مع الصديق رضي الله عنه - 2

  • محاضرة في الأردن
  • 2021-06-21
  • عمان
  • الأردن

مع الصديق رضي الله عنه - 2

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الدين أهم من الدنيا:
أيها الأخوة الأحباب؛ اليوم لقاؤنا الثاني مع سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، في اللقاء الماضي تحدثنا عن كلمة الصّدّيق، والذي جاء بالصدق وصدق به، تحدثنا عن مواقف أبي بكر رضي الله عنه، ونتابع الآن الحديث؛ في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، قالت:

{ عن عائشة رضي الله عنها قالت:لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه، جاءه بلال رضي الله عنه يؤذنه بالصلاة، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس قلنا: يا رسول الله ! إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى ما يقم مقامك يبكي فلا يستطيع، فلو أمرت عمر أن يصلي بالناس، قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس - ثلاث مرات - فإنكن صواحبات يوسف. قالت: فأرسلنا إلى أبي بكر، فصلى بالناس، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة، فخرج يهادي بين رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض. فلما أحس به أبو بكر، ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك. قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم، والناس يأتمون بأبي بكر رضوان الله عليه }

[أخرجه مسلم وابن ماجه وابن خزيمة]

يؤذنه؛ أي يعلمه، والأذان هو الإعلام في الأصل (فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس) النبي صلى الله عليه وسلم كان متوعكاً لا يستطيع الإمامة (فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس) قلت ـ عائشة رضي الله عنها ـ
طبيعة الناس تختلف
(قلت: قلنا: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف) أي رقيق الحال (ومتى ما يقوم مقامك يبكي، فلا يستطيع على القراءة) هناك أشخاص قلبهم حاضر، وطبيعة الناس تختلف، فهو رجل رقيق جداً، فإذا وقف يصلي ومرّ بالآيات الكريمة فيتأثر فيبكي فلا يستطيع المتابعة (فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قلنا: يا رسول الله ! إن أبا بكر رجل أسيف) فقال في الثالثة، أو بالرابعة أي شكَّ في الرواية، بالمرة الثالثة أو الرابعة (قال: فإنكن صويحبات يوسف) عبر عن غضبه صلى الله عليه وسلم (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فأرسلنا إلى أبي بكر فصلى بالناس).
يقول عمر رضي الله عنه: أفلا نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا؟ وهذا قياس مهم جداً من عمر رضي الله عنه، القياس أن النبي صلى الله عليه وسلم رضي أبا بكر للدين، والدين أهم من الدنيا، فسياسة الدنيا أقل من سياسة الدين، فلما قدمه لإمامة للناس هذه إشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن الخليفة أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، وهذا من فقه عمر.

التعاون في المجتمع المسلم:
الأمر الآخر؛ سيدنا أبو بكر كما وصفت عائشة - وصف عائشة صحيح - هو رجل رقيق الحال، لكن العبرة في الإسلام، سيدنا عمر أقوى، سيدنا عمر عنده قوة بطبيعته وشخصيته، وتحدثنا عن سيدنا عمر، شخصيته شخصية حادة وقوية، خرج كما ورد ببعض الروايات قال: من أراد أن تثكله أمه فليتبعني خلف هذا الوادي، هاجر جهاراً نهاراً.
سيدنا عمر عنده قوة شخصية، لكن الأفضلية دائماً في الإسلام هي للأتقى والأصدق والأسبق إلى الإيمان، لذلك ورد أن سيدنا أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له عمر رضي الله عنه: امدد يدك لأبايعك يا أبا بكر، فقال له أبو بكر: أنت أقوى مني؟ فقال أبو بكر: أنت أفضل مني؟ فقال: قوتي إلى فضلك، أي نتعاون، قوتي إلى فضلك، وهذا مبدأ سنه عمر رضي الله عنه في التعاون.
في الإسلام لا يوجد شخص هو كُلّ شيء
أنا أملك أحياناً شيئاً أنت لا تملكه، وأنت تملك شيئاً أنا لا أملكه، لا يوجد إنسان استجمع المجد من أطرافه كما يقال، في الإسلام لا يوجد شخص هو كُلّ شيء، نتعاون فيما اتفقنا، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا، وينصح بعضنا بعضاً فيما اختلفنا، نتناصح، أما شخصية تملك كل شيء فلا يوجد، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرف قدر أصحابه فيقول: أقرؤكم فلان، وأفرضكم فلان، وأعلمكم بالحلال والحرام فلان، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، فسيدنا رسول الله كان يوزع لكل شخص ما عنده من مقدرات، وهذه السياسة الحكيمة منه صلى الله عليه وسلم.
لذلك الأصل أن نتعاون في المجتمع المسلم، كل إنسان عنده شيء، وينقصه شيء، فيكمل نقصه بأخيه، حتى الرجل والمرأة في الزواج الإسلامي، ما معنى قوله تعالى؟

