بعضها من أجل ضيق الوقت، سأدرجها سريعاً وأعلق عليها من منهجه.
من قواعد الدعوة قول الشيء وفعله
الشيخ قال: أولاً: القدوة قبل الدعوة، وأنا صحبته والله، فما وجدته يقول شيئاً إلا ويفعله، عندما حضرت عنده كنت أسمع منه فقط، فلما لازمته وجدت كل شيء يقوله يطبقه على أرض الواقع، فلا يأمرنا بشيءٍ إلا كان أول الآخذين به، ولم ينهنا عن شيء إلا كان أول التاركين له، فرأينا المصداقية في سلوكه، فكتب الله القبول له بهذه المصداقية التي أرادها، وهذا الإخلاص لوجه الله الكريم، هذا واحد.
ثانياً قال: الإحسان قبل البيان، في مسجد النابلسي في دمشق تجد الإحسان قبل البيان، فشيخنا - جزاه الله خيراً - يُكرم طلاب العلم إكراماً لا نظير له، فنجده يبدأ من الإكرام بالقول وباللفظ، وينتقل إلى الإكرام حتى بالعطاء، فتجد طلاب العلم في المسجد يأسرهم بإحسانه وبكلامه وبطيب لفظه قبل أن يوجههم، فلذلك تجد الناس في المسجد يعيشون في جنة، ولله الحمد.
الأمر الثالث قال: معرفة الآمر قبل الأمر عندما تحدث عن التفكر، وشيخنا يقول دائماً: إذا عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر، لكنك إن عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في التفلت من الأمر، فكان دائماً يعلمنا أن نوجه أولاً إلى التعريف بالله قبل التعريف بأمر الله، أو لنقل: التعريف بالله وبأمره معاً على مسارين متوازيين، لذلك لم تكن خطبةٌ من خطبه، أو درسٌ من دروسه يخلو من تعريف بالله، يدلنا على الله، يوجهنا إليه، سواء دروس أسماء الله الحسنى وهي كتاب مطبوع، سواء دروس الإعجاز العلمي، سواء دروس مدارج السالكين التي شرحها وهي لابن القيم رحمه الله، كل دروسه كان فيها تعريف بالآمر، لا يخلو درس من التعريف بالآمر، ثم يعرفنا بالأمر، بالصدق، والأمانة، وإلى آخره من الأوامر الإلهية، أيضاً من قواعد الدعوة التي تعلمناها منه مخاطبة العقل والقلب معاً، الله تعالى يقول:

يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ
[ سورة الانفطار: 6]

يخاطب قلبه ثم يقول:

الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ
[ سورة الانفطار: 7]

