لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون - اللقاء الثاني

  • محاضرة في الأردن
  • 2021-08-16
  • عمان
  • الأردن

لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون - اللقاء الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وعملاً متقبلاً يا رب العالمين.


لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كلمة فيها سعادة واطمئنان:
وبعد؛ أيها الكرام؛ كنا بدأنا اللقاء الماضي الحديث عن أحد عشر صنفاً وصفهم الله تعالى في قرآنه بأنهم " لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ".
أنت من خوف المرض في مرض
وذكرنا أن الإنسان إما أن يخاف من شيء سيأتي، أو أن يحزن على شيء مضى، فإذا لم يحزن على ما مضى، ولم يخف مما سيأتي فقد استجمع السعادة من أبوابها، الضيق، والقلق، والاكتئاب، والسوداوية ناتجة عن إنسان حزين على شيء فاته، أو خائف من شيء سيأتي، وقالوا: أنت من خوف المرض في مرض، فالذي يخاف من المرض مريض لأنه يعيش خوفاً من المرض فهو مريض، وقالوا: وأنت من خوف الفقر في فقر، أي الخائف من الفقر فقير، لأنه كل يوم يقول لك: ربما يأتي الفقر، تخيل إنساناً حكم عليه بالإعدام نسأل الله السلامة، وأودع في السجن، ولا يعلم متى تنفيذ الحكم، كلما وضعوا المفتاح بباب السجن وفتح يهبط قلبه، يقول: جاؤوا ليأخذوني للإعدام، يعيش ويموت مئة موتة ولمّا يعدم، لأن توقع المصيبة مصيبة أكبر منها.
فالإنسان عندما يكون مطمئناً إلى ما مضى، بمعنى ما وقع وقع بقدر الله، فلا يحزن عليه، أصابه عسر، أصابه مرض، أصابه همّ، هذا مضى، أصبح خلفه لا يحزن عليه، وهو لا يخاف مما هو آت، لأنه:

قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
[ سورة التوبة]

ولم يقل علينا، فكل ما سيأتي سواءً كان في منظورك خيراً أو شراً فهو في حقيقته عند الله موظف من أجل الخير لك، علمت أم لم تعلم، فهمت حكمة الله أم لم تفهم ، لكن ربنا عز وجل يقدره لك وليس عليك، ربما يقربك إليه بمرض، ربما يكفر عنك ذنوباً بسلب بعض المال، ربما، ربما، إلى آخره، وربنا عز وجل حكيم، وحكمته لا يمكن أن نفهمها إلا أن يكون لنا علم كعلمه، وهذا مستحيل، فلن تفهم حكمته إلا يوم تجلى الحقائق، فيقول الخلق جميعاً:

وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
[ سورة غافر]

يدركون كل شيء، كان بعض السلف يقول: والله لو كُشف الغطاء لاخترتم الواقع، لو كشف ربنا لك الغطاء، وأراك المستقبل فإنك ستختار ما أنت فيه، ولو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً أي هو موقن بعدل الله، وبحكمة الله، من غير أن يدرك، ولو أدرك يبقى على اليقين نفسه، يقينه لا يتغير.
إذاً لا خوف عليهم من المستقبل، ولا يحزنون على ما فاتهم من الدنيا، فكلمة: "لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" فيها السعادة، والرضا، والاطمئنان.

الابتعاد عن المن والأذى:
ذكرنا بعض الآيات، الصنف الأول الذي ذكرناه هو من يتبع هدى الله، قال تعالى:

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
[ سورة البقرة]

والصنف الثاني الذي تكلمنا عليه:

بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
[ سورة البقرة]

خضع واستسلم لمنهج الله، وأحسن إلى خلقه (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
الصنف الثالث والرابع؛ تكلمنا عن الإنفاق:

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
[ سورة البقرة]

الله تعالى هو المنان فقط
ينفق ماله في سبيل الله، لا في سبيل الدنيا، ولا في سبيل الرفعة، ولا في سبيل أن يتكلم أنه منفق، أو محسن، بل في سبيل الله (ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى) مناً يمن عليه، يقول له: أنا الذي ربيتك، أنا لحم أكتافك من خيري! أنت أين كنت؟ أنا الذي أعطيتك، يمن عليه والعياذ بالله، والله تعالى هو المنان فقط، أما العباد فلا يمنون بشيء لأنه في الأصل عندما أعطاه لم يعطه من ماله، وإنما أعطاه من مال الله، فحقيقة المن لله تعالى ولرسوله.
وهذا ما قاله الأنصار، يوم أعطى النبي صلى الله عليه وسلم بعض المهاجرين من الغنائم، ولم يعطِ الأنصار، أعطى المؤلفة قلوبهم، الذين أسلموا حديثاً، أعطاهم من الغنائم وهم فقراء ومحتاجون، ولم يعطِ الأنصار، فوجد الأنصار عليه في أنفسهم، أي انزعجوا لماذا لم يعطنا رسول الله؟! وأقول: هم لم ينزعجوا لأنهم لم يأخذوا مالاً بل لأنه لم ينتبه لهم رسول الله، لأن المعنى المعنوي أهم من المادي، فوجدوا في أنفسهم شيئاً فذهب إلى رسول الله زعيمهم سعد، قال:

{ عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى قال قائلهم : لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله ما أنا إلا امرؤ من قومي، وما أنا من ذلك. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، قال: فجاء رجل من المهاجرين فتركهم، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، قال: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل ثم قال: يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم؟ وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف بين قلوبكم؟ قالوا: بل الله ورسوله أمن وأفضل، قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المن والفضل؟ قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدقتم ولصُدقتم، أتيتنا مكذَّباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك. أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده إنه لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً }

[أخرجه الإمام أحمد]

(يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم) أي عندهم مشكلة، قال: (فأين أنت من ذلك يا سعد؟) أنت من؟ أنت معهم أم جئت ناقل خبر أم تتبنى فكرة؟ أين أنت منهم؟ صدق سيدنا سعد (قال: يا رسول الله ما أنا إلا امرؤ من قومي) أنا معهم، أنا أيضاً وجدت في نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاجمع لي قومك) فجمعهم، فقام فيهم خطيباً صلى الله عليه وسلم، وهنا تظهر حكمته العظيمة، وقيادته الحكيمة، قال: (يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي؟) ما قال: فهديتكم
(أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدقتم ولصُدقتم) كلامكم صحيح أنتم أصحاب فضل، يذكرهم بفضلهم عليه، من يملك من القادة أن يذكر الرعية بفضلهم عليه؟
قال: (أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدقتم ولصُدقتم) ثم قال: (يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده إنه لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً) لا نريد شيئاً غير رسول الله، هذه قيادته صلى الله عليه وسلم.
فالشاهد قولهم: (ولله ولرسوله المن) لأن العطاء ليس من العبد، عندما يعطي يعطي من مال الله، فعندما يمن، إنما يعتقد أن المال الذي أعطاه هو ماله، فالمنان هو الله.
(ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى) المن؛ أن تمنّ عليه، تقول له: أعطيتك، الأذى؛ أن تقول لإنسان آخر لا يحب أن يصل إليه أنك أعطيته، تقول له: أنا أعطيت فلاناً، شريك وشريكه، افتقر أحدهم، فأعطيته، رأيت شريكه، فسألته: كيف فلان؟ خيراً إن شاء الله؟ والله كان وضعه صعباً جداً، أنا أعطيته، هو لا يريد أن يصل الكلام إلى شريكه، هو لا يريد أن يعلم شريكه، آذاه بذلك، ما منّ عليه مباشرة، لكن آذاه عندما أخبر الناس بعطائه، وكان بعض السلف إذا أعطى يقول لابنه: إذا أعطيت إنساناً عطاء، ثم وجدت أن سلامك عليه يثقل عليه، فكف عنه سلامك، إذا سلمت عليه كل يوم صباحاً، تمر السلام عليكم يا أبا فلان، يتذكر عطاءك، لا تسلم عليه، غيِّر طريقك، لا تنتبه له، حتى لا تحرجه كلما رأيته.
فقال: (ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

إنفاق المال سراً وعلانية:
الآية التي بعدها أيضاً متعلقة بالإنفاق:

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
[ سورة البقرة ]

لا يجوز أن تعطي مالاً للفقير أمام الناس
أي في كل حال (سِرّاً وَعَلَانِيَةً)، قلنا: ينفق المال سراً عندما يعطى لفقير بعينه، فلا يجوز أن تعطي مالاً للفقير أمام الناس، واليوم يعطيه أمام الناس ويقول للمصور: صور وأنا أسلمه، حتى يضعها على الفيس بوك، وهذا لا يجوز بحال، الناس لا يريدون المال يريدون كرامة الوجه.