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
[ سورة الروم]

ما معنى السكنى؟ قال: لو كان الرجل والمرأة متشابهين لما حصلت السكنى، كيف تحصل السكنى؟ أنا عندي نقص وزوجتي عندها نقص، أكمل نقصها وتكمل نقصي، فتسكن إليّ، وأسكن إليها، أما لو كانا متشابهين تماماً لتنافرا، ولما سكن بعضهم إلى الآخر، فعظمة الزواج الإسلامي أن الزوج عنده تفوق قيادي، قرار، كل إنسان ينقصه شيء يأخذه من الآخر فقال: قوتي إلى فضلك.

استخلاف أبي بكر على المسلمين بإشارات من النبي الكريم:
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت:

{ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَرَضِهِ: ادعِي لي أبا بكرٍ أَبَاكِ وَأَخاكِ حتى أَكتبَ كِتَابا، فَإِني أَخَافُ أن يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، ويقولَ قائِلٌ: أَنَا أولى، ويَأبى الله والمؤمِنونَ إلا أبا بكرٍ }

[أخرجه البخاري ومسلم]

لذلك إلى من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم توفي دون أن يحدد خليفة فقد خالف النصوص الصحيحة، فالنبي صلى الله عليه وسلم حدد أبا بكر بشكل واضح، وبإشارات لا تدع مجالاً للشك.
جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شيء، تسأله حاجة من الحاجات، أو فتوى، أو حكماً، فأمرها بأمر، فقالت: أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك؟ أي جئت ما وجدتك، قال: إن لم تجديني فائتِي أبا بكر، فجعله خليفة له في حياته صلى الله عليه وسلم وهذه دلالة واضحة على أنه استخلفه على المسلمين.
وقال عمر رضي الله عنه:

{ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدَّق، ووافق ذلك مني مالاً فقلتُ: اليوم أَسْبِقُ أبا بكر إِن سَبقتُه يوماً، قال: فجئتُ بنصف مالي، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ما أَبقيتَ لأهلك؟ قلتُ: مثلَه، وأتى أبو بكر بكلِّ ما عندَه، فقال: يا أبا بكر ما أبقيتَ لأهلك؟ قال: أَبقيتُ لهم الله ورسولَه، قلتُ: لا أسبقه إِلى شيء أبداً }

[ أخرجه أبو داود والترمذي]

(أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق) أن ندفع صدقة، قال: فوافق ذلك مالاً، أي بالوقت الذي أمرنا أن نتصدق كان عندي مال كثير هكذا قال سيدنا عمر، فقلت: (اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً) أي اليوم يومي، كون المال كان متوفراً، والأمر بالصدقة، (قال: فجئت بنصف مالي) قسم ما عنده نصفين، نصفاص لله ونصفاً لبيته، (قال: فأتيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟) قال: النصف الثاني، قال: (وأتى أبو بكر بكلِّ ما عندَه، فقال: يا أبا بكر، ما أبقيتَ لأهلك؟ قال: أَبقيتُ لهم الله ورسولَه فقال عمر: قلتُ: لا أسبقه إِلى شيء أبداً) لن أعيدها، هذه المحاولات باءت بالفشل.

