اللقاء: 03- الوفاء في القرآن الكريم

  • مركز الكالوتي - برنامج آيات وتأملات
  • 2022-03-05
  • الأردن
  • عمان

اللقاء: 03- الوفاء في القرآن الكريم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد للهِ رب العالمين، وأُصلّي وأسلّم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزِدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين وبعد.


الوفاء لغة واصطلاحاً:
أيها الإخوة الأكارم؛ أيتها الأخوات الفُضليات؛ أسعد الله أوقاتكم بكل خير، ونحن مع اللقاء الثالث من سلسلتنا: "آياتٌ وتأملات"، وفي هذه السلسلة نتناول تدبُّراً موضوعياً لكتاب الله تعالى بحيث نأخذ موضوعاً من الموضوعات القرآنية، ونفهمه في ضوء الآيات القرآنية، وهذا من أجمل أنواع التدبّر القرآني، أن نجمع الآيات المُتعلقة بموضوعٍ واحد ونتدارسها فيما بيننا، طبعاً لن نستطيع أن نجمع كل الآيات المُتعلقة بكل موضوع لكن نأخذ من كل بستانٍ زهرة كما يقال.
اليوم اللقاء الثالث بعنوان: "الوفاء في القرآن الكريم"؛ قبل أن نأتي إلى الآيات القرآنية المُتعلقة بالوفاء.
نُعرِّف الوفاء لغةً واصطلاحاً كما هو منهجنا في هذه الأبحاث.
الوفاء ضد الغدر
الوفاء لغةً ضد الغدر، فلانٌ وفيّ وفلانٌ غادر؛ هناك من يفي بعهده أو بوعده، وهناك من يغدر بخليله فلا يفي بعهده، فالوفاء ضد الغدر، ويقال: وفّى بعهده إذا أتمه ولم ينقض حِفظَه، العهد ينبغي أن يُحفظ، وأن يُوفى به، فإذا أتمَّ العهد ووفاه وأعطاه حقه ولم يَنقضه فهذا هو الوفاء.
أما اصطلاحاً فقالوا: الوفاء هو حفظ العهود والوعود وسنأتي إلى ذلك، وأداء الأمانات، والاعتراف بالجميل، أي من الوفاء أن يعترف الإنسان بالجميل فيقول: والله فلان كان له فضلٌ عليَّ بعد فضل الله تعالى، هو من علمني هذه الحرفة، هذا من الوفاء:

{ مَن لا يشكرُ النَّاسَ لا يشكرُ اللهَ }

(رواه الترمذي)

فجزءٌ من الوفاء أن يعترف الإنسان بالجميل، وأعظم اعترافٍ بالجميل أن تعترف بجميل خالقك عليك، وأن تكون وفياً معه ثم مع الناس، وصيانة المودة والمحبة، فإذا كان هناك إنسان بينك وبينه مودةٌ وحب فمن الوفاء أن تصون هذه المودة فإن حصل ما يُنَغّصها حملتَهُ على أحسن محمل، بعض الناس يحملون كلام الآخرين على أسوأ محمل، فلو أنه تكلّم بكلمة يأخذها على المحمل السيئ، هو صديقك وأخٌ لك في الله فاحمل كلامه على أحسن مَحمل هذا اسمه صيانة المودة والمحبة.

أنواع الوفاء في القرآن الكريم:
أنواع الوفاء في القرآن الكريم؛ الوفاء يأتي في القرآن الكريم وفاء بالعهد أو وفاء بالعقد أو وفاء بالوعد، العهد والعقد والوعد، أول الأنواع: الوفاء بالعهد.
الحقيقة هناك تعريفات كثيرة للعهد لكن أجمل تعريف هو تعريف ابن عباس رضي الله عنهما وهو حبرُ الأمة وترجمان القرآن قال:
" الوفاء بالعهود؛ العهود هو ما أحلَّ الله، وما حرَّم وما فرض وما حدَّ في القرآن كله " كلُّ شيءٍ أحلّه الله تعالى فهو عهدٌ ينبغي الوفاء به، وكلُّ شيءٍ حرمه الله تعالى فهو عهدٌ ينبغي الوفاء به، وكلُّ فرضٍ فرضه طبعاً الحلال أوسع من الفرض، الطعام والشراب حلال لكن الصلاة فرض، وكلّ فرضٍ فرضه ينبغي الوفاء به، وكلُّ حدٍّ حده ينبغي الوفاء به بمعنى:

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا (187)
(سورة البقرة)

الحدود حدّ الزنا، حدّ السرقة، إلى آخره، فهذه كلها حدودٌ ينبغي الوفاء بها، هذا تعريف ابن عباس للعهد.

