• محاضرة في الأردن
  • 2022-05-16
  • عمان
  • الأردن

هل الدين ضرورة؟

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأُصلّي وأسلّم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا عِلماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين وبعد.


الدين في الحياة:
معركة اليوم معركة وعي
أيها الكرام؛ بين الحين والآخر أُحب أن نتحدث في الأصول، أقصد بالأصول موضوعات الوعي العام، معركة اليوم معركة وعي، اليوم الإعلام بما يبثُه من شُبهات، والطرقات بما تبثُه من شهوات، أصبحت معركة الوعي معركة كبيرة جداً بحيث إن لم يتسلّح الإنسان بالعِلم والوعي الكافي فإنه قد يُعرّض دينه للفتنة، أو يعرِّض نفسه للشهوات المحرّمة، فلذلك بين الحين والآخر أُحب أن أتحدث عن موضوعات الأصول وليس عن موضوعات الفروع.
السؤال الذي أريد أن أطرحه اليوم هل الدين ضرورة؟ بمعنى كُل الأشياء التي نحتاجها في حياتنا يُصنّفها الأصوليون وصنّفها من بعدهم الاقتصاديون إلى ضرورات، وحاجات، وكماليات، جمعها بعضهم قالوا: قانون ضحك؛ الضاد ضرورات والحاء حاجات والكاف كماليات، فالضاد ضرورة والحاء حاجة والكاف كماليات أو تحسينيّات أو تزيينات، أي الضرورة مثل الماء، الإنسان في حياته إن لم يشرب الماء يموت، إذاً الماء ضرورات، يجب أن يتوفر لكل الناس، القوت ضرورات، الطحين، القمح، الخبز ضرورات.
الشعور بالفقر لعدم امتلاك الكماليات
الحاجات يمكن أن يعيش الإنسان دونها لكن تكون حياته ليست كما ينبغي، أي يحتاجها، لكن هي حاجات، مثلاً الثلاجة في البيت حاجات ممكن الإنسان أن يعيش بلا ثلاجة، كل يوم بيومه يحضر الطعام ويأكل، لكن الحياة مُتعبة بلا ثلاجة، فالثلاجة حاجات، أما الشاشة في البيت فهي كماليات؛ أي لا تتوقف الحياة عليها، ولسنا بحاجة ماسّة لها، وإنما هي مجرد كماليات أنه يوجد في البيت شاشة، أو مثلاً لوحة فنية في صدر البيت، هذه كماليات يعيش الإنسان دون أن يُزيّن بيته باللوحات، لكن اللوحة شيء جيد جميل، فالكماليات يمكن أن نعيش دونها دون أن تتأثر حياتنا بشيء، الضرورات لا بُدَّ منها، الحاجات هي بين الضرورات والكماليات نحتاجها والحياة بها أفضل، ولكن يمكن أن نعيش دونها، هذا ما يصنّفه الأصوليون ومن بعدهم الاقتصاديون، الاقتصاديون من أجل حركة المال، كثير منّا اليوم يُعاني من الفقر لأنه لا يملك الكماليات، كثير من الناس اليوم يُعانون من الفقر لأنهم لا يملكون الكماليات، يقول لك: أنا فقير، أنا أحمل موبايل نوكيا قديم، وسيارتي موديل 2000، ولا يوجد عندي في البيت شاشة، شاشتي قديمة صغيرة، أنا فقير، كثيرٌ من الناس يشعرون بالفقر لأنهم لا يملكون الكماليات وليس الحاجات، أي هو يفتقر إلى الكماليات، يقول لك: أنا فقير، هو ليس فقيراً، الفقير هو الذي لا يملك الضرورات، أي الذي لا يجد طعاماً يأكله هذا الفقير، لكن اليوم توسع مفهوم الفقر بسبب المجتمع الاستهلاكي أي بسبب كثرة العرض، فيدخل الإنسان إلى السوق الكبير (المول) فيجد أشياء كثيرة معروضة، ولا يستطيع أن يشتريها فيُقنع نفسه أنه فقير لأنه لا يستطيع شراء الكماليات بسبب كثرة المعروضات، زوجته تقول له: أختي اشترى لها زوجها موبايل جديد على العيد إذاً هي فقيرة لم يشتر لها زوجها أي موبايل جديد في العيد لكنها تأكل وتشرب وتنام، ويوجد بيت ومسكن، وكل الضرورات مؤمّنة، لكنها فقيرة لأنها لم تحصل على موبايل جديد في العيد.
إذاً مشكلة المجتمع الاستهلاكي هي كثرة العرض، دخلت امرأة إلى سوق كبير قالت: يا الله ما أكثر الأشياء التي لا نحتاجها، على كل حال هذا على الهامش، لكن السؤال اليوم هل الدين ضرورة؟ اليوم بعض الناس في المجتمعات المُتفلّتة فهمت أن الدين يمكن أن يكون كماليات، أي الدين تزيين، حاجة إضافية، هو وردةٌ تضعها على صدرك، نحن نفهم أنَّ الدين هواءٌ نستنشقه، الدين ليس وردةً أُزين بها صدري، ممكن بها وممكن بغيرها، لا، الدين هواء تستنشقه، إن لم نستنشقه عرضّنا حياتنا للهلاك، حياة القلب، قد يعيش الإنسان بغير دين لكن يعيش ولا يحيا أما الحياة فتحتاج إلى دين قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
(سورة الأنفال)

