• محاضرة في الأردن
  • 2022-01-03
  • عمان
  • الأردن

عامٌ جديد

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين.


اعتزاز المسلم بهويته:
ما معنى أن نودع عاماً ونستقبل عاماً؟ أدرك تماماً أن عامنا نحن _ المسلمين _ هو العام الهجري القمري، وهذا ممَّا ينبغي أن يعتز به المسلم، ويتميز به، والإسلام دعا في غير موضع إلى تعزيز الهوية الإسلامية، أي أن يعتز المسلم بهويته:

{ عن شداد بن أوس رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: خالِفوا اليهود، فإنهم لا يصلُّون في خفافهم، ولا نِعالهم }

[أخرجه أبو داود ]

لما أتى صلى الله عليه وسلم المدينة ووجد اليهود يصومون عاشوراء، قال: نحن أحق بموسى منهم، ثم صام هو، وأمر الناس بصيامه، ثم أمر بصيام التاسع معه، من أجل مخالفتهم.
المسلم يعتز بهويته
فالمسلم يعتز بهويته، ونحن _ المسلمين _ هويتنا فيما يتعلق بالتاريخ هي التاريخ الهجري القمري، فهو بداية هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يوم اجتمع سيدنا عمر مع كرام الصحابة وأقروا أن تكون الهجرة النبوية الشريفة مبدأ التاريخ الإسلامي، فنؤرخ 1400 و1440 إلى آخره من الهجرة، لكن على جميع الأحوال هذا عام قد مضى، عام من التأريخ الميلادي قد مضى، وقد استقبلنا عاماً جديداً، وقد رأينا من المسلمين من احتفل بقدوم هذا العام وللأسف هناك الكثير ممن أضاعوا الهوية، وعصوا الله تعالى في هذه الليلة، وبدلاً من أن يستقبلوا أيامهم بالطاعات استقبلوها بالمعاصي والآثام، وهذا مصداق لقوله صلى الله عليه وسلم:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتتبعن سنن من قبلكم باعاً فباعاً، وذراعاً فذراعاً، وشبراً فشبراً، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه معهم }

[أخرجه الحاكم]

وجحر الضب فيه رائحة كريهة، الضب يصدر رائحة كريهة، ثم يحتاج من يدخل في جحر الضب أن يتلوى، وأن يغير من مبادئه وهويته حتى يدخل جحر الضب.
وهذا للأسف وقع في هذه الأمة، وهو ما يسمى بالهزيمة النفسية، بمعنى أن كثيراً من المسلمين مهزومون أمام أنفسهم فأصبحوا يقلدون الآخر، دائماً المنتصر يقَلَّد، والمهزوم يُقلِّد، وهذه سنة الحياة، كما قلت: عامنا هو العام الهجري، لكن لو وعى الإنسان كيف تمضي الأيام والسنون فإنه ليس بالضرورة أن يحتفل بماضيها واستقبال شيء جديد منها!
لاحظنا في هذه الاحتفالات أننا لم نسمع قول الذين كانوا يقولون: لقمة في بطن جائع خير من بناء جامع! يوم يبنى مسجد لله لتقام فيه شعائر الله، ويعظم فيه الله، ويُدلَّ الناس فيه على هويتهم، ويعرَّفون بربهم، وتُحققَ لهم السعادة في الدنيا والآخرة، كنا نسمع من يقول: يا أخي تبنون المساجد! لقمة في بطن جائع خير من بناء ألف جامع.
ويوم يأتي موسم الحج، نسمع أيضاً من يقول: أوقفوا موسم الحج، وأطعموا الناس الجياع، لكن هذه الأصوات لا نسمعها في احتفالات رأس السنة التي تنفق فيها المليارات على المفرقعات النارية التي تتلف فيها الأموال، لا أحد قال: أوقفوا كل ذلك وأطعموا الجياع، بل احتفل العالم وكأن شيئاً لم يكن، وهذا يدل على نفاق هؤلاء الذين يدعون حرصهم على الناس، وفي حقيقة الأمر هم حريصون على شهواتهم، وعلى مصالحهم، وليس على الناس.

