تدبر آيات الصيام

  • محاضرة في الأردن
  • 2021-04-05
  • عمان
  • الأردن

تدبر آيات الصيام

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نداء فيه تحبب وتودد للمؤمنين:
أيها الأخوة الكرام؛ بادئ ذي بدء مع اقتراب حلول شهر رمضان، ومع أجواء شعبان أسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان، وكل عام وأنتم بخير.
اسمحوا لي في هذا اللقاء الطيب أن أتدبر معكم صفحة من كتاب الله، من سورة البقرة، وهي آيات الصيام، يقول الله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
[سورة البقرة]

يبدأ الباري جلّ جلاله بنداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهذا النداء فيه تحبب، وتودد للمؤمنين.
نداء الله للمؤمنين فيه تحبب وتودد
فأنت إذا أردت أن تكلّف ابنك بعمل فيه بعض المشقة فإنك تبدأ معه بقولك: يا بني! فتتودد له حتى يأتي الأمر الشاق عليه يسيراً عندما تبين له أواصر القرابة بينك وبينه، وأنه ابنك الذي تحبه، وما ذاك الذي ستكلفه به إلا من المحبة، لا من الرغبة في التعسير عليه فيهون الأمر عنده، ويجد سلاسة في تطبيقه.
فهذا نداء من الباري جلّ جلاله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يذكرنا المولى جلّ جلاله بأن هناك عقداً بيننا وبينه، هذا العقد عقد إيماني، وكأن الله تعالى يقول: يا عبادي! يا من آمنتم بي إلهاً، موجوداً، وواحداً، وكاملاً، يا من آمنتم برحمتي، وبحكمتي، وبعدلي، وآمنتم بمحبتي لعبادي، يا من آمنتم بكل ذلك حتى أُطلق عليكم الذين آمنوا، فالذين آمنوا لهم مكانة عظيمة جداً لا يعرف قدرها إلا من ذاقها، تأمل معي أن المولى جلّ جلاله العظيم في سلطانه يخاطبك، وأنت من الذين آمنوا، وأنا إن شاء الله من الذين آمنوا، فالله تعالى لا يخاطب هنا المنحرفين الشاردين، ولا الكافرين بوجوده، لأنهم لم يؤمنوا، فكيف يخاطبهم ويكلفهم بأمر وهم لم يؤمنوا بوجوده أصلاً، ونسأل الله السلامة، يخاطب أصفياءه، ويخاطب المؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهذا أول تودد منه جلّ جلاله لعباده (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

الكتابة توثيق:
ثم يقول: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) وكتب بمعنى فُرض، وجاء اللفظ هنا (كُتِبَ) لأن الكتابة توحي للسامع بأن الشيء موثق لا بدَّ منه، فأنت إذا كنت مع صديق لك، أو أخ لك في الله، وأقرضته، أو اقترضت منه فإنه يقول لك: اكتب لي ورقة لأنه يشعر من خلال الكتابة بالموثوقية، تقول له: الدنيا فيها حياة أو موت يا أخي، نكتب كتاباً، والله تعالى يقول:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ (282)
[ سورة البقرة ]

فالكتابة توثيق، فعندما يقول الباري جلّ جلاله: (كُتِبَ) فكأن هذا الأمر ينبغي أن يقع في قلبك موقع الثقة العالية، لأنه مفروض، مكتوب عليك لا ينبغي أن تتركه.

