أمور لا تصح حول الموت

  • محاضرة في الأردن - عمان
  • 2021-08-30
  • عمان
  • الأردن

أمور لا تصح حول الموت

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.


الإكثار من ذكر الموت:
كل حي سيموت
وبعد أحبابنا الكرام؛ حديثي اليوم عن أكثر موضوع واقعي، يوجد مصطلح عند الناس يقول لك: هذا موضوع واقعي، إنسان واقعي، وهناك شخص مفصول عن الواقع، فاليوم الحديث واقعي جداً، بعض الناس يتحرجون منه، إنه أشد حدثاً واقعية، كلنا نشترك فيه، كل إنسان ولد، كل حي سيموت، كلنا نشترك بالحدث، هذا الحدث الواقعي المهم، لكن نتحاشى ذكره كثيراً في البيوت، الناس تعودت أن تخاف من ذكر هذا الموضوع، مع أنه أشد حدث واقعي نشترك به جميعاً، ولا نعرف موعده، فيجب أن يكون له نصيب من حديثنا بشكل مستمر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك فقال: " أكثروا ذكر هازم اللذات "، هازم؛ أي قاطع، يهزمها؛ أي يقطعها، أو هادم؛ يهدمها، وهو مشتت الجماعات، ومفرق الأحباب، فهو حدث سيحصل، أنكره الإنسان أم لم ينكره، رضيه أم لم يرضَه، فهو واقع، الغني والفقير، والقوي والضعيف، والأمير والخفير، كل الناس، صغير، كبير، دون أي استثناء.

فكر مغلوطة تتعلق بالموت:
لكن أريد أن أتحدث عن الموضوع بطريقة مختلفة عن الطريقة التقليدية نوعاً ما، أريد أن أتحدث عن أربع فكر مغلوطة تتعلق بهذا الحدث المهم، أربع فكر هي خطأ لكن الناس تعودوا عليها، عوام الناس وليس الأخوة أمثالكم، لكن من أجل التعلم، أنتم تعلمون ذلك، لكن عوام الناس لا ينتبهون إلى هذه الفكر الأربع المغلوطة حول الموت.

1 ـ الموت هو النهاية:
الموت هو نقطة على طريق
الفكرة الأولى التي من غير أن ننتبه لها نقولها، أن الموت هو النهاية، الحي له نهاية ويموت، أولاً: الموت ليس هو النهاية، الموت هو نقطة على طريق، وبعدها مازال هناك طريق طويل، وهو أبد ليس له نهاية، فالموت هو نقطة في بداية الطريق وليس نهاية، أبداً، بالعكس هو بداية لحياة أخرى قد تكون إن شاء الله أجمل بكثير، وأحلى بكثير من الحياة التي نعيشها، هذه النقطة الأولى.
لذلك الموت هو انتقال من حياة إلى أخرى بصيغة مختلفة، بطريقة مختلفة، غير الحياة التي ألفناها، عبر بوابة، هذه البوابة تسمى البرزخ، نحن في الحياة الدنيا، ويوجد برزخ بوابة عبور إلى حياة أخرى ممتدة إلى اللانهاية تسمى: الحياة الآخرة، فنحن منذ أن خلقنا كنا في العدم وانتقلنا إلى الحياة الدنيا، ثم هناك الموت، البرزخ، الحياة الآخرة إلى ما لا نهاية، فالإنسان لم يخلق ليفنى، بمعنى الفناء المطلق، فالموت هو فناء الجسد في لحظة معينة لكن الحياة مستمرة.
تماماً كمثل كنت أسمعه: إنسان ذهب إلى بلد غربي ليدرس، الدراسة في الغربة صعبة لا سيما إذا كان الأب غير مقتدر مادياً، أي أن الابن سيعتمد على نفسه، فلا بد من أن يدرس في النهار، ويعمل في الليل، ينام ساعتين أو ثلاثاً في اليوم، ويعمل في المطاعم في غسل الصحون من أجل أن يؤمن أقساط الدراسة، فيمضي خمس سنوات من عمره صعبة جداً، بغاية الصعوبة، ثم يحصل على الشهادة العليا فيعده بعض المسؤولين في بلده وقد أحرز هذه الشهادة بأنه سيعود الآن إلى بلده برتبة وزير صحة فرضاً، مع بيت في أهم مكان في العاصمة، وشاليه على البحر، ومع دخل كبير جداً لما أحرزه من هذه الشهادة، الآن هو سيخرج من هذا البلد، وضع رجله في الطائرة، وترك وراءه كل الآلام، وبدأت رحلة مختلفة من نوع جديد فيها كل التكريم، هذا هو الموت بالنسبة للمؤمن، انتهت الآلام وبدأت الرحلة الجديدة المختلفة الجميلة جداً.
دعكم مما أنكره أحياناً على بعض خطباء المساجد، أو بعض الدعاة، والوعاظ في أنهم دائماً يصورون الموت على أنه حالة مخيفة جداً، لا أبداً، الخوف هو للإنسان الشارد البعيد عن الله، والموت مصيبة، فقد انتهى الاستمتاع المؤقت في الحياة، وجاءت لحظة الحساب، أما الموت فهو تحفة المؤمن، وعرس المؤمن، وجنة المؤمن، لأنه ينتقل إلى حياة أجمل، وينتقل إلى صحبة أجمل، هناك الحياة الحق، لذلك يقول:

يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)
[ سورة الفجر]

هناك الحياة وليست هنا، فهو لم يقدم لحياته التي هي الحياة الآخرة التي سيحياها.
فالنقطة الأولى؛ أن من يقول إن الموت هو النهاية، نقول له: الموت ليس هو النهاية، الموت هو نقطة على خط متصل طويل ممتد إلى الأبد، والموت نقطة في هذا الخط، وهي لحظة سرور عظيمة جداً للمؤمن، ولحظة ألم قد يستمر إلى الأبد، وقد يستمر إلى وقت طويل بالنسبة لغير المؤمن.

التعريف الشرعي للموت:
التعريف الشرعي للموت: مفارقة الروح للبدن، التعريف الطبي: الأطباء مختلفون بين أنه موت الدماغ، أو موت القلب، وحتى روابط العالم الإسلامي اختلفت في تحديد الموت الحقيقي هل هو موت الدماغ أم القلب، لكن اتفقوا لو أن إنساناً - وهي حكم فقهي على الهامش - مات دماغه بشكل كامل كلي، ومازال هناك بعض الحركات اللاإرادية أو ما زال القلب ينبض فيجوز رفع أجهزة الإنعاش عنه، وترك الأمر إلى الله عز وجل، هذا حكم فقهي أصدره مجمع الفقه الإسلامي لأن بقاءه على أجهزة الإنعاش هو محاولة لإبقاء القلب ينبض مع أن الإنسان قد توفي بشكل كامل، فيجتمع الأطباء ويقررون إزالة المنفسة، أو جهاز الإنعاش، وترك الأمر لله تعالى، فإن مات مات، لكن طبياً ما زالوا مختلفين، هل هو موت الدماغ أم موت القلب، توقف القلب أم موت الدماغ حتى يُحكم أنه توفي، ويعطى شهادة وفاة.
أما شرعاً؛ فهو خروج الروح من البدن، والروح أيها الأخوة الكرام من أمر الله.

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (85)
[ سورة الإسراء]

نحن لا نستطيع أن نفقه حتى اليوم طبياً ولا اجتماعياً ما الذي يحدث تحديداً، ما هي الروح؟ كيف تدب في الجسد؟ فيصبح كلية تعمل، وكبداً يقوم بآلاف الوظائف، وعيناً تبصر، وأعضاء تتحرك، ومشاعر، وكذا، ثم تنزع الروح فيصبح الجسد جثة هامدة، وتذهب الروح إلى بارئها، ويتبعها البصر، ثم تصعد إلى الله، وتبدأ رحلة النعيم للمؤمن، ونسأل الله السلامة رحلة العذاب لغير المؤمن، فهو مفارقة الروح للبدن.
النفس لا تموت
نحن نسمع مصطلحات يقولون: الروح، والنفس، والجسم أو البدن، على اختلاف بين الجسم والبدن، أن البدن متى يسمى بدناً أو جسماً، أي الهيكل، الشيء الذي نراه بأعيننا هو الجسد، فعندنا روح، ونفس، وجسد، بعض العلماء أو كثير من العلماء يقولون: إن الروح هي النفس نفسها، لكنها تسمى نفساً قبل الخروج، وعندما تخرج تسمى روحاً، تكون نفساً ثم يصبح اسمها الروح، والبعض قال: لا، النفس شيء، والروح شيء، لأن هناك حديثاً عن النفس والروح، إذا أحضرنا حاسوباً، الجسد هو ما تراه بعينك، الكيبورد، والماوس، والشاشة، والأجهزة الداخلية، هذا الجسد، النفس هي المعالج الأساسي الذي يحوي المعلومات والذواكر، إلى آخره، والروح هي القابس الكهربائي، الكهرباء، إذا سحبت الروح يصبح الجسد جثة هامدة، والنفس تذهب إلى خالقها جل جلاله، فالنفس لا تموت، قال تعالى:

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
[ سورة آل عمران]

تذوقه عند لحظة انفصال الروح عن البدن لكنها تبقى، فإما أن تنعم، وإما أن تعذب نسأل الله السلامة إلى يوم الحساب، ثم بعد الحساب تخلد إما في جنة يدوم نعيمها، أو في نار لا ينفد عذابها نسأل الله السلامة.
على كل حال؛ الذي كنا نريد أن نقوله، أو الفكرة المغلوطة التي يتحدث بها الناس عن الموت أن الموت نهاية، الموت ليس نهاية، الموت بداية لحياة أخرى مختلفة، جميلة جداً، رائعة جداً للمؤمنين، وغير ذلك لغير المؤمنين، نسأل الله السلامة.