الإنسان بضعة أيام:
على كلّ كما قلت: ودعنا عاماً واستقبلنا عاماً جديداً فما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن الإنسان قد مضى جزء منه، لأن الإنسان وقت، أو مادة حياته الوقت، ما أصدق تعريف للإنسان؟ إنه تعريف الحسن البصري الذي يقول: " أيها الإنسان إنما أنت بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منك ".
فعلاً نحن بضعة أيام، لا أدري كم كتب الله تعالى لي أن أعيش في هذه الحياة لكن جدلاً وفرضاً ربما أعيش خمساً وسبعين سنة، وأربعة أشهر، وثلاثة أيام، وأربع دقائق، وخمس ثوانٍ، هذا أنا، فكلما مضى ثانية مضى جزء مني:
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني
{ أحمد شوقي }
رأس مالنا الزمن
فنحن زمن، رأس مالنا الزمن، فكلما مضى الزمن مضى جزء منا، فإن مضى في طاعة الله استبشرنا خيراً، وإن مضى في المعصية فلا ينبغي أن نفرح، لأن هذا يكون فرحاً بالمعصية، والله تعالى يقول:

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
[ سورة يونس]

فنحن يمضي جزء منا كل يوم، وعندما نودع عاماً ونستقبل عاماً معنى ذلك أننا خسرنا، خسرنا إن لم تكن هذه الأيام مضت في طاعة الله، قال تعالى:

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
[ سورة العصر]

يقول أحد السلف: والله ما فهمت معنى قوله تعالى:(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) إلا حينما مررت على بائع الثلج، فوجدته ينادي: ارحموا من يذوب رأس ماله، اشتروا بسرعة لأن رأس المال يذوب، مع بائع الثلج، فنحن يذوب رأس مالنا في كل يوم، هذا معنى (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) رأس المال يذوب، رأس مالنا الزمن، وهو يذوب كل يوم، وأقسم الله به، بالزمن (وَالْعَصْرِ).

إنفاق الوقت استثماراً لا استهلاكاً:
المؤمن يستثمر الوقت
إذاً ما دام رأسمالنا الزمن فيجب أن ينفق استثماراً لا أن يُنفق استهلاكاً، الاستهلاك يكون في المباحات دون أن تبتغي بها وجه الله، يمضي الإنسان الوقت في تجارته، عمله، مع أسرته، وليس له هدف أخروي، استهلك الوقت، الأسوأ منه من يعصي الله في الوقت، لكن المؤمن يستثمر الوقت، هذه الجلسة جلسة استثمار للوقت، الجلسة مع الأهل تبتغي بها وجه الله جلسة استثمار للوقت، حتى لو كانت نزهة، العمل إذا كنت تؤدي زكاة مالك، وتتقي الله في عملك، وتنصح المسلمين ولا تغشهم فأنت تستثمر الوقت، تستثمره ولا تستهلكه، لكن الذي يعصون الله، أو الذين يمضون في المباحات أوقاتاً طويلة دون أن تُسخَّر هذه المباحات لخدمة دينهم، وعباد الله هؤلاء يستهلكون الوقت، الاستثمار يعني أن تعمل، ما معنى الاستثمار في التجارة؟ المال يكون مئة فيصبح مئة وعشرة، استثمرته، ينمو المال، الاستثمار في الوقت يعني أن هذا الوقت الذي مرّ ستربح فيه شيئاً بعد مضي الوقت، انتهى الزمن، وقفنا بين يدي الله، وجدنا هذه الأعمال التي كانت في الزمن الذي مضى، إذاً استثمر الوقت، هذا الوقت مستثمر.
إذاً أيها الكرام؛ مر عامٌ واستقبلنا عاماً، ومضى زمنٌ وينبغي أن نتعظ بمرور الزمن، أن نأخذ منه العبرة والعظة، لأنه مرّ من أعمارنا، أعظم ما يفعله الإنسان في الوقت هو العمل الصالح، لذلك قال تعالى:

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
[ سورة العصر]

حتى: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) هي أعمال صالحة، في محصلة الأمر هي أعمال صالحة، فكل الوقت إذا استثمر في العمل الصالح يكون إن شاء الله في مرضاة الله.