على الداعية مخاطبة العقل والقلب معاً
يخاطب عقله، فكان الشيخ جزاه الله خيراً في مسجده يخاطب عقول الناس بالعلم، كمثل هذا الذي سمعتموه، فيحسبه الذي يسمعه أنه طبيب من الأطباء، أو فلكيٌ من الفلكيين، وهو لم يدرس الطب أو الفلك اختصاصاً، وإنما قرأ وقرأ لأنه جعله باباً إلى الله تعالى، فيغذي عقولنا بهذا العلم، ثم يصرفنا إلى الحب إلى غذاء القلب، فالإنسان كما يقول عقلٌ يدرك، وقلبٌ يحب، وجسمٌ يتحرك، وغذاء العقل العلم، وغذاء القلب الحب، وغذاء الجسم الطعام والشراب.
أيضاً من قواعد الدعوة التي تعلمناها من شيخنا اعتماد الدليل والتعليل، فكان دائماً يقول: طالبوني بالدليل، يقول في المسجد للناس: إذا رأيتم مني فكرة من غير دليل فطالبوني بالدليل، لا تخشوا أن تقولوا لي: أين دليلك يا شيخ؟ لا أنزعج من ذلك، فكان يوجهنا إلى ذلك.
التعامل مع الطالب الجديد بالتدرج
أيضا التدرج لا الطفرة، فكان الشيخ يتدرج في الدعوة، فإذا جاءه طالب جديد لم يألف الإسلام بعد، ولم يألف الالتزام، فيتدرج معه، ولا يلقي عليه الأحمال أو التكاليف دفعةً واحدة، وإنما يبدأ معه بالصلاة، أو يبدأ معه بالتعريف بالله، ويتغافل قاصداً عن بعض المساوئ التي فيه حتى يتدرج معه شيئاً فشيئاً، ويؤسسه على الثبات، والثبات نبات كما يقولون.
الارتباط يكون بالمبادئ وليس بالأشخاص
أيضاً من قواعد الدعوة التي تعلمناها من شيخنا المبادئ لا الأشخاص، فلذلك والله أنا الآن سأتكلم والشيخ لا يعرف أني سأتكلم عن هذا الموضوع بعده، أي الآن جاء في بالي كله، فأنا أشهد الله أن هذا الشيخ الفاضل شيخنا الكريم كان دائماً لا يوجهنا إلى ذاته، لا يعلقنا به، يعلقنا بالمبادئ، يقول لنا: هناك عصر المبادئ والقيم، وهناك عصر الأشخاص، وهناك عصر الأشياء، دعكم من عصر الأشياء، قيمة المرء متاعه كهذا العصر الذي نعيشه، والذي يستمد الإنسان فيه قيمته من دراهمه، أو من سيارته، أو من رقم سيارته المتميز، فيقول لنا: دعكم من هذه التصنيفات، الأشياء لا تلتفتوا لها، ثم يقول أيضاً: اتركوا الأشخاص لا تتعلقوا بهم، ارتبطوا بالله، يقول لنا: أنا قد أخطئ، لكن الشرع لا يخطئ، فتعلقوا بالمبادئ لا بالأشخاص، ربانا على ذلك.
أيضاً المضامين لا العناوين، هذه القواعد قواعده أحدثكم بها، لا تركزوا على العنوان بل على المضمون، فقد يكون هناك عناوين براقة والمضمون سيئ، وقد يكون هناك عناوين باهتة لا يبدو أنها مهمة، ولكن مضمونها مهم جداً، فركزوا في الدعوة على المضامين لا على العناوين.
يجب أن نبدأ بالترغيب قبل الترهيب
أيضاً الترغيب قبل الترهيب، يوجهنا دائماً أننا في دعوتنا نرغب الناس بالدين، وألا نجعل الدين عبارة عن عذاب، وكأن الله حاشاه جل جلاله قد أراد أن يعذب عباده، وإنما أراد أن يرحمهم، فابدؤوا بالترغيب قبل الترهيب، التيسير لا التعسير، وفق الضوابط الشرعية، يسروا ولا تعسروا، وأخيراً التربية لا التعرية، فربوا الناس ولا تهتموا بأخطائهم، وأن تعروهم، وأن تظهروا مثالبهم، وإنما أظهروا محاسنهم، وربوهم على الدين، هذه قواعد الشيخ؛ القدوة قبل الدعوة، الإحسان قبل البيان، معرفة الآمر قبل الأمر، مخاطبة العقل والقلب معاً، اعتماد الدليل والتعليل، التدرج لا الطفرة، المبادئ لا الأشخاص، المضامين لا العناوين، الترغيب قبل الترهيب، والتيسير لا التعسير، والتربية لا التعرية.

