بين العقل والقلب

  • محاضرة في الأردن
  • 2021-11-01
  • عمان
  • الأردن

بين العقل والقلب

السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ؛ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيِمِ، الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ، وأُصَلِّيْ وَأُسَلِّمُ عَلَى نبينا الأَمِين وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، اللهُمَّ علِّمْنَا مَا ينفَعُنَا، وانفَعْنَا بِمَا علَّمْتَنَا وزِدْنَا علماً وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً يا رَبَ الْعَالَمِينَ.


للإنسان عقل وقلب:
العقل ليس جهازاً مستقلاً بذاته
وبعد؛ أحبابنا الكرام؛ يقولون دائماً: الإنسان له عقل وقلب، ويضعون هذه الثنائية في مقابل بعضهما، عقلٌ وقلبٌ، يعبرون بالعقل عن مجموعة المدركات التي يدركها الإنسان، لأن العقل ليس جهازاً مستقلاً بذاته، نحن نقول: الإنسان يبصر بعينه، يسمع بأذنه، يلمس بيده، يشم بأنفه، يعقل بماذا؟ هل هناك في الجسم جهاز خاص اسمه العقل؟ هناك دماغ ولكن الدماغ لم يجزم أحد بأنه العقل، يوجد دماغ، ومخ، ومخيخ، وبصلة سيسائية، لكن هل هذا هو العقل! فيقولون: عقل وقلب؟ العقل يعبرون فيه عن مجموعة المدركات بأن الإنسان عنده مجموعة مدركات يستطيع أن يدرك ما حوله، يحاكم، يتفكر، يتذكر، يصل من شيء محسوس إلى شيء مجرد، يستدل على وجود الله من خلال خلقه، يستدل على وجود النار من خلال الدخان، هذه كلها يسمونها عمليات عقلية، أي مدركات يدركها الإنسان، ويقولون: له قلب، القلب يعبرون فيه دائماً عن الحب، يحب، يكره، يرجو، أحياناً والعياذ بالله يحقد:

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا (54)
(سورة النساء)

يحسد الآخرين (عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) يقولون: هذا قلب.
الآن في القرآن الكريم العقل ككلمة مجردة لم يرد أبداً، لم يذكر القرآن عقلاً، لكن ذكر الفعل تسعاً وأربعين مرَّة معظمها (يَعْقِلُونَ) و(تَعْقِلُونَ):

وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
(سورة يس)

ذكرها.

الدين ليس بالعقل بل بالنقل:
موضة العقل المجرد
لماذا أتكلم هذا الكلام؟ اليوم هناك موضة جديدة، هي ليست جديدة هي قديمة جديدة اسمها العقل بمعنى العقل المجرد، تقول له: من أين أتيت بهذا الحكم؟ يقول لك: قال لي عقلي، كيف قال لك عقلك؟ والله قال لي عقلي بأن هذا الحديث ليس صحيحاً، كيف؟ وأنا أيضاً قال لي عقلي: (مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا) هذا الحديث ليس ظريفاً، من غش سيصبح منا، هكذا قال لي عقلي، إذا كانت القضية هناك عقلاً يقول لك معنى هذا كل إنسان يقول له عقله شيئاً، هذه قضية غير منضبطة أبداً، وليس لها ضابط، نحن المسلمين نعتقد أنه قال الله، وقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فَقَالَ: يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ مَا هَذَا؟‏‏ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ،‏ قَالَ:‏ أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ؟‏‏ ثُمَّ قَالَ: " مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا ‏" }

[رواه مسلم]

ابن سيدنا عبد الله بن عمر اسمه بلال كان جالساً في مجلس والده، والده هو عبد الله بن عمر، عبد الله بن عمر قال: يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ يذكر حديثاً عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

{ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُمَا، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: "لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ" }

[رواه البخاري]

(لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ) إذا أرادت المرأة أن تذهب إلى بيت الله لا تمنعوها، من حقها أن تذهب إلى بيت الله، (لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ).
هذا بلال ابن سيدنا عبد الله ابن سيدنا عمر بن الخطاب أخذته الغيرة ربما كان منزعجاً من بعض النساء اللواتي يذهبنَ إلى المسجد، فقال في المجلس: والله لنمنعهنَّ، نريد أن نمنعهن، سيدنا عبد الله بن عمر لم يقل له: لا، لماذا قلت؟ ولا لماذا لم تقل؟ قام من مجلسه وذهب إليه فلطمه لطمةً، لم ينتظر فوراً قام ولطمه على وجهه، قال له: أقول لك قال رسول الله وتقول لي: والله لنمنعهنّ!
الدين بالنقل
قضية أن عقلك لا يريد النساء أن تذهب إلى المسجد هذه ليست لك، هذه قضية شرعية، أقول لك: قال الله، قال رسول الله، لا تقل لي: قال لي عقلي، قال لك عقلك بالأمور التجارية بالدنيوية خذ راحتك، أما مع أمر الله وأمر رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا تقل: قال لي عقلي، هذه اليوم منتشرة جداً أن كثيراً من الناس اليوم على الفيس بوك ووسائل التواصل جعلت لكل إنسان منبراً يتكلم به فيخرج إلينا أحدهم ويقول لك: يا أخي الدين بالعقل، لا، الدين ليس بالعقل، الدين بالنقل، صحيح أنه بالعقول الصريحة، إنسان مدركاته صحيحة لا يمكن أن يجد تناقضاً مع دين الله عزَّ وجلَّ، لكن لو فرضنا جدلاً أن إنساناً عقله وجد تناقضاً مع حد السرقة:

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
(سورة المائدة)

عقله وفق مدركاته، وفق بيئته التي يعيشها وجد أن العقوبة قاسية يا أخي، قطع اليد! طبعاً بالشروط الشرعية المعتبرة لقطع اليد بتنفيذ الحاكم، بالمقدار ؛ عدم وجود مجاعة، عدم وجود حاجة، إلخ..، قطع يده فوجده قاسياً، عقله قال له: هذا الحكم قاس، لكن هو في الأصل ليس قاسياً، معاذ الله أن يفرض الله حكماً إلا أن يكون لمصلحة البشر للسارق وللمسروق منهم، إذاً قضية العقل في مواجهة النقل قضية قديمة، لكن اليوم تجددت بأساليب كثيرة نسميها بمجملها بالمدرسة العقلانية، لذلك أتحدث اليوم عن العقل والقلب والعلاقة بينهما.

العلاقة بين القلب والعقل:
العقل ليس جهازاً مستقلاً بذاته، أين هو في الجسم؟ لا أحد يعرف، كيف يعقل الإنسان! لكن يعقل، إذاً ما العقل في الأصل؟ هو الربط، في اللغة هو الربط:

{ عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟، قَالَ: ‏"‏ اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ ‏" }

[أخرجه التِّرْمِذِيّ]

الإنسان عندما يعقل يمنع نفسه عن شهواتها
اعقلها أي اربطها، فالإنسان عندما يعقل يمنع نفسه عن شهواتها وغرائزها، هذا عَقَل، ماذا فعل؟ عَقَلَ أي منع نفسه عن الشهوة، عن الغريزة، كان يمشي في الطريق عرضت له امرأةٌ متفلتةٌ، دعته إلى الحرام - والعياذ بالله – فعقل أي ربط شهوته، ومنع نفسه من الانسياق وراءها، هذا العقل في الأصل، ربط، منع نفسه.
يأتي العقل أيضاً بمعنى الإدراك ؛ أن يدرك الإنسان الشيء على حقيقته، ويدرك مآله، قال تعالى:

وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
(سورة العنكبوت)

(وَمَا يَعْقِلُهَا) الآيات (إِلَّا الْعَالِمُونَ) فأنت عندما تقرأ آيةً من كتاب الله وتعقلها أي تفهمها على الوجه الذي أراده الله منها فأنت عاقل، لأنك تعقل آيات الله، تتدبرها، تفهمها، قال تعالى:

وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)
(سورة الملك)