ثلاثة أشياء ضرورية لاستثمار الوقت:
1 ـ مجاهدة النفس:
هناك ثلاثة ميمات لاستثمار الوقت أريد أن أتحدث عنها في هذا اللقاء، وبمناسبة مضي الوقت.
الجهاد جزء من ديننا
الميم الأولى: ميم المجاهدة، والثانية: ميم المراقبة، والثالثة: ميم المحاسبة، مجاهدة، مراقبة، محاسبة، ثلاثة ميمات، الميم الأولى ميم المجاهدة، لا أقصد هنا الجهاد القتالي، مع أنه جزء من ديننا، ويوم حذفناه من مناهجنا ضعفنا وضعفنا، وأصبح يُجاهَد بنا، أي نحن صرنا من يقع عليهم الجهاد، لكن هم يسمونه قتالاً، يسمونه حماية حدود، حماية أمن، قتال إرهابيين، هم أصبحوا يسمونه بأسماء أخرى لكن هو موجود، الشخص الذي يستحي بدينه يقول لك: الجهاد مشكلة، هو في حقيقة الأمر الجهاد موجود منذ خلق الله الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لكن إما أن تكون أنت من يجاهد، فتنشر الخير، والحب، والسلام، والمعروف بين الناس، ولا تقتلوا امرأة ولا ولداً، وإما أن يجاهدوا بك فيلقوا عليك براميلهم المتفجرة، وصواريخهم العابرة، في الحقيقة هو موجود، إما أنه الطرف الفاعل، أو الطرف المفعول به، أما من يقول غير ذلك فهو يغرد خارج السرب، ولا توجد حياة بغير معركة مستمرة بين طرفين، فإذا كان الحق هو الذي يقوم بهذه المعركة ويبادر بها فالأرض فيها الخير والسلام كما شهدت البشرية في عصورها الغابرة، وإذا كان الحق قد انزوى أهله فالحق لا ينزوي، لكن إذا كان أهل الحق ضعفوا فإن أهل الباطل ينتفشون ويجعلونهم مفعولاً به وليسوا فاعلين، فأنا لا أنكر الجهاد القتالي، ولكن أتحدث هنا عن مفهوم آخر وهو مجاهدة النفس، لأن المهزوم أمام نفسه لا يستطيع أن يواجه نملةً في أرض المعركة.
وهذا الجهاد له دليلان؛ الدليل الأول من الكتاب، والثاني من الأثر، من الكتاب يقول تعالى:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
[ سورة العنكبوت]

قالوا المفسرون: (جَاهَدُوا فِينَا) حملوا أنفسهم على طاعة الله، أي هنا جهاد النفس والهوى: (جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا).
أعظم جهاد أن يجاهد المرء نفسه
والدليل من الأثر: أنه ورد عن بعض الصحابة الكرام أنهم قالوا عندما رجعوا من الجهاد: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، جهاد النفس والهوى، لأن أعظم جهاد أن يجاهد المرء نفسه في أن يحملها على طاعة الله، وأن يمنعها من معصية الله، هذا أعظم أنواع الجهاد.
المجاهدة مهمة جداً، والإنسان لا يمكن أن يرقى إلا إذا جاهد نفسه، قال تعالى:

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)
[ سورة النازعات]

(وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) ما معنى المجاهدة؟ بذل الجهد في أي أمر تفعله، حتى الجهاد بالمعنى الاصطلاحي هو بذل الجهد لإعلاء كلمة الله تعالى.
فعندما نقول: نجاهد أنفسنا، أي ننهاها عن هواها، هي تريد شيئاً، والشرع يريد شيئاً، فنمنعها مما تريد ابتغاء وجه الله، في المرة الأولى يكون الأمر صعباً جداً، في المرة الثانية أخف، وهكذا، أي واحد منا جرب المجاهدة بمجال من المجالات، صلاة الفجر مثلاً جاهد نفسه بأيام متعددة أن يستيقظ باكراً حتى يدرك الصلاة في المسجد مثلاً، بعد أسبوع صارت طبيعة، فالمجاهدة تكون صعبة في البدايات لكن تخف حدتها شيئاً فشيئاً.
ثابت البناني يقول: تعبتُ بالصلاة عشرين سنة، ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، قال: وأنا أقوم إلى الصلاة وأنا أحمل همّ خروجي منها، أي وصل لمرحلة وقف ليصلي يكون منزعجاً لأنه سوف يخرج من الصلاة، مهما أطال في النهاية سوف يخرج، من حبه للصلاة، لكن ماذا قال في البداية؟ تعبت عشرين سنة، أي بقيت عشرين سنة وأنا أجاهد نفسي على الصلاة، ودائماً أحسها تكليفاً، واجباً لابد من أدائه، إلى أن وصلت إلى مرحلة أحس أنها تشريف ووقوف بين يدي الله، فهي تشريف عظيم لي.
طبعاً المؤمن يثاب سواء شعر بالتكليف أو بالتشريف، الثواب سيان، والإنسان عندما يقول: والله أنا لا أشعر، المهم أنك تؤدي، سواء كنت تجد صعوبة في الأداء، أو لا تجد لكن النتيجة إن شاء الله الثواب عظيم عند الله، وهذا من رحمة الله.
وورد في بعض الآثار أيضاً: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".
المؤمن يجد راحته في طاعة الله
سأضرب مثالاً من الواقع الذي قضيناه قبل أيام للأسف الشديد: كلنا - ولله الحمد – لا نذهب إلى حفلات رأس السنة التي تدار فيها المعاصي والآثام، لكن مثلاً هناك إنسان لم يذهب لكنه شاهد على الشاشة، أو رأى بعض المقاطع، قال لك: المشوار جميل، لكن أنا لا أذهب لأنه حرام، أبتغي وجه الله، لكن في نفسه لو كان هذا الشيء ليس حراماً فإنه يذهب، شخص آخر يقول لك: والله هذا المنظر مقرف، كيف تجلس الناس هذه المجالس! فعلاً شيء مقرف، لا شك أن الثاني ارتقى مرتبة أعلى من الأول، ما زال في المجاهدة، أي ما زالت نفسه تنازعه إلى المعصية لكن هو يمنعها، الثاني قال لك: أنا لا أجد نفسي، أيعقل أن أجلس بمجالس كهذه تدار بها الخمور والنساء الكاسيات العاريات؟ وجد نفسه مع أهل بيته، وجد نفسه في جلسة طيبة، وجد أنسه وراحته في طاعة الله عز وجل، هذا الفرق في المجاهدة.
كلنا هناك أمور - ولله الحمد - جاهدنا أنفسنا بها، ووصلنا بها إلى مستوى معين، وهناك أمور ما زلنا نحتاج إلى مجاهدة، إنسان يقول لك: موضوع المال إن شاء الله أحصن نفسي منه، إذا كان الشيء حراماً، والله لو يكون مئة مليون لا آخذه، جاهد نفسه بقضية ألا يدخل إلى نفسه قرشاً حراماً، لكن يقول لك: والله ما زلت في غض البصر أجد صعوبة تنازعني نفسي أحياناً إلى إطلاق البصر في الحرام فأصدها، شخص آخر: أنا بالعكس والله أنا مشكلتي بالمال، عندي شهوة في المال عالية جداً، وما زلت أجاهد نفسي، الحمد لله موضوع النساء تجاوزته مثلاً، أي كل إنسان جاهد نفسه في شيء وما زال مقصراً في شيء آخر.
فنحن عندما نودع ونستقبل عاماً جديداً، نذكر أنفسنا بأهمية المجاهدة، أن نحمل أنفسنا دائماً على طاعة الله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)
.
الإمام البوصيري يقول:
والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
{ محمد بن سعيد البوصيري }
أي إذا لم تمنع الطفل من حليب أمه فيمكن أن يرضع لخمس سنوات ولا يوجد عنده مشكلة!
لكنه يبكي باليوم الأول، والثاني، والثالث، يبكي ولا ينام، ولا يجعل أمه تنام، ولا البيت كله ينام، لأنه مُنع عن شيء يحبه، لكن بعد ثلاثة أيام، وبعد أسبوع، وبعد شهر إذا قربته الأم إلى صدرها يرفض، هو يرفض، لأنه تعود على نمط جديد في الغذاء:
والــــنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم وخالف النفس والشيطان واعصمهما وإن هما محضاك النصح فاتهم
{ محمد بن سعيد البوصيري }
لأن النفس أحياناً تقول لك: أنا ناصحة لك، انظر الشيطان ماذا فعل، الشيطان عندما طلب من آدم عليه السلام وزوجه أن يأكلا من الشجرة، لم يقل له: اذهب إلى الشجرة وكُلْ منها، بل قال:

