اللقاء: 02- الصبر في القرآن الكريم

  • الأردن - عمان- مركز الكالوتي - برنامج آيات وتأملات
  • 2022-02-19
  • عمان
  • الأردن

اللقاء: 02- الصبر في القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأُصَلِّي وأُسَلِّمُ على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم عَلِّمنا ما يَنفعُنا وانفعَنا بما عَلَّمتَنا وزِدنا عِلماً وعَمَلاً مُتَقَبَّلاً يا رب العالمين وبعد.


تعريف الصبر لغة وشرعاً:
أيها الأخوة الأفاضل؛ أيتها الأخوات الكريمات؛ هذا لقاؤنا الثاني في سلسلة لقاءات آيات وتأَمُّلات، وفي هذه اللقاءات نَتَدبَّر بِصُحبَتِكُم آياتٍ من كتاب الله تعالى تتعلَّق بموضوعات مُعَيَّنة في كتاب الله.
اللقاء الأول كان لقاء تَمهيديَّاً تحدَّثنا عن حق التلاوة، وكيف نتلو القرآن حقَّ تلاوته، في هذه المحاضرة إن شاء الله بَمَعِيَّتِكُم سنتحدَّث عن الصَّبر في القرآن الكريم، فهذا لقاؤنا الثاني وهو بعنوان: الصَّبر في القرآن الكريم.
أيها الكرام قبل أن نبدأ بالآيات التي نريد أن نتدبَّرها في هذا اللقاء يجب أن نُحَرِّر المصطلح، أي شيء تريد أن تدرسه يجب أن تعرف ما هو، عندما نقول: الصبر فالصبر لُغَةً هو حَبسُ النفس عن الجَزَع، الجَزَع عكس الصبر:

إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)
[ سورة المعارج ]

الإنسان في أصل خلقته قبل أن يكون مُؤمناً، قبل أن يُصبح مُؤمناً، هو هَلوع، فإذا أصابه شيء من الشر يجزع، لا يصبر، يضطرب، يُصبِح حاله حَيران أسِفَاً، لا يدري ماذا يفعل، هذا الجَزَع، لكن عندما يُؤمِن قال:

إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)
[ سورة المعارج ]

المُصَلُّون مُستَثنون من هذا الحال، لا يُصبح جَزوعَاً عند الشر، ولا مَنوعاً عند الخير.
الصبر لُغةً هو حَبس النَّفْس عن الجَزَع
فالصبر لُغةً: هو حَبس النَّفْس عن الجَزَع، أي مَنع النَّفْس من أن تَجزَع، الإنسان هنا صَبَر.
شرعاً: الصَّبر هو حَبس النَّفْس عن محارِم الله، وحَبسُها على فرائضه وحَبسُهَا عن التَّسَخُّط والشِّكاية لأقداره.
ثلاثة أمور معاً، الصبر في الشَّرع ثلاثة أمور:
1 ـ إذا كان هناك شيء قد حَرَّمَه الله تمنع النَّفْس عنه، هذا صبر، إنسان يمشي في الشارع وأمامه منظر لا ينبغي أن ينظر إليه، فحَبَس النفس ومنعها عن محارِم الله.
كان في مكتبه جاءه مبلغ رشوة والنَّفْس تحب أن تأخذ المبلغ، هو الآن صبر، حَبَس نفسه عن الحرام ورفض أن يستلم مبلغاً لا يُرضي الله تعالى، هذا حَبْس النَّفْس عن مَحارِم الله.
2 ـ وحَبْسُها على فرائضه: كُنَّا في صلاة المغرب بصحبتكم، كُنَّا صابرين أثناء الصلاة، لا تستطيع وأنت تصلي أن تلتفت أو أن تفتح هاتفك لترى من أرسل إليك رسالةً، فكنتَ صابراً لمدة عشر دقائق لأداء الصلاة، هذا صبر، صبر على الطاعات.
3 ـ والثالث حَبْسُها عن التَّسَخُّط و الشِّكاية لأقدراه: إنسان فَقَدَ عزيزاً يُحبِّه، أو فَقَدَ بعض ماله، أو أصابه شيء من الخوف، فصَبَر على أقدار الله.
هذا هو الصَّبر شرعاً.

الصبر ثلاثة أنواع:
1 ـ الصبر على الطاعة:
لذلك يمكن أن نُقَسِّم الصبر إلى أنواعٍ ثلاث:
الصبر الأول: الصبر على الطاعة. والثاني: الصبر عن المَعصية، انظروا إلى دِقَّة اللغة العربية، الأول تصبر على الطاعة، الثاني تصبر عن المعصية (عن)، لا تقترفها. الثالث: الصبر على قضاء الله وقدره.
نبدأ بالتَّدَبُّر.
لو بدأنا بالنوع الأول الصبر على الطاعة ورَدَت فيه آيات عديدة، اخترت لكم هذه الآيات الثلاثة منها. الآية الأولى:

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
[ سورة مريم ]

هذا الصبر على الطاعة، اصطبر لعبادته، لو تَدَبَّرنا هذه الآية: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ما معنى الرَّب؟ الرَّب من التربية.