2 ـ الموت مخيف:
الابتعاد عن أسباب المرض مطلوب
الفكرة الثانية المغلوطة الناس يقولون: الموت مخيف، عندما كنا صغاراً إذا حصل موت عند الجيران وأراد الطفل أن يخرج إلى الشرفة، يقوم الأهل بإدخاله حتى لا يرى هذه المصيبة الكبيرة، لا تدع الولد يرى الميت، لا يتعاملون مع الموت على أنه حدث عادي، المفروض أن نعلم الطفل أن الموت عادي جداً، وهو نقطة كما قلنا أي نهاية الحياة الدنيا، وبداية الحياة الآخرة بهذا الشكل، يصورون الموت على أنه وحش مخيف، بأيام كورونا، طبعاً الاحتراز ورعاية النفس واجب عظيم جداً، كلنا مسؤولون عن ذلك لأن ربنا عز وجل أمر بحفظ النفوس، فالوقاية من العدوى، والابتعاد عن أسباب المرض كله مطلوب، لكن بولغ جداً جداً جداً بقضية الموت على أنه شيء ينتظر، أي مخيف جداً، مثلاً يقولون لإنسان كبير في السن: لا تذهب إلى المسجد، وهو حياته كلها معلقة بصلاة الفجر في المسجد، والموت بالنسبة له أقل شيء، أقل من ترك المسجد في الصلاة فرضاً، ضمن الحفاظ على الصحة مطلوب جداً، لكن التهويل بقضية الموت وعلى أنه شيء مخيف، وصاعق، ومدمر، ونهاية، ولا نعرف ماذا سيحصل بعد ذلك، هذا أمر ليس شرعياً، النبي صلى الله عليه وسلم ما تعامل بتلك الطريقة مع الموت.

الصحابة الكرام كانوا في أسعد لحظات حياتهم وهم يقابلون وجه ربهم:
سأعطيكم بعض النماذج الطيبة، سيدنا بلال الحبشي رضي الله عنه، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما حضرته الوفاة، تقول له ابنته: واحزناه، واكرباه على أبتاه أي الفراق صعب، واحزناه، فيقول بلال رضي الله عنه: بل قولِي: واطرباه، مطروب سيدنا بلال، بل واطرباه، غداً نلقى الأحبة، محمداً وحزبه، فكان في أسعد لحظات حياته وهو على فراش الموت.
هناك كتاب كنت قرأته في الثانوية اسمه: عظماء على فراش الموت، يشترك كل العظماء على فراش الموت أنهم كانوا في أسعد لحظات حياتهم في لحظة لقاء ربهم.
سيدنا معاذ بن جبل لما جاءه الموت قال: مرحباً بالموت مرحباً، زائر وفد بعد غياب، وحبيب جاء بعد فاقة، أي وجده شيئاً جميلاً.
عمر بن عبد العزيز، خامس الخلفاء الراشدين رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أمّا الذي عندي فهو تقصيري، أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، يخاطب ربه جلّ جلاله، ولكن لا إله إلا الله، ثم نظر ورفع رأسه إلى السماء فقالوا: ما ترى؟ قال: لا رأيت إنساً ولا جناً، لكنه كان يرى مخلوقات جميلة جداً، ثم تلا قوله تعالى:

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
[ سورة القصص ]

فهم كانوا في أسعد لحظات حياتهم وهم يقابلون وجه ربهم، فالموت ليس مخيفاً كما يصوره البعض، الموت جميل للمؤمن، الخوف لا يكون من الموت، بل من الذنب، لذلك جاء في بعض الآثار عن بعض الصحابة الكرام: " لا يخافن العبد إلا ذنبه "، لا تخف من الموت، ولا من المصائب، ولا من الكورونا، ولا من الطغاة، ولا من المجرمين، لا يخافن العبد إلا ذنبه، خف من شيء واحد أن تذنب فتب فوراً، الباقي لا يخيف، الموت جميل جداً مع الطاعة، تلقى الله.

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
[ سورة الكهف ]


الحكمة من تسمية الموت بالمصيبة:
إذاً أيها الكرام؛ من يقول: الموت مخيف، نقول له: الصواب أن تقول: الموت مصيبة، الله تعالى قال في القرآن الكريم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
[ سورة المائدة ]

سماها مصيبة، فيها فراق أحباب، فيها انتقال من عالم إلى عالم، والمصيبة سميت مصيبة لأنها تصيب الهدف، تأتي في الوقت المناسب الذي يريده الله، وفي القدر المناسب، وينزل الله من الصبر على قدر ما ينزل من المصائب، جلّ جلاله، ويعين العبد على المصائب.
أيها الكرام؛ سماها الله مصيبة لكن ليست كل مصيبة مخيفة بهذا الذي يصور لنا على أن الموت خوف أبداً، هذه النقطة الثانية.

3 ـ الموت انتقال إلى المجهول:
الموت انتقال من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة
الفكرة المغلوطة الثالثة التي يتحدث فيها الناس، يقول لك: الموت انتقال إلى المجهول، لا أعرف إلى أين أنا ذاهب، لا، هذا الكلام غير صحيح، نحن في الدنيا عندنا أحياناً مجهولات، هل منا أحد يعرف ماذا سيحدث معه غداً؟ ولا بعد ساعة، ولا بعد دقيقة، هذا الغيب، نحن محكومون بالغيب، بعد الموت واضح جداً، لأن الله تعالى أعطاك ماذا سيحدث بالتفصيل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي قرآنه أولاً، ورسم لك الخطة، وأعطاك الأسئلة، أي أسئلة الامتحان مسربة بشكل نظامي، مطبوعة، ومختومة، خذ هذه الأسئلة سيسألونك إياها، هنا تجاوبهم، هو ما أخفى عليك شيء جلّ جلاله، لماذا يقول الإنسان: أنا ذاهب إلى المجهول؟ لا، أبداً، هذا البعيد عن الله ذاهب إلى المجهول، لأنه سيذهب من كل شيء إلى لا شيء، الموت بالنسبة له انتقال من كل شيء إلى لا شيء، أما المؤمن فهو ذاهب من أشياء قليلة محدودة إلى كل شيء، لأن السلف كانوا يقولون: إن المؤمن ينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة بالموت كما ينتقل الجنين من ضيق البطن إلى سعة الدنيا، تصور الجنين يكون في رحم أمه بمساحة سنتمترات مربعة، ثم ينتقل إلى سعة الدنيا، كيف يكون؟ بالطريقة نفسها ينتقل المؤمن من ضيق الدنيا، الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فينتقل من الضيق إلى السعة فهي ليست ذهاباً إلى المجهول أبداً، هي ذهاب إلى المعلوم، لكن هذا المعلوم هو معلوم بالخبر الصادق الذي تحدثنا عنه في اللقاء السابق، معلوم ليس بالحس والمشاهدة وإنما بالخبر الصادق، ونحن نصدق ما جاءنا عن الله تعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وكأننا نرى الأمر بأعيننا.

على الإنسان أن يتلقى خبر الله وكأنه يراه:
لذلك يقول تعالى:

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
[ سورة الفيل]

هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ما الذي فعله الله بأصحاب الفيل؟ هو ولد في عام الفيل، ما رأى، لماذا لم يقل له: ألم تسمع؟ لأن خبر الله ينبغي أن تتلقاه كأنك تراه.

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)
[ سورة الفجر]

عاد قوم قديمون جداً، لكن قال له: (أَلَمْ تَرَ)، في آية أخرى يقول تعالى:

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
[ سورة النحل]

(أَتَى)؛ أي جاء وانتهى، (فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ): لم يأتِ، لا تستعجلوه، لكن عندما يكون الأمر أمر الله تعالى فإن إتيانه واقع لا محال، فيعبر الله عنه بصيغة الماضي، أتى وانتهى، ولو أنه لما يأتِ، لكن (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) تشبه - نسأل الله السلامة - إنسان يقود مركبته في نزول منحدر جداً، ونهايته مؤلمة، وفقد القدرة على التحكم بالسيارة، لا يوجد زيت فرام، ماذا يقول لمن بجواره؟ انتهينا، متنا، يوجد معك دقيقتان ثم تقرر، يقول: انتهينا، لا يقول: سننتهي، بل انتهينا، لأن الأمر انتهى، لم يعد هناك أي مجال حتى يتكلم به بالمستقبل، يتكلم به بصيغة الماضي.
ربنا عز وجل يقول: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) ما دام سيأتي فقد أتى، اعتبره جاء وانتهى، لذلك نحن معلوم لدينا ما بعد الموت، من لحظة مفارقة الروح للبدن بشكل واضح جداً من خلال الخبر الصادق الذي هو أصدق عندنا من رؤية العين.

منازل الآخرة:
ماذا هناك؟ مثلاً بشكل سريع، أولاً: القبر، القبر أول منازل الآخرة، القبر كما قال صلى الله عليه وسلم:

{ عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: كان عثمان بن عفان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فيقال له: قد تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا؟ فيقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه }

[أخرجه الترمذي والحاكم ]

مرحلة القبر فيها عذاب وفيها نعيم
بدأت منازل الآخرة، بعد القبر يوجد فتنة القبر، ملكان يسألانك عن قضايا التوحيد والعقيدة، ليس عن السلوك، عن المنطلقات، موحد؟ تشهد لله عز وجل؟ تشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة؟ تؤمن بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ انتهى هنا، هذه فتنة القبر انتهت هنا، فتنة الملكين، أو فتنة القبر، بعد فتنة الملكين يرى الملائكة، إذا كان من أهل الصلاح ملائكة بيض الوجوه، وإذا كان من أهل الفساد - نسأل الله السلامة - ملائكة سود الوجوه، هذه مرحلة القبر، فيها عذاب وفيها نعيم، اليوم يوجد موضة إنكار عذاب القبر يحبونها على الفيس بوك، لماذا؟ لا أعرف، أنا صدقاً لا أعرف لماذا يحبون أن ينكروا عذاب القبر، طبعاً لا أحد ينكر نعيم القبر، لكن لا أحد يتكلم عن ذلك، لأن النعيم حلو، يوجد نعيم ويوجد عذاب، وأيضاً يوجد غلط من بعض الدعاة يتكلمون عن عذاب القبر ولا يتكلون عن نعيم القبر، القبر روضة من رياض الجنة، يمد له في قبره مد بصره، يرى مقعده في الجنة فينهض، يريد أن يقوم إلى مقعده، يقال له: اسكن، الآن تمتع بالانتظار، بانتظار هذا اليوم العظيم، يوم دخول للجنة، والكافر يرى مقعده من النار، فالمسألة نعيم وعذاب، وهو ثابت في الكتاب والسنة، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يترك الاستعاذة من عذاب القبر، قبل السلام في كل صلاة يقول:

{ عن عائشة رضي الله عنها: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ' كانَ يَدْعُو في الصلاةِ يقول: اللهمَّ إني أَعوذُ بِكَ من عَذَابِ الْقَبْرِ، وأعوذُ بِكَ من فِتنَةِ المَسيحِ الدَّجالِ وأعوذُ بكَ من فِتنَةِ المَحيا وفِتنَةِ المَماتِ، اللهمَّ إِني أعوذُ بِكَ من المَأْثَمِ والمغْرَمِ، فقال له قائِلٌ: مَا أَكْثَرَ ما تَستَعيذُ من المَغْرَمِ؟ فقال: إِنَّ الرَّجُلَ إذا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، ووعَدَ فَأخلفَ }

[أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي ]

يستعيذ من أربعة أشياء، ولما مرّ على قبرين، قال:

{ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: قال : ' مَرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قبرين، فقال: أما إنَّهما ليعذَّبان، وما يعذَّبان في كبير، ثم قال: بلى، أمَّا أحدهما: فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر: فكان لا يستتر من بوله، قال: فدعا بَعسِيب رَطْب فشَقَّه باثنين، ثم غرس على هذا واحدا، وعلى هذا واحدا، قم قال: لعله أن يُخفَّف عنهما ما لم يَيْبَسَا }

[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي]

سألته السيدة عائشة عن عذاب القبر فقال:

{ عن عائشة رضي الله عنها: أن يهوديَّة دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر فقالت لها: أعاذكِ الله من عذاب القبر، قالت عائشةُ: فسألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر؟ فقال : نعم، عذابُ القبر حقّ، قالت: فما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صَلى صلاة إلا تعوّذ من عذاب القبر }

[أخرجه البخاري ومسلم والنسائي]

صلى الله عليه وسلم، فهناك عذاب وهناك نعيم في القبر، ودائماً الأحاديث تصف النعيم للمؤمن، والعذاب لغير المؤمن، فهنا الآن منازل الآخرة، بعد ذلك يكون البعث من القبور، أي هذه حياة البرزخ قبل البعث من القبور، حياة جميلة جداً بانتظارك، ما حياة البرزخ؟ شخص محكوم بالإعدام نسأل الله السلامة، أودعوه في السجن، كل يوم يحدث شيء يريدون أن يطلبوا سجيناً، أن يدخلوا طعاماً، أن يعطوا تعليمات، يضعون المفتاح الحديدي بالباب الحديد ويفتحون فيهبط قلبه، يظن أنهم قد جاؤوا لاقتياده إلى حبل المشنقة، يقولون: اليوم فلان من أجل المراجعة، عنده زيارة، فيسكن، أغلق الباب، وكلما وضعوا المفتاح في الباب ترتعد فرائصه هذا عذاب القبر، أي هو في انتظار - والعياذ بالله- مقعده من النار وبالمقابل إنسان يريد أن يدخل على ملك عظيم، وقد أعدّ له ما أعد.

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: أعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ }

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي]

انتظار النعيم نعيم
مهيأ له، والطعام، والشراب، والجلسة الجميلة، والأنهار، وكذا، هو جالس بقاعة الانتظار، مكيفة، وفيها شاشة كبيرة يرى ماذا أعد له، وينظر هكذا، وكلما قالوا يقول: هيا، الثاني يعيش بجحيم لأنه ينتظر الجحيم، والمؤمن يعيش بنعيم لأنه ينتظر النعيم، فانتظار النعيم نعيم، وانتظار الجحيم جحيم نسأل الله السلامة، فبعد حياة البرزخ يكون البعث من القبور، بعد البعث من القبور يكون الذهاب إلى أرض المحشر، والوقوف في هذا الموقف المهيب، والشمس تدنو من رؤوس الخلائق، ثم يكون الحوض المورود، حوض النبي صلى الله عليه وسلم، ويشرب منه من أمته كل من لم يبدل، ولم يغير، وإنما ثبت على الحق، وعلى العبادة، والطاعة، وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيشربون منه، من هذا الحوض المورود، ثم يرفع لكل نبي حوض فتشرب منه أمته، سيدنا عيسى، وسيدنا موسى، بعد حوض محمد صلى الله عليه وسلم، ثم تكون الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي بدء الحساب للخلائق، كل نبي يتهيب هذه الشفاعة، لكن محمداً صلى الله عليه وسلم يشفع لجميع الخلائق بأن يبدأ الحساب بعد الوقوف في أرض المحشر، ثم يكون العرض، العرض عرض الأعمال، كل إنسان تعرض عليه أعماله.

هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
[ سورة الجاثية]

يرى أعماله أمامه بلحظة، يرى كل الدنيا، بما فيها من خير ومن شر، هذا يسمى: العرض، عرض الأعمال، وبعد العرض يكون الحساب، وبعد الحساب تتطاير الصحف، فمنهم من يأخذ صحيفته بيمينه، ومنهم من يأخذ صحيفته بشماله، أعاذنا الله وإياكم منهم، ثم يكون بعد ذلك حساب من نوع آخر لقطع المحاججة، أي بعد تطاير الصحف، والأخذ، هناك تثبيت للحساب، كما ورد في الصحيح، وبعد ذلك يكون الميزان، فتوزن الأعمال، وبعد الوزن ينقسم الناس إلى أزواج.

احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)
[ سورة الصافات]

الأزواج هنا بمعنى كل على شاكلته، فهناك زمرة - نسأل الله السلامة - الزناة، وزمرة الطغاة، وزمرة القتلة والمجرمين، وهناك زمرة المصلحين، وزمرة طلاب العلم، وطلاب الخير، وزمرة الطائعين، وزمرة المحسنين، وزمرة المخبتين، المخبتين؛ أي الخاضعين لمنهج الله وهكذا طوائف وأزواج، وبعد ذلك يعبرون الصراط، ويقول صلى الله عليه وسلم: " اللهم سلم، اللهم سلم"، يبدأ هو ويقول: اللهم سلم، اللهم سلم، فمنهم من يعبر الصراط بسرعة، ومنهم من يتلكأ، ومنهم من ينزل في النار والعياذ بالله تعالى، ثم بعد ذلك يكون الاجتماع فيما يسمى بالقنطرة، في عَرصَةٍ من عَرصَاتِ الجنة، أي ساحة، قنطرة، هؤلاء استحقوا الجنة لكن ما زال بينهم مظالم، هذا استحق الجنة، وذاك استحق الجنة، لكن هناك مظلمة بسيطة بين الطرفين، لم يستحقا النار عليها، لكن ينبغي تصفية كل الحسابات لأنه عدل جلّ جلاله، فتسوى الحسابات في هذه القنطرة، ثم بعد ذلك يدخل أهل الجنة الجنة، فأحدهم أهدى بمنزلته في الجنة من منزله كان يعرفه في الدنيا، ويدخل أهل النار النار، ويساقون إليها والعياذ بالله.

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)
[ سورة الزمر]

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)
[ سورة الزمر]

إذاً الموت ليس انتقالاً إلى المجهول، بل إلى المعلوم، هل يوجد أكثر من هذا علم؟ فقط عناوين، الأحاديث بالصفحات، اقرؤوها، فالأمور معلومة واضحة، المؤمن يعرفها لكن من الذي ينتقل إلى المجهول؟ الذي لم يقرأ، ولم يطلب العلم، ولا يعرف شيئاً من هذا والعياذ بالله يجلس في القبر، يقول: من ربك؟ فيقول: لا أعرف، فيضرب ضرباً شديداً، هو قصر، كل الأمور كانت واضحة وهو لم يسعَ في المعرفة، هذا ينتقل إلى المجهول، أما المؤمن فينتقل إلى المعلوم، ينتقل من الممر إلى المقر، ينتقل من الكدح والتعب إلى الراحة.

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ (6)
[ سورة الانشقاق]

ينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، فنحن لسنا إلى مجهول كما يصور البعض، يقول لك: الموت إلى المجهول، لا أبداً.

4 ـ ذكر الموت مثبط ومحبط:
ذكر الموت محفز
الفكرة الرابعة والأخيرة، وهي فكرة غير صحيحة يتكلم فيها البعض: ذكر الموت مثبِّط، ومحبط، بمعنى أنت أيها الشيخ لم تجد موضوعاً تتكلم فيه إلا عن الموت، تكلم لنا عن الحياة، ومصانع السيارات، والدنيا، وكذا، كي نتشجع ونعمل، ألا يكفي أننا أمة مقهورة وفوق ذلك كله موت، فوق الموت ضغطة قبر، يا شيخ، تكلم لنا عن الحياة، سرنا بالحياة، لا نريد أن تتكلم لنا عن الموت، ذكر الموت ليس مثبطاً، ولا محبطاً، ذكر الموت محفز، ومسرع الخطا إلى الله، نحن عندما نتحدث عن الموت يجب أن نخرج اليوم جميعاً بروح مختلفة، بتسوية الحسابات السابقة، بالاندفاع إلى أعمال صالحة جديدة، بعمارة الدنيا بطريقة مختلفة، بتوبة صالحة، نحن لن نثبط، ولن نحبط، ذكر الموت ليس حركة سلبية، هو حركة إيجابية مطلقة.
سأقول لك مثالاً: أنت سافرت إلى أوروبا مثلاً، بلدك هنا، سافرت، السفر يوم الخميس، أنت سافرت السبت، سبت، أحد، اثنين، يوم الثلاثاء اقتربت ساعة الرحيل تذكرت، أريد أن أرجع، الأربعاء والخميس يكون نشاطك أكبر بكثير تريد أن تتمم أغراضك، لم تعد تنام لأن الرحيل قد اقترب، فهل ذكر ساعة الرحيل أحبطك أم حركك؟ حركك، كذلك الموت، عندما نذكر أننا سنرحل إذاً دعنا نستعجل، دعونا نستعجل الأعمال الصالحة، نستكثر من الأعمال الصالحة، نستكثر من التوبة، هذا هو الهدف.
لذلك قال بعض السلف الصالح، أوردها القرطبي عن أحد العلماء، قال: من أكثر ذكر الموت أُكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، من أكثر ذكر الموت أُكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة؛ يسارع إلى التوبة لأنه لا يعلم متى يلقى الله، وقناعة القلب؛ أي يقنع قلبه بما آتاه الله من الدنيا، من رزق، من صحة، من عافية، يقنع، لأن الموت قادم، ما ذكر الموت في قليل إلا كثره، ولا في كثير إلا قلله.
ملك قال لوزيره: قل لي كلاماً إن كنت حزيناً أفرح وإن كنت فرحاً أحزن؟ قال له: كل حالٍ يزول، فالحزين يفرح لأن كل حالٍ يزول، فهو في حزنه سيزول، والفرح يحزن لأن الفرح سيزول أيضاً، فقال له: قل لي كلاماً إن كنت حزيناً أفرح وإن كنت فرحاً أحزن؟ قال له: كل حال يزول، لا يبقى شيء على ما هو.
من أكثر من ذكر الموت أُكرم بثلاثة أشياء، تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، يتنشط للعبادة والطاعة بمفهومها الواسع، حتى في عمله، لأن عمله سيدر عليه مالاً، والمال سينفقه في الطاعة، فسيرقى عند الله، فالعبادة واسعة، ونشاط العبادة بشكل عام.
قال: ومن نسي الموت عُوقب بثلاثة أشياء، تسويف التوبة، نقول لك: نحن صغار، أين نحن من الموت؟ اتركنا، الأيام قادمة، فيسوف التوبة، وسوف جندي من جنود إبليس، والثانية؛ يترك الرضا بالكفاف، لا يقنع بما رزقه الله، يريد أكثر وأكثر وأكثر، لأنه لم يضع نقطة ينتهي فيها، والكسل في العبادة، يكسل عن العبادة، ويلتفت إلى الدنيا لأنه لا يذكر الموت.

تصحيح للفكر المغلوطة عن الموت:
لذلك أيها الأحباب هذه أربع أفكار مغلوطة عن الموت، الموت ليس النهاية وإنما هو انتقال من حياة إلى أخرى، الموت ليس مخيفاً وإنما هو مصيبة، لكنها للمؤمن نجاة وفوز وفلاح، ولغير المؤمن خسران نسأل الله السلامة، والموت ليس انتقالاً إلى المجهول ولكنه انتقال إلى معلوم بدقة، بالخبر الصادق، والموت ليس شيئاً مثبطاً، ولا محبطاً، وإنما شيء محرك، ودافع، ومعجل للتوبة، وللخير.
هذه الفكر الأربعة مغلوطة عن الموت، وهذا تصحيحها.
قالوا في الختام: الموت سهم وجه إليك، وعمرك بقدر وصول السهم إليك، أي نحن محكومون بالموت مع وقف التنفيذ، قال تعالى:

إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)
[ سورة الزمر]

مناسبة الحديث عن الموت اليوم أن أحد الأخوة الذين لهم معزة خاصة في قلبي وكنت قد وعدتهم على اللقاء في تركيا بعد أيام، توفاه الله من غير سابق إنذار، موت مفاجئ، في بيته رجعوا فوجدوه قد توفي رحمه الله في الشام، نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، فنظرت في هذا الحال، الإنسان أحياناً يعد خطة، أسافر، وأفعل، ثم يفاجئه الموت، فهو حدث واقعي لا ينبغي أن نتجاهله، لكن في المقابل والله دخل إلى قلبي من السرور لما علمت عن ثناء الناس عليه، وعن أعماله الصالحة، وعن سعيه في البر والخير ما دخل، فخفف من ألم الفراق، لأنه ذهب إلى شيء فيما أحسب ولا أزكيه على الله ذهب إلى شيء أفضل من دنيانا التي نحن فيها، فصرت أنظر بقضية الموت بهذه الطريقة.
فأحبابنا الكرام؛ الموت مصيبة لكن نحن إن شاء الله بالنسبة للمؤمنين الموت تحفة، والموت عرس، والموت لقاء مع المحبوب جل جلاله.

الوقت والمال:
الوقت أثمن من المال
الوقت أثمن أم المال أثمن؟ الوقت، الدليل: إنسان يملك بيتاً فقط لا يوجد عنده غيره، أصابه مرض عضال، راجع الطبيب قال له: لا بد من إجراء عمل جراحي، لكن كلفته عالية في بلد مجاور، يكلفك بيع بيتك، فوراً يبيع بيته، ويستأجر، ويجري الجراحة بثمن بيته، لأنه يتوهم أن هذا العمل الجراحي سيزيد في عمره، أي يعطيه وقتاً، أي بدل أن يموت بالثمانين يموت بالتسعين فرضاً، طبعاً الموت لا يتأخر، لكن هو وفق منظورنا نحن إن شاء الله أعمل العملية، وأعيش أكثر، فهو قدم المال وضحى بالمال من أجل الوقت، من أجل العمر وهو الوقت.
خرجنا الآن من هذا الباب وجدنا إنساناً قد أمسك بيده رزمة من الدنانير، ثم أحرق هذه الرزمة وألقاها في القمامة، ما الحكم عليه؟ مجنون، سفيه، يحجر عليه فوراً، هذا غير قادر على التصرف بالمال، سفيه، الآن الناس الذين يصرفون أوقاتهم بمعصية الله والوقت أثمن ما يكون، أثمن من المال، ما هذا؟ مثلاً يجلس بلعبة النرد للساعة الثانية ليلاً، ربما ينام ولا يستيقظ لصلاة الفجر، والعياذ بالله، ينفق وقته ليس في الحلال بل في الحرام، هو المال يخشى عليه أن يتلفه والوقت؟
فنحن أخواننا الكرام؛ عندما نجلس بمجلس علم، وعندما نتواصى بالحق، وبالصبر، وبالطاعة، وبالخير، فنحن إن شاء الله نتلافى الخسارة، قال تعالى:

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
[ سورة العصر]

والحمد لله رب العالمين