دين الإسلام دين واقعي:
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن دين الإسلام واقعي، لما كان أبو بكر يأتي بالمال يسأله: ما أبقيت لأهلك؟ هذا يعلمنا درساً، لأن ربنا عز وجل قال:

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
[ سورة البقرة ]

المال شقيق الروح
قال العلماء: تلقي بيدك إلى التهلكة إن لم تنفق، وتلقي بيدك إلى التهلكة إن أنفقت ولم تبقِ، الإسلام واقعي، يحترم الملكية الشخصية، المال شقيق الروح، قال لك: اثنان ونصف بالمئة، هذه القيمة لا مهرب منها، هذه القيمة ليست لك، إذا أبقيتهم معك تكون سارقهم، هذه القيمة أمانة عندك، يجب أن تخرج ربع العشر، ثم بعد ذلك تستطيع أن تتسابق للخير، فتح لك باب الصدقات والتطوع، هذا تتنافس فيه بالخيرات، لكن قال: أعظم دينار تنفقه دينار تنفقه على أهل بيتك في الوقت نفسه، أي الإسلام واقعي، يريد من الإنسان إذا أنعم الله عز وجل عليه بنعم أن ينفق على نفسه، وعلى أهل بيته، وعلى أقربائه، ويرى نعمة ذلك، لا يوجد مانع أبداً، ليس في الإسلام أن كل المال ينبغي أن تصرفه، لا، فكلما يأتيه رجل، يقول له: ما أبقيت؟
بعض الناس فعلوا مثل فعل أبي بكر كما ورد في بعض الروايات وجاؤوا بمالهم كله فرفضه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أعطني شيئاً وخذ الباقي، أي ادفع شيئاً للمعركة واترك الباقي لك، إلا أن أبا بكر رضي الله عنه عندما جاء بماله كله قال له: ما أبقيت؟ قال: الله ورسوله، فقبل منه، لماذا؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم من هو أبو بكر، أبو بكر إذا لم يكن في بيته بعد عدة أيام طعام لا يخرج عن طوره ويقول: لماذا فعلنا هذا؟ وتقول له زوجته بالبيت: ماذا فعلت بنا؟ يعرف من أبو بكر، أما طبيعة الناس العامة فتعامل معهم يجب أن تبقي لأهلك، لا يجوز أن تنفق كل المال، وتلقي بنفسك إلى التهلكة، إلا أن تعامله كان مع سيدنا أبي بكر مختلفاً لأنه شخصية فريدة جداً، يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل عنده من اليقين بالرزق، وعنده من الإيمان بما عند الله عز وجل ما يكفيه، فقبل منه ذلك، بأن ينفق كل ماله في سبيل الله.

ضرورة تعبير الإنسان عن مشاعره للآخرين:
عمرو بن العاص رضي الله عنه قال يوماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

{ عن أبي عثمان النهدي رحمه الله: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيتُه، فقلت: أَيُّ الناس أحبُّ إِليك؟ قال: عائشةُ، قلتُ: مِنَ الرِّجال؟ قال: أبوها، قلتُ: ثم مَن؟ قال: عمرُ، فعدّ رجالاً، فسكتُّ، مَخَافةَ أن يجعلني في آخرهم }

[أخرجه البخاري ومسلم]