الصيام امتناع الإنسان عن كل شيء بغية وجه الله عز وجل:
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) والصيام أيها الأحباب هو الامتناع، كانت العرب تقول: خيل صيام، في الشعر العربي:
خيلٌ صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعرك اللجما
{ النابغة الذبياني }
كانت الخيل إذا وقفت على ثلاثة سنابك، السنابك: الأرجل، ورفعت السنبك الرابع فهي بذلك تعبر عن امتناعها عن المشي، فيقال: خيل صيام، لأنها امتنعت عن المشي، وعبرت عن ذلك بأنها رفعت أحد سنابكها فهي لا تريد المشي.
الصيام في الأصل هو امتناع
فالصيام في الأصل هو امتناع، وجاء الشرع فجاء له بمعنى جميل جداً من الامتناع وهو الإمساك، أو الامتناع عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية لأن الإنسان لو امتنع كل نهاره عن الأكل والشرب والجماع لكنه لم ينوِ التقرب إلى الله بذلك فإنه يسمى صائماً لغة، لكن لا يسمى صائماً شرعاً، فالعبادة لا بدَّ لها من النية، والنية موضعها القلب، وليس اللسان، النية موضعها القلب، بأن يعقد النية في قلبه على صيام رمضان، أو على صيام يوم، ولو أنه استيقظ للسحور فهو بذلك نوى الصيام لأن استيقاظه في هذا الوقت للسحور ما هو إلا نية للصيام على كل حال.
فقال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) والصيام كما قلنا هو الامتناع عن الطعام والشراب والمفطرات، فعبادة الصيام هي إمساك، بينما العبادات الأخرى هي فعل، الصلاة فعل، والشهادة؛ أشهد أن لا إله الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، قول، والزكاة ؛ فعل، دفع مال، إنفاقه، والحج؛ أفعال وأقوال، فأنت تطوف وتسعى، فكل العبادات فيها فعل، إلا الصيام فإن فيه معنى الامتناع والترك، فأنت لا تفعل وإنما تترك، ولذلك جاء في الحديث القدسي الصحيح:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ' كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له، إلا الصيامُ، فإنه لي، وأنا أجْزِي به، الصيامُ جُنَّة، فإذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يَرْفُثْ يومئذ ولا يَصْخَبْ، فإن شاتَمه أحَد أو قاتَلَهُ، فليقلْ: إني صائم، إني صائم، والذي نفسُ محمد بيده، لَخَلُوفُ فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره، وإذ لقي ربَّه فرح بصومه، وفي أخرى مختصراً: كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصيامُ هو لي وأنا أجزي به، ولَخَلُوف فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك }

[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومالك ]

لماذا جعل الله تعالى الصوم له مع أننا نصلي لله ونزكي لله؟ لماذا اختص الصيام فقال: (فإنه لي، وأنا أجْزِي به)؟ لأنه امتناع، ولا يمكن أن يمتنع إنسان عن شيء إلا أن يكون في ذلك يريد به وجه الله في الأعم الأغلب، لأنك عندما تفعل قد ترائي الناس، فقد يدفع الإنسان مالاً ليراه الناس، وقد يحج ليعود بعد ذلك ويقال: الحاج فلان، ويعامله الناس بالدرهم والدينار، وتقام له حفلة العودة من الحج، وفيها من حظ النفس ما فيها، نسأل الله أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وقد يصلي رياءً، وقد يزكي رياءً، إلا أنه عندما يدخل بيته في نهار رمضان، وهو عطشان، ويمتنع فما امتناعه ذاك إلا إرضاءً لربه، لأنه يمكن أن يأكل بعيداً عن أعين الناس لكنه لم يفعل، فيتجرد معنى الإخلاص في الصيام أكثر من غيره من العبادات فلذلك قال: (فإنه لي، وأنا أجْزِي به).

الصيام ليس شريعة في الإسلام فحسب:
الصيام شريعة في كل شرائع الأنبياء والرسل
قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) ثم قال (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم) وهذا هو الملحظ الثاني للتخفيف على عباده، فأنت عندما يقول لك المولى جلّ جلاله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهذا أول تخفيف، في أنك تلحظ هذا المقصد الإيماني، وهذا العقد الإيماني بينك وبين الله، ثم عندما يقول الله لك ثانية جلّ جلاله: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ستعلم أن الصيام ليس شريعة في الإسلام فحسب، وإنما هو شريعة في كل الشرائع التي جاء بها الأنبياء والرسل إلى أقوامهم، فالصيام كان موجوداً عند شريعة النصارى، وموجوداً في شريعة اليهود، وموجوداً في شريعة داود عليه السلام، وفي كل الشرائع، باختلاف عدد الأيام، وباختلاف كيفية الصيام، نعم قد تختلف الشرائع فيما بينها، إلا أن أكمل الشرائع هي الإسلام، قد تختلف الشرائع في طبيعتها لكن لا بد في كل دين من صلاة، ولا بد فيه من صيام، ومن إنفاق، ففي كل الشرائع صلاة، وفيها صيام، وفيها إنفاق، لكن تختلف من شريعة إلى أخرى.