إما أنك قمت بعقل الموضوع وحدك وفهمت بأنك يجب أن تطيع الله فأنت عاقل، أو لم تفهم الحقيقة تماماً فاستمعت، أعطيت أذنك للحق واستمعت لأهل الحق فنجوت، (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) أنت أمام خيارين ؛ إما أن تعقل الحقيقة وحدك أو أن تستمع لمن يعقلها، لكن وهم في النار ماذا يقولون؟ (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) لو أعطينا أذناً لأهل الحق أو عقلنا الحق بأنفسنا لـ(مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ):

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
(سورة ق)

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
(سورة الحج)

الذي أريد أن أصل إليه القلب هو الذي يعقل بنص القرآن الكريم، القلب يعقل والأذن تسمع، فإما أن تسمع الحق بأذنك أو أن تعقله بقلبك.
الآن ما القلب؟ قد يكون هذه الغدة الصنوبرية المعروفة وهذا وارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"‏ الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِيِنِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ‏.‏ أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ‏.‏ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ ‏"‏‏ }

[أخرجه البخاري ومسلم]

القلوب هي التي تعقل
البعض قالوا: القلب كما تقول قلب الجوزة داخلها، أي القلب هو شيء بداخل الإنسان يعقل به، اليوم هناك أبحاث كثيرة علمية اطلعت على بعضها ونُشِرَ بعضها على قنوات مهمة في أنهم بدؤوا يكتشفون أن القلب الذي هو الغدة الصنوبرية يعقل، أي فيه المدركات، وفيه الحب والبغض والكره، وإضافة له كل العواطف يعقلها بقلبه، أي يحب الله بقلبه الذي هو هذه الغدة، وهذا فهموه بعد أن قاموا بزراعة القلب، عندما أصبح هناك عملية نقل قلب اكتشفوا أن هناك إنساناً تغيرت طباعه مع القلب الجديد، إذاً القلب كان يعقل أشياء فلما نقل إلى إنسان آخر نُقلت إليه المعقولات معه، فالقلوب هي التي تعقل، سابقاً كان العلماء يكتبون بهذا الموضوع؛ بعضهم يقول: العقل يتم بالدماغ، والبعض الآخر يقول: بالقلب، اليوم ربما والله أعلم هذا علمياً ماذا يثبت، ولكن القرآن الكريم أثبت أن العقل للقلب قال: (قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) فالعقل يكون بالقلب أي الفهم والإدراك الحقيقي يكون بالقلب، والعقل بمعنى ربط الإنسان عن المعاصي والآثام (أن يمنع نفسه) أيضاً بالقلب، وهذه قضية طويلة لن نخوض فيها، ولكن أعود إلى القلب الآن، القلب أحبابنا الكرام؛ هو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله.
بعالم الطب: الأطباء يشرحون لنا بأن القلب هو أساس الحياة فإذا توقف انتهت حياة الإنسان، هذا بعالم الجسد.
بعالم الروح (عالم الإيمان): أيضاً القلب هو المضغة الأساسية التي إذا صلحت صلح الجسد؛ لكن لا نعني بصلحت هنا البطينان والأذينان، ولا يوجد انسداد، ولا يوجد جلطة، ولا تضيق شرايين، لا، صلحت بمعنى أنها خلت من الشهوات والمعاصي والشبهات والتعلق بالدنيا بشكل مرضي وليس بشكل طبيعي يؤدي إلى عمارتها بالخير إلى آخره من هذه الأمور.

العاقل من يسأل الله دائماً القلب السليم:
الله تعالى يقول في قرآنه:

يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
(سورة الشعراء)

إذا أتيت الله بقلبٍ سليمٍ ينفعك ذلك، فقط القلب السليم. النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله فيقول: (اللهم إني أسألك قلباً سليماً):

{ سَمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كَنَز الناس الذهب والفضة فاكْنِزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات على الأمر، والعزيمة على الرُّشْد، وأسألك شُكر نعمتك، وأسألك حُسْن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً، وأسألك لِساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تَعْلَم، وأعوذ بك من شر ما تَعْلَم، وأستغفرك لِما تَعْلَم إنك أنت علام الغيوب }

[رواه الإمام أحمد من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه]

يسأل الله القلب السليم. في الدعاء القرآني:

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8)
(سورة آل عمران)

النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم كان يقول:

{ اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا علَى طَاعَتِكَ }

[صحيح مسلم]

الله يُصرِّف القلوب، فيُصرِّف القلوب إلى الطاعة، نسأله أن يُصرِّفها إلى الطاعة.