قال:

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
(سورة النحل)

في المقابل قال تعالى:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124)
(سورة طه)

قال: معيشةً ولم يقل: حياةً، لأن المُعرِض عن الدين يعيش ولكن لا يحيا، فالدين ضرورة في الحياة.

الدين عقيدة وشريعة:
الفطرة لا يمكن أن تشبع إلا بحقيقةٍ واحدة
كاتب توفي عام 1996 مولود في الصين، توفي في الولايات المتحدة الأمريكية، ودرس بها، ودرَّس بها، ودرس العقائد والأديان، وله كتاب اسمه: تاريخ الأديان في العالم، يُعد من أهم الكتب في مقارنة الأديان، وبيعَ منه أكثر من مليوني نسخة، اسمه: هوستن سميث، هذا الكاتب كتب كتاباً أسماه: لماذا الدين ضرورة حتمية؟ يقول فيه: إن الوجود البشري يفتقر إلى شيءٍ أبعد من الحياة، إن الفطرة البشرية تتوق إلى شيءٍ أبعد من الحياة التي نحياها، هذه الفطرة لا يمكن أن تشبع إلا بحقيقةٍ واحدة، يقول: كما أنَّ أجنحة العصافير تُشير إلى وجود الهواء، وكما أنَّ قرص دوار الشمس - ويسمونه بعضهم عبّاد الشمس، والعبادة كلها لله - يتجه إلى الضياء فهناك حقيقةٌ واحدة لا بُدَّ منها لتملأ قلب الإنسان وفكره وروحه إنها الله، هذا في كتابه لماذا الدين ضرورةٌ حتمية؟
إذاً الدين ضرورةً ليس حاجةً، ليس تحسيناً، الدين ضرورة، ما هو الدين الذي هو ضرورة؟ ولماذا الدين ضرورة؟ الآن عندما أتكلم عن الدين أتكلم عن الدين الإسلامي طبعاً الخاتم الناسخ لكل الشرائع، الذي لا يقبل الله إلا هذا الدين بعد نزوله، وأتكلم أيضاً على أي دين سماوي قبل تحريفه، أي الدين الذي هو من الله، الأديان الوضعية هذه للبشر قوانين، هذه تشبه القوانين، والأديان السماوية المُحرّفة ليس لنا بها شيء لأنها أُخرجت عن مدلولاتها، أتحدث عن الدين الذي هو من عند الله دين الإسلام اليوم، الذي ليس غيره ديناً يرتضيه الله لعباده، الدين عبارة عن شيئين اثنين؛ عقيدة وشريعة، أي دين أنزله الله هو عقيدةٌ وشريعة، عنوانان رئيسان عقيدةٌ وشريعة، العقيدة هي المُنطلقات النظرية، الإيمانيات، والشريعة هي الأعمال والسلوك، قال تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
(سورة الأنبياء)

لا إله إلا أنا؛ عقيدة، فاعبدون؛ شريعة، العبادة شريعة، سلوك، لا إله إلا أنا عقيدة يقينية.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
(سورة الأنبياء)

عندما يأتي في اللغة العربية ما نفي وبعده إلا هذا يُفيد في اللغة العربية الحصر، فأنت عندما تقول: جاء محمد، قد يكون قد جاء معه خالد وسعيد، لكن عندما تقول: ما جاء إلا محمد، إذاً واحد الذي جاء، حصر، واحد فقط، لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله، أي لا يوجد إله آخر يُعبد، فعندما قال تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
(سورة الأنبياء)