الحكمة من فرض الصيام:
بيان مقصد الصيام يجعله يسيراً
قوله: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أيضاً تخفيف جديد، وتهيئة لتلقي التكليف بالصيام، لأن الله عز وجل جعل هذا شيئاً عاماً في كل الأقوام السابقة، ثم يأتي أجمل تخفيف في فرضية الصيام وهو بيان مقصد الصيام، فيقول تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فأنت عندما يبين لك المولى جلّ جلاله هدفه ومقصده من أمرك بالصيام يصبح التكليف يسيراً عليك فيقول لك: إنما فرضت الصلاة عليك لتنهاك عن الفحشاء والمنكر.

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
[ سورة العنكبوت]

وإنما فرضت الصيام عليك لتتقي الله تعالى، وإنما فرضت الزكاة عليك لتطهر نفسك وتزكو.

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
[ سورة التوبة]

وفرضت الحج عليك لتعلم:

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
[ سورة المائدة]

من أجل أن تفهم على الله العظيم عندما تزور بيت الله الحرام، وتجد الألوف المؤلفة من الناس من كل حدب وصوب، وبكل لهجة، وهم يناجون الله ويبكون، قال: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) كل العبادات - كما يقول الإمام الشاطبي - معللة بمصالح الخلق، فما فرض الله عليك عبادة إلا لمصلحة، والله غني عن تلك العبادة، فهنا مقصد الصيام قال: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

الصيام وقاية من المعاصي:
الإنسان مركب من مادة ومن روح
الآن لأن الإنسان مركب من مادة، ومركب من روح، فالمادة غذاؤها ووقودها الشهوة، الطعام والشراب والجماع، فعندما تمسك الوقود عنها، تمنع الوقود عنها تنطفئ الشهوة فتشعر بفقرك وتعود إلى روحك، الإنسان عنده نفحة من روح الله تعالى، وعنده قبضة من طين الأرض، كيف تغذى القبضة المادية في الإنسان؟ النزعة المادية ما الذي يغذيها؟ طعام طيب، شراب بارد، امرأة، المؤمن في حلال، وغير المؤمن نسأل الله العافية في حرام، هذا يغذي الشهوات الثلاثة، الطعام، الشراب، والنساء، وبالنسبة للنساء الرجال طبعاً، إذاً هي شهوة، وهذه الشهوات هذا وقودها، فكلما أعطيتها طعاماً وشراباً اشتعلت أكثر، تريد أكثر وأكثر، وأيضاً في شهوة النساء عندما تمنع عنها الوقود، لا أقول تنطفئ مئة بالمئة ولكن الشهوة تضعف، فلما تضعف ما الذي يبرز في الإنسان؟ الجانب الروحي، لذلك تجد نفسك في رمضان أكثر إقبالاً على الله، مع شعورك بالجوع، تجد ناحية الروح قد تألقت عندك لاسيما ما قبل الإفطار بنصف ساعة، أو ساعة، وقد بلغ الجهد منك مبلغه، فتشعر بصفاء الروح أكثر لأنك منعت وقود الشهوة، فلما يقول الله تعالى جلّ جلاله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي لعلكم تجعلون بين المعاصي وبينكم وقاية، تمنع نفسك من المعاصي، من هنا نفهم قوله صلى الله عليه وسلم مخاطباً الشباب:

{ عن علقمة بن قيس رحمه الله قال لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج. فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء }

[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي]

الباءة؛ أي تكاليف الزواج، هذه سنة، سنة المرسلين قال: (ومن لم يستطع) عنده مشكلة لم يستطع، لا يوجد عنده تكاليف الزواج، سيتأخر زواجه، ماذا يفعل؟ قال: (فعليه بالصوم. فإنه له وِجَاء) وجاء؛ أي وقاية وحماية، لأنك عندما تمنع عن نفسك الطعام والشراب والشهوة، أنت بذلك ترقى بروحك، فتصغر الشهوة أمام قوة الروح، لأن قوة الروح أقوى من طين الأرض، لكن عندما تغذي دائماً الشهوة فأنت بذلك تقويها، وعندما تمنع عنها فأنت تضعفها.