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
(سورة الحج)

وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (10)
(سورة الحشر)

انظروا إلى آيات القلب، يوم القيامة أعظم نِعَمِ الله قال:

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47)
(سورة الحجر)

والصدور فيها القلوب لأن الله تعالى يقول:

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
(سورة الحج)

العمى ليس عمى البصر
العمى ليس عمى البصر، إنسان حرم من نعمة البصر لكن كان عنده بصيرة في قلبه فما فاته شيء، لأن الآخرة له، أما إذا كان إنسان يرى ويبصر كل شيء لكن ليس عنده بصيرة القلب فما نفع البصر مع غياب البصيرة، (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا) أعظم نعمة يوم القيامة أنه لا يوجد غل، نجلس مع بعض؛ الآن نجلس مع بعض في الدنيا إن شاء الله هذا مجلس كلنا ليس في قلوبنا غلٌّ لأحدٍ من خلق الله، لكن أحياناً هناك مجالس تدخل إليها الظاهر الكل يبتسم بوجه الكل، ويسلم عليه بحرارة، لكن يوجد بالصدور غل، أي هو منزعج منه لكنه يبتسم في وجهه.
" إنا لنبشُّ في وجوه أقوامٍ وقلوبنا تلعنهم "
{ أبو الدرداء }
ففي الدنيا المجالس فيها صفاء وأحياناً فيها غل، من نعم الله يوم القيامة قال: ﴿وَنَزَعْنَا﴾ إذا كان هناك شيء في الصدور من الغل قال: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ لأن أعظم مجلس وأجمل مجلس ألا يكون في الصدور غلٌّ، بركة المجلس ألا يكون هناك غل بصدري على أخي، مرتاح له وهو مرتاح لي.

تعريف القلب السليم:
أحبابنا الكرام؛ الآن ما القلب السليم؟ يقول ابن قيم الجوزية وهذا كلام نفيس جداً فانتبهوا له:
(يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: "القلب السليم هو الذى سلم من الشرك والغل، والحقد والحسد، والشح والكبر، وحب الدنيا والرياسة، فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله").
الشرك أعظم أمراض القلوب
(سلم من الشرك) لأن أعظم أمراض القلوب أن يشرك الإنسان بالله شيئاً، أي يكون القلب متوجهاً إلى الله وإلى خلق الله معاً، في السابق كان القلب عند بعض المشركين أو عند المشركين يتوجه إلى الله في زعمهم، وفي الظاهر يتوجهون إلى آلهتهم:

أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
(سورة الزمر)

اليوم بعض القلوب تتوجه إلى الله، وإذا كان فيها مرض الشرك فتتوجه إلى خلق الله معه، فيرى أن الشفاء بيد فلان، أو أن العزة بيد فلان، ليس بالكلام، بالكلام تسأله: العزة بيد من؟ يقول لك: لله، لكنه إن أراد أن يعتز فيعتز بفلان من الناس، يقول لك: معي رقم فلان من الناس ولو كان ذلك يناقض اعتزازه بالله، هناك فرق كبير مهم جداً جداً بين تعلق القلب بالأسباب وبين اتخاذ الأسباب، ينبغي أن ننتبه إلى هذا المعنى، فرق كبير بين أن أذهب إلى الطبيب وأن أعتقد أن الشفاء بيد الطبيب، الذهاب إلى الطبيب مطلوب لأنه سبب جعله الله تعالى للشفاء، لكن لا أعتقد أن الشفاء بيده، وإنما الشفاء بيد الله، هناك فرق كبير بين أن أذهب إلى إنسان أوسِّطه من أجل كربٍ حلَّ بي وأنا أعلم بأن له شفاعةً في هذا الأمر، وهو مسؤول كبير، وبين أن أعتقد أنه لا يفرج عني همي إلا هو، لا، لا يفرج الهم إلا الله، ولكنني بعزة النفس أذهب إلى واسطة لأنني أعلم أن الله أمرني أن أتخذ الوسائط لتفريج الكروب، فهنا النقطة مهمة جداً، فالشرك ليس ألا تتخذ الأسباب وإنما أن تعتمد على الأسباب، اتخاذ الأسباب مطلوب والاعتماد عليها حرام، الاعتماد على الله والأسباب نتخذها تعبُّداً لله، هذا المعنى، فالشرك في النفوس - والعياذ بالله - مرض وآفة تجعل القلب ليس سليماً كما ينبغي.