إذاً أيُّ رسولٍ جاء لأيُّ قومٍ في أي زمانٍ، في أي مكان، كان يدعو إلى شيئين اثنين لا ثالث لهما: لا إله إلا أنا فاعبدون، لا إله إلا أنا؛ العقيدة أهمها التوحيد، والشريعة العبادة أي انتظام الحياة وفق منهج الله، هذه هي العبادة، أن تنتظم حياتنا وفق منهج الله، أن نعبِّدَ حياتنا لله، أن نُخضع حياتنا لمنهج الله، في المأكل، في المشرب، في السفر، هذه هي العبادة، إذاً الدين عقيدةٌ وشريعة.

الربط بين العقيدة والشريعة في آيات كثيرة في القرآن:
الله تعالى يربط بين العقيدة والشريعة في آيات كثيرة في القرآن، مثلاً :

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
(سورة الماعون)

هذه عقيدة، هذا خالف العقيدة الصحيحة وكذَّب بالدين بدلاً من أن يؤمن بالدين.

فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
(سورة الماعون)

العقيدة تنتج شريعة
مخالفة الشريعة، بمعنى أنَّ أيَّ إنسان يعتقد اعتقاداً خاطئاً سينتج عنه سلوكٌ خاطئ، لو أنَّ العقيدة لا تؤدي إلى سلوك وهذا مستحيل لقلنا للإنسان: اعتقد ما شئت، لكن مستحيل أن الإنسان يعتقد بشيء ثم يسلك بخلافه، إنسان - والعياذ بالله - لم يؤمن بوجود الله، هذا سيظلم الناس، ستقول لي: وجدت إنساناً كافراً لكنه لا يظلم أحداً، انتظر، لا تأخذ الموضوع في الرخاء، انتظر عندما تحصل أزمة سيسرق الآخرين، انتظر، لا تأخذ الناس بالظواهر، الذي لا يؤمن بأنه سوف يُعاقَب سيُسيء الأدب، من أمِنَ العقوبة أساء الأدب، مستحيل، العقيدة تنتج شريعة، العقيدة السيئة تنتج سلوكاً سيئاً، العقيدة السليمة تنتج سلوكاً سليماً، مسلم يعتقد أنَّ الله أجبره على المعصية لن يتوب، أصحاب العقيدة الجبرية لن يتوبوا، لماذا يتوب؟ الله أجبرني على المعصية لا أستطيع التوبة، لن يتوب، مسلم يعتقد سذاجةً أنَّ شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم - وهي حق لا ننكر ذلك - لكن يعتقد أنها بمفهوم خطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي يوم القيامة ويُدخل أمته كلهم إلى الجنة، هذا سوف يذنب ذنوباً كثيرة، تقول له: لماذا لا تتوب من ذنوبك؟ يقول لك : رسول الله سيشفع لنا، كلمة حق أُريد بها باطل، رسول الله صلى الله عليه وسلم سيشفع لنا لا شكَّ في ذلك، ولكن ليس بمفهومك أنت الساذج، تعصي الله كما تريد وتخالف منهج الله، لا، عندها انتظر يُزادون عن حوضي يوم القيامة:

{ إنِّي فَرَطُكُمْ علَى الحَوْضِ، مَن مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، ومَن شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أقْوامٌ أعْرِفُهُمْ ويَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحالُ بَيْنِي وبيْنَهُمْ. قالَ أبو حازِمٍ: فَسَمِعَنِي النُّعْمانُ بنُ أبِي عَيَّاشٍ، فقالَ: هَكَذا سَمِعْتَ مِن سَهْلٍ؟ فَقُلتُ: نَعَمْ، فقالَ: أشْهَدُ علَى أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، لَسَمِعْتُهُ وهو يَزِيدُ فيها: فأقُولُ إنَّهُمْ مِنِّي، فيُقالُ: إنَّكَ لا تَدْرِي ما أحْدَثُوا بَعْدَكَ، فأقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَن غَيَّرَ بَعْدِي. }

(صحيح البخاري)

إذاً لم تفهم الشفاعة بمفهومها الصحيح، العقيدة السيئة أنتجت سلوكاً سيئاً، في القرآن الكريم بنو إسرائيل:

وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
(سورة البقرة)

عقيدتهم أنَّ النار موجودة لكن عشرة أيام ونرجع إلى الجنة وانتهت ! عاب عليهم الله تعالى ذلك قال:

لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا(123)
(سورة النساء)

إذاً في المحصّلة أي عقيدة يعتقدها الإنسان ستنتج سلوكاً، إذا كانت العقيدة صحيحة السلوك سيكون صحيحاً، العقيدة فيها زيغ السلوك فيه زيغ، العقيدة فاسدة السلوك فاسد.