لا مانع شرعاً من التعبير عن الحب
رضي الله عن عائشة وعن أبيها، فعائشة رضي الله عنها كانت من أحب الناس إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم سأله عمر هذا السؤال، لا يوجد ما يمنع شرعاً أن يعبر الإنسان عن الحب، نحن عندنا مشكلة يسمونها بعلم النفس: القدرة على التعبير عن المشاعر، أب يحب أولاده كثيراً، لكنه يشعر أنه ليس من المناسب، أو ما تعودنا، أو ما رُبينا، أو لا يجوز أن تعطي وجهاً لأحد، تقول لابنك: أحبك، يجب أن يعرف هو أني أحبه من غير أن أقول له، لا، هذا لا يصح، يجب أن تقول له: أنا أحبك يا بابا، أنت غال عليّ، يجب أن تضمه، وتقبله ليشعر بالحب، لا تتركه يكتشف هو الحب، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن السيدة خديجة رضي الله عنها: إني رزقت حبها، شيء رزقني الله إياه، اعتبر الحب رزقاً.
مرّ صحابي كريم، قال: إني أحبه يا رسول الله، قال: هل أعلمته؟ قال: لا، قال: قم فأعلمه، قال: إني أحبك، قال: أحبك الله الذي أحببتني فيه.
فالتعبير عن الحب مطلوب شرعاً، الإنسان مع زوجته، مع أهل بيته، يوجد أناس تعودوا عادات، يجب أن نغيرها، خصوصاً للمقبلين على الزواج، يجب أن نغير بالعادات، يجب على الإنسان أن يعبر عن حبه، كلمة مهمة جداً خصوصاً تصدر من قلب صاف تدخل لقلب صاف، تغير في الأسرة وتغير في البيت، أن يعبر الإنسان عن مشاعره للآخرين.

الحبّ نوعان:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يوماً:

{ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال: خَطَب النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال: إِنَّ الله عز وجل خَيَّرَ عبدا بين الدنيا، وبين ما عندَه، فاختار ذلك العبدُ ما عندَه قال: فبكى أبو بكر، فَعَجِبْنَا لبكائه أن يُخبِر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خُيِّرَ فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو المخير - هو رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر هو أعلمنا، وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِن أَمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنتُ مُتخذاً خليلاً غير ربي لاتخذتُ أبا بكر خليلاً، ولكن أُخُوَّة الإِسلام ومودَّتُه، لا يبقينَّ في المسجد باب إِلا سُدَّ، إِلا بابَ أبي بكر، أو خوخة أبي بكر رضي الله عنه }

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي]

ما معنى ذلك أحبابنا الكرام؟ ما معنى الخلة؟ الخلة ؛ المرتبة المتقدمة جداً في الصحبة، النبي صلى الله عليه وسلم خليل الرحمن، وسيدنا إبراهيم خليل الرحمن، ونبينا خليل الرحمن كما ورد في الحديث الصحيح، الخلة صحبة، أي منتهى الصحبة، يخالل الله، النبي صلى الله عليه وسلم ليس له خليل إلا الله جل جلاله، حتى إنه قال: لو كنتُ مُتخذاً خليلاً غير ربي لاتخذتُ أبا بكر خليلاً، ولكن أُخُوَّة الإِسلام ومودَّتُه.
الحب في الله عين التوحيد
الحب أحبابنا الكرام نوعان: حب في الله، وحب مع الله، الحب في الله عين التوحيد، والحب مع الله عين الشرك، في الله عين التوحيد، مع الله عين الشرك، ما معنى هذا الكلام؟ أنت تحب الله، تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لماذا تحبه؟ في الله، لأنه رسول الله، تحب أباك وأمك في الله لأن الله أمرك بحبها وطاعتهما، فإن أمراك بمعصية فلا تطعهما في المعصية، إذاً الحب في الله، الأصل هو الله جلّ جلاله، تحب زوجتك في الله، لكن لو قالت لك: اشترِ شيئاً، وأنت هذا الشيء لا تملك ثمنه، فاضطررت إلى أن تأخذ رشوة لتحقق مطالبها فأنت لا تحبها في الله، وإنما تحبها مع الله، لأنك آثرت رضاها على رضا الله، هذا حب مع الله، أنا أحبكم في الله، أحد الأخوة رأى مني شيئاً لا ينبغي أن يكون فلأنه يحبني قال: لا أريد أن تنزعج مني، والعلاقات تتأزم، قلت: إن كنت تحبني في الله قل لي: يا بلال رأيت منك شيئاً لا يرضي الله، وأنا أنصح لك، وبينك وبيني على انفراد، لأنك تحبني في الله، فلا تقبل أن ترى مني معصية صارخة واضحة لله وتسكت لأنك تحبني في الله، فالذي يحب في الله ينصح، والذي يحب في الله لا يسكت، وإنما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وفق الضوابط الشرعية، أما الذي يحب مع الله فيحب شريكه مثلاً مع الله، يقول لك: جلسنا بمجلس وزعوا الخمر فيه، إذا رفضت هذا الأمر وقلت لهم: لا يجوز أن تضعوا خمراً، وأنا لا أقبل إذا كان هناك خمر بالمجلس، يمكن أن يسحبوا مني الوكالة كلها، هذا حب مع الله، أنا عليّ ألا أساير بكبيرة من الكبائر، لا، لا أرضى لأني أحبه في الله، بمرحلة معينة إذا كان هناك معصية أنا أقف ولا أرضى بها، هذا الفرق بين الحب في الله والحب مع الله.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم هنا في الحديث قال: (ولو كنتُ مُتخذا خليلا غير ربي لاتخذتُ أبا بكر) أصل الحب هو الله جلّ جلاله، هذا الخليل، أما الآخرون فمودة وصحبة في الله، إذا كانت علاقتنا تقربنا من الله فنعم العلاقة هي، وإذا شعرت أن علاقتي معه سوف تبعدنا عن الله أنصح، فإن لم يستجب أقطع، لا أقبل أن أقيم صحبة مع إنسان يبعدني عن الله، هذا معنى الحب في الله، والحب مع الله، هذا القول أظن لابن قيم الجوزية رحمه الله، قال: الحب حبان، حب في الله، وحب مع الله، فالحب في الله عين التوحيد، لأنك لا ترى إلا الله، والحب مع الله عين الشرك، طبعاً الشرك الأصغر، وليس الشرك الأكبر المخرج من الملة، لا، الشرك الأصغر بمعنى أنه يعصي الله من أجل فلان من الناس، فهذا كأنه أشرك فلاناً مع الله، هذا هو الشرك الأصغر، ومنه الرياء، ويصير الرياء شركاً كما قال صلى الله عليه وسلم:

{ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن عمر خرج إلى المسجد يوماً فوجد معاذ بن جبل عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي، فقال: ما يبكيك يا معاذ؟ قال: يبكيني حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اليسير من الرياء شرك }

[أخرجه الحاكم]

إذاً أيها الكرام ديننا دين التوحيد، علاقتنا بالله، فكل ما قربنا إلى الله أحببناه في الله، وكل ما أبعدنا عن الله أبغضناه في الله، نحن لا نبغض شخصاً لشخصه، وإنما نبغض شخصاً لعمله.

قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)
[ سورة الشعراء]

القالين؛ أي الكارهين، ما قال: إني لكم لمن الكارهين، نحن حتى العصاة والمذنبون هل نبغضهم لأنهم فلان وفلان؟ لا، لكن أنا أبغض أعمالهم في الله، هذا البغض في الله، والحب في الله.

على كل إنسان أن يعبد الله فيما أقامه:
الآن يقول صلى الله عليه وسلم:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ أنفقَ زَوْجَيْنِ من شيء في الأشياء في سبيل الله، دُعِيَ من أبواب الجنة }

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ومالك]

{ عن أبي هريرة: من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله دعته خزنة الجنة، وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، فقال له أبو بكر: والله يا رسول الله ! ما على أحد من ضرورة من أيها دعي، فهل يدعى منها كلها أحد؟ قال: نعم. إني لأرجو أن تكون منهم }

[أخرجه البخاري وابن خزيمة]