آفات تبعد عن الله:
الآن سنتحدث عن الغل والحقد والحسد.
الحقد: امتلأ القلب غيظاً تجاه إنسانٍ ما، حقد عليه، حقود.
الحسد: رأى عنده نعمةً فتمنى زوالها عنه، وأن تصل إليه، أو أسوأ من ذلك تمنى زوالها عنه دون أن تصل إليه، المهم ألا ينعم بهذه النعمة، لا يستطيع أن يرى الناس في نِعَم، هذا حسد:

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
(سورة النساء)

الغل: أقل من الحقد لكن فيه شيء من الغل، لذلك يوم القيامة:

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
(سورة الحجر)

الإنسان الحقود يتمنى الهلاك لغيره
لم يقل من حقد، لأن الحقود لا أقول لا يدخل الجنة لكنه في الجنة وحقود؟! أما الغل فيحدث بين الأخوة، أي لا يوجد حقد لكن موقف حدث بينك وبين أخيك ترك ندبةً في القلب، هذا غل، أما الحقد - والعياذ بالله - الإنسان الحقود يتمنى له الهلاك من شدة الحقد عليه، أما الغل فشيء بسيط، فقال: من الغل والحقد والحسد، وكما يقول عامة الناس: صار زعل بيننا، أي اختلاف آراء، وجهات نظر، أصبح هناك غل.
الشح:

وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةًۭ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌۭ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴿٩﴾
(سورة الحشر)

الشح البخل، شدة البخل والعياذ بالله، يمسك يده حتى ربما عن الإنفاق على أهله، عن زكاة ماله، عن الصدقات، الشحيح هذا مرض في القلب.
الكِبْر: أن يرى نفسه فوق الناس ولا يتواضع:

{ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ‏"‏ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ‏"‏ قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: ‏"‏ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ‏" }

[صحيح مسلم]

لأن الكبر يناقض العبودية، عندما يتكبر الإنسان فهو لا ينظر إلى أنه عبدٌ لله وأن الآخر عبدٌ لله:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( 13)
(سورة الحجرات)

قال: وحب الدنيا والرئاسة، حب الدنيا المذموم طبعاً، كلنا يحب الدنيا، سيدنا عمر رضي الله عنه لما قرأ قوله تعالى:

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
(سورة آل عمران)

قال: "اللهم إننا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا"، أنت زينته لنا، جعلته جميلاً، بنين وأولاد، قال: "اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه"، أي بين لنا إلى أي حد معين زينة الدنيا تفرح القلب، لكن لا ينبغي بهذا الفرح أن يتجاوز الإنسان حدوده فينفق ما تفضل الله به عليه في معصية الله، هذا حب الدنيا المذموم الذي إذا تولَّى أسر، يصبح الإنسان أسيراً للدنيا، تستعبده الدنيا فينساق لها ولا تنساق له، ويخدمها ولا تخدمه، وقد قيل: " أوحى الله تعالى إلى الدنيا أن من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه".
(أن من خدمني) إذا كنت في خدمة الله تخدمك الدنيا، فإذا خدمت الدنيا وعشت لها تستخدمك وتجعلك عبداً عندها.
(وحب الدنيا والرئاسة) حب الظهور يقصم الظهور، أحياناً الإنسان يتمنى أن يكون دائماً في مكان وجيه، رئيساً إلخ، فهذا أيضاً من حب الدنيا، قال: (سلم من الشرك والغل، والحقد والحسد، والشح والكبر، وحب الدنيا والرئاسة، أي سلم من كل آفةٍ تبعد عن الله) هذا كلام ابن القيم رحمه الله.