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
[ سورة طه]

زين المعصية، وإن هما محضاك النصح فاتهم، اتهم النفس والشيطان إذا هما نصحا لك بشيء يخالف شرع الله عز وجل، لا تقبل منه أن يزين لك المعصية.
الميم الأولى هي ميم المجاهدة، فلنجاهد أنفسنا على طاعة الله عز وجل، لا يوجد شيء بلا مجاهدة، طالب توجيهي الآن يدرس الطب في السنة الأولى سله: كيف وصلت؟ يقول لك: جاهدت نفسي، حملتها حملاً، ما كنت مرتاحاً كثيراً أني أدرس كل يوم عشر ساعات، لكن كنت أجاهد نفسي، وأحملها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، والتاجر يقول لك: والله أنا تعبت كثيراً، فكل شيء يحتاج إلى مجاهدة، هذه سنة الحياة، لن تصل إلى شيء إلا بالجهد، ببذل الجهد والمجاهدة، فالميم الأولى هي ميم المجاهدة.

2 ـ مراقبة الإنسان ربَّه في كل ما يفعله:
الميم الثانية ؛ هي ميم المراقبة، وهذه تتبع للمجاهدة، أو تتكامل المجاهدة مع المراقبة، المراقبة ؛ تعني أن يراقب الإنسان ربه في كل ما يفعله، فمن المراقبة أن تنظر أن الله ينظر إليك قبل أن تفعل أي فعل، الله ناظر إليّ، الله مطلع عليّ، الله شاهد عليّ، في كل فعل تفعله أن الله عز وجل يراقبني.

أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)
[ سورة العلق]

لا تجعل الله أهون الناظرين إليك
الله يراك، والله هذه الآية وحدها كفيلة بأن تدفع الإنسان دائماً إلى أن يراقب الله، وبأن يخشى الله في كل فعل يفعله، لأن الله يراه، لا تجعل الله أهون الناظرين إليك، بعض الناس - نسأل الله السلامة- يجعلون نظر الله إليهم أهون النظر، فإذا نظر إليه والده كفّ عن أشياء ولم يفعلها، وإذا نظر إليه مديره في العمل كفّ عن أشياء أخرى ولم يفعلها، لكن نظر الله إليه وكأنه لم ينظر إليه والعياذ بالله، لم يدخل حساب الله له في حسابه، فهذه مشكلة، وينبغي على الإنسان دائماً أن يراقب الله، ما معنى يراقب الله؟ النبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله جبريل: ما الإحسان؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، هما مرتبتان، حتى ننتبه للنص، أن تعبد الله كأنك تراه، كأنك أنت تراه.

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي
[ سورة الأعراف]

في الدنيا لن ترى الله، في الآخرة إن شاء الله سنرى الله لا نضام في رؤيته، كما نرى القمر ليلة البدر، وهذا من أعظم منن الله على المؤمنين عندما يكشف لهم الحجاب فيرون وجهه الكريم، فيغيبون من نشوة النظر، شيء عظيم أن ترى الخالق، لكن هذا في الآخرة، في الدنيا نرى صنيعه، لكن لا نراه، فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، المرتبة الثانية، فإنه يراك، مطلع عليك، فلا أقل من أن تعلم أن الله مطلع عليك في كل لحظة، فإذا تيقن العبد من ذلك فذاك حري أن يستحي من الله.
تبرير المعصية أعظم من المعصية
جاء رجل إلى أحد الصالحين وقال له: أريد أن أعصي الله، يريد فتوى، هو إنسان يعصي الله، يريد فتوى يبرمجها، وأنا دائماً كنت أقول، والآن أقولها بهذه المناسبة في رأس السنة، لا أقول: ليس هناك مشكلة في المعصية، معاذ الله، المعصية شؤم، لكن نحن إن شاء الله إذا وقعنا تبنا، ورجعنا إلى الله، ولله الحمد، لكن المشكلة الأعظم من المعصية أن تبرر المعصية، أي فرق كبير بين شخص تارك للصلاة، وهو يقول لك: أنا عاص، ادع الله أن يتوب عليّ، وأنا والله أعلم أن ذنبي كبير، وبين شخص يقول لك: ماذا فعلنا؟ فرق كبير، كلاهما يعصي، فرق كبير بين امرأة متفلتة من منهج الله عز وجل، وتقول لك: نسأل الله أن يهدينا، وأنا والله أعرف أنني مذنبة، وإلى آخره، وبين امرأة تقول لك: هذا الصحيح، وأنتم لا دراية لكم بذلك الذي تفعلونه من الحجاب والستر، فرق بين أنك تريد تبريراً للمعصية، وأن تفعلها وأنت ذائب خجلاً من الله عز وجل، فهذا أيضاً مما ينبغي الالتفات إليه.
فقال لهذا العالم: أريد أن أعصي الله، مثل هذا الرجل الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: ائذن لي بالزنا، هو يريد أن يزني بعد أن يأخذ إذناً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد أن يزني وهو مرتاح، ممكن أن نسميها مثلاً وقاحة، شاب يدخل على رسول الله ورغم ذلك تعلمون كيف تعامل صلى الله عليه وسلم معه، قال له: اجلس أترضاه لأمك؟ أترضاه لأختك؟ ولا الناس يرضونه لأمهاتهم، ولا الناس يرضونه لأخواتهم، ولا الناس يرضونه لعماتهم، ثم مسح على قلبه ثم قال: اللهم طهر قلبه، قال: فخرجت من عند رسول الله وما شيء أبغض إليّ من الزنا.
فهذا الرجل جاء للعالم قال: أريد أن أعصي الله، قال له: اعصِ الله، ولكن اذهب إلى مكان لا يراك الله فيه، ابحث عن مكان في الأرض لا يراك الله فيه، قال: لا يوجد مكان لا يراني الله فيه، قال: إذاً لا تعصيه، الإنسان يريد أن يعصي وعلى مرأى الله؟! ابحث على مكان لا يراك الله فيه، فالله مطلع علينا.

تفاوت الناس في المعصية والتوبة منها:
إخواننا الكرام ؛ كلنا ذو خطأ حتى نكون واقعين، من منا لا يخطئ؟!