مفاهيم الشريعة:
لذلك أهم ما يتعلّمه الإنسان هو الإيمان بالله تعالى، النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أيضاً يربط بين العقيدة والشريعة يقول:

{ مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِ جارَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ }

(صحيح البخاري)

(مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ) هذه عقيدة، (فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ) هذه شريعة، (مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ) شريعة.
إذاً العقيدة من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، السلوك فليكرم ضيفه، فليكرم جاره، فليقل خيراً أو ليصمت، هذا الربط بين العقيدة والشريعة، فالدين عقيدةٌ وشريعة، الشريعة تشمل أولاً: علاقة الإنسان بربه؛ الصلاة، الصيام، شيء من الزكاة، لأن الزكاة فيها حق لله، بغض النظر عن حقوق الفقراء، الحج، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هذه علاقة الإنسان بربه، فالشريعة تُنظم علاقتنا بالله، هذا أول مفهوم للشريعة، أن تنتظم علاقة الإنسان بربه.
الشريعة تُنظم علاقتك بالآخرين
الثاني: تُنظم علاقتك بالآخرين سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، تقول لك كيف تتعامل مع المسلم وكيف تتعامل مع غير المسلم، منظومة قيم، طبعاً بالإحسان، بالبر، بالمعاملات المالية، معظم الأحكام مشتركة، أي المسلم لا يغش المسلم، ولا يغش غير المسلم، لكن هناك أحكام يختلف فيها التعامل بين المسلم وغير المسلم، يُنظّم الإسلام أو الدين علاقتك بربك ثم علاقتك بالآخرين، ثم يُنظم العقد الاجتماعي؛ الزواج، الطلاق، الإرث، المُصاهرة، تحريم الزنا، تحريم الاختلاط، تحريم إطلاق البصر، هذا عقد اجتماعي، هذا أبرز ما ظهر مثلاً بسورة النور لمّا ربنا تكلم عن أحكام الزوجين، وأحكام التعامل مع الأولاد، هذا العقد الاجتماعي يُسمونه اليوم: قانون الأحوال الشخصية، ثم يُنظِّم أحكام الاقتصاد، المال، في الدين يقول لك: هذا يجوز، هذا لا يجوز، هذا ربا، هذا حلال، هذا حرام، لا تبِع ما ليس عندك، لا تَبِع ما لا تملكه، نهى عن تلقي الرُكبان، نهى عن النجش أن يرفع الإنسان في السعر حتى يوهم الآخرين أنَّ السعر مرتفع في المزاد، علاقات دقيقة جداً، ومهما بدت لك بسيطة لكن الإسلام يُنظمها، الاقتصاد، ثم يُنظّم العقوبات؛ أي حدود السرقة، حد الزنا، حد القصاص في القتل، حد القذف، يُنظّم العقوبات، أخيراً يُنظّم علاقة الحاكم بالمحكوم، يسمونها: السياسة الشرعية، الشورى مبدأ ينظّم علاقة الحاكم بالمحكوم، النصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين، تنظيم علاقة الحاكم بالمحكوم، إذاً الشريعة تنظيم علاقة الإنسان بربه، علاقة الإنسان بالناس بالآخرين مسلمين أو غير مسلمين، علاقة الإنسان بالعقد الاجتماعي، زواج وطلاق، المنهج الاقتصادي، المال، الحلال والحرام في المال، المعاملات المالية، العقوبات، علاقة الحاكم بالمحكوم، لا يوجد نظام أشمل من هذا النظام، يقول لك: القوانين الفرنسية قوانين مهمة جداً، لا يوجد شيء يُنظم علاقة الإنسان بهذا الشكل بكل شيء حتى بالكون والحياة ينظم علاقتك، بالكون والحياة، مثلاً لا يجوز لإنسان أن يُجيع ناقةً أو يُدئبها، يحمّلها فوق ما تطيق، هذه تنظيم العلاقة بالحيوان، لمَّا النبي صلى الله عليه وسلم رأى حماماً يفرش قال:

{ كنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في سفرٍ فانطلق لحاجته فرأينا حمَّرةً معها فرخان فأخذْنا فرخَيها، فجاءت الحُمَّرةُ فجعلت تفرشُ، فجاء النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: من فجع هذه بولدِها ؟ رُدُّوا ولدَها إليها ، ورأى قريةَ نملٍ قد حرقناها، فقال: من حرقَ هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنه لا ينبغي أن يعذِّبَ بالنارِ إلا ربُّ النارِ. }

(صحيح أبي داود)

ينظم علاقته بالجماد، النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ أُحُدٌ جبلٌ يُحِبُّنا و نُحِبُّهُ. }

(صحيح مسلم)

الجذع حنَّ إليه صلى الله عليه وسلم، بكى، فالإنسان يتعامل حتى مع الحجر بمنطق مختلف في ظلال دين الله عز وجل.

الدين أساس حياة المجتمعات:
إذاً الدين عندما نفهمه بهذا الشكل على أنه يبدأ من العلاقات الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية هذا الدين ضرورة، لا يمكن أن تحيا المجتمعات بدون الدين، لماذا أقول هذا الكلام؟ قد يقول قائل: ما أهمية هذا الموضوع حتى نتكلم به؟ نحن مؤمنون أن الدين ضرورة، اليوم معظم الشبهات التي تتوجه إلى شبابنا، وإلى جيلنا، تريد أن تصل إلى العقل الباطن عندهم أنَّ الدين ليس ضرورة، يمكن أن نعيش دون دين، هذا هو الغرب، تقدّم وبنى ناطحات السحاب وأصبح متقدّماً.

الدين ضرورة لا يستطيع الإنسان الاستغناء عنه:
الدين ضرورة حتمية
أحبابنا الكرام؛ إذاً أهمية الموضوع تنبُع من أنه يوجد اليوم دعوات - وسامحوني ممكن البعض يخالفني في هذا الرأي - البرامج التي كانت تخرج بحسن نية تُصوِّر حالة الغرب، وأن الجماعة الحمد لله أمورهم بخير، واتحدوا، ويقفز من هنا إلى هنا ويقول لك: لا يوجد حواجز بينهم، عندنا حدود صحيح أنا لا أُخطِّئ المعلومة فالمعلومة صحيحة، لكن الرسالة التي وصلت إلى عقول شبابنا اليوم أن القوي هو الذي يملك أكثر، الناس تقتنع أن القوي هو الذي يملك أكثر، القوي هو الذي يتحكَّم بالعالم، الرسالة التي وصلت إلى الناس أن حياة هؤلاء البعيدين عن الله عز وجل الذين لم ينتظموا بعقد ديني الأمور بخير، إذاً الدين للآخرة، دينك بينك وبين ربك، الحياة لا تحتاج ديناً، نعيش ونأكل ونشرب وننام والقوانين تحكُمنا، والقوانين تحكُم بيننا، والأمور بخير، لا، لا الحياة ممكن أن تُعاش بدون دين، ولا الآخرة ممكن أن تنجو فيها بغير دين، الدين ضرورة حتمية، لن يملأ قلب الإنسان، ولن يشغل باله، ولن يستطيع أن يُحقق استقراره النفسي إلا بالدين في الحياة قبل الآخرة، القلب فيه شعث لا يلمُّه إلا الإقبال على الله، والروح فيها وحشة لا يُؤنسها إلا ذكر الله، كل الناس حتى الذين لم يُسلموا بحثوا عن الدين بطريقة أو بأُخرى، أي عندما تذهب إلى شرق آسيا وأنا زرت ماليزيا مثلاً منهم أو بشعوب شرق آسيا بشكل عام تجد طبيباً في الطب مُتميزاً أنا رأيته بعيني ينزل صباحاً ليضع لإلهه تفاحة صغيرة داخل كوة في كراج السيارات، سألت أخي: ماذا يفعل هذا؟ يضع تفاحة لبوذا، قلت لأخي: ماذا يعمل؟ قال لي: هذا طبيب، اقتربت فقال لي: ابتعد، هذا إله ! لماذا يفعل ذلك؟! لأنه يشعر أنَّ الدين ضرورة، هو أخطأ الهدف، لكن لماذا فعل ذلك أصلاً؟ لأنه يُشعر أنه يحتاج إلى شيء ينقصه، الله تعالى لا نهائي أبدّي، جلَّ جلاله سرمدي، الله تعالى هو الآخر خلق الإنسان لا يُسكِن قلبه إلا الشيء اللامُتناهي، فإذا حقق في الدنيا مالاً وسمعةً وطعاماً وشراباً وزوجةً ومزرعةً وبيتاً بعد ذلك يشعر أن هناك شيئاً ينقصه، احتاج إلى شيء آخر، لذلك نتفاجأ أن في الدول الغربية والأكثر رفاهية تجد نسب الانتحار مرتفعة، بينما تجد على الرغم من أنَّ بلادنا ما تزال بالمقياس لن أقول الحضاري لأن الحضارة مفهومها واسع جداً، بالمستوى المدني متخلفة حقيقةً، تجد أن مستويات الانتحار حتى اليوم في بلاد المسلمين أقل بكثير، نسبة ضعيفة جداً على الرغم من أنها موجودة بحكم سوء الواقع الاجتماعي، لكن ما تزال قليلة جداً مقارنة بالعالم الغربي لماذا؟ لأن الإنسان عندما يُحقق كل شيء في الدنيا يبدأ بالبحث عن الشيء الذي يَفقده فإن لم يجده ينتحر، المسلم يعيش للحظة الأخيرة المُتدين يعيش للحظة الأخيرة وهو ينتظر شيئاً مهمّاً جداً لم يأت بعد، لذلك يبقى على أمل للحظة الأخيرة وهو على فراش الموت أشهد أن لا إله إلا الله، يا رب الجنة، يا رب رضاك، هو ينتظر شيئاً آخر الناس لا تراه، فما دام ينتظر الآخرة فهو يبقى في مرحلة الطموح، هناك شيء لم يُحققه بعد، أما أصحاب المال فقد حققوا كل شيء انتهت الدنيا بالنسبة لهم ينتظرون الآن الموت هو النهاية، نحن الموت هو البداية عندنا بعد الموت يبدأ كل شيء.