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم لا تسعون الناس بأموالكم وليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق }

[أخرجه الحاكم]

(بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً) لكن عندما يكون المشروع خيرياً عاماً ليس لفقير، وهناك تنافس به نعلن الصدقات.

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
[ سورة البقرة]

لا مانع من العلانية بشرط ألا يكون هناك فقير يحرج.

أصناف من البشر لا خوف عليهم ولا هم يحزنون:
1 ـ من آمن وعمل صالحاً وأقام الصلاة وآتى الزكاة:
هذه الآيات الأربعة التي تحدثنا عنها، الآن:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
[ سورة البقرة]

الزكاة علاقة أفقية مع الخلق بالإحسان
قلنا: الإيمان هو المنطلق الفكري العقدي النظري، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) لأن الإسلام لا يقبل أن يكون هناك إيمان دون توجه، دون تطبيق، (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، وقلنا: العمل قيد بالصالحات، والصالحات ما كان صالحاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله وصواباً ما وافق السنة، وإقامة الصلاة تعبير عمودي عن العلاقة مع الله، وإيتاء الزكاة علاقة أفقية مع الخلق بالإحسان، لذلك: (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ) المفهوم العام للصلاة الصلة بالله، المفهوم العام لإيتاء الزكاة الإحسان إلى الخلق.

فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
[ سورة الكوثر]

النحر من أجل أن تطعم الناس (فَصَلِّ) علاقتك بالله (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ)، هذه الأصناف الخمس الأولى.

2 ـ من قاتل في سبيل الله:
الصنف السادس:

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
[ سورة آل عمران]

إخواننا الكرام؛ الإنسان الذي يُقتل في سبيل الله، سواء في أرض المعركة شهيداً، أو يُقتل في سبيل الله مدافعاً عن ماله، أو عن عرضه.

{ عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: ومَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فهو شهيد }

[أخرجه زيادات رزين]

أو يقتل في سبيل الله، وهو يحرس في سبيل الله.

{ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: عينان لا تمسهُما النار؛ عَين بَكَتْ من خشية الله، وعَيْن باتت تحرُس في سبيل الله }

[أخرجه الترمذي]

مفهوم قتلوا في سبيل الله أوسع من أرض المعركة، سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه خاض المعارك كلها، قال: ما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة برمح، أو طعنة بسيف، أو رمية بسهم، وهأنذا أموت على فراشي كما تموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، فهل خالد بن الوليد لم يقتل في سبيل الله؟ بل مات في سبيل الله، لكن لم يهيأ له في أرض المعركة، المعركة هذه ربما ربنا عز وجل يسخرنا يوماً لنكون جنوداً في أرض المعركة دفاعاً عن الإسلام، وهذا شرف عظيم لكن هذا حالياً غير موجود، ما الموجود؟ الموجود أن تعيش في سبيل الله حتى إذا وافتك المنية تموت في سبيله، هذا المتاح، والمتاح رائع جداً، الذي يعيش في سبيل الله ليس بأقل أجراً من الذي يموت في سبيل الله، يعيش في سبيل الله، يعطي لله، يمنع لله، يبتسم لله، يغضب لله.

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
[ سورة الأنعام]

كلنا يمكن أن نعيش في سبيل الله
أي حياته لله، هذه حياة في سبيل الله، لعله إن مات يوماً على فراشه يكتب من الذي ماتوا في سبيل الله، بعد أن قضوا حياتهم في سبيل الله، نسأل الله ذلك، فالآن كلنا يمكن أن نعيش في سبيل الله، التاجر يعيش في سبيل الله، والصانع يعيش في سبيل الله، والمحامي يعيش في سبيل الله، والمعلم يعيش في سبيل الله، والمرأة تعيش في سبيل الله.
هذه المرأة الغميصاء بنت ملحان، أم سيدنا أنس بن مالك، جاءت بأنس قالت: لم يبقَ أحد من الأنصار إلا قدم لك تحفة؛ هدية أتحفك بها، وأنا ما عندي شيء، هذا أنس فخذه فليخدمك ما بدا لك، قدمت أنساً في سبيل الله، اليوم نقول كلنا: أنس بن مالك رضي الله عنه، سيدنا أنس بن مالك، هو كان خادم رسول الله، شرفه الله إلى يوم القيامة بخدمة رسول الله، أمه وهبته لله، السيدة مريم قالت:

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
[ سورة آل عمران]

إنسان يدرس ابنه، يعلمه، ويصبح هذا الابن صاحب مكانة بالمجتمع، ويربيه على الخلق، ويصبح في سبيل الله، يقضي حاجات الناس، طبيب عالج بعض الفقراء، رحم المرضى، هذا قدم ابنه في سبيل الله، كل إنسان لديه ما يقدمه في سبيل الله، صحته، حياته، ماله، هذا إن مات لأنه عاش في سبيل الله لعله يدخل فيمن مات في سبيل الله، فهؤلاء: (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

3 ـ من آمن وأصلح:
الصنف السابع:

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
[ سورة الأنعام ]

هنا شرطان؛ آمن وأصلح، الإيمان أحبابنا الكرام إما أنه مشتق من التصديق، آمن يؤمن، من معنى التصديق والإقرار، أقرّ بوجود الله، بوحدانية الله، بكمال الله، آمن بالله، هناك من لا يؤمن بالله عز وجل، يكفر بالله، أو مشتق من الأمن، قال تعالى:

وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
[ سورة الأنعام ]

انظروا أحبابنا الكرام؛ لو قال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ) الأمن لهم، أي لهم ولغيرهم، أي ليس الأمن مقصوراً عليهم، يمكن أن تجد إنساناً متمتعاً بالأمن آمن، وليس مؤمناً، عندما قال:(أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) قدم الجار والمجرور على المبتدأ هذا باللغة العربية أفاد الحصر، أي: (أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) وحدهم تفهم من السياق، مثل قوله تعالى:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
[ سورة الفاتحة ]

لو قال: نعبدك، لاحتملت أن نعبد غيرك، لكن (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لا نعبد إلا الله، لا إله إلا الله.
(أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) أي الأمن لهم وحدهم، بنص القرآن يستحيل أن تجد إنساناً مهما بدا لك آمناً، لا يمكن أن يكون آمناً وهو لم يؤمن بالله، تقول لي: والله رأيته مسروراً جداً، وجالس بقصره، الأمن؛ أمن الإيمان، الأمن ينبع من الداخل، الأمن وجده إبراهيم وهو في النار، وجده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو في الغار:

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال أبو بكر: نظرتُ إِلى أقدام المشركين ونحن في الغار على رؤوسنا. فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إِلى قَدَمْيه أبْصَرَنَا تحت قدميه. فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ }

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي]

إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
[ سورة التوبة]

يونس وجده في بطن الحوت:

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
[ سورة الأنبياء]

الأمن أن تكون مع الله
فالأمن أن تكون مع الله، أما إذا وجدت إنساناً تظن أنه آمن فهذا ظنك، برؤية الشبكية، أما عندما يأوي إلى فراشه، أو عندما يجلس مع نفسه لن يكون هناك أمن حقيقي، الأمن للتوحيد وللإيمان، فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) ما معنى (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)؟ أي لم يخالطوا إيمانهم بشرك، انظروا إلى الصحابة الكرام لما قرئت الآية عليهم خافوا، الصحابة كانوا يتدبرون القرآن، يعيشونه، فلما قرؤوا (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) لو أن شخصاً أطلق بصره بالحرام فهذا ظلم، وإذا تكلم كلمة فيها غيبة فهذا ظلم، وإذا أساء لإنسان فهذا ظلم، ظلم نفسه وظلم الآخرين، فلما قال: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) خاف الصحابة، قالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ كلنا نقع في الظلم، الإنسان ينزل إلى العمل، يخطئ، قد يظلم نفسه ويظلم الآخرين، فقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك، فهمتم الآية خطأ، ليس ذاك، قال: إن الظلم هو الشرك، ألم تسمعوا لقمان وهو يقول لابنه:

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
[ سورة لقمان ]

عندما تكون مؤمناً وموحداً تتمتع بالأمن ولو كان عندك بعض الأخطاء والمعاصي، لكن لمجرد أنك مؤمن ومتوجه لله وحده لا تشرك به شيئاً، فهذا مدعاة للأمن.

الفرق بين الأمن والسلامة:
ما الأمن؟ هناك أمن، وهناك سلامة، ما الفرق بين الأمن والسلامة؟ السلامة، أنت قضيت يومك من الصباح للمساء الحمد لله الصحة جيدة، لم تعمل حادثاً بالسيارة، أولادك بخير مساء، زوجتك بخير، فأنت في سلامة، لكن لا يشترط أن تكون في أمن، الأمن ألا تتوقع شيئاً يضرك في المستقبل، السلامة ألا يقع ما يضرك في الحال أو في الماضي، أما الأمن فأن تكون آمناً في المستقبل، ما الذي يوجد في المستقبل؟ هناك الموت، لقاء الله، مرحباً بلقاء الله، حبيب وفد على شوق.

{ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أحبَّ لقاءَ الله أحبَّ الله لقاءه، ومن كَرِهَ لقاءَ الله كَرِهَ الله لِقاءه }

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ]

ماذا ينتظرك؟ قبر؟ هو حفرة أمام الناس مظلمة، لكن هو بالنسبة له روضة من رياض الجنة، وقوف بين يدي الله، الوقوف بين يدي الله متعة لأنه قدم أمامه عملاً صالحاً فسرّه اللحاق به، قد يصيبني مرض فهو كفارة للسيئات، ورفع للدرجات، فالأمن ألا تتوقع المصيبة، بينما السلامة؛ ألا تقع في المصيبة.
فلذلك: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) لأنهم لا يتوقعون من الله إلا كل خير، سواء بدا لهم خيراً، أم بدا لهم شراً، المستقبل واضح عنده، إذا لقي الله فأمامه شيء قدمه لله، أما البعيد عن الله فماذا سيلقى؟ يلقى انحرافه، وبعده عن الله، وظلمه للناس والعياذ بالله، فالمستقبل أمامه قاتم مظلم، فلا يأمن: (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أصلح؛ قالوا: آمن وأصلح أي وعمل صالحاً.

العدل أساس الأمن وأساس الإصلاح:
أصلح؛ مصدرها الإصلاح، والإصلاح ضد الإفساد، عندنا إصلاح، وعندنا إفساد، الإصلاح؛ يوجد إصلاح فردي وإصلاح مجتمعي، ولن يصلح المجتمع إن لم يصلح الفرد، الإصلاح الفردي أن تصلح نفسك، بمعنى أن تحسن صلتها بخالقها، لأنه لا يمكن أن تصلح النفس إلا بحسن الصلة بالله، الإصلاح المجتمعي يحصل بالعدل فقط.
لما جاء صاحب كسرى إلى المدينة:
وَراعَ صاحِبَ كِسرى أَن رَأى عُمَراً بَينَ الرَعِيَّةِ عُطلاً وَهوَ راعيها
{ حافظ ابراهيم }
وجده في المسجد مستلقياً، ففهم المعادلة، قال: عدلت، فأمنت، فنمت ، أمن عندما عدل، ونام عندما أمن، أمن على نفسه.
العدل أساس الأمن المجتمعي
فالعدل أساس الأمن المجتمعي، وأساس الإصلاح المجتمعي، عندما يكون هناك عدل، قد تقول: المجتمع الكبير لا نملكه، نعم، لكنك تملك مجتمعك الصغير في البيت، عندما يسود العدل يوجد أمن وطمأنينة في البيت، الأب عندما يعطي ابناً ويمنع آخر من العطاء، يصبح هناك غيرة بالبيت، يصير هناك مشكلة، إذا تزوج زوجتين، الغيرة لا تنتهي بين النساء، لكن إذا كان هناك عدل لا يكون هناك مشكلة كبيرة، هدوء، إذا كان يقضي ليلتين عند واحدة، وليلة عند الأخرى صار هناك مشكلة، إذا كان هناك هدايا قيّمة لواحدة والثانية لا، صار هناك مشكلة، إذا دخل بوجه بشوش عند هذه والثانية يدخل مقطب الجبين، صار هناك مشكلة، فالعدل أساس الأمن وأساس الإصلاح، عندما يكون هناك عدل يكون هناك أمن.
جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم النعمان بن بشير قال:

{ عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، يا رسول الله اشهد أني نحلت ابني هذا حديقة، قال: يا بشير، أَلَكَ وَلَد سِوَى هذا؟ قال: نعم، قال: أكلَّهُمْ وهبت له مثل هذا؟ قال: لا، قال: فلا تُشْهِدْني إِذَنْ، فإِني لا أشهد على جَور }

[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومالك ]

أنا لا أشهد على ظلم، أعطيت ولداً ولم تعط الباقين، فلما أعطيته أوغرت صدور إخوته عليه، هذه فطرة الناس، لا تستطيع أن تتجاهل، تقول: والله أولادي يحبون بعضهم لا يهمهم، لا، أبداً، عندما أعطيت هذا أعطِ هذا، طبعاً انظروا أحبابنا الكرام، عندنا عدل وعندنا مساواة، يجب أن نميز بينهما، العدل شيء والمساواة شيء آخر، نحن مطلوب منا العدل وليس المساواة، تقول لي: أنا عندي ابن بالجامعة، وابن في الصف الأول الابتدائي، في الصباح أعطيت طالب الجامعة مئة دينار، هل يجب أن أعطي طالب الصف الأول مئة دينار أيضاً؟ لا، هذا ليس عدلاً، هذا يكفيه دينار، وهذا يحتاج إلى مئة، هذه حاجات، ليس لها علاقة، هذا عدل، لأنك أعطيت لكل ذي حق حقه، هذا الكبير يأخذ المئة، أما إذا أعطيت الصغير مئة الآن تخربه، فالمساواة ليست دائماً مطلوبة، مطلوب العدل، أما عندما تعطي عطية مطلقة، هبة، من غير سبب طبعاً عندك مثلاً لا سمح الله مريض، ولد مريض، تنفق عليه بالآلاف، الثاني صحيح معافى لا يحتاج، لكن عندما تعطي عطية مطلقة، هكذا أريد أن أهب أولادي، فأنا أحب هذا أعطيته هنا المشكلة، هنا ينبغي أن تعطي الجميع بالتساوي حتى يحصل العدل، قال: (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

4 ـ من اتقى الله وابتعد عن المعصية:
الآن:

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
[ سورة الأعراف]

التقوى هي الخوف من الجليل
عندنا (آمَنَ وَأَصْلَحَ) وعندنا (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ) اتقى؛ مادتها وقى، سئل أبو هريرة رضي الله عنه ما التقوى؟ قال: هل سلكت يوماً طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: ماذا صنعت؟ قال: كنت إذا وجدته ابتعدت عنه أو جاوزته، أي أبتعد حتى لا يصيبني الشوك أو أتجاوزه، قال: فذاك هو التقوى، المعنى اللغوي أنك أنت إذا رأيت معصية تبتعد عنها أو تجتازها، تجاوزها، لا تقف عند المعصية تكن في تقوى الله، فالتقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد للموت قبل الرحيل، والتقوى؛ أن يطاع الله فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، تطيعه فلا تعصيه، وإن عصيته بادرت إلى التوبة، وتذكره فلا تنساه، وليس الذكر هنا باللسان فقط، لكن في تجارتك، جاءك مبلغ مالي محرم فرفضته أنت ذاكر لله، لو ما ذكرت الله كنت أخذته، هذا ذكر، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، تشكره على نعمائه، والله تعالى سمى عدم الشكر كفراً، قال:

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
[ سورة الزمر]

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
[ سورة إبراهيم]

(وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) الشكر مقابله الكفر، الشكر نعمة، ليس الكفر الأكبر الخروج من الملة، لكن الكفر بالنعمة، أي ألا يشكر الله على نعمه، (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

5 ـ من جعل الله وليه:
الآية التاسعة:

أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
[ سورة يونس]

الولي هو من تجده عند أمر الله ونهيه
(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ) أولياء الله؛ جمع ولي الله، نحن تعارفنا، أو أصبح في أعماقنا أن الولي لله هو صاحب كرامة، أو خرق للعادة، أو يجلس في المسجد لحيته طويلة غير مشذبة، ويلبس عمامة خضراء، درويش، ربما ثيابه متسخة، أو جالس أمام قبر من قبور الصالحين، يترك العمل، يقال: والله هذا ولي من أولياء الله، لا، ليس بالضرورة، قد تجد إنساناً متأنقاً، يضع ربطة عنق، ويركب سيارته، بيته مرتب، وأهله مرتبون، وزوجته، وأولاده، وهو ولي من أولياء الله تعالى، فالولاية ليس لها علاقة بالمكان الذي تجلس به، ولا باللباس الذي تلبسه، ولا بخفض الرأس، ولا بمسك السبحة، وإن كنت قد تجد إنساناً متواضعاً، ويمسك السبحة وهو من أولياء الله، لا ننكر، لكن هذا ليس له علاقة بهذا، الربط غير صحيح، انظروا الآية: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) من أولياء الله؟ قالوا للشافعي: الولي الذي يطير في الهواء أم الذي يمشي على سطح الماء؟ قال: لا هذا ولا ذاك، الولي كل الولي من تجده عند أمر الله ونهيه، الذي يقف عند أمر الله، ويقول لك: يجوز ولا يجوز، هذا ولي الله، هذا يوالي الله، إذا طار بالهواء ما أضاف شيئاً، وإذا مشى على سطح الماء لا يوجد شيء.
فالآية الكريمة: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) من أولياء الله؟ قال:

الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
[ سورة يونس ]

التقوى عمل مستمر
انظر (آمَنُوا) جاء فيها بالفعل الماضي (آمَنُوا) لأنها حقائق استقرت في الذهن، عقائد، (وَكَانُوا يَتَّقُونَ) لأن التقوى عمل مستمر يومي، بكل لحظة من لحظاتك تتقي الله عز وجل، تمشي في الطريق عرضت لك امرأة ذات منصب وجمال فقلت: إني أخاف الله رب العالمين، تدخل إلى متجرك، جاءك مبلغ ربوي، أو مبلغ من رشوة، أو مبلغ من حرام، أو صفقة فيها محرمات تقول: إني أخاف الله رب العالمين، لا تقبل، تتقي الله عز وجل، رجعت إلى بيتك، مع أولادك، مع زوجتك تتقي الله أن تظلمها، ذهبت إلى المسجد يوجد تقوى الله، في السوق هناك تقوى الله، اشتريت، لا تغش الناس، ولا تماطلهم، ولا تقلل من شأنهم، إلى آخره، التقوى عمل مستمر، فقال: (وَكَانُوا يَتَّقُونَ) الفعل مضارع، المضارع مستمر، أصلاً باللغة الانكليزية يقولون: فعل مستمر، الحاضر المستمر، بالعربية المضارع هو المستمر، عندما تقول: يكتب عمر، أي إلى الآن وعمر يستمر بالكتابة، أما كتب، انتهى، فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا) معلوماتهم استقرت، إيمانهم بالله راسخ، لا يتغير، ولا يتبدل (وَكَانُوا يَتَّقُونَ) هؤلاء أولياء الله ولو كان بأي مظهر، وبأي مكان وفق الضوابط الشرعية طبعاً، أيضاً يوجد أناس يأخذون مذهباً متفلتاً، أي يرى شخصاً لباسه غير مناسب، وربما مختل توازنه من الشرب، يقول لك: ربما هذا من أولياء الله، معاذ الله، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، لو اتخذه لعلمه، الله لا يوجد عنده أولياء يشربون خمر، ولا أولياء يذهبون إلى الشواطئ الماجنة، أي لا نريد أن نتطرف، أولياء الله مؤمنون، متقون، ظاهرهم وسمتهم حسن، لكن ليس من الضروري أن يكون أولياء الله معتكفين في المساجد دائماً، ولا يخرجون للناس.
ابن عباس رضي الله عنهما كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظن في رمضان، في الاعتكاف في العشر الأخير، وهذه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل جلس وهو حزين، مكتئب، ابن عباس رضي الله عنهما يبحث عن العمل الصالح، يركض وراء العمل الصالح فقال: يا فلان! ما لي أراك مكتئباً؟! جالس وأنت مهموم، وفي المسجد في معتكفه، قال: والله ديون ركبتني، لا أطيق سدادها، عليّ ديون، وأطالَب بها، ولا أطيق سدادها، قال: لمن؟ الدين لمن؟ قال: لفلان، قال: أتحب أن أكلمه لك؟ ابن عباس يدخل واسطة، شفيعاً، إما أن يعفيك، أو يؤخر لك، حتى ترتاح أتحب أن أكلمه لك؟ قال: إن شئت، فخرج ابن عباس رضي الله عنهما من المسجد، فنادى عليه بعض الناس الجالسين: يا ابن عباس! أنسيت أنك معتكف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كيف تخرج من الاعتكاف؟ قال: لا والله ما نسيت، ولكنني سمعت صاحب هذا القبر - وأشار بيده إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعهد به قريب، وبكى، لم يمرَّ وقت طويل على وفاته صلى الله عليه وسلم - يقول: لأن أمشي مع أخي في حاجته خير لي من صيام شهر، واعتكافه في مسجد هذا.
هذا الفهم (وَكَانُوا يَتَّقُونَ) الحركة المستمرة في الحياة، المسجد من أجل أن تدخل إليه لتتلقى التعليمات، وتعود إليه لتقبض الجائزة وأنت تصلي بين يدي الله، أما التقوى ففي محراب الحياة، وليس في محراب المسجد، التقوى في محراب الحياة، وليست في محراب المسجد، تخالط، من خالط الناس وصبر على أذاهم خير ممن لم يخالطهم ولم يصبر على أذاهم، (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).

6 ـ من آمن بآيات الله:
الآية العاشرة:

يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
[ سورة الزخرف ]

هذه يوم القيامة (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) انتهى الخوف، وانتهى الحزن، ادخلوا الجنة، قال:

الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)
[ سورة الزخرف]

شبيهة بالآيات السابقة (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا) صدقوا بآياتنا، آيات الله أحبابنا الكرام ليست الآيات القرآنية فقط، هذه الشجرة آية من آيات الله، لأنك إن آمنت بها دلتك على خالقها، فهي آية من آيات الله، وعندما تجد في الأرض مظلوماً وقد نصره الله هذه آية من آيات الله، وعندما تجد طاغية أذله الله فهذه آية من آيات الله.

الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)
[ سورة الزخرف]

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
[ سورة الفيل]

آية من آيات الله.

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
[ سورة الأنعام]

الآيات؛ القرآن كلامه، وآيات الكون خلقه، وآيات الحوادث التي تجري في الكون أفعاله، ألم تسمع بإنسان فعل معروفاً فوفقه الله؟ أما سمعت عن إنسان أذل آخر فأذله الله؟ هذه آيات الله أيضاً.
فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ) مسلمين هنا بمعنى الإسلام الواسع، وهو منتهى الخضوع والاستسلام لمنهج الله.

7 ـ من اعترف بربوبية الله واستقام على أمره:
الآية الحادية عشرة والأخيرة:

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)
[ سورة الأحقاف ]

(قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) كما قلنا: هناك جانب نظري، وجانب عملي، آمنوا وعملوا، هنا: (قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ) أي اعترفوا بربوبيته، وألوهيته جلّ جلاله، هو رب يمدنا، وهو إلهنا الذي لا نعبد إلا إياه (قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ) هناك أناس قالوا: ربنا الدرهم والدينار، لأن الكلام ليس باللسان وإنما بالواقع:
إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا
{ الأخطل }
الكلام الأصل يكون في القلب
رأيت منظراً جميلاً، قلت: الكلمات لا تستطيع أن تعبر عنه، ورأيت من إنسان والعياذ بالله نسأل الله السلامة قذارة، وانحطاطاً، قلت: الكلمات لا تعبر عن قذارته، لأن الكلام الأصل هنا في القلب، واللسان جعله الله دليلاً على الفؤاد، فما كل ما تشعر به تستطيع أن تعبر عنه.
فعندما يقول: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ) فحالهم يقول: إن الله تعالى رب لهم فلا يدينون إلا له، ولا يتوجهون إلا إليه، ويخلصون الحب له، والخوف منه (قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ) أما لو قال إنسان بلسانه: ربنا الله، ثم في الصباح وقع صفقة مشبوهة، أو ذهب والعياذ بالله مع امرأة لا تحل له، طبعاً كل إنسان يقع بمعصية لكن ديدن حياته أن الشهوة هي حياته والعياذ بالله، هواه.

أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43)
[ سورة الفرقان]

هناك أناس إلههم هواهم، الشيء الذي يخطر في باله يفعله، حرام، حلال يفعله، فهو يتخذ (إِلَهَهُ هَوَاهُ) والهوى هوان:
إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد لقيت هوانا
{ ابن المقفع }
(قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ) هذا المنطلق العقدي، السلوك: (ثُمَّ اسْتَقَامُوا) استقاموا على المنهج، أي الطريق المستقيم هو أقصر خط بين نقطتين، ويوصلك بسلام إلى دار السلام ، فالاستقامة عين الكرامة، والاستقامة أن تتبع منهج الله تعالى في تفاصيل حياتك، مستقيم (قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) على منهجه، اتبعوا هداه، قال : (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
هذه إحدى عشرة آية ذكرت فيها أصناف من نماذج بشرية يكون نتيجتهم في الدنيا والآخرة (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
والحمد لله رب العالمين