مقاصد الصيام:
لذلك أيها الكرام ؛ يقول تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لعلكم تتقون الله فتدعون وقاية بينكم وبين المعاصي.
وقد سئل أبو هريرة رضي الله عنه يوماً، قيل له: ما التقوى؟ قال: هل سلكت طريقاً ذا شوك؟ أي طريق فيه أشواك كثيرة، قال: نعم، قال: ماذا صنعت؟ قال: كنت كلما واجهت شوكاً رفعت ثوبي، أو ابتعدت عنه حتى لا يصيبني، قال: كذلك التقوى، أي المعاصي هي الأشواك، وأنت تتقي هذه الأشواك بطريقة أو بأخرى.
إذاً الصيام ؛ مقصده الأساسي التقوى، ومن التقوى أن تضعف قليلاً وأن تشعر بالضعفاء، ومن التقوى أن تجوع قليلاً فتشعر بالجوعى، ومن التقوى أن تعطش قليلاً فتشعر بالعطشى، هذه كلها من مقاصد الصيام، فقال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

تعريف بالصيام:
ثم يقول الباري جلّ جلاله، وكأن سائلاً يسأل: ما الصيام؟ هل هو يوم في السنة أم هو السنة كلها أم هو أيام؟ ما هو؟ فقال تعالى:

أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
[ سورة البقرة]

وهذا رابع تخفيف.
الصيام ثلاثون يوماً فقط
التخفيف الأول: النداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، الثاني: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)، والثالث وهو الأهم: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، والرابع أنه قال: (أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ) فسنتك اثنا عشر شهراً، وصومك شهر من اثني عشر شهراً، وأيام السنة تزيد على 350 يوماً، والصوم ثلاثون يوماً فقط، أي هو أقل من العشر، وطبعاً هذا العشر ليس صياماً كله، وإنما في وقت محدد من هذا العشر، وباقي السنة كلها ليس فيها صيام مفروض، وإنما فيها بعض الصيام المسنون لمن أراد أن يستزيد من الخير، فهنا قال: (أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ) وكلمة معدودات هي التخفيف الرابع، فهي تعد، تعد على الأصابع، وليست كثيرةً، وهذا شأن الله في كل التكاليف، فالله تعالى مثلاً عندما حرم الخمر أباح ألف مشروبٍ ومشروب، فجعل لك من الأشربة شراب التفاح، والموز، والبرتقال، والأناناس، وآلاف الأشربة المباحة، وحرم الخمر، وعندما جعل من اللحوم لحوم البقر، والماعز، والجمل، والغزال، والدجاج، وما لا يعد، ثم حرم عليك أنواعاً من اللحوم منها لحم الخنزير - والعياذ بالله - ما جعل شيئاً محرماً بالكلية، وإنما دائرة الحلال هي الأوسع، ودائرة الحرام هي الأضيق، وهذا من لطف الله، ومن تيسيره على عباده، فقال:(أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ)، ثم جاء التخفيف الخامس قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) تقدير الكلام: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ) فأفطر بسبب مرضه، أو بسبب سفره (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي لا بد أن تصوم هذه الأيام سواء كان رمضان ثلاثين يوماً، أو جاء تسعة وعشرين يوماً فلا بد من أن تكمل العدة.