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
[ الفاتحة ]

لأنه يُرَبِّي العَوالِم كُلَّها.

تعريف التربية:
رب الأسرة يقوم على تربية أسرته
ما معنى التربية؟ إذا كنت رَب الأسرة، والأم أيضاً في بيتها رَبة الأسرة، ما معنى رَبُّ الأسرة؟ أي هو مُشْرِف عليها، يقوم على تربيتهم، فلو أن ابناً من أبنائه احتاج علاجاً يأخذه إلى الطبيب فهو رَبُّ الأسرة، ولو أن ابناً من أبنائه جاع فإنه يُحضِر له الطعام، ولو أن ابناً من أبنائه احتاج ثياباً جديدةً فقد اهتَرَأت ثيابه يُحضِر له ثياباً فهو رَبُّ الأسرة.
هل يكفي ذلك لتكون رَبَّ أسرة؟ لا. يوجد تربية نفسية، لو أنَّ ابناً من أبنائك أخطأ تُعاقِبُه، تمنع عنه شيئاً يحبه حتى لا يعود لترك الصلاة مثلاً، فأنت تُرَبِّيه، لو أنه أحسن تكافئه، تقول له: أعطني كم أخذت اليوم؟ 100/100؟ إذاً لك هذه المكافأة، أنت تُرِّبي الآن لكن تربية نفسية، فالرَّب هو الذي يُرَبِّي، والله تعالى رَبُّ العالمين ورَبُّ السماوات والأرض وما بينهما، لأنه يُربِّي أجسادنا وأنفسنا، من الذي يُطعِمُنا؟ هو جلَّ جلاله، من الذي يسقينا كل يوم بالماء؟ هو جلَّ جلاله، من الذي يُنزلُ الغيث من السماء؟ الله تعالى، من الذي أعطانا الولد؟ الله تعالى، من الذي أعطاك الزوجة؟ الله تعالى، من الذي وَهَبَكِ الزوج؟ الله تعالى، فكل شيء منه لأنه الرَّب هو المُرَبِّي هو ربُّ العالمين، فهو يُربِّينا يُمِدُّنا بما نحتاجه، الرِّزق منه، والمطر منه، والخير منه، والبركة منه، وكل شيء منه.
كل الخير من الله تعالى.

حاجة العبادة إلى الصبر والشكر:
إذا كان الأمر كذلك قال: (فَاعْبُدْهُ)، هذه (الفاء) يسمونها في اللغة العربية، هذه (الفاء) غير الفاء العاطفة والاستئنافية، هذه (الفاء) يسمونها الفاء الفصيحة، ما معنى الفاء الفصيحة؟ الفاء الفصيحة هي الفاء التي تُبَيُّن شيئاً محذوفاً قبلها.
بعد شهر إن شاء الله وأكثر بقليل يأتي رمضان، الله تعالى قال في القرآن الكريم:

أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ۚ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
[ سورة البقرة ]

الفاء الفصيحة تُبَيُّن شيئاً محذوفاً قبلها
هذه (الفاء) فاء فصيحة، أي فمن من كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فأفطَرَ فَعِدَّةٌ من أيامٍ أُخَر، إذا لم يُفطِر لا يوجد عليه عِدَّةٌ من أيام أُخَر، فهناك شيء محذوف بالكلام، لو إنسان مسافر وقال لك: أنا مرتاح جداً في الفندق ولن أفطر سأصوم، هل عليه عِدَّةٌ من أيامٍ أُخَر؟ لا. إذاً فمن كان مريضاً أو على سفرٍ فَعِدَّةٌ، أي فأفطر فَعِدَّةٌ، فالفاء الفصيحة تُخفي كلمة وراءها فَتُبَيِّنُها، فهي فصيحة، وهذه الفاء الفصيحة لا تكون إلا في كلام البُلَغاء وكلام الله تعالى أبلغ كلام.
فهنا ما هو المُضمَر؟ ماذا أخفَتْ الفاء الفصيحة خلفها؟ (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) فإذا أيقَنتَ من رُبوبِيَّته (فَاعْبُدْهُ) إذا كنت مُوقِناً (فَاعْبُدْهُ) فإذا أيقَنتَ من رُبوبِيَّته يقيناً كاملاً فينبغي أن تعبده، هذا المنطق، أمَّا أن أقول لك: من يُطعِمُك؟ تقول: الله، من يسقيك؟ الله، من يجعل أجهزتك تعمل بانتظام؟ من يقوم على كُليَتيك لِتُنَقِّي الدم؟ الله، من الذي جعل الكَبِد الذي هو عبارة عن قطعة لَحمِيَّة يقوم بخمسة آلاف وظيفة؟ الله، من الذي يجعلك تمشي على رجليك؟ الله، من الذي جعل في رأسك ثلاثمئة ألف شعرة لكل شعرة غُدَّة دهنيَّة وغُدَّة صِبغيَّة وشريان ووريد وعَصَب وعضلة؟ الله، إذا أردتَ أن تعبُد، تعبُد من؟ الدينار!! شيء مضحك، إذا أيقنتَ من رُبوبِيَّته فاعبده، هذا ما كان يفعله المشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
[ سورة الزمر ]

لماذا تدعون من دون الله وهو الذي خلق ورزق وأعطى؟ هذا شيءٌ عُجاب، مضحك، لو تأمل الإنسان به يجده مُضحِكاً، أن يرزقنا الله ويُعطينا ويَهبُنا ثم إذا أردنا شيئاً ندعو غيره أو نعبد غيره:

{ تعِس عبدُ الدينارِ، تعِس عبدُ الدرهمِ، تعس عبدُ الخميصةِ، تعس عبدُ الخميلةِ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ }

[ رواه البخاري ]

الخميصة أي الجوع، هناك إنسان يعبد بطنه، يبيع دينه من أجل أن يأكل، يقول: نريد أن نعيش، لا. إذاً هنا: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فإذا أيقنتَ من رُبوبِيَّته تماماً فاعبده.

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
[ سورة مريم ]

هنا الشاهد، نحن نتدبر الآيات، أي لو أخذنا وقتاً، لكن تَدَبُّر الآيات فيه متعة، (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) يوجد: واصبر، وهناك: واصطبر، طبعاً الزيادة في المبنى دائماً زيادة في المعنى، عندما تزيد حرفاً في بناء الكلمة المعنى يصبح فيه زيادة، فلو قلت لإنسان: اصبر أي الأمر يحتاج صبراً لكن ربما ليس صبراً كثيراً، لكن لو كان في محنة شديدة تزيد فتقول له: صابِر، أو تقول له: اصطَبِر، تزيد شيئاً في المبنى حتى يزيد المعنى ويفهم عليك، لأن الأمر يحتاج إلى صبر شديد.
فهنا العبادة تحتاج إلى صبر، واصطبِر لعبادته، أي أنت كأنك في معركة، الشيطان يغويك، والنفس تريد منك شيئاً آخر غير ما يريده الله، وأقران السوء يدعونك لترك العبادات، والإعلام يقذف في رأسك الشُّبُهات وفي قلبك الشهوات معركة حقيقية نحن نعيش بها، و أنت تحتاج أمام هذه المعركة أن تصطبر، كان العرب يقولون: اصطبِر، إذا كان هناك إنسان يحارب في معركة يقول: اصطبِر لقَرنِكَ، أي اصطبِر للرجل القرين لك الذي سيبارزك بالسيف، هنا: (وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) كأننا في معركة، كل شيء من حولنا يدعو إلى الفُجور والمطلوب أن نصطبِر لعبادة الله عز وجل، هذا المجلس مجلس صبر، لا أبالغ إذا قلتُ لكم أيها الكرام: الدِّين صبر، لو قلت لي: لَخِّص الدِّين بكلمتين؟ أقول لك: الصبر والشكر، وإذا قلت لي: بكلمة؟ أقول لك: الصبر. كل الدِّين صبر.

فلسفة الصبر:
متى يصبر الإنسان؟ سأضرب مَثَلاً: في القرآن الكريم لمَّا سيدنا موسى أرسله الله تعالى إلى العبد الصالح الذي هو في أرجح الروايات الخَضِر، أرسله إلى هذا العبد الصالح فالعبد الصالح قال له كلمة، قال له:

قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)

أنت لن تصبر، غريب، سيدنا موسى نبي لن يصبر؟! قال له:

وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
[ سورة الكهف ]

إذا لم يكن لديك علم لا تصبر
أنت لن تستطيع أن تصبر إلا إذا أَحَطتَ خُبْرَاً، إذا كان لديك علم تصبر، إذا لم يكن لديك علم لا تصبر، قال له: أنت ليس لديك المعلومات التي لدي، فأنت لا تسطيع أن تصبر، هو يعرف ماذا سيفعل، هو سيقوم بأفعال بأمر الله مباشرةً، سيقتل غُلاماً، سيدنا موسى سيعترض، سيخرق سفينةً سيدنا موسى سيعترض لأنه ليس لديه معلومات لماذا يفعل ذلك، هو عنده عِلم من الله، غير موجود هذا العِلم عند سيدنا موسى، فمن حقه أن يعترض، لأن ما فعله الخَضِر خطأ شرعي، قَتل الغلام وخرق السفينة ثم سيبني جداراً من غير أي سبب مع أن أهل القرية بُخلاء لم يضيفوهم، إذاً سأقوم بأعمال لن تستطيع معي صبراً، قال له: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) إذا كان الإنسان لا يوجد عنده عِلم بالموضوع لا يصبر، نحن لماذا نصبر؟ لأن لدينا عِلماً، كيف جاءنا العِلم؟ بالكتاب والسُّنَّة، ربنا عز وجل قال: اصبروا هناك جنة، نحن نصبر لأنه يوجد جنة، اصبروا ستنظرون إلى وجهي الكريم يوم القيامة، نحن نصبر من أجل أن نلقاه وهو عنا راضٍ، الذين لا يصبرون عن المعاصي والآثام ويعصون الله جَهَاراً نهاراً ما عندهم عِلم، ما عنده يقين بالجنة والنار، وأنه يوجد عقوبة، ما عنده خبر لم يخبَر، فالذي لا يخبَر المعلومة لا يصبر.
شخصان يجلسان في مجلس، صدر قرار أحدهما يُقَلِّب في هاتفه فوجد قراراً بأن هناك حملة لإزالة الأبنية المُخالِفَة، هو وزميله كل واحد لديه بناء مخالِف، بنوهما قبل 2010، الاثنان بنوا البناء المخالف قبل 2010، أحدهما جَزِع لمَّا رأى القرار، سيهدمون البناء الذي بنيته لأولادي، هناك قرار بهدم البناء، يجزع وينزعج، الثاني مطمئن، جئت للثاني وقلت له: لماذا أنت مطمئن أليس عندك بناء؟ قال لي: أنا عندي معلومة من شخص يعمل في دوائر القرار أن هذا القرار لا يشمل الأشخاص الذين بنوا قبل 2010، صابر، المعلومة لديه جعلته يصبر لأنه يعرف أن بناءه لن يُهدَم، الآخر ما عنده المعلومة فجَزِع خاف على بنائه، مع أن البِناءين لن يُهدَمَا. لكن الذي لديه معلومة صبر، والذي ليس لديه معلومة لم يصبر: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا).
نحن قد أحطنا خُبْرَاً بما أعَدَّ الله لنا من ثواب، وأحَطْنا خُبْراً بما أعدَّه الله لمن عصاه بالعقاب، فلذلك نحن نصبر في الدنيا على كل ما يأتينا من متاعب لأنها أيام وتزول، ويأتي العطاء الإلهي من الله عز وجل، فنصبر، هذه هي فلسفة الصبر، فلسفة الصبر هي المعرفة، الذي يعرف الله يصبر على قَضائِه وقَدَرِه، والذي يعرف ما أعدَّ الله لمن أطاعه يصبر على طاعته، والذي يعرف ما أعدَّه الله لمن عصاه يصبر عن معصيته.
خذ ابنك وهو عنده علاج، أنت تجلس على الكرسي وتصبر على الطبيب حتى يُنهي عمله، ابنك الصغير ما إن يبدأ الطبيب بوضع المِثقَب في أسنانه حتى يبدأ بالصُّراخ، ويَسُبُّ الطبيب، ويَركله بقَدَمِه، والطبيب يضحك، ما الفرق بينك وبين ابنك؟ المعرفة، أنت عندك علم أن الطبيب خبير، وأنا لا بد أن أصبر قليلاً حتى أتحاشى الأوجاع المستمرة في الليل، الابن الصغير ظن أن الطبيب يَعبَث بأسنانه ويزعجه، ولا تستطيع أن تُقنِعُه أن هذا لمصلحتك، فتضطر أن تُمسِكُه من يديه وهو يبكي حتى تُنجِزَ له العمل.
ما الفرق بين الكبير والصغير؟ الصبر، من أين جاء الصبر؟ من العِلم: (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي هل تعلم له مثْلاً؟ هل يوجد إله يستحق العبادة كالله تعالى؟ معاذ الله.

الصبر عام والصلاة جزء من الصبر:
الآية الثانية:

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ (132)

واضحة.

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ (132)
[ سورة طه ]

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) أي أنت في الصباح تريد أن تُوقِظ الأولاد على صلاة الفجر قد يغلبوك بالاستيقاظ، اصطبر، تريد أن تعلمهم بالتشجيع، بالكلمة الطيبة، واصطبر عليها.

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
[ سورة البقرة ]

الصلاة جزء من الصبر
هنا عَطَفَ الخاص على العام، الصبر عام، والصلاة جزء من الصبر، كما قلتُ لكم قبل قليل: أنت في المسجد وحتى في البيت، والأخت الكريمة في بيتها تصبر على صلاتها، حتى تُؤَدِّيها بإتقان، بخشوع بتمام فروضها وواجباتها وأركانها فتصبر، فقال: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) في الطريق الذي نحن به إلى الله استعن بالصبر لأنه خير الزَّاد، (وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) كيف وَإِنَّهَا لكبيرةٌ إلا على الخاشعين؟
كثير منكم ربما ذهب إلى بيت الله الحرام، وأدَّى العُمرة، ووقف أمام الكعبة المُشَرَّفَة - نسأل الله أن يرزقنا جميعاً هذا السفر الميمون - ربما وقفتَ أمام الكعبة والإمام يتلو بصوت جميل جداً فخشعتَ في صلاتك، تَمَنَّيتَ من أعماقك ألا تنتهي هذه الصلاة، قلتَ: ليته يقرأ البقرة كاملة وآل عمران في ركعتين، ليته إلى الفجر بقي يقرأ من شدة الخشوع في الصلاة لم تجد الصلاة كبيرة، وجَدتها سهلة جداً، لكن لو كان المصلي مُشَتَّتاً وعنده مئة هَمّ وهَم ووقف بالصلاة أي كُلفَة، فلا يُصَدِّق متى ينتهي، فإمَّا أن يكون حال الإنسان: أرحنا بها يا بلال، أو أن يكون حاله: أرحنا منها، لكن نحن إن شاء لله حالنا: أرحنا بها، فالصلاة راحة.
لا أقول: كل صلاة ستكون في قمة المتعة، لا، لكن أنت تُؤدي التَّكليف، ثم تأتيك بعض الصلوات تخشع فيها فالصلاة ليست كبيرةً على الخاشع.(وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) صعبة، تكليف، خمس صلوات، تستيقظ في الفجر، تقوم وتتوضأ ربما الماء بارد وتصلي، (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) ربنا يقول، يقول لك: الصلاة كبيرة ما هي وهم خمس صلوات؟ جَمعُهُم عبارة عن دقيقة إذا كانوا بالإتقان، أي ساعة من أربع وعشرين ساعة، فكيف إذا كانوا خمسين صلاة في اليوم والليلة؟
خمس صلوات. وقال تعالى: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) لأن الإنسان يحب الشيء المُسَلِّي، الشاشة، المتابعة، الحديث، الصلاة فيها صبر، صبر، يصبر نفسه، يَحبِس نفسه، فقال: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) الخاشعون لا يجدون الصلاة كبيرة، يجدونها متعة، يقول لك: متى يحين وقت الصلاة؟ صَلَّينا الظهر متى العصر؟
رجلٌ قلبه مُعَلَّقٌ بالمساجد وبالصلوات؟ هذا الصبر على الطاعة.

2 ـ الصبر عن المعصية:
الصبر عن المعصية: إنسان يمنع نفسه من المعاصي، يَحبِس نفسه عن المعاصي، هذا صبر، غَضِّ البصر صبر، ترك المال الحرام صبر، مجلس يُدار فيه حديث فيه غِيبة والنفس تُنازِعُك، تَكَلَّم أنت لديك معلومة تتحدث بها فنُضحِك الناس، تحدث، صبرت نفسك لا يمكن أن أتكلم هذا أخي المسلم، لا يجوز أن أستهزئ به، الصبر، نحتاج إلى صبر عن المعصية.

الفردوس الأعلى هو العطاء الإلهي لمن صبر:
قال تعالى:

أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
[ سورة الفرقان ]

بعدما وصف عباد الرحمن:

وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
[ سورة الفرقان ]

إلى آخره، بعدما وصف عباد الرحمن، قال: (أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) الغُرفة أعلى مراتب الجنة، من أين جاءت هذه المرتبة العَليَّة مرتبة الغُرفة؟ في أعلى مراتب الجنة في الفردوس الأعلى، قال: (بــــــ)، هذه باب السبب، أي بسبب، بما صبروا، قال أهل التفسير: بما صبروا على الطاعة وبما صبروا عن المعصية.
المؤمن يُحقِّق شهواته في مرضاة الله
منعوا أنفسهم عن محارم الله فأعطاهم الله الغُرفة بالجنة،غير المؤمن يترك العَنان لنفسه، من حلال، من حرام، يأخذ المال، النساء من حلال من حرام يفعل ما يحلو له، المنصب يُرضي الله يُسخِط الله فيه ظلم يريد أن يصل إلى أعلى المناصب، يريد أن يُحقِّق شهواته ولو بمعصية الله، المؤمن يُحقِّق شهواته لكن حصراً في مرضاة الله، يريد الطرف الآخر فيتزوج وفق منهج الله، لا يُتاح له يصبر، يريد المال يتاجر، لا يُيَسِّر الله له يصبر، يريد العلوَّ في الأرض يطلب العِلم، يُحَقِّق ذاته بين الناس بالخُلُق الحسن، (أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا).
هذا من العطاء الإلهي الذي ليس عطاءً ماديَّاً، أي في الجنة يوجد عطاء مادِّي:

حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)
[ سورة النبأ ]

ويوجد عطاء معنوي:

لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)
[ سورة النبأ ]

هذا عطاء.
في الدنيا ربما من أسوأ ما يزعجنا في هذه الدنيا أننا نسمع اللغو والكذب، تفتح على الشاشة يخرج رئيس دولة عظمى، يُحّدِّثُك عن الحُرِّيَّات وحقوق الإنسان ويقول لك: جئنا لننشر الأمن والخير في بلادكم، وأنت تكاد تخرج من جلدك وهو يكذب، (لَغْوًا وَلَا كِذَّابًاً) يكذب، تعرف أنه يكذب، و أنهم دول مستعمرة، وأنهم يريدون القضاء علينا، هو يكذب وأنت لا تستطيع أن تقاوم.
في الجنة: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًاً)، سترتاح من الكاذبين، هذا عطاء معنوي وهنا عطاء معنوي، قال: (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) السلام جزء من التحية، أيضاً عَطْف الخاص عن العام، لأن السلام فيه سِلِم وأمن، والتحية أعَمّ من السلام، يُحييك الله، تحيِّك الملائكة بالسلام، يُحَيُّونك بالكلمة الطيبة، يُحَيُّونك بالطعام الطيب، يُحَيُّونك بالأرائك، كله تحية: (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا).

3 ـ الصبر على القضاء والقدر:
النوع الثالث من الصبر: الصبر على القضاء والقدر.
الدنيا دار امتحان
شاء الله عز وجل أن تكون الدنيا دار امتحان، معنى الامتحان أنه سيكون فيها ما يَسُرُّك، ليس كل ما في الدينا يَسُرّ، هناك في الدنيا ما يَضُرّ، هكذا شاءت حكمة الله حتى يتحقَّق الامتحان، فالدنيا دار ابتلاء، دار ابتلاء أي فيها أشياء تَسُرّ وأشياء تَضُرّ:

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
[ سورة الأنبياء ]

إذاً قد يفقد الإنسان شيئاً يحبه في الدنيا، قال تعالى:

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
[ سورة البقرة ]

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أي البلاء لا بدَّ منه، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) هذا قَسَم، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ) هذا من باب التَّخفيف والتَّلطيف، أي ربنا عز وجل لا يأتي بالبلاء بشكل لا يحتمله الإنسان:

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾
[ سورة البقرة ]

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْء) للتَّبعيض، أي شيء (مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ) وفاة قريب عزيز، أم، أب، أخ، ولد - نسأل الله أن يحفظ أحبابكم - لكن هذا حال الدنيا، (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ) هذه السنة المزروع تَلف، المحصول كله تَلف، جاءته حشرة، لم تأت الأمطار كما ينبغي فالمحصول بالعادة مئة كيلو، هذه السنة كان خمسين كيلو مثلاً بالحقل الذي لدي. (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) الله تعالى يقول لنا: هذه سُنَّة الحياة، أنتم جئتم إلى الحياة على هذا الشرط، أن فيها ابتلاءً، (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) ماذا يقابل الخوف والجوع؟ قال:

الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
[ سورة قريش ]

الأمن والشَّبَع، ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنةً مُطمَئنَّةً يأتيها رزقها رَغَدَاّ من كل مكان، كَفَرت بأنعُمِ الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. فمن أعظم النِّعَم على الإنسان الأمن والشّبَع، أي واحد فينا الآن يجلس في هذا المجلس الطَّيّب، أو يسمعنا هنا ويتابعنا، أي شخص فينا الآن آمِن، ما معنى آمِن؟ أي ليس خائفاً، بخير والحمد لله، لا يوجد مُذَكَّرة بحث عنه، ليس في مكان مُعَرَّض للقصف في أي لحظة، آمِن في بيته، وعنده قوت يومه، شبعان، ربما في الثلاجة لا يوجد طعام زيادة، لكن الآن هو شبعان. هذا حَقَّقَ أعظم نعمتين: الأمن والشّبَع (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).
الآن كل شيء في الدنيا إضافي الحمد لله على نِعَم الله، إضافي لكن إذا تَحَقَّقَ الأمن والشِّبَع مع نعمة الإيمان فقد حَقَّقتَ كل الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم:

{ مَن أصبحَ منكم آمِنًا في سِربِهِ - في جماعته - مُعافًى في جسدِهِ، عندَهُ قوتُ يومِهِ، فَكَأنَّما حِيزَت لَهُ الدُّنيا }

[ رواه الترمذي ]

كل الدنيا أخذها:
(مَن أصبحَ منكم آمِنًا في سِربِهِ، مُعافًى في جسدِهِ، عندَهُ قوتُ يومِهِ، فَكَأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا) فلذلك الابتلاء قائم وهو الامتحان، وأنواع الابتلاء الخوف والجوع، نقص بالأموال والأنفس والثمرات، قال:

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
[ سورة البقرة ]

الله تعالى يُبَشِّر الصَّابِر، يُبَشِّرُك إذا صَبرتَ على قضاء الله وقدره، هذا النوع الثالث من الصبر.
من هم الصابرون؟ قال:

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
[ سورة البقرة ]

من هذه الأنواع، نقص الأموال، نقص الأنفس، نقص الثمرات، مُجَرَّد ما جاءته المصيبة ماذا يقول؟ (قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
المصيبة تجعلك ترجع إلى الله
دعونا نقرأ الآية جزأين،(إِنَّا لِلَّهِ): أنت لله وأنا لله، نحن لسنا مُلكاً لأنفسنا، ومن يملِكُنا يتصرف بنا كما يشاء، فلا تعترض على قضائه وقدره. (إِنَّا لِلَّهِ) أنت لست مُلكاً لنفسك، أنت لله، فاترُك الأمر له، لأنه لا يفعل إلا ما يُصلِحُك، (إِنَّا لِلَّهِ)، (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) والمصير إليه، فالمبدأ إليه والعودة إليه، قال بعض أهل العلم: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) بهذه المصيبة، أي المصيبة تجعلك ترجع إلى الله، كم من إنسان أعرَضَ عن الصلاة، قَصَّرَ في صلاته، قَصَّرَ في عبادته، لم يتحرَّ الدخل الحلال، أي عنده إشكال، جاءته مصيبة ففهم حكمة الله ورجع والتزم بمنهج الله تعالى، فهذا رجع إلى الله بالمصيبة، والأرقى منه أن يرجع إلى الله بالشكر من غير أن تأتي المصيبة، وأنت صحيح مُعافى، أي كلنا ينبغي أن نعود إلى الله، لكن عافيتك أوسع لنا.
نحن نحب العافية لا نحب المصائب، لكن نُوَطِّن أنفسنا إذا جاء شيٌ من مكروه القضاء لنا، أن نقول: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
[ سورة البقرة ]

(أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) ثناء يُثني عليهم الله تعالى (وَرَحْمَةٌ) يُعَوِّضَه عن المصيبة بما يُلقي في قلبه من الرحمة، (وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) الذين اهتدوا إلى الصبر على قضاء الله تعالى وعلى قدره.

الصبر مرتبة إيمانية رفيعة:
موضوع الصبر موضوع طويل جداً في كتاب الله تعالى، كان سيدنا عمر يقول:

{ وجدنا خير عيشنا بالصبر }

[ صحيح البخاري ]

عندما تسمع سيدنا عمر بن الخطاب يقول: " وجدنا خير عيشنا في الصبر "، كيف؟ أنا أتَخَيَّل أن أجد خير عيشي في الشُّكر، أي الأمور ممتازة، والأولاد بخير، والطعام والشراب، ولا يوجد عندنا شيء يزعجنا فنجد خير عيشنا في الشكر.
كنت أتأمَّل في هذا القول كيف سيدنا عمر وجد خير عيشه في الصبر؟ أيام مكة، المشركون كثر، والإسلام ضعيف، وهم قِلَّة، والمعارك صعبة، وهو وجد خير عيشه في الصبر؟! لأن الصبر مرتبة إيمانية رفيعة، يكفي أن تشعر أنك لست صغيراً أمام نفسك، أنا صابر يا رب مهما كان البلاء، وطَّنتُ نفسي على الصبر، (وجدنا خير عيشنا بالصبر).

ثمرات الصبر:
كيلا أُطيل بموضوع الصبر قلت نأخذ ثمرات الصبر لأن الإنسان دائماً يحب أن يصل إلى الثمرة، ماذا لي؟ أي ما النتيجة؟ نصبر، لكن ماذا سيحدث بعد ذلك؟ الحقيقة ثمرات الصبر كثيرة اخترت لكم بعضها.

1 ـ الصبر مفتاح النجاة من كيد الأعداء:
الثمرة الأولى أنك تنجو من كيد الأعداء، كيد الأعداء كبير، ويتآمرون، وهناك قوات عظمى، ونحن - المسلمين - مستضعفون، ومعهم الإعلام، ومعهم الاقتصاد، هل سأنجو من كيد الأعداء؟ نعم ستنجو من كيد الأعداء، قال تعالى:

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۖ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
[ سورة آل عمران ]

لكن الصبر مع التقوى.
الصبر مع التقوى طريق النصر
بعض المسلمين اليوم صابرون لكن من غير تقوى، صبر القهر، ماذا يستطيع أن يفعل؟ مقهور يصبر، الصبر مع المعصية طريق القهر ثم القبر، لكن الصبر مع التقوى طريق النصر، مع التقوى، مع الطاعة، أما إنسان وضع أمامه كأس خمر وشرب ويقول: صابرون، هذا ليس صبراً، لأنه لا يوجد تقوى، صابر ويأكل مالاً حراماً، لا، هذا ليس صبراً، هذا ليس صبراً، قال: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) الصبر مع الطاعة طريق النصر إن شاء الله، فننجو من كيد الأعداء، مهما تآمروا، لا تقل: إن الأعداء مُتآمرون، كيف أُرَبِّي أولادي؟ أنت معك قوة الحق و أنت صابر مُتَّق لله، والله يُعينُك:

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۖ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

أعمالهم ضمن الدائرة الإلهية هم ما خرجوا عما يريده الله، ما خرجوا:

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
[ سورة العنكبوت ]

هل ممكن لإنسان كافر أن يسبق الله؟ الله يريد شيئاً والكافر يريد شيئاً، فالكافر يحقق شيئاً لا يريده الله. معاذ الله.
سفينة عملاقة تَمخُر عُباب البحر مُتَّجهة من الشرق إلى الغرب، هناك راكب على ظهرها أُفُقُه ضَيَّق وقف وقال: أنا لا أريد أن أذهب من الشرق إلى الغرب، أنا أريد أن أذهب من الغرب إلى الشرق، فوقف على ظهر السفينة وبدأ يتحرك بعكس الاتجاه، لكن السفينة متجهة من الشرق إلى الغرب وهو يتحرك على ظهر السفينة، هذا الكافر يتحرك على ظهر السفينة ولكن إرادة الله هي التي تُحرِّكنا وليس إرادته، هو يظن أنه يُعانِد الإرادة الإلهية لكنه يتحرك ضمنها.

2 ـ الإمامة في الدِّين:
الثمرة الثانية: الإمامة في الدِّين، قال تعالى:

وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
[ سورة السجدة ]

لذلك قالوا:

{ بالصَّبر واليقين تُنال الإمامةُ في الدِّين }

[ ابن تيمية ]

اليقين من موعود الله عز وجل
تكون إماماً في دين الله، ليس شرطاً أن تكون شيخاً في مسجد، وليس شرطاً أن تكون إماماً في مسجد، لا، تكون إماماً في الخير لأولادك ولأسرتك بالصبر واليقين، اليقين من موعود الله عز وجل، والصبر حتى تصل إلى هذا اليقين الموعود، الصبر حتى تصل إلى موعود الله، واليقين بأن موعود الله قادم، تنال الإمامة في الدِّين.
(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) الفَلَاح وما أعظم الفَلَاح، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
[ سورة آل عمران ]

صابروا مبالغة من الصبر لأنها في أرض المعركة، والفَلَاح أن تُحقِّق هدف وجودك في الدنيا، فإذا قلتَ لي: جمعتُ مالاً، أقول لك: قد نجحتَ، وإذا قلتَ لي: تزوجتُ زوجةً تروق لي، أقول لك: قد نجحتَ، فإذا قلتَ لي: حقَّقتُ مَنصِباً مهماً، أقول لك: قد نجحتَ، لكن إذا قلت لي: أنا في طاعة لله، أقول لك: قد أفلَحتَ، لأن الفَلَاح ليس نجاحاً جزئياً، ليس في القرآن نجاح، القرآن يُحَدِّثُنا عن الفَلَاح، عن تحقيق الهدف الذي وُجِدنا من أجله.

3 ـ أجرٌ بغير حساب:
من ثمرات الصبر أجرٌ بغير حساب:

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
[ سورة الزمر ]

كيف أجر بغير حساب؟ شيك، ورقة نقدية، شيك مفتوح الرقم غير مُسَجَّل، وعليه توقيع، ضع الرقم الذي تريده، لا يُكال ولا يوزَن أجر الصابرين، (يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
الأجر ليس له عد ولا نقد، الأجر كبير، لا تستطيع أن تحسبه.

4 ـ الجزاء بأحسن الأعمال:
الجزاء بأحسن ما عملوا، قال تعالى:

مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ ۖ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
[ سورة النحل ]

العطاء ليس له حدود للصابر
كيف بأحسن ما كانوا يعملون؟ أنت طالب في جامعة، جاءت العلامات، كيف يحسبون المعدل في الجامعة؟ عشر مواد، أنت أخذت في المادة الأولى 60، 70، 65، 78، يجمعون العلامات كلها ويقسمونها على 10 يخرج المعدل من 100، 70 %، صح؟ إذا كان هناك جامعة قالت لك: نحن لا نحسب كذلك المُعَدَّل، أنت لديك عشر مواد، أحسن مادة لديك هي المُعَدَّل، والباقي ننساهم، فأخذت مادة من المواد 100 فنحسب مُعَدَّلك 100. وإذا أخذت بمادة 90 أعلى مُعَدَّل نحسبه ونسحب عليه.
هل هناك جامعة تفعل ذلك؟ لا يوجد جامعة تفعل ذلك، يصبح الناس يدرسون مادة واحدة ويتركون المواد الباقية ويصبح مُعَدَّلُه أعلى مُعَدَّل.
الآية هنا كذلك بالضبط، ربنا عز وجل بالنسبة للصابر يُجزيه بأجره بأحسن عمل، أي أحسن عمل عملته في حياتك؟ بِرّك بوالديك؟ أحسن أعمالك وأرجى أعمالك بر بوالديك؟ أجرك تأخذه على أعلى مستوى لكل الأعمال، عطاء ليس له حدود للصابر.
أعلى عمل عملته في الحياة هو المقياس عند رب العالمين بأحسن ما كانوا يعملون.

5 ـ معية الله:
مَعِيُّة الله:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
[ سورة البقرة ]

مَعِيُّة الله.

6 ـ محبة الله:
و السادسة: محبة الله:

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
[ سورة آل عمران ]

و إذا كان الله يحب الصَّابِر فما أَحَرانَا أن نصبر على طاعة الله تعالى، وعن معصية الله تعالى، وعلى قضاء الله وأقدار الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
والحمد لله رب العالمين