كما قال صلى الله عليه وسلم (فهل يدعى منها كلها أحد؟) أي هل هناك شخص يدعى من كل الأبواب معاً؟ (قال: نعم، إني لأرجو أن تكون منهم) أي يدعى من كل الأبواب.
أبواب الخير كثيرة
الجنة لها أبواب، وهذا أيضاً من واقعية الإسلام، يوجد إنسان ربنا عز وجل وفقه بالصيام، قال لك: والله أنا منذ نعومة أظفاري ثلاثة أيام من كل شهر، والاثنين والخميس لا أقطعهم، شخص آخر يقول لك: والله أنا خارج رمضان إذا صمت يوم نفل أصل للمغرب لا أستطيع أن أتحرك، سبحان الله ! كل إنسان له صفة، الله عز وجل منحه مالاً يتصدق به آناء الليل وأطراف النهار، هذا باب آخر، إنسان بالجهاد، باب الجهاد، إنسان من باب الصيام كما قلت، وآخر من باب الصلاة، أي لا يترك قيام الليل، صلاة الضحى عنده يومياً مثلاً، فكل واحد ربنا عز وجل فتح له باباً من أبواب الخير، طبعاً بعد التزام الفرائض كلها، الفرائض نحن مشتركون بها، نصوم رمضان، ونصلي الصلوات الخمس، ونحج إن استطعنا، وندفع الزكاة إن وجبت علينا، ونشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، بعد ذلك كل واحد منا ربنا عز وجل فتح له باباً من أبواب الخير فليلزمه، أي مكانك حيث أقامك، إنسان أقامه الله غنياً، عبادته الأولى إنفاق المال، يأتي يوم القيامة إن شاء الله من باب الصدقة من أوسع أبوابها ويدخل، آخر ربنا عز وجل لم يأته مالاً، لكن أتاه علماً، عبادته الأولى أن يعلم الناس، إن شاء الله يدخل من باب العلم، إنسان بالعبادات؛ يصوم، يصلي، يتصدق، أي دخل بباب الذكر والطاعة، إن شاء الله يدخل من باب الذكر والطاعة، قالوا: الطرق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، فلا يعتب إنسان على إنسان، أنت ربنا عز وجل مكنك من شيء، الآخر مكنه من شيء آخر، نتكامل، كل واحد من الموقع الذي وضعه الله فيه يعبد الله فيما أقامه، مكانك حيث أقامك، الزم الباب الذي فتحه الله عز وجل لك، واستثمر فيه حتى يديم الله النعم عليك، كل إنسان يجد نفسه في مكان.

الإكثار من الأعمال الصالحة لأن العمر قصير والحياة فانية:
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

{ كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً بين أصحابه فقال: من أصبح منكم اليوم صائماً صيام نفل؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من تبع اليوم منكم جنازة؟ فقال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: أنا، قال: من عاد اليوم منكم مريضاً؟ فقال أبو بكر: أنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة }

أحبابنا الكرام ؛ سيدنا أبو بكر كان مبادراً للطاعات، تخيل أن سيدنا أبا بكر لم يكتمل النهار إلا وكان محققاً هذه العبادات كلها، فيجب على الإنسان أن يبادر إلى الصالحات.
العمر قصير والحياة فانية
أخواننا، العمر قصير، والحياة فانية، وقد رأينا بأعيننا كيف جاءت الجائحة واختطفت الأحباب، نسأل الله أن يرحم كل من غادرنا، هذه طبيعة الحياة، نحن لسنا أبناء الدنيا، نحن أبناء الآخرة يا أحباب، والله يا أخوان عندما يغادرنا شخص أحزن على ألم الفراق فقط لأنني فارقته الآن، واللقاء ربما يحتاج إلى وقت لنلتقي فيه مرة ثانية، فقط ألم الفراق، لكن لا أحزن عليه إن كان صالحاً، كيف تحزن عليه وأنت ذاهب إليه؟
أنت قررت أن تذهب في نزهة وأهلك سيأتون من العقبة، ويوجد سيارتان، والسيارة وصلت قبلكم بربع ساعة، هل تحزن؟ هل تقول: بدؤوا نزهتهم قبلنا، ورأوا البحر، وهم فرحون وجالسون بالفندق؟ بالعكس تقول: الحمد لله على السلامة، ونحن سنلحقكم، فأنت تسر بوجودهم لأنك تحبهم.
فالذين سبقونا سبقونا إلى خير، ما دمنا نعلم أنهم على صلاح إن شاء الله فلا نحزن عليهم، بل نحزن على الفراق.
والحمد لله رب العالمين