من وفّى بعهده لله وفّى الله بعهده له:
الآن لو جئنا إلى الآيات الكريمة الآية الأولى في الوفاء بالعهد قال تعالى:

يَٰبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ ٱلَّتِىٓ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِىٓ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰىَ فَٱرْهَبُونِ(40)
(سورة البقرة)

في القرآن الكريم آياتٌ من هذا القبيل مثال:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7)
(سورة محمد)

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (25)
(سورة البقرة)

يَٰبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ ٱلَّتِىٓ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِىٓ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰىَ فَٱرْهَبُونِ(40)
(سورة البقرة)

الجزاء من جنس العمل
فالله تعالى جلَّ جلاله يُكافئ عبده، يُجازيه، والجزاء غالباً ما يأتي من جنس العمل، مثلاً على سبيل المثال من يبرُّ والديه يأتيه أولادٌ بررة في الأعم الغالب، ولا عبرة للنادر، وهذا مُلاحظٌ مُشاهد من يبرُّ والديه غالباً ما يبرّه أبناؤه، نقول: الجزاء من جنس العمل، لذلك في هذه الآيات:

يَٰبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ ٱلَّتِىٓ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِىٓ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰىَ فَٱرْهَبُونِ(40)
(سورة البقرة)

أنت تُوفي بعهد الله تعالى وهو جلَّ جلاله يُوفي بعهدك، ما عهدنا وما عهده جلَّ جلاله؟ عهدك الذي عاهدت به الله تعالى أن تُطيعه، وعهده أن يُدخلك الجنة، عهدك أن تُطيعه فيما أمر وأن تنتهي عما عنه نهى وزجر، وعهدهُ جلَّ جلاله أن يدخلك الجنة التي وعد الله عباده بالغيب:

يَٰبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ ٱلَّتِىٓ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِىٓ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰىَ فَٱرْهَبُونِ(40)
(سورة البقرة)

فإن أنت أديت العهد كاملاً معنى وفاه أي أعطاه حقه كاملاً غير منقوص، فأنت إن وفيت بعهدك لله تعالى وفّى بعهده لك، عهدك المطلوب منك أن تُطيعه فلا تعصيه، طبعاً قد يقع الإنسان في المعصية فيبادر إلى التوبة هذا شيءٌ آخر، لكن نقول الأصل الطاعة، ولا يعني أنه لن يكون هناك معصية، لكن برمج حياته بنى حياته على طاعة الله، وعلى الوفاء بعهد الله، فإذا وفّى بعهده وفّى الله له بعهده فأدخله الجنة التي وعد الله عباده بالغيب:

يَٰبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ ٱلَّتِىٓ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِىٓ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰىَ فَٱرْهَبُونِ(40)
(سورة البقرة)

الرهبة هي الخوف من الله تعالى.

أرقى أنواع الشكر ألا تلتفت إلى النعمة وإنما أن تصل إلى المُنعِم فوراً:
بالمناسبة:

يَٰبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ ٱلَّتِىٓ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِىٓ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰىَ فَٱرْهَبُونِ(40)
(سورة البقرة)

بنو إسرائيل كان الله تعالى يأمرهم أن يذكروا نعمته، أتباع محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأنتم منهم ولله الحمد والمنَّة وهذا من فضل الله علينا وعليكم كان الله يأمرهم أن يذكروا الله:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(41)
(سورة الأحزاب)

الانتقال من النعمة إلى المُنعِم
فلم يأمرهم بذكر النعمة، وإنما أمرهم بذكر المُنعِم، كلما ارتقيت في سلم الإيمان تنتقل من النعمة إلى المُنعِم، أسوأ إنسان هو الذي يلتفت إلى النعمة ولا ينبته إلى المُنعِم، مثال أخ كريم دعا بعض الكرام إلى مائدة ٍمن موائده، وضع لهم طعاماً طيباً، وبالغ في إكرامهم، والفواكه، والحلويات، أحد الموجودين كان عقله مع النعمة فقط، فأكل حتى شبع ثم شرب حتى ارتوى ثم تحلّى وأكل الفاكهة ثم خرج، لمّا صار خارج البيت قلنا له: لمَ لم تشكر صاحب المائدة؟ لم تقل له: شكراً جزاك الله خيراً، فقط كلمة، ما قلت نسيت ! قلنا له: نحن قد صورناك معنا فيلم، وأريناه التصوير الذي حصل، وكيف كان مُنشغلاً بالأكل فقط، ولم ينتبه إلى صاحب البيت، وكيف خرج من البيت، وصاحب البيت مدَّ يده ليسلّم عليه وهو غير مُنتبه وخرج، فأطرق خجلاً وضرب على رأسه ماذا فعلت؟! هذا حال الشارد عن الله في الدنيا حينما يغرق في ستين أو سبعين أو ثمانين سنة في النعمة ويأكل ويشرب ويتمتع ويأكل ما طاب له ثم ينسى أن يقول: يا رب لك الحمد، فتوصله النعمة إلى المُنعِم، فأسوأ إنسان هو الذي يبقى مع النعمة الأعلى منه درجة، هو ما ذكره الله في الآية قال:

يَٰبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ ٱلَّتِىٓ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِىٓ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰىَ فَٱرْهَبُونِ(40)
سورة البقرة

أي اذكروا بأنها نعمتي التي أنعمتُ بها عليكم، فإذا تذكّرت أنها من الله فهذا نوع من أنواع الشكر، لكن الأعظم والأرقى ألا تلتفت إلى النعمة، وإنما أن تصل إلى المُنعِم فوراً.