مفطرات الصيام:
لكن إن لم تستطع أن تكمل الصيام في رمضان لعذر شرعي، وهنا حدد عذرين اثنين، وهما عذر المرض وعذر السفر، فإن أفطر الإنسان (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وقوله: (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) دلالة على أنه لا يشترط أن تتابع في الأيام، أي لو أفطر سبعة أيام في رمضان فلا يشترط أن يأتي بالأيام السبع التي أفطرها متتابعة، وإنما له أن يصومها طوال العام، هذا شأنه كما يريد، قال (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وما حددها، وهذا أيضاً من تيسير الله (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
المرض والسفر مبيحان للفطر
وهنا نقول أمر مهم جداً، هذا أمر فقهي لكن حتى نتدبر الآيات تماماً الله تعالى ما بيّن المرض، ما قال: فمن كان منكم مريضاً مرضاً شديداً، ما قال مرضاً صعباً، ما قال شاقاً، قال: (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) وما قال أو على سفر متعب، على سفر، فقال العلماء: المرض والسفر مبيحان للفطر، لكن بعض الفقهاء تشددوا قليلاً في أن المرض ينبغي أن يكون شديداً يصعب معه الصوم، لئلا يتساهل الناس، ونحن نقول: الحق دائماً لا إفراط ولا تفريط فيه، فالله تعالى أباح للمريض وهو يقدر حاجته، أو يقدر الطبيب له ذلك، أحياناً مريض السكري مثلاً على سبيل المثال يقول: أنا أصوم ولا أجد إشكالاً، لكن طبيبه يقول له: لا ينبغي أن تصوم، الطبيب المسلم الورع الحاذق الخبير يقول له: لا ينبغي أن تصوم أنت لا تجد مشقة لكن هذا يؤثر على عمل أجهزتك، فينبغي أن يأخذ إخبار الطبيب ويفطر، أو أحياناً هو بشكل طبيعي ينهض ليصوم فيؤلمه رأسه ألماً شديداً، ولا يجد قدرة على الإتمام، أو يكون عنده مرض صعب في أعضائه، أو في جسمه، فيجد مشقة فيفطر، فإما أن يقدر ذلك بنفسه وله ذلك لأنه مريض، والله رفع الحرج عن المريض، أو أن يقدر له طبيبه ذلك، فالمرض رخصة للفطر.

أنواع السفر:
وأما السفر أيضاً لم يحدده الباري جلّ جلاله فقال: (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) فكل ما يطلق عليه سفر في الشرع واللغة كأن يجاوز الإنسان العمران، وحددها الفقهاء بثمانين كيلو متراً، وحددوها بأشياء أخرى، لكن عموماً الإنسان يعرف السفر، أي يترك بلده، ويمضي بعيداً عن دياره، ويسافر، السفر لغة وعرفاً أصبح معروفاً ولا داعي لكثرة الخلاف فيه، فإذا كان الإنسان على سفر فله أن يفطر، هل يفطر فيترخص بالفطر أم يصوم وهو أفضل له؟
الحقيقة هناك تفصيل في هذا الموضوع، وهو من فقه الفقهاء، ومن علم العلماء، ومن الأدلة الشرعية لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، وبلغ الناس من التعب مبلغاً عظيماً فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ قدحاً من ماء ورفعه أمام الناس وشرب في رمضان وأفطر، فبلغه أن بعضهم قالوا: لا نفطر، نريد أن نتم الصيام، فقال صلى الله عليه وسلم:

{ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عام الفتح إِلى مكةَ في رمضانَ، فصامَ حتى بلغَ كُراعَ الغَميم، فصام الناسُ، ثم دعا بِقَدح من ماء، فرَفَعَهُ حتى نَظَرَ الناسُ، ثم شَرِبَ، فقيل له بعد ذلك: إِنَّ بعضَ الناس قد صام؟ فقال: أولئكَ العُصاةُ، أولئكَ العُصاةَ }

[ أخرجه مسلم والترمذي والنسائي ]

لأنهم يزاودون الآن، النبي صلى الله عليه وسلم أفطر، وكان هناك مشقة في السفر، وقال: إنني أفطر فلا ينبغي أن نترك الفطر، هذه حالة.
حالة أخرى أيضاً في السنة الصحيحة: رجل، النبي صلى الله عليه وسلم رآه في سفر، وكان الناس يظللونه، هو تعب من الصيام، والحرارة عالية، الناس يظللونه خشية عليه، فسأل فقيل: إنه صائم، لا يريد أن يفطر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

{ عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: ليسَ من البِرِّ الصيامُ في السفر }

[أخرجه النسائي]

هذا ليس براً، ليس خيراً، البر هو جماع كل خير، فأنت مسافر ومتعب (ليسَ من البِرِّ الصيامُ في السفر).
لكن ابن عباس رضي الله عنهما يروي في الصحيح أننا سافرنا مع رسول الله فكان يصوم ويفطر، كان أناس معه يصومون، ويفطرون.
كل سفر يجوز فيه الفطر
كل سفر يجوز فيه الفطر، لأن الله تعالى جلّ جلاله عندما يرخص رخصة تصبح هذه الرخصة حكماً شرعياً، فالله قال: المسافر يفطر، لو فرضنا أنه بعد مئة سنة صار هناك تقنية حديثة - وهذه للطرفة - أي أن الإنسان يمكن أن ينتقل من عمان إلى اسطنبول في دقيقة واحدة، في دقيقة واحدة يكون هناك، فرضاً بالصاروخ يا أخي، فهل نقول: لا يفطر؟ مادام مسافراً فله أن يفطر، انتقل مسافة طويلة وغادر عمران بلده، لكن هل الأفضل أن يصوم أم الأفضل أن يفطر؟ هنا الآن نفصل، نقول: السفر أنواع ثلاث ؛ سفر فيه مشقة زائدة، إنسان يريد أن يسافر إلى أمريكا، والسفر اثنتا عشرة ساعة، وهو بنيته ضعيفة مثلاً فوجد مشقة، فهذا ينبغي له، وهذا في حقه أن يفطر، وإن صام هنا فأخشى عليه أن يقع في الإثم، لأنه لم يترخص ولم يقبل رخصة الله، السفر الصعب الشاق.
وقد يكون السفر سهلاً جداً، أي هو متعود دائماً ينزل إلى العقبة، ونزل من عمان للعقبة، والسفر مريح، وسيارته مرتبة، أو سافر بالطائرة نصف ساعة، وهناك في العقبة ليس عنده مشقة، واجتماعات، وتجارة، وإنما ذهب إلى الفندق فأموره ميسرة ، هذا الأفضل في حقه الصوم، ليأخذ بركة رمضان.
وأما بالمنتصف سفر فيه مشقة محتملة، فهذا مخير بين الفطر والصيام، وكلاهما في حقه واحد، هذا هو تفصيل الفقهاء في المسألة جمعاً بين الأدلة، لكن بأي سفر سافر الإنسان إن أراد أن يفطر، ليس لأحد أن يقول له: لماذا أفطرت؟ ليس لأحد أن يقول له ذلك أبداً، أنا مسافر، والمسافر رخص له المولى جلّ جلاله بالفطر، قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

فدية من يفطر في رمضان:
الفدية هي ما يدفعه الإنسان من مال أو نحوه
ثم يقول تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) يطيقونه أيها الكرام في لغة العرب؛ أطاق الشيء يطيقه، أي يستطيع فعله لكن مع المشقة، أطاقه؛ أي استطاع فعله لكن بأقصى حد، أي يبذل جهداً عظيماً ليفعله، لكن يطيقه، هو في النتيجة قادر على الصيام، لكن يجد مشقة في ذلك فقال: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) والفدية هي ما يدفعه الإنسان من مال أو نحوه، وهو طعام هنا، ما يدفعه الإنسان من طعام، أو ما يقدره الشرع بديلاً عن العبادة، فقال: (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) يطعم مسكيناً وجبةً أو وجبتين، قال الفقهاء: وجبتين مشبعتين، مثل سحور وفطور مثلاً، أو فطور وغداء، وجبتان مشبعتان يقدرهما بما يأكل هو، فإن كان غنياً فينبغي أن يجود ويطعم الفقير لحماً، وإن كان فقيراً فيطعم مما يأكل (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي من أراد أن يطعم عن كل يوم مسكينين أفضل وأفضل، إنسان قال: أطعم عن كل يوم عشرة مساكين، أنا مقتدر، ممتاز، (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) التطوع هو الزيادة، فمن زاد في الإطعام فهو خير (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) لأن الخير يعود لك، لأن ما تنفقه على المساكين ستجد أجره يوم القيامة (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ).

من استطاع الصيام فصيامه خير من إفطاره:
قال تعالى: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) في محصلة الأمر إذا كنت تستطيع الصيام فصيامك خير لك من الفطر.
التدرج في التحريم وفي الفرض
الآن هنا يشكل شيء، بعض العلماء قالوا: هذه الآية منسوخة بما بعدها، منسوخة أي هذه الآية كانت في بداية التشريع، فالله تعالى حتى يخفف عن عباده في بداية فرضية الصوم على الناس، والناس كانوا متفلتين من كل قيد، جاء الإسلام، بدأت المحرمات، الخمر محرمة، الصلاة واجبة خمس صلوات، فكان الإسلام يتدرج في التحريم، ويتدرج في الفرض، حتى الصلاة كانت ركعتين في الغداة، وركعتين في العشي، ثم ليلة الإسراء والمعراج فرضت الصلاة، خمس صلوات في اليوم والليلة، الخمر حرم بالتدريج، بدأ تعالى بقوله:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
[ سورة البقرة]

ثم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً (43﴾
[ سورة النساء ]

ثم قال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
[ سورة المائدة ]

والاجتناب أعلى نوع من أنواع التحريم، ابتعدوا عنه ابتعاداً كاملاً، فألقوا آنيتهم من الخمر، وحرم الخمر إلى يوم القيامة، فتدرج الله في التحريم، وتدرج في فرض الأحكام، فهذا من التدرج، فكان في البداية الذي يجد صعوبة في الصوم لا يصوم، يطعم عن كل يوم مسكيناً، لكن الله تعالى قال: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ثم جاءت الآية التي بعدها:

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
[ سورة البقرة]

وهذا قطع وبت، لأنه لم يعد هناك خيار في أن تصوم وتفطر، وإنما الفدية فقط لمن لا يستطيع الصيام، وهذا الذي يدفع الفدية، هذا رأي بأن الآية منسوخة.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه بأن الآية لم تنسخ في الشيخ الكبير، والمرأة الفانية، فالمقصود (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) ما يزال حكمها سارياً إلى الآن، شيخ تجاوز الثمانين من عمره، وامرأة عجوز قد تجاوزت الخامسة والسبعين من عمرها، وهذان الشيخ العجوز، والمرأة الفانية ليسا مريضين، وليسا مسافرين، وليسا مصابين بالسكري، ولا يعانيان من الضغط، ولا يأخذون الأدوية، وهذا موجود بين أهالينا - نسأل الله أن يمتعهم جميعاً بالصحة والعافية - من يشيب في الإيمان وصحته كاملة، ومنهم من يبتليه الله، وهذا من حكمة الله، والله أعلم بما يحكم، فهذان المرأة العجوز، والشيخ الفاني، الكبيران في السن، ليسا مريضين ولا مسافرين، ولكن يطيقان الصيام، يصوم فيتعب في آخر النهار فقال ابن عباس: هذه الآية لهما (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) فما يزال الحكم سارياً، ما يزال الحكم مستمراً في هذين الصنفين، وهما المرأة العجوز، والشيخ الفاني، فعليهما الفدية، ولا يلزمهما الصيام، وإن صاما واستطاعا فهو خير لهما.

تسمية رمضان بهذا الاسم:
ثم يقول الباري جلّ جلاله: (شَهْرُ رَمَضَانَ) وهنا عين الأيام المعدودات، أي تدرج، أياماً معدودات، ثم ربنا جلّ جلاله يعين هذه الأيام المعدودات، يعينها فيقول (شَهْرُ رَمَضَانَ).
الشهر سمي شهراً لأن له علامات
أحبابنا الكرام؛ الشهر؛ هو الشيء المشهور الواضح البين، وحتى الآن أخواننا في مصر يقولون: ذهبنا إلى الشهر العقاري، أي أشهرنا الأمر في الشهر العقاري، ثبتناه في الشهر العقاري، فالشهر لأنه يشتهر بعلاماته فيبدأ بظهور الهلال وينتهي بهلال الشهر الذي بعده، فلما جعلت علامات له سمي شهراً، لأنه أصبح واضحاً بيناً بتلك العلامات ومثله وقد ورد معنا قبل قليل والشيء بالشيء يذكر السفر، تقول: أسفر الصبح، أي بان وانكشف، وسمي السفر سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، فأنت لا تعرف الإنسان إلا إذا سافرت معه، والأصل في السفر أن الإنسان كلما زار مكاناً سفر له شيء جديد، واتضح له شيء جديد، ففي الأسفار يسفر السفر عن أشياء جديدة فسمي سفراً، والشهر سمي شهراً لأن له علامات فأصبح شهراً، اشتهر بها.
فقال: (شَهْرُ رَمَضَانَ)، أما رمضان فهو من الجذر اللغوي رمضَ، البعض يقولون: رمضان يحرق الذنوب، لأن رمض من الرمضاء، شدة الحر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث:

{ عن زيد بن أرقم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على قوم وهم يصلُّون الضحى في مسجد قباء حين أشرقت الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة الأوابين إذ رمضت الفصال }

[أخرجه مسلم وابن خزيمة]

صلاة الأوابين بالمناسبة هي صلاة الضحى، صلاة الضحى يبدأ وقتها من ارتفاع الشمس، بعد طلوع الشمس بثلث ساعة، بنصف ساعة، بثلثي ساعة، عندما ترتفع الشمس قدر رمح في السماء يبدأ وقت الضحى، متى ينتهي؟ قبيل الظهر، قبيل أذان الظهر، الآن قبيل أذان الظهر بقليل ترمض الفصال، الفصيل ؛ هو ولد الناقة، الفصال جمع فصيل، والفصيل هو ولد الناقة، فولد الناقة في هذا الوقت إذا جلس، لأنه ما يزال غضاً طرياً، فإذا جلس على الرمال تحرقه الرمال، فيقول: رمضت الفصال، فعندما ترمض الفصال تأتي صلاة الأوابين وهو أفضل أوقات الضحى، أي تؤخرها إلا ما قبل الظهر بربع ساعة أو نصف ساعة فتصليها إذا رمضت الفصال، وتسمى صلاة الأوابين، البعض يظن أن هناك صلاة الأوابين عند المغرب، ليس هناك من سنة أن صلاة الأوابين بعد المغرب (صلاة الأوابين إذ رمضت الفصال) والفصيل هو ولد الناقة.
قالوا: عندما سمّى العرب الشهور جاء رمضان في شدة الحر، فلما سموه رمضان كان في شدة الحر فسمي رمضان، لأنه يحرق، ثم أصبح يأتي في كل العام، يأتي في الربيع، وفي الخريف، وفي الشتاء، حسب دورة الأيام، كأن يأتي لأحد من الناس ولد فيسميه جميلاً، أو مثلاً يسميه كريماً، ثم يظهر من أخلاق الولد وسوئه ما يظهر فلا يعود اسمه لا كريم، ولا جميل، لكن يبقى اسمه الذي سمي به.
فشهر رمضان لما سمي رمضان كان الوقت صيفاً شديداً وفيه ترمض، تحرق الأرض ما تحرق فسمي رمضان، كما سمي ربيع الأول، وربيع الثاني لأنه جاء في وقت الربيع، وجمادى الأول، وجمادى الثاني لأنه جاء في وقت يتجمد فيه الماء صباحاً، وهكذا، فسمي رمضان بذلك.

القرآن الكريم كلما زدته تدبراً زادك عطاءً:
القرآن الكريم كلما زدته تدبراً زادك عطاءً
قال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) وأجد أن الكلام طويل، كنت أريد أن أتحدث في هذا اللقاء عن كل آيات الصيام لكن القرآن كريم، ما معنى قرآن كريم؟ أي كلما زدته تدبراً زادك عطاءً، فأنا عندما حضر في ذهني بعض الأمور التي أريد أن أقولها في هذا اللقاء الطيب، ما كنت أتخيل أنها بهذه الكمية، فالآن كلما وجدت كلمة تقودني إلى أخرى، وهذا من بلاغة القرآن، وكيف لا يكون كذلك وهو تنزيل من الرحمن الرحيم.
فلذلك وصلنا إلى قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ).
صار عندنا تهيئة للإنسان في تكليف الصيام؟ انظروا إلى رحمة الله:
قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هذه أول تهيئة، قال: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الثانية، الثالثة والأهم: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، (أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ) الرابعة، (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الخامسة.
الآن يقول: (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وهذه السادسة أي يرغبك هذا الشهر شهر القرآن، فأنت عندما تصومه فشرف هذا الشهر الكريم بنزول القرآن فيه، وأنت عندما تصومه تُشرف وتكرم لأنك تصوم شهراً أنزل فيه كتاب الله تعالى، وهنا (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) لها دلالات مهمة جداً بين أُنزل، ونَزّل، ونَزل، وكيف أُنزل القرآن في شهر رمضان؟ نزل منجماً ومفرقاً على ثلاث وعشرين سنة، وهذه كلها أسئلة أرجئ فيها الحديث عنها إلى لقائنا القادم بعون الله وتوفيقه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته