مقومات التكليف - اللقاء الثالث

  • محاضرة في الأردن
  • 2021-12-13
  • عمان
  • الأردن

مقومات التكليف - اللقاء الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأُصَلِّي وأُسَلِّمُ على نبينِّا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.


الإنسان هو المخلوق المكلف:
أحبابنا الكرام؛ مع اللقاء الثالث من لقاءات مقومات التكليف وهو اللقاء الأخير من هذه المجموعة؛ مقومات التكليف.
حتى أذكر بما تحدثنا عنه سابقاً، فقد تحدثنا عن الإنسان هو المخلوق المكلف من بين كل المخلوقات كلفه الله هو والجن.

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
[ سورة الذاريات]

لأنه مكلف فلابد من أن يعطيه الله تعالى من رحمته، وتمام فضله، وتمام عدله، وتمام حكمته، أن يعطيه ما يعينه على أداء المهمة، الكائنات الأخرى لا يوجد عندها مهمة بالحياة، لا الحيوانات- أجلكم الله - ولا الملائكة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
[ سورة الذاريات]

النباتات، والجمادات، كل المخلوقات مسيرة إلى حد كبير، فهي تسير بغرائزها، تحكمها الغرائز، تمشي، الإنسان هو المخلوق المكلف، فلما كلفه الله تعالى أعطاه ما يعينه على أداء مهمته.

مقومات التكليف:
1 ـ تسخير السماوات والأرض للإنسان:
أول شيء أعطاه ما في السماوات وما في الأرض مسخراً لأجله، سخر لنا كل شيء جلّ جلاله.

2 ـ العقل:
ثم أعطاه ملكة فكرية من أجل أن يعقل ما في هذا الكون، يعقل النصوص الشرعية، يعقل المدركات، فيصل من خلالها إلى نتائج، فالإنسان يعقل، يتذكر، يحاول، يفكر، يستنبط، يستنتج، ينتبه، يركز، هذه كلها قوة إدراكية غير موجودة بهذا الشكل عند باقي المخلوقات غير المكلفة.

3 ـ الفطرة:
ثم أعطاه الفطرة، أي فطره بحيث يحب الخير، و ينزع إليه، و يكره الشر ويرفضه في أصل خلقه، في أصل خلقه لا يحب الكذب، ولا الغش، ولا الظلم، في أصل خلقه، أما هذا الشاعر الذي قال:
فإن تجد ذا عفة فلعلةٍ لا يَظلم
{ المتنبي }
العدل أساس في النفوس
هذا غير صحيح، فالظلم ليس أساساً في النفوس، بل العدل أساس في النفوس، أصل الإنسان أنه يحب العدل، ائتِ بطفل واعمل مظلمة أمامه يبكي الطفل على فطرته، إذا مزحوا مع الطفل أحياناً، يحاول أخواه أن يضرب أحدهما الآخر يبكي الطفل، ينزعج من منظر الظلم، الإنسان في أصل خلقه يكره الظلم، كل مولود يولد على الفطرة، فالفطرة تنزع إلى الخير.

وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)
[ سورة الحجرات]

هذا من مقومات التكليف أن الله تعالى جعلك تحب الخير، ولو لم يكن الإنسان خيِّراً، لكنه يحب الخير.

4 ـ الشرع:
الشرع هو أساس التكليف
ثم بعد الفطرة تحدثنا عن الشرع، الشرع؛ هو أساس التكليف، لكن أرجأنا الحديث عنه حتى يضبط ما سبق من الأمور، الشرع أي افعل ولا تفعل، يجوز ولا يجوز، حلال وحرام، هذه المنظومة القيمية غير موجودة إلا عند المكلف، المكلف يقول لك: هذا المال من أين؟ حلال أم حرام؟ لا يدخل المال إلى جيبه قبل أن يعلم مصدره، لا يأكل طعاماً حتى يعلم مصدره هل هو حلال أم حرام، لا ينظر إلى ما لا يحل له، لا يطلع إلى ما يحرم عليه، يضبط تصرفاته وفق الشرع، فالشرع هو المقوم الرابع، افعل ولا تفعل.
قد يقول قائل: ما دام هناك عقل وفطرة، يدرك الحق، يدرك الخير، يدرك الشر، والفطرة تقومه فإذا أخطأ يشعر بخطئه، وانتهى الأمر، لماذا الشرع؟ لأن العقل وحده لا يمكن أن يشرِّع لصاحبه، لأن العقل يرتبط بالبيئة، يرتبط بالواقع، فأحياناً قد يرى بعض الناس بعقولهم أن الربا لا شيء فيه، أو أن الزنا لا شيء فيه، ماذا تريد أكثر من هذا؟! فالعقل وحده يضل، وهذا ما نراه اليوم، والفطرة وحدها إن لم تغذّ بشكل دائم بمجتمع سليم تطمس، فلا بد من شرع يبين لك، و يحكم الفطرة، و يحكم العقل، فالشرع هو المقوم الرابع، وهذا تحدثنا عنه سابقاً.

5 ـ الشهوة:
الإنسان يرقى إلى الله بالشهوة
اليوم المقوم الخامس؛ وهو الشهوة، قد تستغربون هل الشهوة التي تدفعنا إلى الحرام هي مقوم من مقومات التكليف؟ أي هي شيء أعطانا الله إياه يعيننا على أداء المهمة، لأن الإنسان لو لم يكن عنده شهوة لكان ملكاً، فأين التكليف بالموضوع؟ لو لم تكن عنده شهوة فهو ملك، كل شيء يحبه وفق الشرع وانتهى الأمر، لا يوجد شهوة تعارض الفطرة، لا يوجد شهوة تعارض التكليف، فلم يعد هناك تكليف أصلاً، تكليف بلا شهوة لا يوجد، فالشهوة مقوم من مقومات التكليف، لأن الإنسان يرقى إلى الله بالشهوة، كيف يرقى إلى الله بالشهوة؟ يشتهي المال الحرام فيرفضه فيرقى عند الله، يشتهي المرأة التي لا تحل له فيغض بصره عنها فيرقى عند الله، يشتهي المرأة فيتزوج وفق شرع الله فيشكر الله فيرقى عند الله، يشتهي المال الحلال فيسلك الطرق المشروعة ويتاجر بمال حلال فيكسب مالاً حلالاً فيقول: يا رب لك الحمد فيرقى عند الله، إذاً يرقى عند الله عندما يحقق شهوته في الحلال، ويرقى عند الله عندما يصرف شهوته التي تأتيه من حرام، فيرقى مرتين صابراً و شاكراً، صابراً إن لم تتحقق الشهوة، وشاكراً إذا تحققت الشهوة، فالشهوة مقوم من مقومات التكليف، أعاننا الله بها على أداء المهمة، لكن إن استخدمت بالشكل الصحيح.
لو سأل سائل: النار شيء سلبي أم إيجابي؟ نقول له: لا نستطيع أن نجيبك، النار شيء إيجابي إذا كان موضعها بمستودع محكم، وانتقلت للأنابيب المحكمة، وأشعلنا الغاز، وطبخنا طعاماً طيباً وأكلناه، فالنار إيجابية، والنار سلبية إذا تسرب الغاز، والولد ليس منتبهاً، أشعل شرارة فاشتعل البيت، النار نفسها هنا أحرقت، وهنا طبخت، هنا رفعت من شأن الإنسان، و هنا أنزلت من شأنه، هي نفسها.
فالشهوات ليست قوى مدمرة وليست قوى إيجابية خيِّرة، هي موقوفة على طريقة استخدامها، فالشهوة يمكن أن تُلبَّى بالحلال، ويمكن أن تلبى بالحرام، من يلبيها في الحلال يرقى، ومن يلبيها بالحرام يسقط و يهوي، هذا باختصار.
إذاً الشهوة مقوم من مقومات التكليف المطلوب في التعامل معها أن يستخدمها الإنسان في الحلال، الإسلام لا يحرمك من شيء، لا يقول لك: لا تأكل، كُلْ ما شئت، لكن يوجد قائمة ممنوعات؛ اللحوم متنوعة، يوجد لحم الخنزير، وبعض اللحوم المحرمة، لا تقربها، نقطة انتهى، الأشربة محللة، الخمر محرم ، الطعام مباح، في كل السنة يوجد شهر من طلوع الفجر إلى غروب الشمس يمنع فيه المباح هذا، المرأة؛ يوجد زوجة وزوجتان وثلاث وأربع.

بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
[ سورة هود]

أكثر من هذا لا يوجد، عشيقة لا يوجد في الإسلام، كل يوم في ناد ليلي والعياذ بالله لا يوجد في الإسلام، يوجد منهج يجب أن تنضبط فيه، ليس كله حرام، جزء منه حرام، الجزء الذي يضر بك، الجزء الذي يرقى بك ويسمو حلال، تحلو به النفوس، الحرام يحرم النفس من مناجاتها لخالقها، وقربها من خالقها، كل ما يحرمك من الخير فهو حرام، وكل ما تحلو وتطيب به النفوس فهو حلال.
الشهوة يجب أن تضبط بمنهج الله
إذاً الشهوة يجب أن تضبط بمنهج الله، ما كل مال حرام، هناك أموال محرمة، يوجد ربا، وغش، وتدليس، وكذب، واحتيال، وتجارة والعياذ بالله بالمخدرات، وبالسلاح، و هناك بالمقابل تجارة بالحلال ومال حلال، والأمور بخير، إذاً ينبغي أن نضبط شهوتنا وفق منهج الله تعالى، أن تأتي حركتك في الشهوة مطابقة لمنهج الله، علينا ألا نلغي الشهوة أبداً، لكن نستخدمها في طاعة الله عز وجل، نكسب المال، نتعلم، يعلو ذكرنا في الأرض، هناك شهوة اسمها: العلو في الأرض، الناس تحب العلو في الأرض، معنى العلو في الأرض؛ بقاء الذكر أي الشهرة، لا يوجد مانع، الإنسان يحب أن يقال عنه: فلان ما شاء الله! الأول في تخصصه، تاجر، ما شاء الله! أمين ومحترم، مدرس ناجح، يحب الإنسان أن يشار إليه بالبنان، لكن هل هذه الشهوة حرام كلها؟ لا، لكن إذا أردت أن تصل إليها فاسلك طلب العلم، التجارة الحلال، التعامل الطيب مع الناس، يرفع الله ذكرك، هناك أناس يرفعون ذكرهم بالبغي والعدوان فيصبح اسمه على كل لسان.
إبليس أشهر من نار على علم، إبليس أشهر واحد في الأرض، لأنه عمل شيئاً لم يعمله أحد، قال له ربنا: اسجد، قال له: لا أسجد، كبراً واستعلاء، فصار اسمه على كل لسان! لكنه إبليس اللعين والعياذ بالله، فليس الهدف أن يشتهرالمرء، لكن الإنسان عليه أن يشتهر بطاعة، وبخير.
هناك أحد الأعراب يروى أنه - والعياذ بالله - دخل وأراد أن يبول في ماء زمزم، فأمسكوا به واقتادته الشرطة في العصر العباسي، فقالوا: لماذا تفعل ذلك؟ قال: كنت أريد أن يقول الناس كلما رأوني: هذا الذي بال في ماء زمزم، أي يعمل شيئاً لم يعمله أحد، فأراد أن يفعل شيئاً يعلو به في الأرض لكنه سيلعن على كل لسان، فالهدف ليس أن يعلو الذكر، الهدف أن يعلو الذكر في الخير.
فالشهوة تحقق لك ذلك، والإسلام يحقق لك رفعة الذكر، إذا كنت طائعاً، أميناً كل الناس تحبك وتذكر في المجالس يقال: ما شاء الله! فلان تاجر أمين، صدوق، فلان ما شاء الله مدرس ناجح، علمنا الأخلاق والتربية منذ أن كنا صغاراً، تجد ذكره عطراً على الألسنة، على ألسنة المؤمنين وحتى أحياناً غير المؤمنين، الذين يعترفون بالفضل لأصحاب الفضل.
إذاً الشهوة مباحة شهوة المال، أو شهوة النساء، أو شهوة العلو في الأرض، لكن يجب أن تكون هذه الشهوات الثلاثة في طاعة الله، هذا المقوم الخامس.

6 ـ حرية الاختيار:
المقوم السادس والأخير هو حرية الاختيار، لما قبل الإنسان حمل الأمانة جعله الله مختاراً.

إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)
[ سورة الإنسان]

حمل الأمانة يعني الحرية والاختيار
ما دمت قبلت أن تحمل الأمانة فأنت الآن حرٌّ مختار، لك أن تسلك طريق الحق، ولك أن تسلك طريق الباطل، ولكن يترتب على طريق الحق ما يترتب، ويترتب على طريق الباطل ما يترتب، مثل الجامعة؛ الطالب له أن يدرس، أو ألا يدرس، لكن إذا درس ينجح، وإذا ما درس يرسب، فأنت مخير في سلوك طريق من طريقين هذا من مقومات التكليف أنك حر، مختار، ليس هناك حرية مطلقة في الكون كله هذا ذكرته سابقاً، لا أدري إن توافقونني فيه، كل من يقول لك: هناك حرية بمعنى الحرية المطلقة فهذا غير موجود، لكن إما أن ينضبط الإنسان بضوابط الشريعة، فيكون مقيداً بقيود الحق جلّ جلاله، أو أن يقيد بقيود الخلق، لا يوجد جهة في الأرض تعطي حرية بمعنى الحرية، يقول لك: حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، حريتك بقوانين السير إذا الإشارة حمراء يجب أن تقف، أنا حر يجب ألا أتوقف إذا أردت ذلك، لا، هنا يصبح ضرر، أما تريد أن تقيدني، إذاً أنت تقيدني في النهاية، تقيدني بشيء، أنت حر لكن لا تستطيع أن تعتدي على العلَم مثلاً في أمريكا، أو على رموز الدولة، أو هناك أشخاص بالدولة ممنوع الحديث عنهم نهائياً، يوجد قيود، كل دولة، كل جيش، كل نظام وضعي في الأرض يضع لك قيوداً، الحرية المطلقة بمعنى أن تفعل كل ما يحلو لك هذا غير موجود، هذا وهم، كل الناس مقيدون، لكن المسلم ارتضى أن يتقيد بقيود الشرع، ما دمت أريد أن أتقيد وأتقيد يجب أن أعطى الحلال والحرام، وافعل ولا تفعل من الخالق، لماذا آخذها من المخلوق؟ بل آخذها من الخالق الذي خلقني، لأنه:

وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
[ سورة فاطر]

ولأن الذي خلق هو الذي يعلم.

أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
[ سورة الملك]

إذاً ربنا عز وجل جعلنا أحراراً فعلاً لأننا لا نخضع إلا له، غير المؤمن يقول لك: أنا حر، هو مقيد لأنه يخضع لكل شيء إلا لمنهج خالقه، فمن الحر؟ الذي يخضع لله، قمة الحرية أن تكون خاضعاً لجهة واحدة هي الخالق، ثم تتحرر من كل القيود الأخرى، أما غير المؤمن فيلتزم بمئة قيد وقيد لكن يقول: أنا لا أستطيع أن أفعل هذا الأمر يغضبون عليّ، ولا يعطونني الفيزا، لا أقدر أن أعمل هذا الموضوع، هذا محرم، عليه فيتو، هذا الكلام ممنوع، هذا غلط لا أستطيع إلا أن أتكلم، هذا يوجد فيتو عليه ممنوع الكلام فيه، هذا شخص فوق النقد لا أقدر أن أنقده، عنده مئة قيد وقيد بحياته، المؤمن يقول لك: أنا عندي قيد واحد هذا يرضي الله أو لا يرضي الله، والباقي أنا حر من كل قيد.
إذاً الحرية حرية الاختيار مقومة من قبل التكليف.

إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)
[ سورة الإنسان]


التسيير والتخيير:
أي شخص يقول لك: إن الإسلام أو الله تعالى أجبرنا، هذا كلامه مردود عليه، قال تعالى في آية واضحة:

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
[ سورة الأنعام]

لماذا أشركتم بالله؟ (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) الله أجبرنا، الله أجبرنا على الشرك (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا) عندكم دليل على ذلك القول؟ (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) أي أنتم كاذبون، الذي يقول: لو شاء الله ما أشركت فهو كاذب، من يقول ذلك تقل له: لماذا لم تصلِّ؟ يقول لك: ادعُ الله لي بالهداية، لماذا تنزل إلى عملك؟ حتى أحصل مالاً، اجلس بالبيت وأدعو لك بالرزق؟ لا يرضى، يريد أن ينزل، أما هو فلا يريد أن يتحرك إلى الهداية، فالإنسان أحياناً يرمي أخطاءه على القدر، يقول لك: الله قدر عليّ ذلك، هذا هروب من المسؤولية، القدر قدر، نحن نؤمن بالقدر، لكن أن يتهرب الإنسان من المسؤولية بدعوى أن الله قدر ذلك عليه فهذا ليس صحيحاً بحال، الله تعالى يقول في قرآنه:

وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
[ سورة السجدة]

البعض يتوهم أن الله أجبرنا
(وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)
بالعكس هذه الآية توضح أن الإنسان مخير، ولو شئنا أن نجبركم على شيء لأجبرناكم على الهدى مثل الملائكة، لكنك مخلوق مكلف، لا يمكن أن يؤتي الله كل نفس هداها، الله ترك لك الخيارين أن تسلك أيهما تريد، طريق الحق لك ذلك، طريق الباطل لك ذلك.
الإنسان مسير ثم مخير
الإنسان مسير ثم مخير، كيف؟ مسير في كل ما يكلف به، أي متى ولدت؟ عام 1977، هل لك خيار في ذلك؟ لا، ليس لي خيار، أنا مسير، لا أحد أخذ رأيي أي سنة تريد أن تكون؟ الله اختار لي أن آتي بهذا العام، تاريخ الوفاة؟ لا أعرف، مسير، الطول؟ لا أعرف، لون العينين؟ لا أعرف، الأم؟ الأب؟ البلد؟ الزمن؟ هذه أشياء أنا مسير بها، الله اختارها لي وأنا أؤمن أن اختيار الله عز وجل لي هو الخير، يا رب اخترت أن أكون بهذا الزمن، رب لك الحمد، اختار لشخص ثان بزمان النبي صلى الله عليه وسلم، يا رب لك الحمد، كل إنسان الله اختار له زمناً، اختار له مكاناً، بيئة، فنحن مسيرون في هذه الأمور، لكن التيسير هذا ليس له علاقة بالتكليف، أي الله لا يحاسبك يوم القيامة ويقول لك: لماذا أنت طويل، ولماذا أنت قصير؟ لأنه هو سيّرك في هذه الأمور، فلن يحاسبك عليها، لا يحاسبك على الأمور التي سيّرك فيها، لكن عندما قال لك: افعل ولا تفعل، ترك لك الخيار أن تفعل أو لا تفعل، ما تحاسب عليه أنت مخير فيه، وما لا حساب فيه أنت مسير فيه، فالإنسان يبدأ بالتسيير ثم التخيير، ثم قد يكون مسيّراً بعد التخيير، هذه أعمق، كيف هو مسيّر بعد التخيير؟ ربنا عز وجل قال له: اذهب من طريق الحق أو من طريق الباطل، من طريق الأمانة أو من طريق السرقة، فاختار طريق السرقة، الآن قد يسيّره الله تعالى إلى من يريد الله تعالى أن يسرق منه، إما أن يرفع درجة هذا المسروق منه، أو ليكفر عنه سيئة، أو ليعاقبه على حبس زكاته، يوجد مئة خيار، حكمته جلّ جلاله عامة، فأنت عندما تختار الطريق الذي تريد قد تسيّر إلى دفع ثمن اختيارك، قد يسيّر الإنسان لدفع ثمن اختياره، يقول لك: والله لا أعرف لماذا ذهبت إلى هذا المكان، وجدت نفسي مسيّراً إلى ذلك المكان دون أن أشعر، لكن عندما تكلف افعل ولا تفعل فأنت مخير حتماً، وإلا لا يوجد معنى للأمر، ولا للنهي، ولا يناقش الموضوع كثيراً.
أمر الله تعالى لك ونهيه معناه أنك مخير
إذا كنت تقود سيارة، وهناك أخ راكب أمامك، وثالث يركب بالمقعد الخلفي، الأخ الذي بالمقعد الخلفي أراد أن يدل على الطريق، فربت على كتف من يجلس أمام السائق وقال له: يا فلان الطريق على اليمين، ماذا يقول له هذا الذي يجلس على اليمين؟ يقول له: أنا لا علاقة لي بالأمر لماذا تأمرني؟ قل هذا للذي يمسك المقود، لأنه هو الذي يملك الانحراف نحو اليمين أنا لا أملكه، فأنت عندما تكلف إنساناً لا يعقل ولا يقبل إلا أن يكون قادراً على تنفيذه، بمجرد أن الله تعالى يقول في القرآن: افعل ولا تفعل معناها أنت مخير، وإلا هذا كلام عبث، تعالى الله، حاشا لله، أيعقل ربنا عز وجل يقول لك: صلِّ، وأنت تقول له: والله لا أستطيع ليس بيدي، مستحيل! ما دام ربنا جلّ جلاله يقول للإنسان:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
[ سورة الحجرات ]

أستطيع أن أجتنب كثيراً من الظن، بخياري ذلك، ما دام يقول لي:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
[ سورة الجمعة ]

معنى هذا أنني أستطيع أن أسعى، إذاً لماذا يأمرني؟ ما دام يقول لي:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
[ سورة الحجرات ]

أنا مخير أن أغتاب أو لا أغتاب، وإلا ما قال لي: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي من يقول إن الإنسان مخير في حياته يلغي القرآن الكريم والسنة النبوية كلها، لماذا يأمر وينهى إذا لم أكن قادراً على ذلك؟ إن لم يكن المقود بيدي؟

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
[ سورة البقرة ]

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) تستطيع أن تستبق الخيرات (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) الإنسان (هُوَ مُوَلِّيهَا) هو الذي يولي الوجهة التي يريد (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) بادر إلى الخيرات، بادر إلى الطاعات، سابق إليها لأنك تستطيع ذلك، أنت من تولي وجهتك التي تريدها، و لا يحدث ذلك طبعاً إلا بفضل الله، و كرم الله، و قدر الله، و توفيق الله، هذا نؤمن به، لكن الخيار لمن؟ الكسب ممن؟ من الإنسان.

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
[ سورة البقرة ]

أما التوفيق والتيسير فمن الله، أنا أملك أن أسير في طريق الحق فيسيرني في طريق الحق، غيري ينوي أن يسير في طريق الباطل فيسيره في طريق الباطل، ليحقق له اختياره، ويملي له، ليحقق اختياره، فربنا عز وجل منحنا حرية الاختيار، نحن مخيرون من بين كل المخلوقات، الإنس والجن مكلفون ومخيرون، مخير تستطيع أن تسلك أي الطريقين تريد لأنك مكلف و مسؤول.

عدل الله مطلق:
آخر شيء في المقومات أيها الأخوة الكرام؛ هذه ستة مقومات، آخر شيء كتعليق على جميع المقومات، ربنا عز وجل قال في كتابه الكريم، وأظن ذكرت ذلك ولكن للتأكيد:

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)
[ سورة الطلاق ]

انظر إلى نفسك وما أتاك الله
الله آتاك، والله آتاني، والمسلم الذي يعيش بالغرب الله آتاه، وغير المسلم الله آتاه، و كل واحد ربنا آتاه شيئاً من مقومات الأمانة، و سيحاسبه على ما آتاه، فأنت لا تنظر إلى غيرك وتقول: فلان كيف سيحاسبه الله؟! أنت انظر إلى نفسك، وما أتاك الله لأنك ستحاسب على ما آتاك، آتاك مالاً ستحاسب على المال، آتاك أنه قادك إلى الحق، وأسمعك كلمة الحق سيحاسبك على ذلك، آتاك أنك جار المسجد وتسمع الآذان في كل يوم خمس مرات سيحاسبك على ذلك، غيرك لا يسمع الآذان ربما يعيش في مكان في مجاهل إفريقيا، يوجد أناس كثيرون كل واحد الله آتاه، وربنا عز وجل بناء على ما آتاه يحاسبه، وبناء على ما آتاه يكلفه، فنحن لا ينبغي أن ننشغل بغيرنا، فكل إنسان آتاه الله شيئاً، لا يوجد إنسان إلا والله آتاه، مادام مخيراً، ما دام عنده فطرة، عنده عقل، مسخر له الكون، كل إنسان ربنا آتاه، هناك أشخاص جاؤوا إلى الحياة بشرائع مختلفة، هناك أشخاص ممكن أن يحاسبوا على فطرتهم، وعلى عقلهم، لم تبلغهم الشريعة، لم يبلغهم افعل ولا تفعل، سيحاسبون على العموم، على الإحسان، على عدم الظلم.

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
[ سورة الكهف]

لا يوجد ظلم نحن موقنون بذلك، لأن الله جلّ جلاله أخبرنا أنه لن يظلم أحداً والخلائق كلها يوم القيامة عندما ينقضي الحساب ستقول:

وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
[ سورة الزمر]

كل الخلائق ستحمد الله، لأنها تعلم حينها أن عدل الله جلّ جلاله مطلق، اليوم إذا كان هناك قاض من قضاة الأرض حكم مئة حكم في حياته، تسعة وتسعون صح وأخطأ بحكم واحد ماذا يسمى؟ قاض عادل، هل يستطيع إنسان أن يقول: القاضي ظالم لأنه يوجد بحياته حكم فيه ظلم؟ لا، لأن العدل نسبي بالحياة، حسب ما سمع، لكنه عادل، ربنا جلّ جلاله عدله مطلق، لا يوجد واحد بالمئة غلط، نسبة الخطأ صفر بالمئة، مستحيل يظلم (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً):

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
[ سورة الأنبياء]

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)
[ سورة النساء]

ولا:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49)
[ سورة النساء]

حبة نواة التمر، النقير النقطة التي خلفها، والقطمير التي بداخلها، والفتيل الذي يظهر على طرف النواة ما وزنه؟ لا شيء، هذا كله لا تظلمه عند الله، كل عمل ستجده.

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
[ سورة النساء]

فتيقنوا أحبابنا الكرام أن الله تعالى لن يظلم أحداً (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا)، (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)
هذه مقومات التكليف، أسأل الله تعالى أن يكون فيها النفع والخير والفائدة.
والحمد لله رب العالمين