سؤال كل إنسان يوم القيامة عن العهد الذي كان بينه وبين الله تعالى:
لذلك أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم خاطبهم الله تعالى فأمرهم بذكر الله:

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ(25)
(سورة البقرة)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)
(سورة الأحزاب)

نحن مأمورون بذكر الله لا بذكر النعمة، لكن المفروغ منه أنَّ النعمة تُفضي إلى المُنعِم، فالشارد عن الله مع النعمة، والمؤمن مع المُنعِم، فهذه:

يَٰبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ ٱلَّتِىٓ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِىٓ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰىَ فَٱرْهَبُونِ(40)
(سورة البقرة)

وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُۥ وَأَوْفُواْ بِٱلْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْـُٔولًا
سورة الإسراء

نحن لسنا ملكاً لأنفسنا نحن مُلكٌ لله
هنا يوجد محذوف بسيط في الآية وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً عنه، (إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْـُٔولًا) أي كان الناس مسؤولين عن العهد، (وَأَوْفُواْ بِٱلْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْـُٔولًا) عنه، فنحن سنُسأل يوم القيامة عن العهد الذي كان بيننا وبين الله تعالى، لذلك ينبغي الوفاء به لأن هناك سؤالاً بين يدي الله، هذه الآية جاءت بالحديث عن مال اليتيم:

وَلَاتَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُۥ وَأَوْفُواْ بِٱلْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْـُٔولًا(34)
(سورة الإسراء)

أحسن أي إذا كان يوجد طريقة جيدة وحسنة وطريقة أحسن فينبغي أن نأخذ الأحسن، ومثلها قوله تعالى:

وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلْإِنسَٰنِ عَدُوًّا مُّبِينًا(53)
(سورة الإسراء)

عندك كلمتان، والكلمتان جيدتان، لكن يوجد كلمة جيدة وكلمة أحسن منها فخذ الأحسن ودع الحسن:

وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلْإِنسَٰنِ عَدُوًّا مُّبِينًا(53)
سورة الإسراء

لأنَّ الشيطان كما يقولون يدخل في التفاصيل، فالكلمة التي قد تكون حسنة قد يفهمها على خلاف ما أردت منها، أما الأحسن واضح فقال :

وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلْإِنسَٰنِ عَدُوًّا مُّبِينًا(53)
(سورة الإسراء)

هنا:

وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُۥ وَأَوْفُواْ بِٱلْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْـُٔولًا(34)
(سورة الإسراء)

كيف؟ أي إذا كان الإنسان عنده مال للأيتام، هو عم وتوفي أخوه، وأولاده صغار وهو الوصيّ على أموال اليتامى، الآن جاءته تجارة، التجارة يمكن أن تربح ويمكن أن تخسر، أي خمسون بالمئة وخمسون بالمئة، فقال: أنا سأتاجر بأموال اليتامى حتى يستفيدوا، فأخذ أموال اليتامى ووضعهم في هذه التجارة، أي جعل أموالهم دريئةً لماله، مالي لن أضعه في التجارة خمسون في المئة خسارة، وضع مالهم خسر المال، والله خسر يا عم، أنا وضعته في تجارة فخسر، لكن الله يعلم أنه لم يقرب مال اليتيم بالأحسن، بل قربَه بالأسوأ، لو كان ماله لما وضعه لكنه عندما رأى أن التجارة قد تخسر وضع مال اليتيم فيها فجعل مال اليتيم دريئةً أي حمايةً لماله فقال تعالى:

وَلَا تقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُۥ وَأَوْفُواْ بِٱلْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْـُٔولًا(34)
(سورة الإسراء)

عندك تجارة ثمانون بالمئة رابحة تضع فيها مالك، مال اليتيم ضعه على التسعين في المئة، ضعه في التجارة التي أنت شبه متأكد من نجاحها، جربت سابقاً فيها ونجحت ضع ماله فقط في المكان الذي لا أقول تضمن نجاح التجارة ولكن تقترب من الضمانة:

وَلَا تقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُۥ وَأَوْفُواْ بِٱلْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْـُٔولًا(34)
(سورة الإسراء)

هذا عهد بينك وبين الله، من وكّله الله بمال اليتامى فهناك عهدٌ بينه وبين الله أنني وضعت أموال اليتامى عندك أمانةً فأوف بالعهد:

وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُۥ وَأَوْفُواْ بِٱلْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْـُٔولًا(34)
(سورة الإسراء)

لأنك ستسأل بوم القيامة عن وفائك بالعهد، فإن قصّرت في الوفاء، وأتلفت مالهم، وانتفعت به، وأخذت منه، وأنت لست بحاجةٍ له، فقد وقعت في خيانة العهد والغدر:

وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُۥ وَأَوْفُواْ بِٱلْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْـُٔولًا(34)
(سورة الإسراء)


ارتباط الوفاء بالعهد بالتقوى:
الآية الثالثة قال:

بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِۦ وَٱتَّقَىٰ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ(76)
(سورة آل عمران)

الوفاء بالعهد مرتبط بالتقوى
الوفاء بالعهد هنا مرتبط مع التقوى، التقوى هي: الخوفُ من الجليل، والعملُ بالتنزيل، والاستعدادُ للموت قبل الرحيل، وهي أن يُطاع الله فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر، التقوى في الأصل هي أخذ وقاية، سُئل أبو هريرة رضي الله عنه: ما التقوى؟ قال: هل سلكت طريقاً ذا شوك يوماً؟ نحن أحياناً نمشي على طريق مُعبدة، أحياناً على طريق في غابة فيها شوك، قال: هل سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: ماذا فعلت؟ قال: كنت إذا اقتربت من الشوك تجاوزته أو ابتعدت عنه، إما أقفز فوقه أو أبتعد إلى مكان ليس فيه شوك، قال: فذلك التقوى، أي هذا من اللغة، من لغة العرب التقوى، أن تتقي الشيء، فإذا وجدت معصيةً تتقي هذه المعصية فلا تقربها، أو نقول: تتقي الله، لأن الله سيُحاسبك عن هذه المعصية، النتيجة واحدة، فإما أن تتقي النار، أو تتقي الوقوع في المعصية، أو تتقي الله تعالى، النتيجة واحدة، النتيجة أنك تخاف الله فتبتعد عن المعصية فيُبعدك ذلك عن النار، هذه التقوى، فهنا:

بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِۦ وَٱتَّقَىٰ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ(76)
(سورة آل عمران)

قال :

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(77)
(سورة آل عمران)

انظروا إلى العقوبة العظيمة؛ عقوبة من يُضيّع عهد الله أولاً لا خلاق لهم في الآخرة، أي لا نصيب لهم في الآخرة، ولا يُكلّمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يُزكّيهم، ولهم عذاب أليم، خمس عقوبات لنقض العهد، خمس عقوبات، ماذا يعني:
الأيمان هي حلف القسم
(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) أيمانهم جمع يمين القسَم، وسمي اليمين يميناً لأن الناس إذا أقسموا على شيء تعاهدوا بينهم فوضع كل يمينه بيمين أخيه، فسمي يميناً جمعه أيمان أي الحلف القسم، ما معنى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا)؟ مدير شركة يجلس خلف مكتب، معه ورقة نقدية بمليون دينار، وهذا الشيك إذا فقده لن يستطيع أن يحصل على المال أبداً، ليس هناك إمكان لتتصل بالشخص أبداً، أعطاه الشيك وسافر، إما أن تصرف الشيك أو المبلغ ذهب لا يوجد حل ثالث، فهو واضع الشيك على ظهره مقلوباً، جاءه رجل قال له: أريد أن أذهب إلى الدوار السابع من أين أذهب؟ فأراد أن يرشده للدوار السابع فأخذ ورقة صغيرة من على المكتب ولم ينتبه إلى أنها الشيك، ورسم له خلفه الطريق، وأرشده، وذهب الرجل إلى الدوار السابع، وهو أراد أن ينظف مكتبه أمسك الشيك ومزقّه ثم ألقاه في القمامة، بعد قليل تفقد الشيك ولم يجده انتبه إلى أنه أتلف الشيك فضرب على رأسه وأصبح يبكي نادماً، هذا الشيك ورقة نقدية استخدمه أسوأ استخدام، يوجد مئة ورقة لتدل عليها وليس خلف الشيك، فهذا الشيك قيمته غالية جداً، وأنت استخدمته استخداماً سيئاً جداً، هذا تشبيه بسيط لما يشعر به الإنسان يوم القيامة، عندما يشعر أنه اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً نزلت لتسعده، نزلت لتدخله جنةً عرضها السماوات الأرض، نزلت هذه الآيات من أجل سعادته في الدنيا والآخرة، نزلت من أجل أن تجعله في أهنأ حال، وأفضل حال في الدنيا ويوم القيامة، فإذا به يستخدمها استخداماً رخيصاً ويشتري بها ثمناً قليلاً، ولا يعبأ بها، ثم تفاجأ يوم القيامة بأن هذه الآيات كان من الممكن أن تسعده إلى أبد الآبدين لكنه اشترى بها ثمناً قليلاً، فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي شيء تبيع به عهد الله مثلاً عملت تجارة وخسرت أنت حافظت على مالك ولكن مال اليتيم الذي وضعته في هذه التجارة خسر وذهب مثلاً كم ربحت بهذا الأمر؟ حافظت على مليون دينار لو وضعتهم من مالك كانوا ذهبوا حسناً ماذا خسرت؟ خسرت عهد الله هذا الثمن قليل، ربنا عز وجل قال:

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا(32)
(سورة الإسراء)

هذا عهد بينه وبين الله ذهب وقرب الزنا أخذ متعة عشر دقائق ماذا حصل؟ خسر الآخرة ثمناً قليلاً، عمل بالربا جمّع ثروة من خلف الربا فرضاً مع أنه:

يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَٰتِ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)
سورة البقرة

لكن لنفترض أنه جمّع عشرة ملايين دينار من الربا ثم لمّا جاءه ملك الموت ما هذه؟ هذه ثمن قليل، هذا معنى:

إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(77)
(سورة آل عمران)


موضوع لغوي مُتعلِّق بلغة العرب:
الآن يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم:

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(10)
(سورة الفتح)

نكث أي خالف العهد.
ومن أوفى بما عاهد عليهُ، لماذا عليهُ؟ نحن في اللغة عليهِ، أصل الهاء في لغة العرب هاء الضمير المتصل هي هو فهي مضمومة في الأصل، الضمير المنفصل مضموم لكنه عندما يتصل وقبله ياء يُحركونه بالكسر للمناسبة، مثلاً نحن نقول: لهُ، ولا نقول: لهِ، هذا لهُ، لكن نقول عليهِ لأن قبلها ياء لمناسبة الياء أو الكسرة نحرك بالكسر، لكن هنا جاءت على الأصل وهي لغة العرب أنه بجميع الأحوال نقول: لهُ، منهُ، عليهُ، يبقونها هكذا، فقرأ حفص عليهُ قراءتنا نحن على حفص بن عاصم نقرأ عليهُ، باقي القراء قرؤوا عليهِ القراءات كلها عليهِ، لكن قراءتنا نحن نقرأ عليهُ باعتبار الأصل، لأنّ القرآن الكريم أنزل على سبعة أحرف وهذه القراءات من أسرار إعجاز القرآن الكريم، وقال بعضهم: من اللطائف أنها جاءت بالرفع من مقام العهد هنا للدلالة على أهميته في قراءة حفص، ومن أوفى بما عهد عليهُ، لأن الضم دائماً للرفع، كيف الضم للرفع؟ أنا عندما أخطُب على المنبر، أخطُب بضم الطاء، فلانٌ يخطُب أي على المنبر، فلانٌ يخطِبُ بالكسر لأنه يذهب مع أهله يطلبون يد الفتاة إما أن توافق أو لا توافق فيذهب مكسوراً، تعطوننا أو لا تعطوننا؟ فإذا صعد المنبر يخطُبُ، فإذا نزل للخطبة يخطِبُ، فإذا وقف بين يدي الله في القِبلة ينكسر، وإذا أراد أن يُقبّل أو يُعانق والده بعد غياب يُقبله قُبلةً بالضم فيعانقه، فالقُبلة ضم والقِبلةُ كسر، القُبلة بالضم والقِبلةُ بالكسر، لأنك تقف بين يدي الله مُنكسراً ذليلاً، وهذا أعظم أنواع العز أن تَكسر نفسك بين يدي الله، الخُطبة والخِطبة، والقُبلة والقِبلة وغيرها، فهنا عليهُ أي لمناسبة العهد قال بعضهم، لكن يوجد بالأصل موضوع لغوي مُتعلِّق بلغة العرب، لهُ، منهُ، عليهُ، والبعض يكسرونها لمناسبة اللفظ، وهذا شائع أكثر عليهِ.

الفرق بين العقد والعهد:

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(10)
(سورة الفتح)

هذه بيعة كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة، والله تعالى أنزل هذه البيعة قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة وقال:

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(10)
(سورة الفتح)

العقد غالباً يأتي فيما يتعاقده الناس
هذا الوفاء بالعهد إذاً العقد؟ البعض قالوا: العهد والعقد سيّان، أي البعض ذكروا أنَّ العهد والعقد شيءٌ واحد، لكن يطلق عليه العهد أو العقد، أنا لا أومن كثيراً بالترادف في القرآن الكريم، بمعنى أنهما مترادفان مئة بالمئة، لا بُدَّ أن يكون أحدهما فيه مزيد شيء، فالعقد غالباً يأتي فيما يتعاقده الناس فيما بينهم مع استيثاق، أي العقد عقد بيع بيني وبينك، عقد إيجار نوقّعه، فالعقود فيها طرفان كلٌ منهما يستوثق من الآخر، أنا أسلّمك الثمن وأنت تسلّمني المبيع، العهد غالباً ما يأتي للأشياء المعنوية أكثر، أي عاهدنا الله على طاعته، وعاهدت أبي على ألا أشرب التبغ بعد اليوم، هذا عهد معنوي، أما عاقدت البائع على البيع أصبح الموضوع مادياً، عقد ثمن ومبيع، فيأتي غالباً العقد، فالعقد له نوع آخر بالوفاء، وجاء في آيةٍ قرآنيةٍ واحدة وهي الآية الأولى من المائدة قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
( سورة المائدة)

أول عقد وأعظم عقد جاء قبل أن يقول لك: أوفوا بالعقود، هل تعلم أنَّ قوله تعالى في القرآن يا أيها الذين آمنوا هو عقد أم عهد؟ كلما قرأت في كتاب الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا فأعط سمعك وانتبه، لأن هناك شيئاً يريده الله تعالى منك، أو هناك شيئاً يريد الله أن تجتنبه، أعط سمعك فوراً: يا أيها الذين آمنوا، كيف يا أيها الذين آمنوا؟ هذا عقدٌ إيمانيٌ بينك وبين الله قال لك: يا عبدي تؤمن بي ولك الجنة، قلت له: أنا مؤمن يا رب، أصبح عقد بيننا فسأوفي به:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
( سورة المائدة)

ثم بعد ذلك أوف بأي عقدٍ بينك وبين عباد الله، أول شيءٍ بالعقد بينك وبين الله ثم بكل عقدٍ بينك وبين عباد الله، فالوفاء بالعقود هو سمةٌ للمؤمنين الصادقين.
بالمناسبة هذه ناحية فقهية بعض الفقهاء استدلوا بهذه الآية على أنه ليس هناك خيار مجلس في العقود، أي إذا جلست أنا وأنت وتعاقدنا أنا سأبيعك هذا الجهاز والثمن ألف، ووقعنا العقد انتهى، وجب الوفاء مني ومنك، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ البَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَفْتَرِقا }

(صحيح البخاري)

هذا اسمه عند الفقهاء: خيار المجلس، وقعنا العقد ونشرب كأساً من الشاي وأنا راجعت حسابي وجدت أنَّ المبلغ كبير عليّ لا أستطيع تأمينه، فقلت لك: أريد أن أتراجع، هذا خيار لي، صاحب المبيع راجع نفسه ووجد أنه غُبن بالسعر لم يعد يريد بنفس المجلس لم يتفرقا فلهما خيار المجلس لحديث النبي صلى الله عليه وسلم:
(البَيِّعانِ بالخِيارِ) بعض الفقهاء أخذوا الآية بظاهرها فقالوا: لا يوجد خيار مجلس، الصحيح أن هناك خيار مجلس وهو من الوفاء بالعقد، أي بيني وبينك عقد أنَّ هذا العقد نافذ ما لم نتفرق وفق الشرع فإذا تفرقّنا ليس لك أن تعود إلا بعيب، أو إذا اشترطت أن هناك شرطاً يوجد ثلاثة أيام لأتراجع هذا موضوع فقهي.
أما الوفاء بالوعد فأن يصبر الإنسان على أداء ما يَعِد به الغير، ويبذله من تلقاء نفسه حتى وإن أضرَّ به ذلك، وانتبهوا إلى آخر الكلمات: حتى وإن أضرَّ به ذلك الوفاء بالوعد، أنا وعدتك بشيء الآن يجب أن أفي بوعدي، وعدتك بمال، وعدتك بموعد، وعدتك بوقت، وعدتك بالتوسط عند فلان، وعدتك بمكافأة، إن أنت فعلت كذا هذا وعد، فلما يَعِد الإنسان غيره بشيء ينبغي أن يفي بهذا الوعد حتى وإن أضرَّ به ذلك، لا يقل: والله أنا وجدت نفسي سأُضَر إذا دفعت، حتى وإن أضرّ به ذلك، وقالوا: كلما كثر الضرر على الإنسان كان الأجر على الوفاء بالوعد أعظم عند الله تعالى، أي كلمة رجال يسمونها، طبعاً ليست كلمة رجال تعني عكس النساء، لا، كلمة الرجل في القرآن تعني ليس الرجل الذكر بل البطل:

رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ(37)
(سورة النور)


الإنسان لله والمالك يتصرف بملكه كيفما يشاء :

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(111)
(سورة التوبة)

نحن لسنا ملكاً لأنفسنا نحن مُلكٌ لله
أيها الكرام انظروا إلى هذا العهد وذاك الوعد؛ ربنا عز وجل هو يملُكنا، نفسنا من يملكها؟ الله، إنا لله نحن لسنا ملكاً لأنفسنا نحن مُلكٌ لله، إذا قال لك إنسان: أنا لماذا مرضت؟ قل له: أنت لله، يُمرضك أو يشفيك، كن مع الله دائماً في المرض وفي الشفاء، أنت له، لماذا حصل معي كذا؟ أنت لله والمالك يتصرف بملكه كيفما يشاء، فنحن أنفسنا لله وأموالنا لله، والدليل:

وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ (33)
(سورة النور)

فالمال مال الله والنفس لله، سأضرب مثالاً؛ أب قال لابنه: خذ هذا الجوال هديةً مني لك، ثم بعد قليل قال له: تبيعني الجوال؟ إذا كان الابن باراً ماذا يقول لوالده؟ الجوال لك أنت وهبتني إياه تريد أن تشتريه وتعطيني ثمنه هو لك في الأصل، هنا المعنى كذلك:

إنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(111)
(سورة التوبة)

يا رب إن أنفسنا وأموالنا هي لك في الأصل ثم تشتريها منا وتدفع ثمنها ! قال:

إنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(111)
(سورة التوبة)

الثمن الجنة، الثمن جنةٌ عرضها السماوات والأرض، تُقدِّم نفسك لله، تقول: الآن لا يوجد جهاد، يمكن أن يموت الإنسان في سبيل الله ويمكن أن يحيا في سبيل الله، وكلاهما جهاد، وهذا الكلام قرآني ونبوي وليس من عندي، يمكن أن تحيا في سبيل الله، ويمكن أن تموت في سبيل الله، وكم من إنسانٍ عاش في سبيل الله ثم مات في فراشه ولم يَمُت في أرض المعركة؟! سيدنا خالد بن الوليد وغيره كثر، فالحياة في سبيل الله مطلوبة كما هو الموت في سبيل الله، نحن الآن جئنا في عصر مُمتحنون في الحياة في سبيل الله، الفتن كثيرة، والصوارف كثيرة، لكننا إن شاء الله نحيا في سبيل الله على أمل أن نموت في سبيل الله، لكن تبقى الحياة في سبيل الله أمراً عظيماً لا يمكن أن نقلل من شأنه فنقدّم أنفسنا وأموالنا لله، والثمن الجنة:

إنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
(سورة التوبة)


الوفاء بالوعد من صفات الأنبياء:
في التوراة والإنجيل والقرآن في كل الرسالات، أوفى من يفي بعهدٍ هو الله تعالى:

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
(سورة مريم)

هذا الوفاء بالوعد، فالله تعالى وعدك ووعده آتٍ لا محالة، وأنت إذا وعدت فليكن وعدك آتٍ لا محالة، والوفاء بالوعد من صفات الأنبياء، قال الله تعالى:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا (54)
(سورة مريم)

صادق الوعد يصدق في وعده مع الله ومع الناس، وكان رسولاً نبياً، انظروا كيف قدّم صدق الوعد على الرسالة والنبوة للأهمية، فالتقديم دائماً للأهمية.
أخيراً كن كإبراهيم عليه السلام ولا تكن كأهل القرى، إبراهيم وفّى:

وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ (37)
(سورة النجم)

انظر إلى هذا المديح القرآني العظيم:

وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ (37)
(سورة النجم )

حياة إبراهيم كلها كانت وفاءً بعهد الله تعالى
كيف وفّى سيدنا إبراهيم؟ قال له: اذبح ابنك، قام ليذبح ابنه،ـ قال له: أسكن ذريتك بوادٍ غير ذي زرع، أخذهم وأسكنهم بوادٍ غير ذي زرع، قال له: أقم البيت على القواعد، قام وابنه وأقاما البيت على القواعد التي أمره الله تعالى بها، حياة إبراهيم كلها كانت وفاءً بعهد الله تعالى، كانت وفاءً من أعظم مستوى، من منا يفي بعهده كما وفّى سيدنا إبراهيم عليه السلام؟

إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ(120)
(سورة النحل)

لم يكن إبراهيم فرداً كان أُمةً، قرأ يوماً أحد الصحابة الكرام إن معاذ بن جبل كان أمةً قانتاً لله، فيقول أحد الصحابة: فقلت: أخطأ أبو عبد الرحمن – خطأ هذه الآية - فقلنا له: إن إبراهيم كان أمةً، فقال: وأنا أقول إن معاذ بن جبل كان أمةً، قالوا: كيف ذلك؟! قال: لقد كان معاذ بن جبل أُمةً في الخير يقتدي به الناس في الخير، وكنا نشبه معاذ بن جبل بإبراهيم عليه السلام، فالأُمة هو الذي يقتدي الناس به في الخير، يكون قدوة في الخير حيث حلّ، فإبراهيم وفّى بعهده فكن إبراهيمياً.

الإنسان خاسر لأن مضي الزمن يستهلكه:
أيها الكرام؛ ما مقابل الوفاء؟ الكنود، قلنا: الغدر، والمصطلح القرآني الكنود، والكَنود هو الإنسان الذي يعدُّ المصائب وينسى النعم، كنود، تقول له: كيف الوضع؟ يقول لك: لا يوجد سوق، والوضع سيئ، والحالة سيئة، وأنا تعبان ومنزعج، أين نِعَم الله عز وجل؟ يَعدُّ المصائب وينسى النِعَم هذا كنود، انظروا الآن قال تعالى:

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
(سورة العاديات)

تعلمون دائماً أن بين القسم والمُقسم به في القرآن الكريم علاقة، دائماً بين القسم والمُقسم به علاقة، مثلاً:

وَٱلعَصرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
(سورة العصر)

العصر يمضي والإنسان يخسر
ما علاقة العصر بالخُسر؟ أنَّ مُضيَّ العصر والزمن يجعل الإنسان خاسراً وقته، لأن رأس مالك الزمن، فنحن الآن أنفقنا الزمن بمعيتكم إنفاقاً استثمارياً، لأن هذه الجلسة محفوظة إلى يوم القيامة، والأجر عند الله، الذي جلس هذه الساعة في المُباح ذهبت الساعة لكن في المُباح، والساعة ذهبت لم يستفد منها شيئاً لكنه خسر، ومن يعصي الله فيها هذا أعظم خسارة:

إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
(سورة العصر)

فالعصر يمضي والإنسان يخسر، لأنه إذا كان عمره ثمانين سنة وأربعة شهور وثلاثة أيام وأربع ساعات وخمس دقائق وثانيتين، في كل لحظة تمضي يخسر جزءاً من عمره :
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَة لَهُ إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني
{ أحمد شوقي }
عندما بدأت هذا اللقاء الطيب بمعيتكم كنا جميعاً أبعد عن الموت من هذه اللحظة، الآن كلنا اقتربنا من الموت بمقدار ما مضى من الوقت، هذه حقيقة ليست يأساً ولا تشاؤماً، هذه حقيقة:

وَٱلعَصرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
(سورة العصر )