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: كُلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ }

[أخرجه الترمذي ]

{ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفارة الذنب الندامة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون ليغفر لهم }

[أخرجه مسلم]

وهذا ليس معناه أن الله يريد منك أن تذنب حاشاه تعالى، لكن معنى الحديث أن الإنسان أحياناً قد يذنب ولا يشعر بذنبه، فهذا لا يريده الله، يريد من إنسان إذا عصى أن يتوب ويؤوب، هذا معنى الكلام، أي هذه رسالة خلف العبارة، ما وراء السطور.
إذا عصى الإنسان يجب أن يتوب
فكلنا ذو خطأ، لكن نحن نتفاوت فيما بيننا، فهناك من يخطئ ويتوب، وهناك من لا يخطئ ولا يتوب، وهناك من تتكاثر عليه الذنوب، وهناك من لا تتكاثر عليه الذنوب، وهناك من يرتكب الصغائر والكبائر ولا يبالي، وهناك من معاصيه من الصغائر، فالتفاوت هو في نوع المعصية، وفي التوبة منها، وفي عددها، وكميتها، فهناك من يعصي الله في الأسبوع مرة، وهناك من يعصي الله في اليوم عشر مرات.
أحد الصالحين عدّ أيام حياته فوجدها تزيد على واحد وعشرين ألف يوم، فضرب على رأسه، فقال: يا ويلتاه أألقى الله بواحد وعشرين ألف ذنب! كل يوم ذنب واحد صاروا واحداً وعشرين ألف ذنب.
فالمؤمن يقع في المعصية لكنه يسارع إلى التوبة منها، يحاول أن تكون معاصيه قليلة، لا أن يذنب كل يوم عشرات الذنوب، وإنما يأتي الذنب عفواً، ثم إنه إن شاء الله بعيد عن الكبائر، كعقوق الوالدين، والخمر وما إلى ذلك، وإنما تأتي الصغائر فلا يجعلها تتكاثر عليه فتسد طريقه إلى الله، فيسارع إلى التوبة منها، وكأنها لم تكن.

{ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ }

[أخرجه ابن ماجه ]

فالمراقبة المراقبة، الميم الثانية: ميم المراقبة.