مفهوم الدعوة الإسلامية :
الآن أدخل إلى الموضوع، أنا ربطت بين الأمرين حتى تستمعوا إن شاء الله ويكون فاصل منشط.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
[ سورة النحل: 125]

هذه الآية أخواننا الكرام وأحبابنا الأفاضل لخَّصت أنواع الدعوة، ولخَّصت مفهوم الدعوة الإسلامية بشكل كامل، كيف؟ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة، واحد، والموعظة الحسنة، اثنان، وجادلهم بالتي هي أحسن، ثلاثة.
مراتب الخلق متوازية مع مراتب الدعوة
مراتب الخلق متوازية مع مراتب الدعوة هذه، أي النوع الأول من الناس، شخصٌ مستجيب لكن لم يصله الحق لكنه لا يعاند الحق، يحب الحق وأهل الحق لكن هو بعيد، كيف ندعوه إلى الله؟ بالحكمة.
المرتبة الثانية: شخصٌ ليس عدواً للحق ولكنه غافل غير مستجيب، عنده قابلية لكنه غافل، هذا يحتاج إلى الموعظة الحسنة، ما هي الموعظة الحسنة؟ الأمر والنهي مع الترغيب بالثواب، والتخويف من العقاب، هذه الموعظة.
الصنف الثالث: صنف معادٍ للحق، لا يريد الحق، هذا يتبع معه الجدال بالتي هي أحسن.
فأصناف الناس ثلاثة، وأصناف الدعوة ثلاثة، الصنف الأول صنف قابل للحق نحتاج معه الحكمة، والثاني صنف غافل لكنه لا يعادي الحق نحتاج معه الموعظة الحسنة، والثالث صنف يعادي الحق وأهله وقال جادلهم بالتي هي أحسن، ثلاثة أصناف بثلاث طرق.
الآن أخواننا الأحباب ختام الآية قال: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾، أي نحن دعاة ولسنا قضاة، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾، فهو أعلم بالضال وبالمهتدي، فلا تنصب نفسك قاضياً على الناس، فأنت داعيةٌ ولست قاضٍ، القاضي هو الله جلّ جلاله، نحن دعاة ولسنا قضاة.
إذاً أخواننا الكرام؛ حكمة ، موعظة حسنة ، جدال بالتي هي أحسن. الحكمة لم يصفها بشيء قال: بالحكمة، لا يوجد بها وصف السبب، أن الحكمة حكمة لا تحتاج إلى وصف، بماذا نصف الحكمة إلا أنها حكمة؟ أما الموعظة فهناك موعظة سيئة أي يزجر الناس بطريقة قاسية، فقال: بالموعظة الحسنة، الترغيب قبل الترهيب، التيسير قبل التعسير، لا تنفر الناس، الثالثة: شخص معاند للحق، ما قال: وجادلهم بالحُسنى، أو وجادلهم بالحَسنة، قال بالتي هي أحسن، رفع الدرجة من الحسنة إلى الأحسن، لأن هذا المعاند يتمسك برأيه، فإذا جادلته بالتنفير وبالتعسير تمسك برأيه أكثر وأكثر، لأنه يشعر بأنك تنتقص من مكانته، ومن قدره، فهو يريد أن ينتصر لنفسه، فلذلك جعل الجدال مع المعاند بالتي هي أحسن، أي إذا كان عندك كلمة حسنة وكلمةٌ أحسن فدعِ الحسنة وخذ بالأحسن من أجل أن تتألف قلبه، ومن أجل أن تلينه، وأن تدخله في دين الله، وأن ينقلب من المعادين للحق إلى الموالين للحق.
الموضوع إذاً الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ولكن أريد أن أفصل في البند الأول وهو الحكمة.

ارتباط الحكمة بمعرفة الواقع وفهمه :
أخواننا الكرام؛ أهم شيء حتى تكون الدعوة بالحكمة أن يكون هناك فهمٌ صحيحٌ للواقع، فالداعية الذي لا يعيش الواقع لا يستطيع أن يدعو بالحكمة، الحكمة مرتبطة بمعرفة الواقع، بفهم الواقع، لذلك اقرؤوا القرآن الكريم، قال تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا
[ سورة الفرقان: 20]

وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا
[ سورة الفرقان: 7]