أعظم وفاءٍ أن نكون أوفياء مع خالقنا فنأتمر بما أمر:
نعود للآية :

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)
(سورة العاديات)

من العاديات؟ الخيول التي تعدو، ما معنى ضبحاً؟ تصدر صوت الضبح، عندما تركض الخيول ركضاً شديداً الإنسان يلهث، الخيول تضبح، يصدر صوت منها اسمه: الضبح تسميه العرب:

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)
(سورة العاديات)

يقسم بها وقد أسرعت وأسرعت وأسرعت حتى صدر منها صوت الضبح، ضبحاً:

فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)
(سورة العاديات)

المُوريات هي التي تُشعل النار بحوافرها عندما تصطك بالحجارة، من شدة العدو تصطك حوافر الخيل بالحجر فتصدر ناراً، شرارة:

فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)
(سورة العاديات)

يظهر الصبح تكون قد وصلت إلى أرض المعركة تُغير على الأعداء.

فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)
(سورة العاديات)

النقع هو الغبار، فعندما الخيل تركض يُثار الغبار.

فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)
(سورة العاديات)

أين تنزل؟ في وسط الجمع، ألا تخاف على نفسها أن يُصيبها سهم؟ لا، لماذا تفعل الخيل كل ذلك؟ تركض حتى يصدر صوت الضبح، وتركض حتى تصطك سنابكها بالحجارة فتصدر الشرر، وتُغير على الأعداء صُبحاً فتثير الغبار، وتنزل في وسط الجموع غير آبهةٍ بهذه الحرب الضروس التي كل شيء فيها مخيف، لماذا تفعل كل ذلك؟ وفاءً لصاحبها، ما الذي دفعها لتفعل ذلك؟! هي ليس لها أعداء، هل لها أعداء في أرض المعركة؟ لا، من أجل صاحبها، لأن الخيل وفية، ما جواب القسم؟

إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
(سورة العاديات)

يا ليتنا كالخيل:

إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)

الخيل وفيةً لصاحبها
لا يوجد عنده وفاء لخالقه، لو تأمل في هذه الخيل التي لها غريزة، وليس لها فكرٌ ولا عقل، ولكنها كانت وفيةً لصاحبها بما أودع الله تعالى بها من غريزة لاستحيا من ربه أن تكون الخيل وفيةً له وهو غير وفي لخالقه الذي أعطاه نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد.
نحن أيها الكرام مغمورون بفضل الله، فأعظم وفاءٍ أن نكون أوفياء مع خالقنا فنأتمر بما أمر، وننتهي عما نهى عنه وزجر، أعظم وفاءٍ أن نفي بعهدنا معه، فقد أخذ علينا العهد ونحن في عالم الذر:

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(72)
(سورة الأحزاب)

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ(172)
(سورة الأعراف)

فهذا أعظم عهدٍ أخذه الله تعالى علينا فلنكن أوفياء مع الله، ولنوفِّ بهذا العهد بربوبيته جلَّ جلاله، وبألوهيته جلَّ جلاله، وأن نحمل الأمانة التي أراد الله تعالى أن نحملها، وهذا من أعظم الوفاء، ثم لنكن أوفياء مع عباد الله، فإن الله تعالى جلَّ جلاله وفيٌّ معنا ومع خلقه فلا أقلّ من أن نكون أوفياء معه ومع عباده، والحمد لله رب العالمين.

أعظم العهد أن نمشي على الطريق الذي رسمه الله لنا في الدنيا:
كن كإبراهيم ولا تكن كأهل القرى، أهل القرى ماذا فعلوا؟
ربنا عز وجل ذكر أهل القرى:

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
(سورة الأعراف)

ثم يقول تعالى:

تلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
(سورة الأعراف)

والله أيها الكرام أنا عندما أقرأ هذه الآية تحديداً وأنتم جميعاً أهل فضل وخير وربما عندكم من الفضل والخير ما ليس عندي وهذا والله ليس تواضعاً وإنما حقيقة ولكن عندما أقرأ هذه الآية والله أرتعش من داخلي:

وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
(سورة الأعراف)

ما عندهم عهد، وما وجدنا لأكثرهم من عهد، لا يوفون بعهدهم لا بعهدهم مع الله ولا بعهدهم مع الناس:

وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
(سورة الأعراف)

(لَفَاسِقِينَ) منحرفين مبتعدين عن طريق الصواب، وهذا يدل على أنَّ من أعظم العهد أن تمشي على الطريق الذي رسمه الله تعالى لك في الدنيا، فكن إبراهيمياً ولا تكن كأهل القرى.
سؤال: من المقصود بأهل القرى؟
أهل القرى؛ مكة أُمّ القرى وما حولها أهل القرى، طبعاً الآيات هنا تتحدث عن عموم الناس أهل القرى، القرية بمصطلحنا نحن هي أصغر من المدينة، أي القرية هي عبارة عن تجمع سكاني بسيط في القرآن الكريم لا مكة أُمّ القرى مع أن مكة كانت مركزاً تجارياً وكان اسمها: أُمّ القرى، فأهل القرى هم عموم الناس.
والحمد لله رب العالمين