3 ـ محاسبة النفس:
لابد من محاسبة النفس
والميم الثالثة: ميم المحاسبة، مادام الإنسان يقع في الذنب، ولا بد من أن يقع في الذنب فلابد من المحاسبة، كثير منكم من أهل التجارة، والتاجر إن لم يجرِ محاسبة وانتهت السنة، بعد فترة يضيع إذا لم يسجل ويحاسب، ونحن أيضاً في الدنيا سنحاسب يوم القيامة، ففي حديث سيدنا عمر رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم.
فلنعاهد الله عز وجل في هذا العام وفي كل عام أن نحاسب أنفسنا، لو أن الإنسان حاسب نفسه كلَّ يوم فهذا أفضل، الحساب كل يوم بيومه أفضل، وإذا كان كل أسبوع فجيد، لكن لا بد من المحاسبة، والمحاسبة تكون على نوعين ؛ نوع قبل العمل، ونوع بعد العمل، قبل العمل، هل أفعل أم لا أفعل؟ هل هذا العمل وفق منهج الله أم خلاف منهج الله؟ هل أبتغي به وجه الله أم أبتغي به سمعة ورياء؟ هذا قبل العمل، ثم إذا عمل يحاسب نفسه، هل قبل الله عملي أم لم يقبله؟ قبل العمل من أجل ألا يقبل على شيء لا يرضي الله، وبعد العمل من أجل أن يصحح إن وقع فيما لا يرضي الله، هذا تصبح أخطاؤه قليلة، لا تلغى، لكن تخف كثيراً، لأنه يحاسب نفسه دورياً، دائماً، في المساء أنا اليوم والله تكلمت كلمة بحق فلان كانت قاسية، على الهاتف: يا أبا فلان سامحني، والله أنا ما قصدت الإساءة، انتهى الموضوع، لم يعد هناك تراكمات، أنهى الموضوع، هذا المبلغ المالي فيه شبهة، سأعزله وأدفعه صدقة، لا أريد أن أدخله على مالي لأن فيه شبهة مثلاً، هذا حساب، اليوم فاتتني الصلاة، فاتتني صلاة من الصلوات أقضيها وأستغفر الله، وإن شاء الله أحرص في المرات القادمة أن أجعل الصلاة أول عمل من أعمالي، حتى لا تفوتني، وهكذا، المحاسبة الدورية تجعل الإنسان إن شاء الله خالياً من الذنوب، ويتوب، يراجع، يصحح، إذا كان هناك حقوق للعباد يؤديها، إذا كان هناك حقوق لله يستغفر الله منها.
في الحديث: " من حاسب نفسه في الدنيا عسيراً، كان حسابه يوم القيامة حساباً يسيراً ".
في الحديث القدسي:
" لا أجمع على عبدي يسرين ولا عسرين، فمن حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيرًا حاسبته حساباً يسيراً، ومن حاسب نفسه في الدنيا حساباً يسيراً حاسبته يوم القيامة حساباً عسيراً".
على الإنسان أن يختار الدنيا أو الأبد
إما أن تحاسب نفسك ستين سنة حساباً عسيراً، ثم للأبد كله يسير، أو بالعكس، الآن نرتاح ستين سنة دون محاسبة، لا تدقق، كل شيء تقول لنا: يجوز ولا يجوز، ربك غفور رحيم، وتوكل على الله، هذا يسير، ثم يوم القيامة عسير، هذا أبد، فعلى الإنسان أن يختار إما أن يعيش الآن بيسر ثم عسر، أو الآن يعيش بعسر ويحاسب نفسه ثم يعيش بيسر للأبد إن شاء الله، فالمؤمن، والعاقل، والإنسان المنطقي يختار أن يكون الحساب الآن في الدنيا عسيراً حتى يكون يوم القيامة يسيراً، وإذا شخص يقول له: أنت تزودها، لا أنا لا أزودها، ولا يوجد مبالغة بالحساب، بالعكس كلما ارتقى الإنسان بدينه يحاسب نفسه على الكلمة، على النظرة، على الهمسة، على الضحك، يضحك لله، ويرضى لله، ويغضب لله، كلما ارتقى بسلم الإيمان يكون حسابه في الدنيا عسيراً، لكن إن شاء الله الحساب يوم القيامة يكون يسيراً، وييسره الله له.
هذه ثلاثة ميمات أحبابنا الكرام في مطلع العام، ميم للمجاهدة، وميم للمراقبة، وميم للمحاسبة، فمن جاهد نفسه فحملها على طاعة الله، وراقب الله تعالى في كل عمل من أعماله، وحاسب نفسه على كل عمل من أعماله كانت علاقته بنفسه جيدة، وعلاقته بربه جيدة، فيرجى له الخير فيما يمر من أيامه إن شاء الله، ويرجى له القبول.

الخاسر من ينقطع عمله وهو مازال حياً:
النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم يُنْتَفَعُ به، أو ولد صالح يدعو له }

[أخرجه الترمذي والنسائي ]

وتتمة الحديث تعرفونه: (صدقة جارية، أو علم يُنْتَفَعُ به، أو ولد صالح يدعو له) أنا أريد فقط أول مقطع: (إذا مات الإنسان انقطع عمله)، إذاً إذا عاش ابن آدم ينبغي أن يستمر عمله، المعنى المخالف: (إذا مات الإنسان انقطع عمله) مصيبة، أكبر مصيبة بالموت أن العمل انتهى، بدأ الحساب، طالب على طاولة الامتحان وهو يكتب انتهى الوقت، انقطع العمل، الآن يوجد تصحيح، لا يستطيع أن يكتب أية كلمة، انتهى، (إذا مات الإنسان انقطع عمله) أما إذا عاش ابن آدم فينبغي أن يستمر عمله، وألا ينقطع، إذا وجدت إنساناً حياً يرزق وعمله كان منقطعاً فهو أكبر الخاسرين، وقف عمله ومازال قلبه ينبض مادام القلب ينبض يجب ألا يتوقف العمل، سواء كان العمل متوجهاً إلى الله بالعبادة، أو متوجهاً إلى الناس بالبر والإحسان، وهو جزء من العبادات في محصلة الأمر.
والحمد لله رب العالمين