الدين منظومة أخلاق وقيَم وأعمال ضرورية للبشرية:
المسلم يُرافقه دينه في عباداته
أحبابنا الكرام؛ في الختام الدين باعتباره منظومة أخلاق وقيَم وأعمال ضرورية للبشرية، لا يمكن أن تستقيم حياة الناس بغير دين، الآخرة مفروغ منها نحن نؤمن بأن الآخرة إذا جئت الله بغير دين نسأل الله السلامة، لكن حتى الدنيا لا يمكن إلا بالدين، لكن ما هو الدين؟ إذا فهمناه أنه هو دين الشعائر قد يُلقى في داخلنا أننا نستطيع أن نحيا دونه، أي لم يُصلِّ ماذا حدث؟ لا، الدين بمعناه الكُلّي، بمعنى أنَّ المسلم يُرافقه دينه في عبادته الشعائرية والتعاملية، فهو مسلم في تعامله كما هو مسلم في شعائره، من محراب الصلاة إلى محراب الحياة يُصلّي لله تعالى هذا دين، وهو في سوقه هذا دين، البيع والشراء دين، المحامي في مكتبه عندما يُرافع عن موكّله هذا دين، الطبيب في عيادته عندما يُعالج مريضه هذا دين، المُعلِّم في صفه عندما يُعلم طلابه هذا دين، يجب أن نفهم الدين الفهم الحقيقي الذي هو تكامل، حياتك كلها يُنظمها الدين، لا يوجد شيء اسمه دين ودنيا، الدين يُعبِّد الدنيا فيُحول الدنيا من حالة أننا نعيش بغير هدف إلى حالة أننا نعيش لإرضاء الله فنتبع في حياتنا منهج الله، فالدين بهذا المفهوم هو ضرورة بمفهومه الشمولي الذي يبدأ من العلاقات الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية، الذي يُعلّمك كيفية قضاء الحاجة، ويُعلّمك كيف تنتظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، هذا هو الدين الكُلَّي المُتكامل ضرورة، لا يمكن أن يحيا الإنسان بغير دين لأن هناك نقصاً في داخله لا يُكمّله إلا الدين والالتجاء لله تعالى والرضا بالله تعالى.
محصّلة الموضوع الدين ضرورة هذا ما أردت أن أقوله في هذا اللقاء، الدين ضرورة ليس حاجةً وليس كمالياً، الدين ضرورة نحتاجها كما نحتاج الهواء، كما أنَّه إن لم يتنفس فإنه يموت فإن الدين ضرورة بحيث أن الإنسان إن لم يتعلّم دينه فإن حياته ستكون معيشةً ضنكاً، ولن يحيا الحياة الحقيقية حياة الإيمان حياة القلب إلا باتباع منهج الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين