• محاضرة في الأردن
  • 2021-11-15
  • عمان
  • الأردن

وقل اعملوا

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وأُصلّي وأُسلِّم على نبينا الأمين، اللهم علِّمنا ما ينفعُنا و انفعنا بما علَّمتَنا وزدنا علماً، و أرنا الحق حقاً وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

اللهم أخرجنا من ظُلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّاتِ القُرُبات.


مطابقة مقاييسنا لمقاييس القرآن:
وبعد فيا أيها الأخوة الأكارم، عمومُ الناس يتعارفون على مقاييس ويتفاضلون بها في الحياة الدنيا، هناك مثلاً من يعتمد مقياس المال، ويقول لك بصريح العبارة: (معك قرش تسوى قرشاً)، هكذا بكل صراحة، وهذا وارد في بعض الآثار (يأتي زمانٌ على الناس قيمة المرء مَتاعه)، أي بحسب ما يملك، بالمتاع الذي معه وليس هو بذاته.
بعض الناس تعارفوا بقيم النَّسب، يسألك من أي قبيلة أنت؟ أو من أي عشيرة أنت؟ ما جذورك؟ يعتمدون قيمة النسب، هذا نَسبُه عال، هذا نَسبُه أقل، يعتمدون قيمة النسب.
عند الله تعالى قيمتان للتفاضل بين الناس
بعض الناس يعتمدون قيمة المنصب، هذا كان وزيراً، وهذا كان نائباً في البرلمان، فيبجلونه ويقدَّرونه، أنزلوا الناس مَنازِلَهم، لا يمنع إذا كان للانسان مكانة في المجتمع أن نُنزله مَنزلته، لكن هل هذه القِيَم الوضعيَّة التي تَعارَف عليها الناس قِيَم صحيحة للتفاضل بين الناس؟ الجواب لا، لأن الله تعالى في قرآنه الكريم لم يعتمد هذه القيم، لكن ربنا عز وجل اعتمد قيمتين لا ثالث لهما، القيمة الأولى هي قيمة العِلِم، والقيمة الثانية هي قيمة العمل. قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
[ سورة المجادلة ]

وفي آية ثانية قال تعالى:

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
[ سورة فاطر ]

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[ سورة الحجرات ]

بُطولتُنا وفِطنَتُنا أن تأتي مقاييسنا دائماً مطابقة لمقاييس القرآن، لمقاييس السُنّة الشريفة، أن نتفاضل فيما بيننا بالتقوى، بالعِلم، بالعمل. فنقول: فلان ما شاء الله له عمل صالح، آتاه الله مالاً فهو يُنفق منه، نُجلِّه لعَمِله لا لماله، لإنفاقه من المال لا لقيمة ثروته، هنا يختلف المقياس.
فلان آتاه الله عِلْماً، و لو كان أحياناً العلم دنيوياً، لكن العِلم الدنيوي إذا وُظِّف في طاعة الله، في خدمة الحق، في إعلاء كلمة المسلمين، في صناعات رائدة، في تجارة جيدة، وظّف عِلْمَه في الحق أيضاً يرتفع مقامه.
العِلم والعمل لأن كل نشاطات البشر من آدم إلى يوم القيامة لا تكون إلا ضمن العِلم أو ضمن العمل، إذا تحركتَ في الحياة إما أنك تعلم أو أنك تعمل.
العلم يُغطي الجانب الفكري العقلي، المنطلقات النظرية، العمل يُغطي السلوك، فإما عِلمٌ أو عمل. من هنا قال تعالى قي قرآنه الكريم:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
[ سورة الأنبياء ]

لأن أعظم عِلمٍ تتعلمه هو عِلم التوحيد، لا إله إلا الله، وأعظم عملٍ تعمله هو العبادة (فَاعْبُدُونِ).

أعظم عِلمٍ نتعلمه وأعظم عملٍ نعمله:
العبادات التعامليَّة أكثر من الشعائرية
الأنبياء كلهم جاؤوا بعلمٍ هو التوحيد وعملٍ هو العبادة. فإذا استطاع الإنسان أن تكون حركته العلمية تَعلّم ما ينفعه، وحركته العملية في عبادة الله، نقصد بالعبادة المفهوم العام وليس الصلاة والصيام والزكاة والحج فقط، وإنما أن يتحرك في الحياة ليحقق مقصود الله تعالى من خَلقه، أي تصبح حياته عبادة، إذا ذهب مع أهله في نزهة فهو في عبادة، وفي تجارته في معمله إذا أتقن عمله، وقدَّم سلعة جيدة للناس، وربح ربحاً حلالاً، وأنفقه في الحلال فهو في عبادة وهكذا، مفهوم العبادة الواسع وليس مفهوم العبادة الضيق الذي يقتصر على العبادات الشعائرية لأن العبادات نوعان: شعائرية و تعامليَّة. الشعائرية فيما بينك وبين الله، التعامليَّة فيما بينك وبين الناس، ومعظم العبادات وأكثرها عبادات تعامليَّة؛ صدق، وأمانة، ومحبة، وخشية، وخوف، ورجاء، فالعبادات التعامليَّة أكثر من الشعائرية.
الشعائرية مهمة جداً ولا يستقيم إيمان المرء بغيرها. يقول أحدهم: أنا لا أصلي لكن إيماني في القلب، نقول له: كلامك مردودٌ عليك، يجب أن تُصلِّي، ويكون إيمانك في قلبك.
امرأة تقول لك: أنا غير ملتزمة بالحجاب أو بمنهج الله عز وجل لكن أعمالي صالحة، لا، نريد هذه و تلك. أي لا بد أن نأتي بالعبادة الشعائرية والتعامليَّة معاً، فلا الصلاة تغني عن التعامل مع الناس، ولا التعامل مع الناس يغني عن الصلاة، صلة بالله وإحسان للمخلوق.

أصل الرِّفعَة العِلم بالله:
إذاً نحن الآن أمام عِلم وعمل هذا الذي يرفعك عند الله، إما عِلمُك أو عَمَلك:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
[ سورة المجادلة ]

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
[سورة فاطر]

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13)
[ سورة الحجرات ]

والتقوى جزء من العِلم، لأن العِلم هو الخَشية، والتقوى هي الخَشية.

وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
[ سورة فاطر ]

الخَشية متعلقة بالعِلم بالله
أي لن تجد من يخشى الله إلا إذا كان عالِماً، عالِم فيزياء أو عالِم كيمياء؟ لا، هنا العِلم المقصود به العِلم بالله، أن يَعرف الله، لذلك أحياناً تجد جدتي وجدتك التي لا تقرأ ولا تكتب تخشى الله أكثر من إنسان يحمل أعلى شهادة في الشريعة، لأن الخَشية متعلقة بالعِلم بالله وليس بالعِلم التفصيلي، أحياناً نساء كبيرات في السن عندهن خوفٌ من الله لا تجده عند غيرهن، كان سيدنا عمر يقول: (اللهم ارزقنا إيماناً كإيمان العجائز).
وقيل لامرأة: إن فلاناً يملك ألف دليل على وجود الله، قالت: والله لو لم يكن عنده ألفُ شك لما بحث عن ألف دليل، لا يوجد عندي شك أصلاً حتى أبحث عن الدليل، فأحياناً إيمان كبار العجائز أحسن من إيمان الشباب والمثقفين، فالمقصود بالعِلم العلم الذي يُورِث الخَشية وليس العِلم التجريدي النظري، لأن العِلم التجريدي النظري قد يصبح الفقه والعقيدة والحديث آداب إنسانية تُعلَّم، وهناك مستشرقون جاؤوا إلى بلادنا وتعلموا الإسلام وهم غير مسلمين، تعلَّموه ودرسوه وأُعجبوا به، لكن لم يُسلموا أصلاً. فالقضية ليست في علوم نتعلمها وإنما في خَشيةٍ لله نخشاها، هذا المقصود بالعِلم الذي يرفع الله به الناس.
ومع ذلك يتعَلم الانسان علوم الشريعة ويتعلم علوم الدنيا، فأيضاً يرفعه الله بها، لكن هي ليست أساسية، أصل الرِّفعَة العِلم بالله، لمعرفة الله، للخَشية من الله، والدليل قال تعالى:

أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ

انظروا إلى نهاية الآية قال:

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
[ سورة الزمر ]

إذاً هذا الذي يَحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه عالِم، لو لم يكن عالِماً لما قام خشية من الله، فالعِلم يُورِث الخَشية، هذا المقصد.

تعريف العمل الصالح:
العِلم بلا عمل كالشجرة بلا ثمر
أحبابنا الكرام؛ نقول: إن الرِّفعة والمقاييس التي وضعها الله تعالى لعباده هي العِلم والعمل، لأن العِلم يُورِث العمل، بل إننا نقول دائماً: العِلم بلا عمل كالشجرة بلا ثمر، بل إنه إن عَلِمَ إنسان ولم يعمل بما عَلِم كان جهله أولى، لأن الجاهل لم يعرف فما عَمِل، أما العالِم فعَلِم ثم لم يعمل بما عَلِم فإثمه أكبر، فلذلك الأصل هو العمل، لذلك لمَّا يَحضُر الإنسان الوفاة يقول:

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
[ سورة المؤمنون ]

لا يوجد أحد عندما تحضره الوفاة يقول: ربي ارجعوني لعلي أتابع البناء الذي بدأته، ولا يقول: أرجعوني لعلَّي أتابع التجارة التي تاجرت بها، ينسى كل ذلك، ولكن يقول: أرجعوني لعلَّي أعمل صالحاً.
أحبابنا الكرام، العمل الصالح تكرَّر في كتاب الله كثيراً لكن العمل سمي صالحاً لأنه يَصلُح للعرض إلى الله، أي عمل تعمله إذا أردته صالحاً فانظر، هل يَصلُح يوم القيامة بأن تَعرِضَه على الله؟ تقول: يا رب هذا عملي، إذا كان يَصلُح فعلى العين والرأس وعلى بركة الله، وإذا وَجدّتَ أنك تعمل عملاً لا قدَّر الله لا يَصلِح العرض على الله فلا تفعله.
مثلاً شاب يحب أباه محبة عظيمة جداً، فمن محبته لأبيه إذا عَرف أن أباه لا يرضى عن عمله فلا يعمله حتى لا يُغضب والده، والإنسان علاقته مع الله عز وجل علاقة محبة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
[ سورة المائدة ]

فإذا علِمتَ أن عملاً من أعمالك لا يصلح للعرض على الله، أو تخجل به أمام الله فلا تفعله، فالعمل الصالح يَصلُح للعرض على الله.

شروط العمل الصالح:
1 ـ الإسلام:
متى يَصلُح العمل للعرض على الله؟
أولاً: بالإسلام، لأن الله تعالى يقول عمَّن يعمل أعمالاً ربما تبدو صالحةً لكنه غير مسلم في الأصل، أي عقيدته غير سليمة، قال:

وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
[ سورة الفرقان ]

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
[ سورة النور ]

القيعَة: هي الصحراء، إذا زار الانسان الصحراء ووقف عن بُعد مع أشعة الشمس يُخيَّل إليه أن هناك ماءً، هذا سَراب ليس ماءً، فيركض باتجاهه فعندما يصل يجد رملاً لا يوجد ماء، لكن مع انعكاس أشعة الشمس خُيَّل إليه أن هناك ماءً، فلما جاءه لم يجد شيئاً، فهذا مثل قرآني عظيم، قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً) كأنه يتجه نحو الماء (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) هو ظن أنه قدَّم أعمالاً، لكن هذه الأعمال قدَّمها ليُقال: فلان يُحسن، قدَّمَها من بيئته، من ثقافته، لأننا نريد أن نَظهر للعالم بأننا حضاريون، قدَّمها حتى يأخذ إعفاء من الضرائب، قدَّمها حتى يأخذ ترخيصاً للبناء، فهو يظنها شيئاً لكن هي كسراب بِقيعَة، لكن هي في الحقيقة ليست بشيء، كسرابٍ بقيعة (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً).
مع الإسلام والتوحيد ينفع كثيرُ العمل وقليله
إذاً أول شيء في العمل الصالح الإسلام، أي مع الإسلام والتوحيد ينفع كثيرُ العمل وقليله، ومن غير دين لا ينفع كثير العمل ولا قليله، وقد يقول قائل: وهل ضاقت رحمة الله عن غير المسلمين؟ لا، الموضوع ليس ضيقاً في رحمة الله أبداً، لكن المشرك مُتوجِّه إلى مكان آخر غير المكان الصحيح. سأضرب مثالاً: وهذا المثال سمعته من شيخنا الدكتور راتب حفظه الله، شخص يريد أن يركب في القطار، القطار سينطلق من دمشق باتجاه حمص، له مبلغ يريد أن يقبضه، أثناء ركوبه في القطار تفاجأ أنه ركب في الدرجة الأولى لكن بالخطأ وضعوه في الدرجة الثانية، هو خطأ لكنه خَطأ مُغتَفر، أي سوف يصل، ركاب الدرجة الأولى لن يصلوا قبل الدرجة الثانية، الجميع سيصل معاً بالنهاية، الخطأ مُغتَفر، تفاجأ بأنهم قالوا له: في مقصورة القطار يوجد الطعام، فلم يأكل قال: سآكل في القطار، فتفاجأ بأنه لا يوجد طعام في القطار، فأمضى الوقت جائعاً، هذا خطأ ثان ولكن مُغتَفر، يصل ويأخذ النقود ويرجع ويحسب للمرة القادمة.
الخطأ الثالث هو أنه لم يُميِّز مكان جلوسه فجلس في مقصورة يوجد فيها شباب طائشون طوال الطريق وهم يزعجونه بأحاديثهم وضحكاتهم وهو يريد أن يرتاح، وهو رجل مُقدّر، لكنه خطأ مُغتَفر فالقطار في طريقه.
هناك خطأ لو ارتكبه هذا لا يُغفَر، أنه ركب القطار المُتَّجه إلى درعا، بعكس الاتجاه تماماً، الدرجة الأولى، والطعام موجود، ولا يوجد شباب مزعجون، ولكن وجهة القطار بالعكس فلم يصل إلى مُبتغاه ولم يقبض المبلغ الذي يريده.
المُشرك يمشي بعكس الطريق فليست رحمة الله قاصرة عنه، لكن هو غير مُتوجِّه أصلا إلى الرحمة، هو لا يريدها،، فالذي يقول لك: يا أخي ربنا رحيم، ربنا غفورٌ رحيم.

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ

لكن ماذا قال بعدها:

فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
[ سورة الأعراف ]

الذي يريدها سأكتبها له، والذي لا يريدها، الذي لا يريد رحمة الله ماذا تصنع له؟
فبالأصل نقصد أن أول شروط العمل لكي يكون العمل محفوظاً عند الله أن يسبقه توحيد، إيمان بالله، وإلا فقد يعطيه الله عز وجل الثواب في الدنيا، ربنا عز وجل ودود شكور لا يتركه من غير ثواب، لكن هو أراد الدنيا فيعطيه الدنيا جلّ جلاله.

2 ـ الإخلاص:
الشرط الثاني من شروط العمل الصالح أن يكون خالصاً، وهذا تحدثنا عنه، الإسلام ثم التوحيد أن يكون خالصاً، أي أن تبتغي به وجه الله، فإذا كان العمل صالحاً ولم تبتغ به وجه الله فهو ليس بصالح أصلاً، إذا لم يُبتغ به وجه الله تعالى، يجب أن نبتغي بأعمالنا الصالحة وجه الله.

إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)
[ سورة الإنسان ]

جاء الرد اللإلهي:

فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12)
[ سورة الإنسان ]

متى جاء الرد الإلهي؟ بعد أن قالوا: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)، لا أريد شكراً ولا أريد مكافأة، أبداً، فالإنسان عندما يتجرَّد في عمله الصالح ويجعله خالصاً لوجه الله لا يبتغي به إلا الله ينجو من الرِّياء ويكون العمل صالحاً.

3 ـ الصواب:
الصواب أن يوافق الكتاب والسنة
الشرط الثالث: أن يكون العمل صواباً، صواباً أن يوافق الكتاب والسنة، أي إذا قال لك إنسان: أنا أقمتُ حفلة دعوت لها الرجال والنساء، والنساء بأبهى زينة، وربما أيضاً يوجد طلبات خمور، و أحضرنا مغنية، لماذا أقمت الحفل؟ أبتغي به وجه الله، نريد أن نجمع مبلغاً مالياً نقدمه لأسر محتاجة!! هذا العمل ليس صواباً، ولو توهَّمتَ أنك تبتغي به وجه الله، هذا العمل مُخالف لكتاب الله وسنّة رسوله، ولو جمعت مبلغاً ووزعته، وربما يستفيد منه بعض الناس لكن هذا العمل خلاف للسنّة، (دع خيراً عليه الشر يربو) أي لا تُقدم على عمل فيه شر من أجل تحصيل خير، قال تعالى:

فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
[ سورة النمل ]

طبعاً كلُّنا ولله الحمد من أهل القبلة، و كلنا مُوحدون، مخلصون إن شاء الله في أعمالنا، ونُدقِّق أيضاً أن يكون العمل موافقاً لكتاب الله تعالى وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إنسان مثلاً يتاجر بالرِّبا أو بالمُحرَّمات، ويقول لك: والله أنا أخصص ريع هذه التجارة للفقراء، لا، ليس صحيحاً، بالقوانين الوضعيَّة أو بأعراف بعض الناس تقول: الغاية تُبرِّر الوسيلة، في الشريعة لا يوجد الغاية تُبرِّر الوسيلة، لا يُتوصَّل إلى الغايات النبيلة إلا بوسائل من جنسها، ربنا عز وجل غنيّ، غنيّ عن العباد جلَّ جلاله، عزيز، لا يقبل من إنسان أن يعصيه من أجل أن يُطعِم عباده، أَطعِم عباده بالمال الحلال.

{ إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا }

[ رواه مسلم ]

إذاً أحبابنا الكرام، العمل الصالح أولاً: الإسلام، الإخلاص، الصَّواب. هذه الشروط الثلاث يتحقق بها العمل الصالح.

مزايا العمل الصالح:
الآن، لو جئنا إلى الآيات الكريمة التي تتحدث عن العمل الصالح لنُعلِّق عليها ونعلم بعض مزايا العمل الصالح، قال:

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
[ سورة الرعد ]

طوبى هي الجنة، وحُسن مآب: المرجع إلى الله.
في القرآن الكريم لا يأتي الإيمان منفرداً
في القرآن الكريم لا يأتي الإيمان منفرداً، غالباً ما يأتي الإيمان مقابلاً للعمل الصالح، آمَنوا وعَمِلوا، أي علم وعمل، كما قلنا في البداية الإيمان عِلم، الإيمان أعظم عِلم، الإنسان عنده إيمان بالله وملائكته وكُتبه ورسله فهذا أعظم عِلم تَعلَّمه، لأن الإيمان تصديق، والتصديق يحصل بناءً على العلم، فعمليَّاً الإيمان هو العِلم، وعملوا، إيمان سُكوني لا يوجد، الإيمان يُعبّر عن نفسه بحركةٍ إيجابيةٍ نحو الخلق، (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وليس عَملِوا مطلقاً، عملوا الصالحات وفق شروط العمل الصالح الذي تكلَّمنا عنه قبل قليل.
الآن:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)
[ سورة الكهف ]

(إنَّا لا نُضِيع أجر من أحسن عملاً) أي إنسان يعمل عملاً يخشى أن يَضيع أجره، كيف ذلك؟
إذا دخلتُ في تجارة، ما أجر التجارة؟ الرّبح، أجر التجارة الرّبح، أنا تعبت، في هذه الصفقة ثلاثة أشهر أمضيتها من سفر إلى سفر حتى أنجزت هذه التجارة، فإذا لم أربح فقد ضاع أجر العمل.
يُطمئنك الله تعالى، هذه طمأنة من الله، أنت إذا آمنت ثم عَمِلتَ الصالحات فالله لا يُضيع لك الأجر.

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)
[ سورة النساء ]

أَجرُك محفوظ، أي كل عمل تقوم به في الدنيا لا تثق بنتائجه، مهما كانت التجارة رائجة، أتى فيروس اسمه كورونا صغير أغلق المعمل لمدة شهرين، تهبط كل الأرباح، الخيارات ضعيفة، قيل: عَرَفتُ الله من نَقْض العزائم، تبني مشروعاً، نسافر ونرجع، ويأتي أضعف فيروس غير الكورونا مثلاً الرشح فيُلغى السفر، ويُلغى المشروع، فربنا عز وجل يَنْقُض العزائم أحياناً، طبعاً لحكمة يَعلمُها الله.
عَرَفتُ الله من نَقْض العزائم، لكن ربنا عز و جل يُطمئنك (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) فقط اطمئن.

الحياة الطيبة:

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
[ سورة النحل ]

انظروا إلى هاتين العاقبتين العظيمتين، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِن) هنا عَكَسَها، (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أما هنا (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ) واشترط الإيمان من جديد للتأكيد عليها (وَهُوَ مُؤْمِن) مؤمن بثواب الله، يعمل من أجل الله، عنده إيمان.
الحياة الطيَّبة هي الرضا عن الله
قال: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) أي أنت تحيا في هذه الدنيا حياة طيَّبة، مثلاً يقول إنسان: عَملتُ صالحاً ولم أحيا حياة طيَّبة؟! هل فهمت أولاً ما معنى الحياة الطيَّبة؟ يقول لك: مثلاً يكون لدي أموال كثيرة وعقارات كثيرة، لا ليس كذلك، الحياة الطيَّبة هي الرضا عن الله، الحياة الطيَّبة هي السكينة التي في القلب، التي من ملَكَها ما فاته شيء، والتي من فقدها لم يأخذ من الدنيا شيئاً.
والله هناك أناس عندهم من متاع الدنيا ما عندهم، لكن لا يجدون السعادة ، ولا السرور، ولا الحُبور، وهذا مُشاهد، واقع.
والله أحياناً تجلس مع إنسان من كبار التجار، ومن كبار من فتح الله عليهم في الدنيا، ثم إذا حدَّثْتُه قليلاً قال لك: هذه الدنيا خراب، ويوجد ضيق في قلبي، ومنزعج من الدنيا، وتجلس أحياناً مع إنسان دَخلُه بالكاد يكفيه، يعيش حالة كفاف، وبالرضا عن الله، وبالسرور بالله عز وجل، وبالسَّكينة التي في قلبه، يحيا الحياة الطيَّبة.
فالحياة الطيَّبة ليس لها علاقة بما يملُكه الإنسان وإنما بما ترضى به نفسه، فإذا رضي تكون الحياة الطيَّبة، يكفي أنه يصلي لله خمس صلوات في اليوم، يكفي أنه قد توافق مع فطرته وتصالح معها، فلا يغش الناس، ولا يخونهم، ولا يُعاديهم، ولا يحمل في قلبه غلاً وحقداً للمؤمنين، يكفي هذه الأمور لُتحييه حياة طيبة.
بالمقابل:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124)
[ سورة طه ]

ولم يقل: حياة ضنكاً، يعيش لكنه لا يحيا، هناك حياة وهناك معيشة.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
[ سورة الأنفال ]

أمَّا (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) يعيش لكن ليس هناك حياة في القلب، يعيش ويأكل ويشرب لكن لا حياة في القلب.

مجازاة الله عز وجل كل إنسان بأحسن عمل عنده:
تتمة الآية قال:

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
[ سورة النحل ]

انظروا إلى هذا المعنى الجميل، تخيل أنك في الجامعة، نظام الجامعة كما يلي: لديك عشر مواد يجب تقديمهم آخر السنة، عشر مواد، والمادة التي تحصل بها أعلى علامة يحددون لك المعدل بها، لا يجمعونهم ولا يقسمونهم على عشر، العلامة من مئة وأنت حصلت على 70، 60، 50، 40، 30، 90، 95، 98، سيقول لك: معدلك هو 98، هل هنالك جامعة تفعل ذلك؟ مستحيل.
ربنا عز وجل هكذا يحاسبنا.

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
[ سورة النحل ]

يُجازيك الله بأحسن عمل عندك، ويختار لك أحسن أعمالك التي فيها أعظم إخلاص، وأعظم صواب، وأكثر دفع، ويقول لك: هذا السقف لديك، هذا هو الحساب.

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
[ سورة النحل ]

أي لا يوجد خسارة مع ربنا عز وجل، رابح مع ربنا، مع البشر تخسر وتربح، مع ربنا الربح أكيد، لأن أجرك بأحسن ما كانوا يعملون.

نتائج العمل الصالح:
ثم يقول تعالى:

وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
[ سورة مريم ]

الباقيات الصالحات هنا بأرجح الأقوال وأعمّ الأقوال هي العمل الصالح الذي يبقى، لماذا سمَّاها الباقيات الصالحات؟ لأنها أعمال باقية، تبقى، أما إذا عَملتَ عملاً للدنيا فإنه ينتهي بالموت، أما العمل للآخرة فيبقى بعده، فهو باقياتٌ صالحات.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
[ سورة العنكبوت ]

أي العمل الصالح يُكفِّر السيئات.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا (96)
[ سورة مريم ]

ودَّاً فيما بينهم وودَّاً بينهم وبينه جلَّ جلاله، فَلَكَ ودٌّ مع الله وودٌّ مع أخوانك في الله. هذه نتائج العمل الصالح.

العمل الصالح طريق الإنسان للقاء الله عز وجل:

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
[ سورة الكهف ]

كيف (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ)؟ في الخدمة الإلزامية العسكرية يوجد جندي غرّ، جديد في أول يوم ولا يحمل شهادات أبداً، يسمونه جندياً، دخل على الفرقة يوجد قائد للفرقة رتبته: لواء، هل من الممكن أن يحلم هذا الجندي الغر أن يقابل اللواء؟ لا يسمحون له بالاقتراب من الغرف المتعلقة باللواء، أين هذا من ذاك؟ إذا سنحت له الفرصة لمقابلة المساعد الأول فهذا جيد - رتب عسكرية - لأنه يوجد بينهم عشرون رتبة تقريباً ليصل إليه، فاللقاء معه صعب.
العمل الصالح هو الذي يبقى
لكن سأروي لكم قصة ليس فقط يقابله وإنما يستضيفه في مكتبه، ويقدّم له الشاي بنفسه، هذا الجندي الغرّ كان في الطريق، سيارة مسرعة كادت تضرب ابن هذا اللواء وهو انقضَّ على الابن وحماه بنفسه، وتلقى الضربة هو وحمى ابنه، سألهم: من هذا؟ قالوا له: هو فلان الفلاني وهو جندي هنا بالقطعة، في اليوم التالي يتصل ويقول: أرسلوه لي، يدخله إلى المكتب، ويقول: تفضل يا ابني ارتح، هل ينقصك شيء؟ ويعطيه إجازة مدة شهر، ويقدم له الشاي، لأنه عمل عملاً صالحاً (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا).
أنت تريد أن تلتقي مع ربنا سنقول: من أنت ومن أنا لنلتقي مع الله؟ لنقف بين يدي الإله العظيم؟ قدِّم له عملاً صالحاً، اخدم عباده، يقول لك: تعال سأواجهك، نلتقي سوية (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ) حتى في الدنيا يا أحباب، وليس في يوم القيامة، كيف يكون لقاء الله في الدنيا؟ تقف في الليل وتصلي، هذا لقاء الله، وقد قدَّمتَ عملاً صالحاً في النهار، ودفعت صدقة لله، فترجو بها لقاء الله.
لذلك عندما قال: يا سعد لا صدقة ولا جهاد فبم تلقى الله؟ كيف ستلقى الله عز وجل إذا لم تُقدِّم شيئاً؟ ماذا ستقول له؟ لذلك: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) بل إنك حتى تنجو من الخسارة المحققة قال تعالى:

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
[ سورة العصر ]

فلا يمكن أن تنجو من الخسارة التي تحصل بمضي الزمن إلا إن كان لك عملٌ صالحٌ وينفعك بعد مضي زمن، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.

أمران ضروريان في العمل الصالح:
أحبابنا الكرام، شيئان أخيران في العمل الصالح.
الأمر الأول: المسارعة، الوقت ليس في صالحنا:

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
[ سورة آل عمران ]

سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
[ سورة الحديد ]

سارع وسابق لأن الوقت ليس في صالحنا، الموت يأتي فجأةً، فالإنسان يُسارع إلى عملٍ صالحٍ يلقى به الله عز وجل.
والأمر الثاني أنك إذا عَملتَ عملاً صالحاً كن على رجاءٍ من قبوله وخوفٍ من عدم قبوله، كيف ذلك؟
أنت ترجو إن شاء الله أن يقبله، لكن ماذا قال تعالى:

وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
[ سورة المؤمنون ]

الخوف من دواعي قبول العمل
(يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أي يخاف ألا يُتقبَّل عمله، هذا من دواعي قبول العمل، أما الانسان الواثق من عمله دائماً مطمئن، يُخشى عليه من الرِّياء، ينظر دائماً إلى عمله على أنه دون المطلوب، دائماً ينظر إلى عمله على أنه يخشى ألا يُقبَل منه، لكن يرجو أن يُقبَل منه، بين الرجاء والخوف، هذه الآية لما قرأتها السيدة عائشة رضي الله عنها: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ):

{ قالت: يا رسول الله أَهُمُ الناس الذين يزنون ويسرقون ويخافون؟ يؤتون ما آتوا من الحرام وقلوبهم وَجِلَة؟ قال لا يا بنت الصِّديق، هؤلاء يتصدَّقون ويخشون ألا يُقبَل منهم }

[ صحيح الترمذي ]

بالعكس أعمالهم صالحة، لكن الخوف لأنه ينظر إلى عظمة الله، فما الذي قدَّمتُه أمام عظمة الله؟ أمام نِعَم الله عليّ؟ فيجد أن ما قدَّمه قليل ولا يستكثره، هذا أيضاً مهم جداً في العمل الصالح.
نسأل الله عز وجل أن يبارك لكم في الأعمال الصالحة، وينفعنا بما سمعنا.
والحمد لله رب العالمين