ما فائدة المشي في السوق؟
ورد المعنى في آيتين، أن الرسل كانوا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، لماذا؟ ما فائدة المشي في السوق وكل ما يشابه المشي في السوق؟ لأن كل عصر له سوق، المشي في السوق يعني أن الداعية والأنبياء سادة الدعاة قريبون من الناس، لا يعيشون في برجهم العاجي بعيداً عن الناس، لا يدعون الناس إلى التقشف والزهد وهم لا يعرفون واقع الناس، وكيف يعيش الناس، لذلك كانوا يمشون في الأسواق، هذا فهم الواقع، وهو مهمٌ جداً في رسالة الداعية، الآن إبراهيم عليه السلام كان بزازاً، أي يصنع القماش ويبيعه، كان في السوق، ونوح وزكريا وعيسى عليهم السلام كانوا نجارين يصنعون ويبيعون، لقمان وإدريس كانا خياطين، إلياس كان نساجاً، سيدنا موسى وسيدنا محمد وما من نبي إلا رعى الغنم، أي يدخل مع الناس يرعى الأغنام، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان تاجراً، أخذ مال خديجة وتاجر فيه مضاربةً، إذاً الأنبياء كلهم كانوا مع الناس، والدعاة يعيشون في برجهم الأخلاقي، صحيح يبتعدون عن سفاسف الأمور، لكن لا يعيشون في برج عاجي بعيد عن الواقع، لابد من فهم الواقع، لابد أن نعيش مع الناس، وأن نعي مشكلاتهم، وأن نعي المثالب الموجودة في المجتمع، والحسنات والإيجابيات الموجودة حتى نبني عليها، أما الذي يترك الناس فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:

{ المؤمنُ الذي يُخَالِطُ الناسَ ويَصْبِرُ على أَذَاهُمْ خيرٌ مِنَ الذي لا يُخَالِطُ الناسَ ولا يَصْبِرُ على أَذَاهُمْ }

[صححه الألباني في صحيح الترمذي]

مخالطة الناس مطلوبة للداعية
مخالطة الناس مطلوبة، ليس للداعية أن يقول: أنا أعيش وحدي، أنت لا تعيش وحدك، أنت تعيش ضمن مجتمع، لابد أن تعي واقعك بشكل جيد، الواقع السياسي، الواقع الاجتماعي، حياة الناس، الواقع الاقتصادي، الواقع بكل أشكاله، انظروا إلى هذه اللقطة في الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{ مرّ على صُبْرَة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: ألا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشّ فليس مني }

[رواه مسلم]

معنى الغش معروف، لكن أنا أردت من اللقطة أن النبي صلى الله عليه وسلم في السوق، ومدّ يده في الطعام، أي هذا الداعية العظيم الذي يعلمنا ينزل إلى الناس، مدّ يده في الطعام، علمه درساً عملياً، وهو في الواقع.
أيضاً عن قيس بن أبي غرزة، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نسمى السماسرة، وكنا نبيع، فقال :

{ يا معشر التجار - آتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم في السوق ليعلمهم قال- إن هذا البيع يحضره الحلف والكذب، فشوبوا بيعكم بالصدقة }

[رواه الترمذي]

أي درس عملي دخل السوق، والأحاديث في ذلك كثيرة، لكن هذه نماذج، كم من داعية يقدم مادة مدعمة بالأدلة العقلية والنقلية، مضمون جيد ممتاز، لغة سليمة مئة بالمئة، لكن لا يؤثر في الناس، لأنه بعيدٌ عن الواقع، لأنه يتكلم في واد، والناس في وادٍ آخر، فلا يستمعون إليه، هذه مشكلة فهم الواقع مهمة جداً من أجل الدعوة بالحكمة.

فهم الواقع يقوم على ترتيب الأولويات والتوجه إلى الناس لحلّ مشكلاتهم :
فهم الواقع يكون برفع الناس لمستوى الخطاب
لكن هنا ملاحظة مهمة جداً أحبابنا، ليس المطلوب كما يحلو للبعض من فهم الواقع أن ننزل بخطابنا إلى واقع الناس، أبداً، أي قد يفهم بعض الدعاة أن فهم الواقع أن أنزل بالخطاب، الناس اليوم مثلاً يحبون هذه اللعبة المحرَّمة، ويلعبونها في الأسواق، أفتي لهم بها، لا، أبداً، النزول إلى واقع الناس لا يعني أن أنجرف إليهم، أنا أرفع الناس إلى مستوى الخطاب، ولا أنزل بمستوى الخطاب إليهم، لكن معرفتي بفهم الواقع ليست من أجل أن أنزل بخطابي إليهم، ولا من أجل أن أفصّل الأحكام اللازمة لهم، اليوم يوجد دعوة في العالم الإسلامي هي دعوة حق وأُريد بها باطل، دعوة تجديد، يقول لك: نريد أن نجدد الدين، إذا كنت تقصد بتجديد الدين تجديد الخطاب الديني، بمعنى أن تعتمد أساليب حديثة في الخطاب الديني كما هذا الملتقى، هذا الملتقى أعظم تجديد، أن تجتمع هذه الوجوه النيرة والخيرة من أكثر من ثلاثين دولة، ونجتمع على طاعة الله في بلد واحد، في هذه البلد حماها الله أن نجتمع مع شيوخنا وأحبابنا، وأن نجتمع وأن تتلاقح أفكارنا.
هذا تجديد لم يكن سابقاً، لكنه تجديد محمود، لكن اليوم الدعوة الموجودة عند البعض في تجديد الدين هي تجديد المضمون، المضمون لا يجدد كما قال شيخنا، يقول الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾ ، فأي زيادة في الدين هي اتهامٌ له بالنقص، وأي حذف منه هو اتهام له بالزيادة، ونحن حاشا أن نتهم شرع الله بنقص أو بزيادة، فهو كاملٌ نوعاً، تامٌ عدداً، كما تفضل شيحنا، إذاً لا نقصد بفهم الواقع كما يحلو للبعض منهم، فقه الواقع كلمة جميلة، فقه الواقع، لكن هل فقه الواقع يعني أحكاماً جديدة؟ أبداً، يقول لك: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، أيضاً كلمة حق أُريدَ بها باطل أحياناً، فالقاعدة صحيحة من حيث المبدأ لكن هل يُغير الحكم بمعنى أن نأتي بحكم ما أنزل الله به ولا جاء به رسوله؟ ونأتي بحكم جديد للناس ليرضي الواقع الجديد؟ مستحيل، لكن قد تتبدل بعض الأحكام الفرعية ضمن التشريع الإلهي، ضمن الضوابط الاجتهادية، ضمن الفقه العام، ضمن المقاصد الشرعية من الأخيار، الأطهار، العلماء، العاملين، الربانيين، إذاً عندما نقول: فهم الواقع، فنحن لا نقصد أن ننزل بخطابنا إلى واقع الناس، ولا نقصد أن نفصل لهم الفتاوى على مقاسهم، وبما يناسب واقعهم السيئ، أبداً، إذاً ما المطلوب بفهم الواقع أو بفقه الواقع؟
ترتيب الأولويات أول خطوة في فهم الواقع
أولاً: أن نرتب الأولويات، فنقدم ما حقه التقديم، ونؤخر ما حقه التأخير، وأن نرقى بالناس إلى مستوى الشريعة عندما نفهم واقعهم، وأن نقدم لهم ما يطلبه المشرع جل جلاله، وما يطلبه رسوله صلى الله عليه وسلم، لا ما يطلبه الناس، لأننا عندما نفهم الواقع نستطيع أن نعطي الحكم الشرعي الصحيح الوافي الكافي المدعم بالأدلة بما يحتاجه الناس في واقعهم، أيضاً المطلوب في فهم الواقع أن نتوجه إلى الناس بما يحل مشكلاتهم، كم من خطيب يجهر على منبره بموضوع فقهي فرعي جداً جداً، ويُغرق فيه، والأمة الإسلامية تعاني من القتل، والتنكيل، والتعذيب، والتخويف، والعالم يضج بمشكلات لا حصر لها، والناس يأكلون بعضهم بعضاً، وهو يحدثهم عن قضيةٍ فرعية في زاويةٍ معينة من الفقه، ويأتي بالأدلة النقلية والعقلية، ويقارن بين المذاهب، أين أنت من واقع الناس؟
إذاً أنا عندما أفهم الواقع من أجل أن أحلّ مشكلة الإنسان، فهذا الذي يسمع الأخبار ستة أيام جاء في اليوم السابع إلى المسجد ليسمع وجهة النظر الشرعية في الذي يسمعه من وجهة دينية ليست سياسية، أنا لا أتحدث أن يصبح المنبر مؤتمراً صحفياً، أبداً، ولا ينبغي ذلك، المنبر منزه عن كل شيء، لكن أقصد وجهة النظر الشرعية لما يحدث، أن يفهم الناس لماذا نحن في هذا الواقع؟ كيف نغير واقعنا؟ كيف ننهض من غفوتنا؟ لماذا نحن في هذا الهوان؟ كيف هان أمر الله علينا فهُنّا على الله؟ هكذا بهذا المعنى.

أحاديث تدل على مراعاة حال الناس :
تختلف الإجابة بحسب الزمان والمكان والسائل
إذاً أخواننا الكرام؛ في قضية فهم الواقع ولقطة مهمة جداً في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، النبي عليه الصلاة والسلام كان يجيب على السؤال الواحد أجوبةً متعددة بحسب حال السائل، وبحسب الزمان، وبحسب المكان. وكما قلت لكم كما يقول شيخنا: طالبوني بالأدلة؟ الآن مثلاً: سؤال أي الناس أفضل؟ تجد له عشرات الأجوبة في السنة، سؤال أي الأعمال أفضل؟ تجد له عشرات الأجوبة في السنة، أوصني؟ عشرات الأجوبة في السنة، أخبرني بعملٍ؟ عشرات الأجوبة في السنة، وإليكم بعض هذه النماذج:

{ يُخبِر فَروةُ بنُ نوفَلٍ رَضِي اللهُ عَنه: "أنَّه أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم؛ فقال: يا رسولَ اللهِ، علِّمْني شيئًا أقولُه إذا أوَيتُ إلى فِراشي"، أي: عِندَ الذَّهابِ للنَّومِ لِيَنتفِعَ به في آخِرتِه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "اقرَأْ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]"، أي: اقرَأْ سورةَ الكافرون قبل النَّومِ، "فإنَّها بَراءةٌ مِن الشِّركِ }

[صحيح الترمذي]

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا بكرٍ الصديقَ رضي الله عنه قال: يا رسولَ اللهِ مرني بكلماتٍ أقولُهُن إذا أصبحتُ وإذا أمسيتُ؟ قال: قل: اللهم فاطرَ السمواتِ والأرضِ عالمَ الغيبِ والشهادةِ ربَّ كلِّ شيءٍ ومليكَه، أشهدُ أن لا إله إلا أنت، أعوذُ بك من شرِّ نفسي، وشرِّ الشيطانِ وشِرْكِه. قال: قلْها إذا أصبحتَ, وإذا أمسيتَ، وإذا أخذتَ مضجعَك }

[صحيح أبي داود]

الجواب الأول فيه إيجاز (قل يا أيها الكافرون)، الجواب الثاني: سيدنا أبو بكر الجواب فيه إطالة، دعاء يحتاج إلى حفظ، إيجاز وإطالة، المضمون مختلف، واحدة براءة من الشرك والثانية إعلان توحيد، فحال السائل اختلف، الزمان اختلف، المكان اختلف، الجواب اختلف.
أيضاً سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده، هذا واحد، بجواب آخر، رجلٌ يجاهد في سبيل الله بماله وبنفسه، ثم من؟ مؤمنٌ في شِعبٍ من الشعاب يعبد الله ربه، ويدع الناس من شره، انظر إلى اختلاف الجواب، هنا أي الناس أفضل؟ وهنا أي الناس أفضل؟ وجه كل سائل إلى واقعه وإلى حاجته.
كان يقول صلى الله عليه وسلم: حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يُكذَّبَ الله ورسوله؟ رجل سأل قال: يا رسول الله حدثني بحديثٍ واجعله موجزاً؟ هو يقول للنبي صلى الله عليه وسلم - يريد شيئاً موجزاً- لا تطل عليّ، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم:

{ صل صلاة مودع كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، وايأَسْ مما في أيدي الناس تعش غنياً، وإياك وما يعتذر منه }

[صحيح الألباني]

طلب حديثاً موجزاً فراعى النبي صلى الله عليه وسلم قدرة الراعي على الاستيعاب، وأعطاه ثلاثً سريعةً واضحةَ.
رجل آخر قال: علمني كلاماً أقوله، قال: قل:

{ لاَ إله إلاَّ اللَّه وحدَهُ لا شرِيكَ لهُ، اللَّه أَكْبَرُ كَبِيرًا، والحمْدُ للَّهِ كَثيرًا، وسُبْحانَ اللَّه ربِّ العالمِينَ، وَلاَ حوْل وَلا قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ العَزيز الحكيمِ، قَالَ: فَهؤلاء لِرَبِّي، فَما لِي؟ قَالَ: قُل: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وارْحمني. واهْدِني، وارْزُقْني }

[رواه مسلم]

الأحاديث كثيرة، وعندي عشرات منها، هنا انظروا إلى الملمح:

{ عن أم هاني رضي الله عنها قالت: مّر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كبرت وضعفت أو كما قالت. فمرني بعمل أعمله وأنا جالسة. قال : سبحي الله مئة تسبيحة ؛ فإنها تعدل لك مئة رقبة تعتقينها من ولد إسماعيل، واحمدي الله مائة تحميدة فإنها تعدل لك مائة فرس مسرجة ملجمة تحملين عليها في سبيل الله، وكبري الله مائة تكبيرة فإنها تعدل لك مائة بدنة مقلّدة متقبلة، وهللي الله مائة تهليلة }

[رواه أحمد وابن ماجه]

هذه المرأة لا تستطيع أن تقدم لا مئة بدنة، ولا بقرة، ولا خيلاً مسرجأً، فقال لها: قولي كذا وكذا، قالت: أنا كبرت وضعفت، لكن لو جاءه شابٌ فتي وسأل: أي الأعمال أفضل؟

{ حديث أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود قال: سألت النبي أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها، وقال: قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله }

[متفق عليه]

إذاً مراعاة حال الناس أي أن نتخير من الشريعة لا من خارج الشريعة، من الشريعة نفسها من ضمن الضوابط الشرعية أن نتخير ما يناسبنا.

توجيه الخطاب الشرعي بما يتوافق مع واقع الناس :
أختم بهذا القول الذي أراه عظيم النفع للفتوى، وللدعوة، ولكل شيء، وهو لابن القيم رحمه الله.
يقول ابن القيم رحمه الله: "ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلّ وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم".
توجيه الخطاب الشرعي بما يتوافق مع الواقع
أي لو أن طبيباً عنده وصفة طبية جاهزة، كلما جاءه مريض يشكو ألماً يعطيه الوصفة نفسها، كم هي جناية هذا الطبيب عظيمةً على أبدان الناس، هذا يشبه حال داعيةٍ عنده وصفةٌ جاهزةٌ لكل الناس، لا يعيش واقعهم، ولا يفهم مشكلاتهم، ولا يفهم حاجاتهم، وإنما يعطي لكل الناس علاجاً شرعياً واحداً، فجنايته على دين الناس أعظم من جناية هذا الطبيب على أبدان الناس، بهذا المعنى، إذاً ينبغي أن نقدر حاجات الناس، وألا نتجاهلها، وأن نوجه خطابنا الشرعي بما يتوافق مع الواقع الذي نعيشه دون إفراطٍ في ثوابتنا، ودون إفراطٍ في شرعنا.