اللقاء: 01- حقَّ تلاوته

  • الأردن - عمان- مركز الكالوتي - برنامج آيات وتأملات
  • 2022-02-12
  • عمان
  • الأردن

اللقاء: 01- حقَّ تلاوته

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصَلِّي وأُسَلِّم على نبيِّنا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم عَلِّمنا ما ينفَعُنا وانفعنا بما عَلَّمتَنا وزدنا عِلماً وعَمَلاً مُتَقَبَّلاً يا ربَّ العالمين.


أربع بِشَاراتٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إنَّي سعيدٌ اليوم بوجودي بينكم في هذا المركز الأنيق والمُثمِر إن شاء الله ثمرات عظيمة، وأسأل الله أن يكتب الأجر لكل من ساهم في إنشائه، ثم إنني أودُّ أن أُبَشِّرَكُم بهذه البِشَارة في مُستَهَلِّ حديثنا اليوم وهي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول كما في الصحيح:

{ ما اجتمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ يتلونَ كتابَ اللَّهِ، ويتدارسونَهُ فيما بينَهم إلَّا نزلَت عليهِم السَّكينةُ، وغشِيَتهُمُ الرَّحمةُ، وحفَّتهُمُ الملائكَةُ، وذكرَهُمُ اللَّهُ فيمَن عندَهُ }

[ رواه مسلم ]

يتدارسون كلام الله، يتدبَّرونه، يُفَسِّرون آياته، يتحاضُّون على العمل به، يتدارسونه بينهم.
أربعة أمور مُجتَمِعَة كل واحدةٍ منها كفيلة أن تدفعنا إلى حضور مجالس الذِّكر ومجالس القرآن الكريم.
السَّكِينة أعظم عطاءٍ إلهي
الأولى: (نزلَت عليهِم السَّكينةُ): والسَّكِينة أعظم عطاءٍ إلهي، فالإنسان يسعَدُ بالسَّكِينة ولو فَقَد كل شيء، ويشقى بفقدها ولو مَلَكَ كل شيء، قد تجد أُناساً في القصور وعندهم من الدنيا ما عندهم، ونُزِعَت منهم السَّكِينة فما عادت كل الدنيا في أعينهم تُحقِّق لهم شيئاً، وقد تجد إنساناً في كهف لكن السَّكِينة في قلبه فيجد من سعادتها ما لا يجده المُتَرفون في قصورهم، وجد السَّكِينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار يوم قال لصاحبه:

إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
[ سورة التوبة ]

ووجدها يونس في بطن الحوت إذ قال:

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
[ سورة الأنبياء ]

ووجدها إبراهيم عليه السلام وهو في داخل النار يوم قال الله تعالى:

قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69)
[ سورة الأنبياء ]

فأولاً: (نزلَت عليهِم السَّكينةُ، وغشِيَتهُمُ الرَّحمةُ)، فمجالس القرآن تغشاها الرَّحمات (وحفَّتهُمُ الملائكَةُ) من كل حَدٍب وصَوب، تُحيط بهم ملائكة الرحمن، يستمعون إلى مجالس القرآن ويحفظون من فيها.
(وذكرَهُمُ اللَّهُ فيمَن عندَهُ) أنت اليوم إذا كنت في مجلس وقال لك أحدهم: أمس كُنَّا مع فُلان، وفُلان إنسان له مكانة كبيرة في البلد، قال لك: كُنَّا مع فَلان وجاء ذِكرُك في المجلس، يتَهَلَّل وجهك وتسأله فوراً ماذا حصل؟ ماذا قلت عني؟ من سأل عني؟ لمَّا سمع اسمي ماذا قال؟ لأنك ذُكِرتَ في مَلأ من مَلَأ أهل الدنيا، فإذا استشعرتَ أنك يوم تكون في مجلس ذِكر فإن الله يذكُرك فيمن عنده في المَلَأ الأعلى في الملائكة، يقول: عبدي فُلان حضر مجلس الذِّكر، عبدي فُلان كان يقرأ كتاب الله، عبادي فُلان وفُلان كانوا يتدارسون في مجلسٍ كلام الله تعالى، هذه أربع بِشَاراتٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كيفية تلاوة القرآن حقّ تلاوته:
1ـ تلاوته وفق قواعد اللغة العربية:
ثم أيها الكرام أبدأ بموضوع هذا اللقاء وعنوانه: "حَقَّ تلاوته"، وهو مُستَنبَطٌ من قوله تعالى:

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
[ سورة البقرة ]

وبغضِّ النظر سواءً كانت الآية على قول من قال: إنها في أهل الكتاب، أو على قول من قال: إنها في المؤمنين عامة، فنحن أيضاً لنا كتاب، وينبغي أن نتلوه حقَّ تلاوته.
ما معنى (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ)؟ ابن عباس تَرجُمَان القرآن وحَبْرُ الأُمَّة رضي الله عنهما يقول: (يتلونه حَقَّ تِلاوته أي يتَّبعونه حَقَّ اتِّباعه) لأن تَلَاه أي مشى وراءه، تَبِعَه، تَلَاه، فيتلونه أي يتَّبِعونه حَقَّ اتِّباعه.
أريد في هذا المجلس المبارك أن نصل إلى هذه النقطة، كيف نتَّبِعُه حَقَّ اتِّباعه؟ ما الأمور الواجب أن نفعلها لنصل إلى (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ)؟

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
[ سورة البقرة ]

أولاً في حَقِّ التلاوة أن نتلوَ القرآن وفق قواعد اللغة العربية.
أولاً: القرآن أُنزِلَ بلسانٍ عربيٍّ مُبين قال تعالى:

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
[ سورة يوسف ]

أكثر اللغات قُدرةً على التعبير
فأوسع مَدرَج صوتي في اللغات هو اللغة العربية، لذلك هي أكثر اللغات قُدرةً على التعبير، لذلك اختارها الله تعالى لبَيانه ولكلامه، لا تستطيع في أي لغة أن تُعَبِّر التعبير القرآني أبداً إلا اللغة العربية، مثلاً مَرَّة سألتُ أخاً كريماً مُدَرِّس لغة إنكليزية، قلتُ له: أريد أن تُتَرجِم لي هذا المقطع من الآية، آية في سورة البقرة:

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ۗ
[ سورة البقرة ]

يصف الله العلاقة بين الزوجين (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ). قال لي: لا أدري، صعب، باللغة الإنكليزية كيف سأترجمها؟ أن فُلاناً لِباس لفُلان، فُلان لِباس، بنطال مثلاً أو تيشيرت، لذلك ترجمة القرآن الحرفية صعبة، يُترجِمون المعاني، يحاولون قدر الإمكان أن يُقَرِّبوا المعنى، أما لمَّا قال تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) استفدنا من اللباس السَّتر، فالزوج سِتْرٌ لزوجته والزوجة سِتْرٌ لزوجها، لذلك العلاقات الزوجية يجب أن تبقى داخل البيت وألا تخرج إلى الخارج، والمشكلات الزوجية ينبغي أن تبقى في الداخل وألا تخرج إلى الأولاد أو إلى خارج البيت، استفدنا السَّتْر.

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
[ سورة الأعراف ]

هذا السَّتر. (وَرِيشًا) الجمال، لو كان اللباس سَتْراً فقط لكان كل واحد فينا يأتي الآن إلى هذا المجلس بمناشف الإحرام، يُحَقِّق الستر، لكن نحتاج إلى الجمال مع السَّتر، فلذلك كل واحد فينا انتقى ثياباً جميلة.
(وَرِيشًا) فاللباس جمال، والعلاقة الزوجية مَبنِيَّة على الجمال، جمال المَظهَر وجمال المَخبَر، الكلمة الطَّيَّبَة جمال، المعاملة اللطيفة جمال، المعاشرة بالمعروف جمال، فقال: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) ، ستر وجمال.
الثالثة: ما ألصَقُ شيءٍ بك الآن؟ ثيابك، فاللباس فيه لُصوق، والزواج فيه لُصوق، فالعلاقة الزوجية مبنيَّة على المُلاصقة، يُفضي لها وتُفضي له، ليس سهرته فقط مع رفاقه وهي مع صديقاتها، لا، يوجد لُصوق.
الزواج مواءمة
لا يكفي، اللباس مواءمة، كل إنسان يلبس لباساً على مقاسِه، هل يوجد إنسان يلبس لباساً أكبر من مقاسه؟ غير جميل. و إذا كان ضيِّقاً غير جميل، يختار المقاس المناسب، والزواج مواءمة، لأن الزوج لديه طِبَاع والزوجة لها طِبَاع، هو يتخَلَّى عن بعض طِباعِه من أجلها وهي تتخلى عن بعض طِباعها من أجله، يتواءما مع بعض، قَصَدتُ ليس الحديث عن الزواج في هذا اللقاء وإنما أن أُبّيِّن ما معنى أن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة التي يمكن أن تُعبِّر عن المعاني القرآنية.
لذلك أول ما ينبغي أن نتلو القرآن حَقَّ تلاوته أن نتلوه وفق قواعد اللغة، لا نرفُع مَنصوباً وننصُب مرفوعاً فيختلف المعنى، قال خبيب:
لستُ أُبالي حين أُقتَل مُسلِماً على أي جَنبٍ كان في الله مَصرَعي
{ الصحابي الجليل خبيب بن عدي رضي الله عنه }
قرأها طالب لي مرَّة من المَرَّات: (لستُ أُبالي حين أَقتُل مُسلِماً)
أزال الضَّمَّة ووضع الفتحة (لستُ أُبالي حين أَقتُل مُسلِماً)، أُقتَل مُسلِماً: شهيد في سبيل الله، أَقتُل مُسلِماً: عامِدَاً مُتَعَمِّدَاً في جهنم خالداً فيها.
فبين أقتُل وأُقتَل اختلف المعنى كُلِّيَّاً، فلذلك أولاً: أن نتلو القرآن حَقَّ تلاوته وفق قواعد اللغة.
سأتلو عليكم آيتين ليتضح كيف أن الخطأ فيهما كارثي، الآية الأولى نقرؤها جميعاً:

وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
[ سورة فاطر ]

إذا كان الإنسان جاهلاً باللغة أو بالقرآن لأننا - سأتكلم بعد قليل - لسنا علماء باللغة، لكن سبحان الله القرآن يُقَوِّم اللسان، فلو أن إنساناً لا يعرف القرآن الكريم فقرأ إنما (يخشى اللهُ من عباده العلماءَ)، فجعل الله هو الذي يخشى العلماء، هذا كُفُر، والمعنى الصحيح: العلماء يخشون الله. إذاً: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). قَدَّم المفعول به على الفاعل.
الآية الثانية:

وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
[ سورة البقرة ]

من الذي ابتلى؟ الله هو الذي يَمتَحِن، من المُبتلى؟ المُمتَحَن إبراهيم. (وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ) وليس (وإذ ابتلى إبراهيمُ) يختلف المعنى كُلِّيَّاً، يعكس المعنى تماماً ولا يستقيم.
أردتُ من هذين المِثاليْن أن أُوَضِّح أهمية أن تكون القراءة وفق قواعد اللغة العربية، هذا مهم جداً.

2 ـ قراءته وفق أحكام التجويد:
حق تلاوته أولاً: وفق اللغة، ألا يرفَع منصوباً أو ينصُب مرفوعاً أو يكسر مضموماً أو يَضُم مكسوراً، ينبغي أن تأتي القراءة وفق القواعد اللغة.
الأمر الثاني: وفق أحكام التجويد، وهذه أقول ما أمكن:

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
[ سورة البقرة ]

لا أريد أن أَشُقَّ عليكم ولا على المسلمين، الأصل أن يُقرَأ القرآن وفق أحكام التجويد، أي إدغام، إقلاب، إخفاء، إظهار، مَد طبيعي، مَد مُتَّصِل.
التجويد في اللغة هو التَّحسين
التجويد في اللغة هو التَّحسين، جَوّدتُ الشيء حسَّنتُه، جعلته جيداً، وتحسين القراءة أي أن تُعطي كل حَرْفٍ حقه مَخرجَاً وصفةً.
أي (الهاء) من الحَلق، نصل للشفتين (الباء والميم) فكل حرف له مخرج، وكل حرف له صفة، هناك حرف يُفَخَّم وحرف يُرَقَّق، فلا يجوز أن أُرَقِّق المُفَخَّم أو أُفَخِّم المُرَقَّق، يصبح اللفظ غير سليم، غير مُستسَاغ، فكل إنسان قدر ما يستطيع ينبغي أن يتعلم أحكام التجويد، أي يُلِم ببعضها على الأقل.
أريد أن أقرأ آية لنتعلم معاً كيف أن أحياناً أحكام التجويد مهمة أيضاً لفهم المعنى، هذه الآية التي على الشاشة:

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
[ سورة النور ]

سأقرؤها بالتجويد، أي بتحسين الصوت وأن أعطي كل حرف حقه.
انظر التصوير الفني في القرآن، الآية تضرب مَثَلاً، الكافر المُنحرف عن منهج الله البعيد عن الله، كافر، كَفَر بمنهج الله، هذا الرجل عَمَلَه يشبه ماذا؟ يضرب مثلاً للعربي بالصحراء، الذي يعيش في الصحراء يعرف معنى السراب، نظر من بعيد وكأنه وجد بركة ماء، هي سراب، هي انعكاس الشمس على الرمل، من بعيد كأن هناك ماءً. (بِقِيعَةٍ) هي الصحراء .
(يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً)، من شدة عطشه يرى كل شيء ماء، (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) وصل لم يجد شيئاً، انظر إلى المُدود كيف أعطت الرحلة الطويلة من أجل الوصول إلى الماء، المدود، (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ) راكضاً، المُدود هي تجويد، لكن هي تُعَبِّر عن معنى، وكأنه بهذه الصحراء يركض، وعندما وصل لم يجد شيئاً، جاء الأخذ السريع بعد الإمهال الطويل، لم يعد هناك مد، (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ)، قَطْع، هو يظن أنه سيجد الماء ووجد العقوبة من الله عز وجل، لأن عمله لم يكن لله تعالى وإنما كان لدنيا يُصيبُها أو امرأة ينكحها.
فهنا التجويد والتحسين أدى معنى وليس فقط تجويد القرآن، لذلك أحَثُّكُم وأَحُثُّ نفسي على أن نُكثِر من تلاوة القرآن لنتعلم أحكامه.

أهمية الاستماع:
اللغة تبدأ بالاستماع
إذاً أولاً: القراءة وفق قواعد اللغة العربية، ثانياً: القراءة وفق قواعد التجويد ما أمكن ذلك، وهذان الشيئان القراءة وفق قواعد اللغة العربية ووفق علم التجويد يحتاجان بشكل أساسي إلى الاستماع، لعلَّ منكم من يُجَوِّد ما شاء الله أفضل بكثير، لكن أنا أتحدث بشكل عام للجميع، اللغة تبدأ بالاستماع، يوم يُكثِر من الاستماع تتحسن قراءته بشكل أوتوماتيكي، أي لنتعلم لغة إنكليزية ماذا نفعل أولاً؟ نستمع، نستمع، نستمع ثم ننطق، فعمَليَّاً الأمران الأولان، الخطوة العمليَّة فيهما أن نُكثِر من الاستماع، سابقاً كنت تحتاج إلى شيخ مُتَفَرِّغ وتجلس معه في المسجد، اليوم تفتح اليوتيوب وتختار قارئاً مُتَمَكِّناً بالتجويد من السابقين مثل الشيخ محمود خليل الحصري قراءته مُتقَنَة، ومن الحاضرين مثل الشيخ أيمن السويد حفظه الله وغيرهم من العلماء، عبد الله بَصفَر، اسمع التلاوة وشيئاً فشيئاً يستقيم لسانك من غير أن تشعر، القرآن يُعلِّمنا، يُقَوِّم ألسنَتِنا، فثانياً وفق قواعد علم التجويد.

3 ـ فهم المعنى:
ثالثاً: أن تفهم المعنى (حَقَّ تِلَاوَتِهِ).
أولاً: وفق العربية، ثانياً: وفق التجويد ما أمكن، ثالثاً: أن نفهم المعنى، لأننا إذا لم نفهم المعنى لا نستطيع أن نلتزم بما في القرآن الكريم، وهنا أَحُثُّ كل إنسان أن يكون في كل بيته كتاب تفسير مختصر، ليس تفسير الطَّبَري أو القُرطُبي، لا، كتاب تفسير مختصر، كلمات القرآن ل (حسين مخلوف) أو (السعدي) له تفسير مختصر، شيخنا الدكتور راتب النابلسي له تفسير مختصر، هناك الكثير، كتب بتفسير المختصر، الصفحة على يمينها كلمة آيات، الكلمات الصعبة أو الأمور الصعبة.
القرآن الكريم سهل، ربنا عز وجل قال:

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
[ سورة القمر ]

فأكثر ما فيه تقرؤه فتفهمه، وربنا عز وجل حَفِظ العربية بالقرآن.
الآن انظر إلى الشعر الجاهلي تقرأ أحياناً لا تفهم الشعر الجاهلي لأنه صعب، القرآن ما جاء بكلمات صعبة، و إنما بكلمات سهلة، تقرأ لامرئ القيس:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ معاً كَجِلمُودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَّيلُ من عَل
{ امرؤ القيس }
القرآن حَفِظ عَرَبِيَّتِنا
مثلاً. اللغات السابقة مثل اللغة الإنكليزية، الآن الذي يقرأ الأساطير القديمة باللغة الإنكليزية لا يفهم عليها باللغة الإنكليزية الحديثة أبداً لأنها تغيرت، لأنها لم تُحفَظ، القرآن حَفِظ عَرَبِيَّتِنا، لكن بالكلمات اللطيفة السهلة، فمُعظم ما في كتاب الله تقرؤه فتفهمه، لكن تحتاج أحياناً بعض الكلمات، بعض التوجيهات، فلا بد أن يكون لك مصحفٌ عليه تفسير لطيف لمعاني القرآن.
سأضرب مَثَلين على التفسير كيف أنه مهم جداً، فهم المعنى مهم جداً، لن آتي بكلمات صعبة وأفُسِّرُها سوف أَضرب مَثَلين في العُمُق.
الآية الأولى قوله تعالى:

وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
[ سورة المؤمنون ]

هذه في سورة المؤمنون، إنسان يقرؤها: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) قرأتها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

{ سألتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ عن هذِهِ الآيةِ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ، قالت عائشةُ: أَهُمُ الَّذينَ يشربونَ الخمرَ ويسرِقونَ؟ قالَ: لا يا بنتَ الصِّدِّيقِ، ولَكِنَّهمُ الَّذينَ يصومونَ ويصلُّونَ ويتصدَّقونَ، وَهُم يخافونَ ألا تُقبَلَ منهُم، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ }

[ الترمذي ]

شخص - والعياذ بالله - يرتكب الكبائر فهو خائف، قلوبهم وَجِلَة، وَجِلَة أي خائفة (أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) فقالت: (أَهُمُ الَّذينَ يشربونَ الخمرَ ويسرِقونَ) هؤلاء هم المَعنيون في الآية؟ انظروا ماذا قال صلى الله عليه وسلم: (قالَ: لا يا بنتَ الصِّدِّيقِ)، طبعاً أراد من ذلك أن يُعاتِبُها عِتابَاً رقيقاً، أي ابنة الصديق لا ينبغي أن تفهم هذا الفهم، هذا لطيف، كأن تكون مثلاً مع شخص تعرف والده، ووالده إنسان له مكانة كبيرة، فتنظر للولد فتراه يصنع شيئاً لا ينبغي أن يصنعه، يتكلم بكلمة سيئة، تقول له: أنت ابن فُلان انتبه لنفسك، تُذَكِّره بوالده، فقال بكل لطف صلى الله عليه وسلم: (قالَ: لا يا بنتَ الصِّدِّيقِ، ولَكِنَّهمُ الَّذينَ يصومونَ ويُصَلُّونَ ويتصدَّقونَ، وَهُم يخافونَ ألا تُقبَلَ منهُم (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا) ليس من الكبائر، من الطاعات، لكن رغم أنه يأتي ما أتى من الطاعات يقول: يا رب تقبل لعل عملي قَصَّرتُ به، لعلي لم أكن مُخلصاً به كما ينبغي (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) فهؤلاء يمدحهم الله تعالى، والله لم يمدح في سورة المؤمنون أقواماً يرتكبون الكبائر وهم خائفون، فبَيَّن لها المعنى.
إذاً المعنى مهم جداً فِهمُه حتى أستطيع أن أنتقل إلى الخطوة التي بعدها وهي المِفصَليَّة في الموضوع.
آية ثانية:

الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
[ سورة الأنعام ]

قال: لمَّا نزَلَت هذه الآية شَقَّ ذلك على المسلمين، أي حتى يُحقِّق الإنسان الأمن ينبغي أن يكون آمَناً ولم يلبس أي لم يخلط إيمانه بظُلم.
إذا نظر مسلم نظرة لا تنبغي، هذا ظُلم، صحيح؟ وإذا قال كلمة لا تنبغي ظُلم. وإذا فاتته صلاة الفجر ذات يوم ظُلم، فكلُّه ظُلم، فَشَقَّ ذلك على المسلمين، الأمِن ذهب، (أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) الأمِن فقط لهؤلاء، نحن ظلمنا أنفسنا، كل إنسان يتَّهم نفسه بالظُّلُم، فقال صلى الله عليه وسلم:

{ عَنْ عبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، قالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ {الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا} [الأنعام: 82] إيمَانَهُمْ بظُلْمٍ شَقَّ ذلكَ علَى المُسْلِمِينَ، فَقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أَيُّنَا لا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قالَ: ليسَ ذلكَ إنَّما هو الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُوا ما قالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وهو يَعِظُهُ {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ باللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [ لقمان: 13] }

[ البخاري ]

فالمقصود (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)، ليس المقصود بمعصية فكلُّنا ذو خطأ وإنما المقصود ولَمْ (يَلْبِسُوا إيمانهم بِشِرِك)، إيمان خالص لوجه الله تعالى، ليس فيه أي شرك.
إذاً فَهْم المعنى مهم جداً حتى إذا قرأ يستطيع أن يُحدِّد نفسه أين هو من هذه الآية، وهنا أنتقل إلى الرابعة.

4 ـ تدبر آياته:
قلنا (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ): أولاً: وفق قواعد اللغة العربية.
ثانياً وفق علم التجويد ما أمكن.
ثالثاً: تفهم المعنى.
رابعاً: نتَدَبَّر، ما هو الفهم والتَّدبُّر؟ الفهم هو التفسير، من التفسير والكَشْف والإبانة، فَسر عن الشيء كَشَف عنه وأبَانَه، أي أن نحاول أن نفهم مُراد الله تعالى من آياته، من خلال السُّنَّة مثل الحديثين الصحيحين اللذين ذكرناهما، من خلال اللغة العربية مهمة جداً، من خلال أسباب النزول أحياناً نفهم المعنى، والآن يوجد تفاسير كثيرة ودروس كثيرة نستطيع من خلالها أن نفهم المعنى.
التَّدَبُّر هو النظر في عواقب الأمور
لكن لا يكفي، بعد فَهْم المعنى ينبغي أن نتَدَبَّر، كيف نتَدَبَّر؟ التَّدَبُّر باللغة هو النظر في عواقب الأمور، تدَبَّر أمره: نظر في عاقبته، نحن دائماً نتَدَبَّر، كيف نتَدَبَّر؟ مثلاً، مثال لتغيير الجو، كانت الناس في دمشق تخرج إلى بيروت، كان هناك أشياء كثيرة غير موجودة بدمشق نُحضرها من بيروت عن طريق التهريب، كان يوجد حصار في الثمانينيات على سوريا، والآن عاد الحصار، نسأل الله أن يُزيل الغُمَّة، وأنت ذاهب لبيروت، ترى الخط العائِد، هم أمام بعضهم، فالعائدون من بيروت يكون هناك تفتيش دقيق جداً جداً، أي لا يسمحون بدخول أي شيء، كل شيء سوف يُدفع عليه الضرائب أو يعود، وأنت ذاهب وفي بالك أنك تريد أن تشتري بعض الأغراض وتعود، عندما ترى الخط العائد ما يحدث لهم تتدبَّر عاقبة أمرك. يكون في بالك مثلاً شراء خلاط مولينكس تُبَدِّل رأيك، لا أريده، أريد أن أحضر فرَّامة كبة لا أريدها، لا يسمحون بإدخال أي شيء، الأمر صعب اليوم، الضابط المسؤول صعب، فتتدبّر عاقبة أمرك.
المؤمن يتدبَّر عاقبة أمره دائماً، كلما أراد أن يفعل شيئاً يقول: هل ستمر معنا؟ لا تمُر هذه أمام رب العالمين، هناك لقاء مع ربنا عز وجل، العودة صعبة لا نريد، تأتيه صفقة فيها مُحَرَّمَات يقول لك: والله أرباحها عالية، لكن لا تمر، هذا تَدَبُّر، الإنسان يتدبَّر، ينظر لعواقب الأمور، غير العاقل يفعل ما يحلو له، يقول ما يحلو له، ثم يُفاجَأ بالمصيبة أمامه، لا يتدبَّر عاقبة أمره، فالتَّدَبُّر هو النظر دائماً في عواقب الأمور.
تدبُّر القرآن الكريم من أروع ما قرأت فيه، أن أسأل نفسي عندما أقرأ الآية: أين أنا من هذه الآية؟ ربنا يقول:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ثلاث وثمانون آية، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) من الذين آمنوا؟ أنا وأنت، ما الذي يريده الله تعالى مِنِّي؟ يريد شيئاً فاستمع، هذا يسمونه: شعور التَّلقِّي للتنفيذ الفوري، عندما نقرأ القرآن كيف نقرؤه بأي شعور؟ شعور التَّبَرُّك؟! ممتاز، القرآن بركة، بالشفاء؟ شفاء، أحسنتم، لكن أعظم شعور نقرأ به كتاب الله مع كل هذه الأمور هي أن نقرأه بشعور التَّلقِّي للتنفيذ، بمعنى عندما أسمع الآية هذه لي أنا؟

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12
[ سورة الحجرات ]

معنى ذلك يجب أن أنتبه على نفسي أن أظن كثيراً ظن السوء بالناس، (كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ) بعض الظن مسموح ولكن أكثره ممنوع.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
[ سورة الحجرات ]

ربنا يقول لي: لا تسخر، عندما تكون في مجلس وتتكلم على شخص وتسخر منه، ينبغي أن أفهم أن هذه الآيات موجهة لي:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
[ سورة المائدة ]

يُخاطِبُني أن أكون قَوَّامَاً لله شاهداً بالقسط، بالعدل، ألا أظلم، إلى آخره، فهذا شعور التلقِّي للتنفيذ.
عندما أقرأ في كتاب الله تعالى التَّدَبُّر أن تسأل نفسك: أين أنا من هذه الآية؟ أنا أين؟ أنا من؟ الله يتحدث عن المنافقين، هل أنا عندي صفة من صفات المنافقين؟ انتبه. يتحدث عن المؤمنين، أين أنا من هؤلاء بعيد أم قريب إن شاء الله أم منهم؟ وهكذا.

قصة الأحنف بن قيس مع آيات القرآن الكريم:
سأضرب مِثالاً، الأحنف بن قيس أحد الرجال الصالحين والتابعين قال: كان جالساً يوماً فجال في خاطره قوله تعالى:

لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
[ سورة الأنبياء]

(فِيهِ ذِكْرُكُمْ) فيه عُلوُّ شأنكم، نحن ما الذي رفع ذِكرنا؟ القرآن، العرب كانوا أُمَّة يتقاتلون، لكن عندهم صفات جيدة، قال صلى الله عليه وسلم:

{ إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ }

[ الإمام أحمد والبخاري ]

عندهم بعض الأخلاق الحميدة لكن غير مُرَشَّدَة، غير مُوَظَّفَة، كان عنترة يقول:
وأغَضُّ طَرفي ما بدت لي جارتي حتى يُواري جارتي مأواها
{ [عنترة بن شداد] }
العرب كان عندهم عِفَّة و طهارة، لكن الأخلاق غير مُرَشَّدَة، فجاء الإسلام و وجَّهَها لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ.
في القرآن الكريم نماذج تنطبق علينا
لكن عموماً بالمُحَصَّلَة داحِس والغبراء من أجل ناقة تقوم الدنيا ولا تقعد، وفوضى جنسية، وفوضى مالية، ورِبا، جاء الإسلام فنقلنا من رُعَاةٍ للغنم إلى قادةٍ للأمم، فهذا (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي فيه رِفعَتُكُم، فيه عِزِّكُم، لكن فيه معنى آخر فهمه الأحنف بن قيس جميل جداً: (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي إذا قرأتُ القرآن أجد بلالاً في القرآن؟ نعم، تجد بلالاً في القرآن، ولكن ليس بالاسم، القرآن لن يذكر أسماءنا، سيذكر نماذج تنطبق عليَّ، أرى نفسي في القرآن، ذكري موجود في القرآن.
فالأحنف بن القيس قال: عليَّ بالمصحف لالتَمِس ذكري، أعطوني المصحف حتى أبحث عن نفسي أين أنا في كتاب الله، ومن أشبه، فَمَرَّ بقومٍ:

كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
[الذاريات]

يقرأ عن قوم ومَرَّ بقومٍ:

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
[ سورة آل عمران ]

ومَرَّ بقومٍ:

وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
[ سورة الحشر ]

(وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) أي الفقر.
و مرَّ بقومٍ:

وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
[ سورة شورى ]

فقال - ولعله قالها تواضعاً وهو من التابعين -: اللهم لست أعرف نفسي مع هؤلاء، أنا لستُ منهم، هؤلاء أقوام سابقون، تابع القراءة، قال: ومَرَّ بقومٍ:

إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)
[ سورة الصافات ]

والعياذ بالله.

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
[ سورة البقرة ]

ومَرَّ بقومٍ يقال لهم:

مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ (47)
[ سورة المدثر ]

فقال: اللهم إني أَبرَأُ إليك من هؤلاء، أنا لستُ من هؤلاء، يعرف نفسه، هؤلاء شاردون عن الله. ثم مَرَّ بقوله تعالى:

وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
[ سورة التوبة ]

فقال: اللهم أنا من هؤلاء، وجدُّتُ نفسي، وجد ذِكره في كتاب الله، ممن خلطوا الأعمال الصالحة بالسيئة، طبعاً ليس القصد، كلنا نسأل الله أن يعفو عنا ممن خَلَط، ونسأل الله أن يتجاوز عن السيئات و يكثر الحسنات، لكن القصد عندما نقرأ كتاب الله يجب أن نقرأه بهذا الشعور، نتدَبَّر المعنى، هل تنطبق عَليّ؟
في بداية سورة البقرة ربنا عز وجل ذكر المؤمنين بخمس آيات، والكافرين بآيتين، والمنافقين بأربع عشرة آية.
الصفات في سورة المؤمنون:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
[ سورة المؤمنون ]

صفة، اثنتان، ثلاث، الذين هم والذين والذين.. كم صفة من هذه الصفات تنطبق عليّ؟
سورة المعارج، وصف المؤمنين أيضاً بآيات، فالقصد أن نتلو القرآن تدبُّراً، أين أنا من هذه الآية؟

5 ـ نقله على واقع الحياة تطبيقاً وعملاً:
أخيراً في حق تلاوته: أن تنقله إلى واقع حياتك تطبيقاً وعملاً، تُحِلُّ حلاله وتُحَرِّمُ حرامه، قال تعالى:

وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
[ سورة الأنعام ]

الآية في المحور الرابع:

كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
[ سورة ص ]

هنا: (وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ) اتباع، أي أن تنقله من السطور إلى الصدور إلى واقع الحياة، أن يصبح القرآن في واقع حياتنا، نعيشه، نُحِلُّ الحلال ونُحَرِّم الحرام، نهى عن شيء ننتهي عنه، أمر بشيءٍ نأتمر به.

المحاور الكبرى في القرآن الكريم:
1 ـ التعريف بالآمر:
المحور الثاني في هذا اللقاء الطيب الموضوعات الرئيسة في القرآن الكريم، طبعاً نحن إن شاء الله في كل لقاء، أي كل خمسة عشر يوماً إن شاء الله إن تيسَّر الأمر نتدبر شيئاً من كتاب الله، لكن الآن مقدمة.
القرآن الكريم فيه محاور كبرى، قَسَّمتُها اجتهاداً إلى ثلاثة محاور، أظن أن أي آية في القرآن ستندرج تحت محور من هذه المحاور الكبرى، أظن ذلك.
المحور الأول هو التعريف بالآمِر: تعريف بالله، أي آية كونية تقرؤها بالقرآن هدفها التعريف بالآمِر، عندما تقرأ:

أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
[ سورة البلد ]

هذه لماذا؟ لتتعرف على الله الذي خَلَق، عندما تقرأ:

قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
[ سورة يونس ]

هذه للتعريف بالله. عندما تقرأ:

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
[ سورة عبس ]

هذه للتعريف بالله.

وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
[ سورة يوسف ]

هذه للتعريف بالله.
ألف ومئتا آية في القرآن الكريم عن الكون والحياة والنفس تتكلم عنك.

وَفِي أَنْفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
[ سورة الذاريات ]

هذه كلها للتعريف بالله حتى يَعظُم الله في قلبك، هذا المحور الأول، التعريف بالآمِر، وهذا أهم محور في القرآن، أن تعرف الله، عندما تقرأ:

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
[ سورة الإخلاص ]

هذا تعريف بالآمِر.

فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
[ سورة شورى ]

تعريف بالآمر.

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
[ سورة البقرة ]

تعريف بالآمِر.

هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
[ سورة الحشر ]

إن عرفت الآمر بادرتَ إلى تطبيق أمره
تعريف بالآمِر. يُعِرُّفُك بذاته لأنك إن عرفته بادرتَ إلى تطبيق أمره، مستحيل أن تعرفه ولا تُطبق أمره.
سأضرب لكم مِثالاً: في بلد من البلاد جاءتك رسالة مكتوب فيها: يوم الثلاثاء الساعة الثامنة صباحاً تفضل إلى مؤسسة البريد، عندك رسالة يجب أن تستلمها، رسالة عند الباب أخذتها، ممكن أن تذهب الثلاثاء الساعة الثامنة، أو الثلاثاء الساعة التاسعة، أو الثلاثاء الساعة العاشرة، وممكن أن تؤجل الموعد من الثلاثاء إلى الأربعاء، وممكن ألا تذهب أبداً تعتقد أن الأمر بسيط، رسالة معايدة من صديقي بالأرجنتين، يرسل معايدة كل سنة في رمضان، لن أذهب.
تأتيك رسالة بنفس الورقة بنفس الحجم بنفس الكلمات، يوم الثلاثاء الساعة الثامنة يجب أن تكون عندنا بالمركز الفُلاني وتوقيع العميد الفُلاني، قبل يومين لا تنام الليل، أنا ماذا ارتكبت؟ لماذا طلبوني؟ ماذا يريدون مِنِّي؟ ما الذي اختلف بين الرسالتين؟ الآمِر، المُوقِّع أدناه، الآمِر اختلف.
عندما يَعظُم الآمِر في قلبك تُبادر إلى تنفيذ أمره، الله يأمر، سيدنا بلال يقول: (لا تنظر إلى صِغَر الذَّنب ولكن انظر من عَصيْت) القضية ليست قال: لا تفعل، فلم أفعل، القضية هي من الذي قال؟ الذي قال الخالق، الخبير، العظيم، الذي خلقك ورزقك، الذي كل شيء بيده، هو الذي قال، فالقضية ليست في الأمر بِقَدَر ما هي في الآمِر.
فالقرآن الكريم يفيض في الحديث عن الآمِر، آلاف الآيات في القرآن تتحدث عن الآمِر، عن الله، إما بشكل مباشر:

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)
[ سورة الإخلاص ]

أو بشكل غير مباشر يَلفِتَ نظرك إلى خَلقِه لتَستَدِلَّ من خلال خَلقِه على عظمته و وحدانيَّته وكماله.

2 ـ معرفة الأمر:
المحور الثاني هو الأمر والنهي، الأمر افعل والنهي لا تفعل:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ (282)
[ سورة البقرة ]

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا (1)
[ سورة الطلاق ]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
[ سورة الحجرات ]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
[ سورة الحجرات ]

يأمر و ينهى، الآمِر. بعد أن عرفت الآمِر، الآن كل ما يأمر به تبادر إلى تنفيذه.
إذاً المحور الأول: الآمِر، المحور الثاني: الأمر.

3 ـ نتائج المعرفة بالآمِر وبالأمر:
المحور الثالث هو النتائج أي الوعد والوعيد، الجنة والنار، أي إذا عرفتَ الله والتزمتَ بأمره ماذا يحصل؟ وإذا قصَّرَ الإنسان في معرفة الله أو في تنفيذ أمره ماذا يحصل؟ هنا تأتي مشاهد الجنة والنار.

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)
[ سورة الزمر ]

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)
[ سورة الحاقة ]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)
[ سورة الذاريات ]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
[ سورة القمر ]

هذا يُحَدِّثُك عمَّا سيأتي، إذا التزمتَ ماذا سيحصل معك في المستقبل، ويصوِّر لك المشهد وكأنك تراه بعينك، تقرأ الآيات كأن المشهد أمامك، (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) كيف الوقوف بين يدي الله؟

فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)
[ سورة الصافات ]

إلى آخره.
إذاً المحور الأول هو التعريف بالآمِر، والمحور الثاني هو التعريف بالأمر، والمحور الثالث هو نتائج المعرفة بالآمِر وبالأمر.

قصة تلخص الكلام السابق:
آخر شيء أحبابنا الكرام هناك قصة تُلَخِّص الكلام الذي قلته جميلة جداً.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ مَن سرَّهُ أن يَقرأَ القرآنَ غضًّا كما أُنْزِلَ فليَقرأهُ علَى قراءةِ ابنِ أمِّ عبدٍ }

[ سنن ابن ماجة ]

الذي هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، هذا الرجل كان حُبُّه للقرآن عجيباً، كان يعيش القرآن في واقع حياته.
مرَّةً سيدنا عمر بن الخطاب في الليل رأى من بعيد ركباً، الليل حَجَب الرؤية لكن عَلِمَ أن هناك رَكبَاً حجبهم الليل، فقال: نادِهِم قال لأحد الرجال صوته عال نادِهِم من أين القوم؟ فنادى من أين القوم؟ فأجابوه من الفَجِّ العميق، فقال: سَلهُم إلى أين تريدون؟ فسأل إلى أين تريدون؟ فقالوا: البيت العتيق، فقال عمر رضي الله عنه: إن فيهم لَعالِماً (هذه الإجابات من الفَجِّ العميق إلى البيت العتيق، هذا شخص قارئ قرآن يعلم ما يتحدث)، فقال نادِهم دعنا نتعلَّم والصحراء تُرسِل الصوت، فقال: نادِهِم أي القرآن أعظَم؟ فنادى الرجل أي القرآن أعظَم؟ فأجابوه:

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
[ سورة البقرة]

يوجد إحسان فوق العدل
هذه أعظم آية في كتاب الله، تتحدث عن الذات العَليَّة عن الله جلَّ جلاله، قال نادِهِم أي القرآن أَحكَم؟ فقال: إن الله يأمر بالعدل والإحسان و إيتاء ذي القربى، ربنا عز وجل لا يأمرك بالعدل فقط، بل بالإحسان أيضاً، أي إذا كان هناك شخص أساء لك العدل أن تَرُدَّ إساءته لكن الإحسان أن تعفو عنه، فلا تُحَلُّ كل المشاكل بالعدل، يقول لك: هذا حقي أريد أن آخذه، يوجد إحسان فوق العدل، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى. قال: نادِهِم أي القرآن أَجمَع؟ أي كلمات قليلة تُعَبِّر عن معنى عظيم، عبارة مختصرة موجزة عظيمة، أي القرآن أجمَع؟ فسمعوهم يقولون:

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[ سورة الزلزلة ]

هذه أجمَع آية في كتاب الله، فقال: نادِهِم أي القرآن أخوَف؟ أكثر آية مخيفة، فناداهم:

لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
[ سورة النساء ]

الدِّين لا يوجد فيه تَمَنِّيات، تُخطِئ فتُحاسَب قال: نادِهِم أي القرآن أرجى؟ فيه رجاء، فقال:

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
[ سورة الزمر ]

فقال: نادِهِم أفيكم عبد الله بن مسعود؟ تلك الإجابات لا يأتي بها إلا عبد الله بن مسعود، فنادى: أفيكم عبد الله بن مسعود؟ قالوا: اللهم نعم. كانت إجابات عبد الله بن مسعود.

{ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مَرَّة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأْ علَيَّ القرآنَ؟ قلتُ: يا رسولَ اللهِ كيفَ أقرأُ عليك وإنما أُنزِل عليك؟- استحيا سيدنا عبد الله بن مسعود - قال: إني أشتهي أن أسمعَه من غيرِي }

أنت أحياناً تقرأ تقول لنفسك أُحبُّ أن أسمعه بصوت من الحرم، يحُبُّ الإنسان أن يسمع:

{ ..... قال: فافتتحتُ سورةَ النساءِ فقرأتُ عليه فلما بلغتُ { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [ النساء: 41] } قال: نظرتُ إليه وعيناه تذرفانِ }

[ صحيح البخاري والترمذي ]

لمَّا استشعر النبي صلى الله عليه أن الله عز وجل يُخاطِبُه بأنه سيأتي به يوم القيامة شهيداً على أمُّته، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً.

يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
[ سورة النساء ]

فعبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان قارئاً للقرآن بشعور التَّلقِّي للتنفيذ وبشعور الحب.
أول آية:

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ
[ سورة البقرة ]

هذه المحور الأول، التعريف بالآمِر. الثانية:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
[ سورة النحل ]

(إِنَّ اللَّهَ) الذي عرفته، تعريف بالآمِر،(يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) انتبه، هذا المحور الثاني، محور الأمر والنهي.

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[ سورة الزلزلة ]

هذا المحور الثالث، النتيجة، هذه المحاور الأساسية في القرآن.

العلاقة بين الأمر والآمر:
قبل أن أختُم أريد أن أُبَيَّن كيف الأمر والآمر والعلاقة بينهما.
لمَّا قال سيدنا موسى لقومه:

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
[ سورة البقرة ]

عندما لا يعرفون من الآمِر، قالوا:

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
[ سورة البقرة ]

لا يريدون أن يُنَفِّذوا، لا يعرفون الآمِر.
سيدنا إبراهيم قال لابنه:

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
[ سورة الصافات ]

لم يقل: إن الله، بل (إِنِّي أَرَىٰ)، طبعاً هو أمر من الله لأنه رؤيا الأنبياء حق، لكن هنا هوَّنها عليه، قال: إني أرى، تتكرر الرؤيا، (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ). هناك ذبح بقرة وتردَّدوا، هنا قال: سأذبحك، فقال له: اذبح، هذا الفرق بين من يعرف الله فيُبادر إلى تنفيذ أمره، وبين من لا يعرفه فيتفنَّن ليتفَلَّت من أمره.
والحمد لله رب العالمين