القلب السليم قلب ابتعد عن الشبهات والشهوات:
القلوب التي تعقل هي التي تعقل بنص القرآن
قال: (وسلم من كل شبهةٍ تعارض خبره) هذا الذي تكلمنا به في البداية، اليوم العقول التي يدَّعون أنها عقل، وكل إنسان له عقل كما قلنا يعقل كما يشاء؛ أحياناً الشبه تدخل إلى العقول، فالقلوب هي التي تعقل كما قلنا، القلوب هي التي تعقل بنص القرآن، ولسنا الآن بصدد إلا ما قاله الله تعالى: (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا)، فاليوم عندما يكون هناك شبهة وتستقر في القلب وهي تعارض خبر الله، الله أخبر بشيء وهم يخبرونك بشيءٍ آخرٍ، ويقولون لك: يا أخي هذا علم اليوم وكذا، وأنت تقول لي: قال الله ! وقال رسول الله ! لقد تطور العلم يا أخي، اليوم يوجد عقوبات إصلاحية، ما هي؟ السجن، وماذا عن العقوبات التي في القرآن هل هي غير إصلاحية؟! عقوباتكم إصلاحية وحدود الله غير إصلاحية والعياذ بالله، هذه شبهة، امرأة تدخل شبهة إلى عقلها بأن الإسلام ظلم المرأة، يا أخي:

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
(سورة النساء)

(لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ) أي ظُلِمنا، هذه شبهة والعياذ بالله تعارض خبر الله، الله لا يظلم أحداً من خلقه:
الجهاد إرهاب! الفتوحات الإسلامية كانت احتلالاً، غزواً، استعماراً، شبه كثيرة اليوم تعرض، فالقلب عندما يشرب هذه الشبهة ويعقلها هنا نقول: القلب يعقل، فلم يعد القلب سليماً.
(فقال: سلم من كل آفةٍ تبعد عن الله، ومن كل شبهةٍ تعارض خبر الله، ومن كل شهوةٍ تعارض أمر الله) أي ربنا عزَّ وجلَّ قال لك: زوجتك، وهو قلبه معلق بالحرام - والعياذ بالله - بالنساء اللواتي لا يحللن له، هذه شهوة تعارض أمر الله عزَّ وجلَّ، المال الحلال له مصادر، الرِبا حرام، والرشوة حرام، فهو متعلق بالرِبا والرشوة، فهذا أيضاً لم يسلم قلبه من شهوةٍ تعارض أمر الله.
قال: (ومن كل إرادةٍ تزاحم مراد الله، ومن كل قاطعٍ يقطع عن الله) ابن القيم ممن ذاق فعرف، أحياناً تشعر بأن كلامه من غير زمن، نحن نقول: إذا كان قلبك سليماً لا غل فيه على أحد، ولا حقد، ولا حسد، ونمت دائماً مسامحاً لخلق الله، ما جاءك من الله ورسوله فعلى العين والرأس، لا تحب حراماً ولكن ربما تفعله فتبادر إلى التوبة.

