مقومات التكليف - اللقاء الثاني

  • محاضرة في الأردن
  • 2021-12-06
  • عمان
  • الأردن

مقومات التكليف - اللقاء الثاني

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأُصَلِّي وأُسَلِّمُ على نبينِّا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم عَلِّمنا ما يَنفعُنا، وانفَعنا بما عَلَّمتَنا، وزِدنا عِلماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين، وبعد.


الإنسان هو المخلوق المكلف والمكرم:
الإنسان قبِل حمل الأمانة
أيها الأخوة الأحباب؛ في اللقاء الماضي تحدثنا عن مقومات التكليف، ملخص ما تحدثنا به أن الله تعالى عندما خلق الإنسان، الإنسان قبِل حمل الأمانة، أي هو المخلوق المكلف، وهو المخلوق المكرم عند الله، لما قبِل حمل الأمانة فإن الله تعالى أعطاه ما يعينه على أداء مهمته، الأمانة هي الاختيار، أن يدير نفسه، أن يتجه إلى الحق، وإن شاء إلى الباطل، بقية المخلوقات ليس عندها تكليف، الملائكة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
[ سورة التحريم]

الكائنات الأخرى غير مكلفة أصلاً، الجمادات غير مكلفة، فهي تمشي وفق غرائزها، والملائكة يمشون في طاعة الله عز وجل، الإنسان والجن هما المخلوقات المكلفة، لمّا قبِل الإنسان حمل الأمانة أعطاه الله ما يعينه على أداء المهمة، ومثلنا لذلك بأب طلب من أبنائه أن يقوم أحدهم بالسفر، وإحضار شهادة من بلد آخر، فأحد الأبناء قال: أنا لها، الأب عندها أعطاه راتباً شهرياً، وأعطاه مالاً، وأعطاه تذكرة سفر، وأعطاه ما يعينه على اللغة، وهكذا..

مقومات التكليف:
1 ـ الكون:
الإنسان قبِل حمل الأمانة فأعطي ما يعينه على أداء المهمة، أول ما أعطيه كما قلنا في اللقاء السابق هو الكون بكل ما فيه، أصبح الكون مسخراً له، أصبح الكون بكل ما فيه مسخراً له، لأنه قبِل حمل الأمانة، فسخر الله له كل ما في الكون لأجله:

وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
[ سورة الجاثية]

وهذا التسخير يقتضي منه أن يؤمن وأن يشكر، أن يؤمن إذ كل شيء في الوجود يدل على الله تعالى، فالأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، والماء يدل على الغدير، أفسماوات ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا يدلان على الحكيم الخبير؟ أي أعطاه هذا الكون وسخره له، الشمس، والقمر، والنجوم، كلها مسخرات بأمره، الليل، والنهار، والحيوانات، والنباتات، كل شيء سخره الله تعالى للإنسان، والمسخر له أعظم، وأكرم عند الله من كل المسخرات.

2 ـ العقل:
للعقل مبادئ ثلاث
بعد الكون أعطاه ملكة فكرية، يسمونها العقل، وهي عملية فكرية، إدراكية، تذكر، تفكر، محاكمة، سمّها ما شئت، من خلالها يستطيع الاستدلال، فيستطيع أن يستدل من خلال الأشياء التي يراها بعينه على الأشياء التي غابت عن عينه لكنها موجودة، فينظر في الكون فيقول: لا بد له من خالق، لا بد له من إله.
وتحدثنا أن العقل له مبادئ ثلاث؛ مبدأ السببية، كل شيء له سبب، وبالتالي الإنسان لم يفهم وجود هذا الكون بكل ما فيه من غير ألا يكون هناك مسبب، ومبدأ الغائية بمعنى أن كل شيء له غاية، أي له نتيجة، له هدف يصل إليه.

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
[ سورة المؤمنون]

كل شيء له سبب وغاية، وتحدثنا عن عدم التناقض، بمعنى أن العقل لا يستطيع أن يدرك أن شيئاً يمكن أن يكون مثلاً موجوداً، أو غير موجود في الوقت نفسه، هذا ملخص ما تحدثنا عنه.

3 ـ الفطرة:
كل مولود يولد على الفطرة
الآن المقوم الثالث الذي أعطاه الله للإنسان ليعينه على أداء مهمته هو الفطرة، الفطرة السليمة التي خلق الله الناس عليها، الفطرة، ما معنى الفطرة؟ الفطرة هي الدين، الفطرة تعني أن الناس جميعاً يوم خلقوا إن بقوا على فطرتهم فإنهم يحبون الصدق، لا يحبون أن يكذبوا، الناس جميعاً يحبون الإحسان لا يحبون الإساءة، الناس جميعاً يحبون إسعاد الآخرين لا يحبون الإساءة للآخرين، لو بقوا على فطرتهم من غير أن تتدخل بهم البيئة، أو التربية، أو العوامل المحيطة، أو البلاد، أو الشهوات، لو بقوا على أصل الخلق الفطرة:

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
[ سورة الروم ]

كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، أي يجعلانه يهودياً، أو نصرانياً، أو مجوسياً، لو تُرك على الفطرة لبقي مسلماً، ما قال أو يسلمانه، لو بقي على الفطرة لكان مسلماً، لأن الأديان كلها إسلام.

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
[ سورة آل عمران]

الشرائع ؛ شريعة نصرانية، شريعة يهودية، شريعة إسلامية، لكن الدين هو الإسلام، أي الخضوع للمنهج، الخضوع لله، معنى الإسلام؛ هو الاستسلام لمنهج الله عز وجل، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه.
قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) أي ليس في دين الله أمر إلا وأنت مفطور على محبته، أمرك بالصدق وأنت تحب الصدق، هذا في أصل الخلق، الناس تغيرت، العوامل دخلت فيها، هذا شيء آخر، لكن أنت في أصل الخلق فُطرت على أن تحب الصدق، فمتى صدقت تصالحت مع فطرتك، ومتى كذب الكاذب تناقض مع فطرته، وفي أول مرة بالكذب يعذب وينزعج ويتألم لأنه كذب، في البدايات لا بد من أن يتألم، لأنه تناقض مع فطرته التي فطره الله عليها.

الفطرة هي دين الله عز وجل الذي فطرنا عليه جميعاً:
الفطرة هي شرع الله عز وجل، الفطرة؛ هي دين الله عز وجل الذي فطرنا عليه جميعاً، لكن الإنسان عندما يقترف المعاصي، ويبالغ في اقترافها، ويستمرئها قد تشوه فطرته، وقد تطمس، تشوه بمعنى أنه لا يجد مشكلة كبيرة في أن يكذب، يتعود، يألف، المرة الأولى ينزعج، يذهب لينام يقول لك: ساعة وأنا أتقلب في الفراش لأنني اليوم كذبت على فلان من الناس، أبحث عن مخرج، الكذبة الثانية خمس وخمسون دقيقة ينام، الثالثة أربعون دقيقة، ثم مرة بعد مرة تطمس الفطرة، فينام ملء عيونه مهما فعل من المعاصي والآثام، هنا المصيبة، عندما تكون الفطرة في داخل الإنسان تتحرك فهذه علامة إيمان أي هو ما زال يألم لذنبه، ينزعج لذنبه.
مخالفة الفطرة عذاب
سأضرب مثالاً؛ المثال افتراضي: طفل نشأ في بيئة سمعتم بفتى الأدغال، هذا ماوكلي، هذا أول من كتب في الأدغال، وفتى الأدغال هو حيّ بن يقظان، ابن طفيل الأندلسي هو أول من كتب بهذه المسألة، فألّف رواية أو كتاباً اسمه: حيّ بن يقظان عن شاب، أو عن طفل ولد في الغابات، وتعرف على الوجود من خلال الكائنات والموجودات، الفكرة فكرة أندلسية إسلامية، نقلت إلى الغرب ماوكلي، على كلٍ حيّ بن يقظان أو ماوكلي إلى آخره، فتى الأدغال نشأ في الغابة، لا يعرف شيئاً، له أم ربته واعتنت به، ما تلقى أي ثقافة خارجية، أمه التي تعبت عليه، وربته حتى كبر وأصبح ذا شأن في يوم من الأيام جاعت فطلبت منه طعاماً، فذهب وأحضر الطعام وخبأه عن أمه وأكله وحده، ولم يطعم أمه، هذا الفتى فتى الأدغال سوف يعذب عذاباً شديداً من داخله، ما تلقى أي ثقافة، لا أحد قال له: إياك أن تكون عاقاً بأمك، لكن الفطرة التي فطره الله عليها ستعذبه لأنه خالفها، مخالفة الفطرة عذاب، ولو لم يتلقَ الإنسان أوامر خارجية.
فالفطرة مما وهبه الله تعالى للإنسان من أجل أن تقوم بها الحياة، الإيمان الفطري، أعظم أنواع الإيمان أيها الأخوة الأحباب هو الإيمان الفطري، كان سيدنا عمر يقول: اللهم ارزقنا إيماناً كإيمان العجائز، إيمان فطري.
منذ يومين جاءني مقطع أظن أنكم رأيتموه، المقطع بمصر صوّر امرأة في الستين من العمر، متعبة، عملها أنها تجمع البلاستيك، وبعض الحاجات من الشوارع وتبيعها، وتسترزق بها، والمقطع عفوي جداً، واضح أنه عفوي، فالشاب الذي أجرى اللقاء معها، قال لها: أريد أن أسألك سؤالاً؟ قالت: تفضل؟ أول شيء قالت له: أنا لا علاقة لي بالأسئلة، أنا امرأة جاهلة لن أستطيع أن أجيبك، قال لها: سؤال بسيط، قالت له: تفضل، قال لها: أشهد أن لا إله إلا الله، قالت له: وأن محمداً رسول الله، قال لها: هذا هو الجواب، نجحت وربحت وكسبت معنا، وأخرج ثلاثة آلاف جنيهاً هدية لها، الآن هذه المرأة - والله أنا الآن أرسل لكم المقطع إن شاء الله - أنا رأيت المقطع بكيت والله ما وجدت إيماناً فطرياً بهذا المستوى، المرأة قالت له: والله أنا لا أريد هذا المال، باللهجة المصرية، أنا أريد الآخرة، لا أريد الدنيا، ما لي ولهذا المال؟ أنا أملي بالآخرة، لمّا أصر عليها تقول له: أنا أستحق هذا المال؟ هل هو حلال؟ أي تعرف الحلال والحرام، بعد قليل قالت له: هذا المال دعه معك قد يكون هناك أحد غيري يحتاجه أكثر مني، أي عندها إيثار، دخل معها بالحوار أكثر، قال لها: أنت متعلمة، أنت أحسن من الذين يعرفون، قال لها: أنت سيدة النساء، أنا لا أقول: سيدة النساء حرام، لا يوجد غير الله هو السيد، تواضع، قالت له: أنا امرأة، لا يجوز أن تقول: سيدة النساء، النبي سيدنا والله سيدنا، لا يصح أن تقول: أنا سيدة، لا يجوز، قال لها: أتصلين؟ قالت له: أنا أصلي على البركة بالفاتحة، لكن أنا لا أدعو لنفسي قبل أن أدعو للمسلمين كلهم، قال لها: والله صغرنا أمامك، قالت له: لا، ما صغرتك أنت مثل ابني، أنا لا يوجد عندي أولاد، لكن أنت مثل ابني، قالت له: نحن إسلام، عندنا قرآن، نخاف من الله، لا نخاف من العبد، فطرة، تتمتع بكامل الفطرة، بضغط كبير حتى قبلت أن تأخذ المبلغ الذي أعطاها إياه.
النتيجة أن الإيمان فطرة، هو في الأصل فطرة، لو ترك الناس على الفطرة لكانوا يحبون الخير، يحبون المعروف، يحبون الإحسان، لا يحبون الإساءة، انظروا إلى قوله تعالى:

وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)
[ سورة الحجرات]

هو كرهه لك، فإذا أحبّ الإنسان الكفر والفسوق والعصيان فقد طمست فطرته، وكيف تطمس الفطرة؟ بالمداومة على المعاصي والآثام، تطمس، تشوه، تخرج عما خُلقت له.

من توافق مع فطرته توافق مع دين الله:
إذاً أيها الكرام؛ الفطرة مقوم أساسي من مقومات التكليف، يجب إذا تعاملنا مع الناس أن نلحظ هذا المعنى، لأن الناس على الفطرة، لكن تحتاج الفطرة إلى تغذية، الإعلام السيئ، والناس السيئون يغذونها بالباطل حتى يشوهوها، نحن يجب أن ندعم فطرة الإيمان في النفوس لأن الناس بشكل طبيعي تؤمن بالخير، وتؤمن بالمعروف.
الفطرة تحتاج إلى تغذية
شاب له أم مريضة، رجع متأخراً من عمله الساعة الحادية عشرة ليلاً، قالت له أمه: يا بني! أنا بحاجة إلى الدواء الفلاني، الأم امرأة كبيرة في السن، قال لها: يا أمي الصيدليات الآن مغلقة، من أين آتيك بالدواء؟ صباحاً إن شاء الله، الأم اقتنعت أم لم تقتنع هو يعلم أن هناك صيدليات مناوبة ليلاً ممكن أن يتحرك ويبحث عنها ويجدها ويأتي بالدواء، لكنه ما أراد أن يخرج من البيت بعد إذ دخل إليه، والدنيا شتاء وبرد، قال لها: الصيدليات مغلقة، قالت له: كما تريد لا يوجد مشكلة، وضع رأسه ونام، هذه حالة، الحالة الثانية: دخل إلى البيت قالت له أمه: أريد الدواء، قال لها: أمرك، أنت مفضلة عليّ، خرج وجال ساعة كاملة في البلد، وهو يبحث، فإذا بالدواء غير موجود، حتى عند الصيدليات المناوبة الدواء غير موجود، الدواء مفقود، رجع إلى أمه: والله يا أمي ما وجدت الدواء، ونام، في الحالة الأولى لم يستطع أن ينام وهو مستقر النفس، في الثانية ينام، في الحالتين الأم لم تأخذ الدواء، لا في الحالة الأولى، ولا في الحالة الثانية، لكن في الحالة الثانية أرضى فطرته، في الحالة الأولى عذب ضميره، يسمونه ضميراً، أو فطرة، أو داخل النفس.
إذاً في المحصلة الفطرة لها نداء من الداخل ينبع، فالإنسان إذا استطاع أن يتوافق مع فطرته فقد توافق مع دين الله عز وجل، فقط الفطرة، الفطرة إحسان، الفطرة خير، الفطرة حب، الفطرة سلام.

الفطرة تكشف الخطأ من الصواب كشفاً ذاتياً:
إذاً المقوم الثالث هو الفطرة، صار عندنا الكون، ملكات إدراكية، عقل، نعقل الأشياء، وعندنا فطرة، الفطرة تكشف الخطأ من الصواب كشفاً ذاتياً، أي لا تحتاج إلى شيء آخر، هي تكشف لك خطأك، هذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم:

{ عن وابصة بن معبد رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسأله عن البر والإثم فقال: جئت تسأل عن البر والإثم؟ فقال: والذي بعثك بالحق ما جئت أسألك عن غيره، فقال: البر ما انشرح له صدرك وإن أفتاك عنه الناس }

[أخرجه الطبراني في المعجم الكبير والإمام أحمد]

أي هذا ليس تقليلاً من شأن الفتوى، معاذ الله، لكن قال له: (جئت تسأل عن البر؟ البر ما اطمأنت إليه النفس) شخص يأتي إلى جلسة كلها خير، يأكل طعاماً حلالاً، (البر ما اطمأنت إليه النفس) دخله حلال، ماله حلال، مجتمعاته طيبة، يعاشر الناس الطيبة، تطمئن إليه النفس.

{ عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: أقَمتُ مَع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالمدينةِ سَنة، مَا يَمْنَعُني مِنَ الْهِجرَةِ إِلا المَسألَةُ، كان أَحدُنَا إذا هَاجَر لَمْ يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عَن شَيءٍ، قال: فَسَألتُهُ عن البِرِّ وَالإثْمِ؟ فقال رسولُ اللِّهِ صلى الله عليه وسلم: البِرُّ: حُسْنُ الْخُلُق والإثمُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهتَ أَن يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ }

[أخرجه مسلم والترمذي]

يصير؟ لا يصير؟ قد يكون حراماً؟ قد يكون حلالاً؟ قال: (وَكَرِهتَ أَن يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ) لا تريد أن يراك الناس وأنت في هذا الموقف، لأنه إثم، قال: (وإن أفتاك الناس وأفتوك) أي لو وجدت إنساناً وأقنعته بكلمتين فأفتاك، أعطاك فتوى، لكن أنت لست مرتاحاً، تشعر أن هذا الأمر فيه ظلم للآخرين، أنا ظلمت فلاناً، القانون معي، والقضاء معي، والفتوى معي، لكن أنا معي أشياء لم يطّلع عليها القضاء، فأنا ظلمت شريكي، أنا منزعج، هذا الإثم: (مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهتَ أَن يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ)، (وإن أفتاك المفتون وأفتوك) قال تعالى:

وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)
[ سورة الشمس]

التسوية تأتي بعد الخلق.

الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)
[ سورة الأعلى]

الخلق مثل بناء البيت، والتسوية الديكور، فالنفوس الله عز وجل سواها، من تسويته لها قال:

فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
[ سورة الأعلى]

يفهم البعض الآية خطأ (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) أي هو جعلها تفجر وهو جعلها تتقي، أي أجبرها على الفجور، معاذ الله (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا) أي هي تعرف أنها فجرت، وتعرف أنها اتقت بالفطرة، سواها بحيث تستطيع أن تكشف الخطأ، والباطل بشكل أوتوماتيكي، من غير دلالة خارجية فقط على الفطرة السليمة.

4 ـ الشرع:
الكون، والعقل، والفطرة، الآن طبعاً هو أهم مقوم أعطاه الله للإنسان وهذا الرابع، لكن أنا أجلته لأنه يتعلق بما قبله.
المقوم الرابع هو الشرع
المقوم الرابع هو الشرع، المنهج، التعليمات، القرآن، السنة، حلال، حرام، يجوز، لا يجوز، افعل، لا تفعل، هذا مقوم، ابني عندما وافق أن يسافر أعطيته المنهج، أين يذهب، ماذا يفعل، هذا يصح، يا بابا إياك أن تصاحب أصدقاء السوء، يا بابا إياك أن تقضي وقتك بالملاهي، أنت يجب أن تقضي وقتك بالمكتبات، أعطيته ماذا يفعل، وماذا لا يفعل، هذا أعظم مقوم أعطانا الله إياه، نحن عندنا منظومة حلال وحرام.
اليوم المجتمعات كلها للأسف الشديد من ضمنها ما ذكر قبل قليل عن الشذوذ، المجتمعات كلها اليوم تريد أن تتخلى عن منظومة القيم، أي أن يصبح الإنسان حراً مطلقاً، للأسف وآسف لهذا الكلام أن يصبح بهيمياً، أي ألا يكون هناك أي قيد، أي قيمة حتى لو لم تكن دينية، حتى لو كانت عرفية، اجتماعية، يريدون إلغاء حالة القيم، الإنسان يعمل وفق منظومة، كل إنسان له منظومة، هناك إنسان يعتمد على الأعراف، الأعراف نحن لا نقرها لكنها خير من أن يكون الإنسان بلا قيمة، هناك أناس يقولون لك: في العائلة تربينا على احترام الكبير، وهو ربما لا يصلي، لكن هو بالنسبة له عنده قيمة اسمها: الكبير محترم بالعائلة، يدخل فيقبّل رأس والده، ويجلس بين يديه، لا يعلو صوته فوق صوت والده، هذه قيمة اجتماعية، قد لا تكون نابعة من دين، لكنها نابعة من مجتمع، أحياناً يوجد قوانين، قوانين صارمة جداً تجعل المجتمع أن السائق إذا الإشارة حمراء يقف، لأن قطع الإشارة فيه مخالفة كبيرة، إذاً هناك قيم تحكمنا إما قيم اجتماعية، اتفق عليها الناس، أعراف، تقاليد، أو قانونية، نحن نحتكم إلى الدين.
القيم تدفع الإنسان إلى أن يقول نعم ولا
لكن الذي يراد اليوم في المجتمع ومن أجله يشجع على هذه العلاقات المشبوهة، هو أن يبقى المجتمع بلا قيود، صفر القيم، لأنه إذا أصبح بلا قيود أصبح صفر القيم، فسهلت السيطرة عليه، تقوده بقيادة مركزية واحدة للعالم كله، تعميم الفساد، أن يصبح الفساد عاماً، لا يوجد مجتمع يحمل قيمة، أو فكراً، لأن القيم هي التي تدفع الإنسان إلى أن يقول: نعم، ولا، لماذا نعترض؟ الإنسان فينا لماذا يقف في وجه شيء؟ يقول لك: أنا لا أقبل فيه، لأن هناك قيمة، إما قيمة اجتماعية، أو قانونية، أو دينية، لكن يوجد شيء يحتكم له، فإذا جعلناه بلا قيم يحتكم لها يصبح صفر المرجعية، أي لا مرجعية، فكل شيء مقبول، تقول: هذا فلان تزوج فلاناً، جيد، الحمام يضعون عليه إشارة مسموح دخول الذكور، والإناث، وما يسمونه المثليين والعفو منكم الحيوانات، يضعونهم بلوحة واحدة ببعض الولايات، أي لا يوجد عورة، لا يوجد شيء أنا أخجل منه، صفر القيم، حتى القيم الاجتماعية، حتى يصبح الإنسان خرقة بالية، لا يعود هناك شيء يحتكم إليه أبداً، المرجعية صفر، هذا المطلوب للأسف الشديد، فالفطرة والعقل مقومان.
الآن الشرع، لماذا الشرع؟ قد يسأل سائل: ما دام العقل يقودنا للحق، أي الإنسان بمنطقه، بفكره، يعقل أن هذا الكون له إله، ويعقل أنه يجب أن يكون محسناً للناس، ويعقل أنه يجب ألا يسيء لأحد، والفطرة إذا غلط تؤنبه فيرجع، لأن العقل وحده من غير وحي السماء يضل، ولأن الفطرة من غير وحي السماء تشوه، وهذا ما نلاحظه الآن، أي عقلهم قادهم إلى تشريع الزنا بالتراضي، عقلهم قادهم إلى أن الربا لا شيء فيه، عقلهم وحده، مع أن الربا يدمر مجتمعات، الزنا يدمر مجتمعات، لكن قادهم فكرهم وحده من غير نور الوحي إلى تحليل الحرام، ويقول لك: أنا أراها صحيحة، بعقلي صحيحة، والفطرة ممكن أن تقول له: أنت لا تتعذب عندما تظلم الناس؟ يقول لك: لا أتعذب، بالعكس أنا أجد هؤلاء والعياذ بالله يسمونهم الساديين، أنا أجد لذتي في إذلال الناس، لأن الفطرة قد تشوه أي تصبح غير صحيحة، لأن البيئة تؤثر فيها، وكذلك العوامل الخارجية.
المنهج هو الذي ينير للعقل طريقه
إذاً كان لا بد من أهم شيء وهو المنهج، المنهج الذي ينير للعقل طريقه، ويثبت الفطرة على الحق، ينير طريق العقل، ويثبت الفطرة على الحق، هذا هو المنهج ؛ افعل ولا تفعل، بالقرآن والسنة منظومة القيم الإسلامية التي تأمرك أن تأتي شيئاً، وأن تدع شيئاً، حلال، حرام، يجوز، لا يجوز، هذه المنظومة هي المنهج، قال تعالى:

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)
[ سورة الرحمن]

الترتيب الزمني، الرحمن، خلق الإنسان، علم القرآن، لأن الخلق قبل التعليم، تعلمه قبل أن يُخلق أم يُخلق ثم يعلم؟ لكن الترتيب القرآني (عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ) هذا الترتيب ليس زمنياً، هذا الترتيب رتبيٌ، بمعنى أن تعليم القرآن أهم من خلق الإنسان، أي لو خلق بغير منهج سيضلّ، سيصبح جحيماً، سيفسد حياته وحياة الآخرين.
مثلاً أنت مدير مصنع، أتيت بحاسوب صناعي مرتفع الثمن، عظيم النفع، له أهداف مهمة جداً، لكن لم ترسل لك الشركة المصنعة تعليمات التشغيل والصيانة، فأنت الآن أمام خيارين ؛ إما أن تتركه ولا تستخدمه حتى لا تفسده، عطلته، وجوده كعدمه، بالعكس تماماً وجوده أصبح عبئاً عليك لأنه يحجز مكاناً في الشركة، ولا تستطيع تشغيله لأنك لا تملك كيف تشغله، أو الخيار الثاني أن تشغله دون تعليمات فتعطبه، لأنك لا تملك تعليمات التشغيل.
إذاً لما خلق الله تعالى الإنسان أعطاه المنهج، المنهج أهم أم الخلق أهم؟ المنهج، لأنه من غير منهج سيضل ويضل، يضل بنفسه، ويضل غيره، إذاً المنهج هو القرآن الكريم، والسنة النبوية، قال صلى الله عليه وسلم:

{ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال: قد يئس الشيطان بأن يعبد بأرضكم ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروا يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إن كل مسلم أخ المسلم، المسلمون إخوة ولا يحل لامرئٍ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس، ولا تظلموا، ولا ترجعوا من بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض }

[ صححه الألباني]

إذاً لأن العقل قد يضل، ولأن الفطرة قد تشقى، وتشوه، وتطمس، فإن الميزان الذي نحتكم فيه هو شرع الله عز وجل، وإلا عندنا مئة دين ودين، ومئة تعليمات وتعليمات، هذا ما نشاهده اليوم .

النص يحكم الإنسان:
الميزان الذي نحتكم إليه هو شرع الله عز وجل
إذا قال لك أحدهم: أنا وصلت بعقلي إلى أن الاختلاط في المدارس بين الشباب والبنات هو شيء جيد، كيف؟ الشاب يكون مندفعاً بقوة، تقاتل مع زملائه بالمدرسة يصير متوحشاً، عندما يكون هناك بنات بالصف يتأدب أكثر، ويتهذب كي يظهر أمام البنات بشكل حضاري، والفتاة أيضاً ترى الشباب، وتتعرف على المجتمع، فوجدت بعقلي أن هذا الشيء جيد، وجدت بعقلي أن الربا لا شيء فيه لأن المرابي مسرور، والدافع مسرور، والآكل مسرور، وهناك تعاون، والعقد شريعة المتعاقدين، سواء خالف نصاً شرعياً أم لم يخالف نصاً شرعياً، لا يوجد مشكلة، والغرب وجد بعقله أن الزنا بالتراضي مسموح، وخفضوا من سن الزنا مسموح لـلخامسة عشرة بفرنسا، وجدوا بعقلهم أن ذلك مسموح، وإذا أحدهم قال لك: أنا بفطرتي الموضوع لا شيء فيه، ألم تقل أن الإثم ما حاك في صدرك، ما حاك في صدري لا شيء فيه، لكن هذا حرام أخي انتبه، كيف لم يحك بصدرك شي، هذه كبيرة، خمر، أنا لا أتضايق، والعياذ بالله، أشرب الخمر وأنا مرتاح، بالعكس أجد سروري به، طمست فطرته، وشوهت، فما الذي يحكمني ويحكمك إذاً؟ إذا لم يكن هناك مرجعية، المرجعية هي العقل، أو المرجع هو الفطرة، نحتاج إلى نص، غيب.

لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
[ سورة فصلت ]

إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)
[ سورة الرحمن ]

نحتاج إلى شيء ليس فردياً، العقول فردية، أنا لي عقل، وأنت لك عقل، والثالث له عقل الآن نطرح مسألة، الآن في هذه اللحظة إذا أردتم نطرح مسألة من غير مرجعية دين، نتفق أن لا أحداً منا يأتي بآية ولا بحديث، وندع كل واحد يناقشها من وجهة نظره، أي إذا كنا عشرة ممكن أن يخرج منا خمسة آراء أقل شيء، أي لا يكاد اثنان يجتمعان على رأي، مستحيل أن نجتمع، لأن كل واحد يفكر بالموضوع بطريقته، من زاويته، الآن أقول لك: التدخين، الذي يدخن يقول: لا شيء في التدخين، الطبيب يقول: أنا أرى شرايين مسدودة، إياكم لا يجوز أبداً، الشيخ يقول:

{ عن يحيى المازني رحمه الله أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ }

[أخرجه مالك]

مثلاً، فكل واحد سيقول الشيء الذي عنده، كل واحد حسب هو ما تعلم عليه، حسب هو ما نشأ عليه، حسب بيئته، حسب ظرفه، يحلل الموضوع حسب مصلحته، يحلل الموضوع من وجهة نظره، أما إذا كان هناك نص، النص يحسم الحلاف، يقول لك: لحظة، الموضوع محسوم يوجد نص يحرمه أو يحلله، هذا مكروه، مباح، هذا فيه اختلاف فقهي يسعني ويسعك، إذا كان الموضوع يحتمل أحياناً ببعض الأمور وهي قليلة في الدين يسعني ويسعك نأخذ بالحكم، فعندما يكون هناك نصوص إذاً نحن نحتكم إلى شيء مشترك، أما عندما يكون كل إنسان يحتكم إلى عقله، أو إلى فطرته فنحن غير مشتركين بهذا الأمر، لأن كل إنسان يحتكم لظروفه حقيقة، ولمصالحه، ولا يحتكم إلى المبادئ.

تأثر العقل بالبيئة والزمن:
أضف إلى ذلك أن العقل يتأثر بالبيئة، بالزمن، يتأثر بالزمن.
العقول قاصرة عن أن تدرك كل شيء
اليوم فرضاً على سبيل المثال ذهبنا إلى قبر إنسان توفي قبل سنة، أيقظناه - مثل افتراضي مضحك - يا أبا فلان قم، فقام من قبره، خير ما بكم؟ قلنا له: والله نريد أن نطلعك على شيء اليوم ما سمعت به، قال: ماذا؟ أخرجنا له شريحة بحجم الإصبع، رقيقة، ميلي، أترى هذه الشريحة؟ قال: نعم، قلنا له: هل ترى مكتبتك التي كانت من مئة سنة من الجدار إلى الجدار، ومن الأرض للسقف؟ قال: نعم، قلنا له: وضعناها كلها هنا بهذه الشريحة، قال: كيف وضعتها؟ قلنا له: والله جمعناها، وهي مكتوبة هنا، وتبحث عنها بنقرة زر، تكبس زراً تخرج لك الكلمة التي تبحث عنها، كنت تضع سلماً لتحضر صحيح البخاري من فوق، وتفتح الصفحة كذا، الآن بكبسة زر تخرج، هذا الرجل مباشرة يقول: أنتم مجانين، نقول له: والله أنت المجنون هذا صار أمراً واقعاً، ضع الشريحة بالحاسوب، وانظر ماذا يحصل، هو لا يستوعب ذلك، لأنه ابن بيئته.
فلذلك العقول قاصرة عن أن تدرك كل شيء، العقل له مهمة، وهو أن يعالج المعلومات، وأن يصدر أحكاماً بناء عليها، لكن أن يصبح مرجعاً فهذا مستحيل، لذلك كان المرجع في ديننا هو الكتاب والسنة، الكتاب يقول لك: هذا صح وهذا غلط، هذا حلال وهذا حرام، هذا إلى الجنة، وهذا إلى النار، فشرع الله فوق الفطرة، وفوق العقل، وفوق كل شيء.
صار عندنا الكون، والعقل، والفطرة، وشرع الله عز وجل هذه المقومات، طبعاً ما زال عندنا مقومان إن شاء الله نتحدث عنهما في اللقاء القادم.
والحمد لله رب العالمين