التفاوت بين المسلمين في الخوف من المعاصي وعددها:
ليس في ديننا معصومٌ إلا النبي الكريم
أحبابنا الكرام؛ نحن لا نتفاوت فيما بيننا بين إنسان يعصي الله، وإنسان لا يعصي الله، من قال ذلك؟ ليس عندنا في ديننا معصومٌ إلا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، لكن نحن نتفاوت فيما بيننا بين إنسانٍ يعصي الله في اليوم عشر مرات، وبين إنسان يعصي الله في الشهر مرَّة، وبين إنسان ربما في السنةِ مرَّة، فكلنا ذو خطأ، لكن هناك إنسان كثير المعاصي، ثم نتفاوت بين إنسانٍ يعصي الله فيتوب ولا يستمرئ المعاصي، وبين إنسان يعصي الله فتقول له: هذه معصية، فيقول لك: وماذا فعلنا؟! هل ربك سيحاسبنا على هذا؟! فنحن نتفاوت فيما بيننا في خوفنا من المعاصي، وفي عدد المعاصي، لكن كلنا ذو خطأ نسأل الله أن يعفو عنا، فالأصل أن الإنسان إذا أراد أن يسلم قلبه لا تدع فيه شحاً، ولا حقداً، ولا حسداً على أحد، ثم لا تدع فيه شبهةً تناقض مراد الله عزَّ وجلَّ، ثم إن وقعنا في معصية بادرنا إلى طاعة الله، وإلى التوبة وبذلك يسلم القلب:

يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
(سورة الشعراء)

كان هناك أحد الصالحين يدعى أبو دجانة، دخلوا على أبي دجانة وهو في وفاته فوجدوا وَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ، أي فرح وهو على فراش الموت، فَقِيلَ لَهُ: مَا لِوَجْهِكَ يَتَهَلَّلُ؟ فَقَالَ: مَا مِنْ عَمَلِي شَيْءٌ أَوْثَقُ عِنْدِي مِنَ اثْنَتَيْنِ، أي أنا لست واثقاً بكل أعمالي إلا باثْنَتَيْنِ، قال: كُنْتُ لَا أَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِينِي، أما الْأُخْرَى فَكَانَ قَلْبِي لِلْمُسْلِمِيْنَ سَلِيْماً، أنا ما عندي حقد وحسد، قَلْبِي لِلْمُسْلِمِيْنَ سَلِيْماً، لا أحمل في قلبي ضغينة، هذا أخواننا الكرام؛ من معالي الأمور، أن يكون القلب سليماً تجاه خلق الله عزَّ وجلَّ.

النقل مصدر المعرفة:
العقل ليس مصدر معرفة
أحبابنا الكرام؛ آخر ما أريد قوله هو حديث شريف في الصحيح، وهو مهم جداً في باب القلب، وكما قلنا: القلب والعقل كما اتفقنا أصبحا اثنين في واحد، القلب يعقل حتى لا يبقى أحد يقول: قال لي عقلي! القلب يعقل، فإذا عقلت الأمور بشكل صحيح أدركتها بشكل صحيح، وإذا عقلت الأمور بشكل صحيح منعت نفسك عن الحرام، هذا هو العقل، أما مصادر المعرفة فالنقل، العقل ليس مصدر معرفة، النقل مصدر المعرفة عندنا نحن المسلمين، غيرنا عنده الأعراف هي مصادر المعرفة، تقول له مثلاً: لماذا تجلسون مع بعض؟ يقول لك: والله نحن هكذا ربينا، إذاً العرف عنده مصدر المعرفة، من أين جاءت معارفه؟ والدي ربانا على ذلك، وأحياناً قد تكون هذه التربية صحيحة وأحياناً قد تكون خاطئة، لكن بالنسبة له العرف هو الذي يحكمه، وهناك أشخاص مصادر المعرفة عندهم القوانين، قارئ القوانين كلها تجلس معه يقول لك: لحظة صدر المرسوم رقم كذا بتاريخ كذا فإذا أردت أن نتحاسب نتحاسب على القانون، هو بالنسبة له القانون، نحن المسلمين ما مصادر معرفتنا؟ النقل، قال الله وقال رسول الله، أحتكم أنا وأنت إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا اختلفنا في شيءٍ فحكمه إلى الله، إذا كانت المسألة في بعض الأمور العبادية يوجد فيها قولان فلكل مجتهدٍ نصيبٍ، إذا كانت محسومة أي حرام فهي حرام، أما إذا كانت حلالاً فهي حلال، ومعظم أمور الدين محسومة، لا يوجد أحد يقول: الرِبا حلال، الرشوة حلال!

{ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ وأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَنْ وقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وهِيَ الْقَلْبُ }

[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]

لكن هناك أمور عبادات أحياناً نختلف فيها بحكم مصادر المعرفة التي وصلتنا فلكل مجتهدٍ نصيبٍ، لا نعيب على بعضنا في القضايا البسيطة الجزئية، لكن الحلال والحرام واضح في ديننا، فنحن مصادر معرفتنا النقل، من أين جاؤوا لنا اليوم بمن يقول لنا: العقل مصدر المعرفة؟ كيف العقل مصدر المعرفة؟ العقل هو عملية محاكمة لكن هو ليس معلومات، هو يُحاكم المعلومات لكن لا يُنشئ معلومات حتى نجعله مقابل النقل في الأصل ونصنع الصراع بينهما ثم نحاول التوفيق، من أجل ذلك نقول: القلوب نعقل بها.

القلوب نوعان:
الحديث الشريف عن القلب:

{ عن حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ }

[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]

نحن في عصر الفتن
(يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُعْرَضُ الْفِتَنُ) نحن في عصر الفتن، (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا) كيف من ينسج الحصير يأتي بعود عود، (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا) دخلت الفتنة، فتنة النساء، فتنة المال، فتنة العقل، فتنة الشبهات، فتنة الشهوات، قال: (فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ) نقطة سوداء، كلما أُشرِبَ فتنة نقطة سوداء، (وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ) نقطة مضيئة، أنْكَر الفتنة، جاءته امرأة ذات منصبٍ وجمال فقال: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ) جالس على الإعلام فخرجوا وقالوا له: ما أدراك أن الإسلام دين صحيح؟ والملحدون اليوم يقولون: كذا وكذا والعياذ بالله، أنا إيماني لا يتزعزع إن شاء الله (نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ)، قال: (حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ) في النهاية، (عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا) الصفا والمروة سعيتم بينهما، لماذا سمي الصفا صفا؟ لأنه حجر أملس إذا سال الماء فوقه يسيل فوراً، لا يُشرَب منه شيء، (عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) بعد حين عندما تتمكن من إيمانك الفتن أصبحت تأتي وتذهب وقلبك أبيض لا تَضُرُّهُ فِتْنَة مِثْلِ الصَّفَا، قال: (وَالْآخَرُ) القلب الآخر الذي دائماً يسمع للفتن ويُدخل الفتن، قال: (وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا) أي أسود شديد السواد، قال: (كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا) كأس الماء المقلوب كيف ستدخل الماء إليه ! مقلوب أو مائل إذا وضعت الماء فيه ينسكب فوراً لم يعد يقبل شيئاً، قال: (كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا) هذا النموذج من الناس نراه اليوم في الواقع، نراه اليوم (كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا) كل شيء عنده يجوز، أي هذا العصر الذي نحن فيه يقولون لك: عصر الحريات، اليوم هو ضياع القيم بأن الإنسان يفعل ما يشاء، الزواج هو علاقة بين شخصين وليس بين ذكر وأنثى، الإنسان له أن يمشي في الطريق عارياً، أنت ليس لك علاقة به، هذا لم يعد يعرف معروفاً ولم يعد ينكر منكراً، قال: (إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) أي الشيء الذي هو هوى نفسه وقد يسميه عقلاً ! يقول لك: هذا عقلي، بل هو هوى نفسه، فيشرب من هواه فيقبله، أما تقول له: قال الله وقال رسول الله، يجوز لا يجوز، هذا معروف هذا منكر، صار القلب أَسْوَدُ مُرْبَادّاً.
أحبابنا الكرام؛ نحن اليوم بين القلب والعقل، القلوب تعقل فتصبح سليمةً فتلقى الله بها، وهناك قلوبٌ لا تعقل فتصبح سوداء فيلقى الله بقلبٍ غير سليم والعياذ بالله تعالى.
والحمد لله رب العالمين