• محاضرة في الأردن
  • 2022-03-28
  • عمان
  • الأردن

على أبواب رمضان

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبّلاً يا ربّ العالمين، اللهمّ أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشّهوات إلى جنّات القُربات وبعد.


شهر رمضان فرصة عظيمة للصّلح مع الله:
رمضان فرصة للرّقيّ في سلّم الطّاعات والخيرات
أيّها الأخوة الأحباب؛ نحن على أعتاب وأبواب شهر عظيم، كلّنا ننتظره بفارغ الشّوق والصّبر، ذلك لأن هذا الشهر فرصة نوعيّة للرّقيّ في سلّم الطّاعات والخيرات، كثير من الأحباب والأقرباء وكلّ منكم الآن لو قلت له: عدِّد في ذهنك أشخاصاً ممّن تحبّ كانوا معك في رمضان الماضي لكنّهم ليسوا معك الآن؟ لَعَدَّ اثنين، وثلاثة، وأربعة، وربّما عشرة، فمن أحياه الله تعالى وبلّغه رمضان فقد كتب له فرصة جديدة للصّلح مع الله، والاستزادة من الخيرات، لأنّ الدّنيا كلها أيّها الإخوة ليس فيها شيء إلا ما قرّبك من الله تعالى، وأي يوم لا تزيد فيه قُرباً من الله أو عملاً صالحاً في خدمة عباد الله فإنه يمضي، بينما أي يوم تزيد فيه قُرباً من الله أو خدمة لعباد الله فإنّه يمضي زمناً، ولكنه يدوم ويبقى أثراً ليوم القيامة، فشهر رمضان فرصة عظيمة لعلّ الله أن يبلّغنا إياه جميعاً، ويُتِمّهُ علينا ونحن في ستر وعافية، وهذا فضل من الله تعالى.

مخففات ذكرها الله في القرآن يوم فرض الصيام علينا:
1 ـ تذكير الله الإنسان بما بينهما من إيمان:
الله تعالى حين فرض الصّيام أنزل آيات تُتلى بكتابه إلى يوم القيامة، وجعل فيها مخفّفات، ربنا جلّ جلاله هو الغنيّ عن عباده، ولكنّه رغم ذلك عندما فرض علينا الصّيام، والصّيام فيه تكليف، والتّكليف فيه كلفة، فيه امتناع عن الطّعام، وعن الشّراب، وعن الشّهوات لفترة من النّهار، من طلوع الفجر إلى غروب الشّمس، فذكر لنا مخفّفات، أحصيتها خمس مخفّفات في الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 183
(سورة البقرة)

التعاقد على الإيمان مع الله عزّ وجلّ
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هذا المُخفّف الأول، كأنّه يقول لك: يا عبدي بيني وبينك عقد إيمانيّ، فنحن تعاقدنا على الإيمان مع الله عزّ وجلّ، آمنّا به إلهاً موجوداً، واحداً، كاملاً، آمنّا بكتبه، برسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر، فأصبحنا على مرتبة معينة اسمها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) كما ينادي الناس للدكتور: الدّكتور الفلاني سواء كان دكتوراً في الطب أو الجغرافيا أو الفيزياء، فحتّى يحصل على هذا اللّقب يدرس ست سنوات ابتدائي، وست سنوات تعليم ثانوي، أصبحوا اثنتي عشرة سنة، وبعدها أربع سنوات أصبحوا ست عشرة سنة، وبعدها ماجستير ودكتوراه أربع سنوات، أي يقضي في حياته ثماني عشرة سنة في التّعليم، بعدها يصبح اسمه: دكتور، ويحقّ له أن يضع د. قبل اسمه.
الآن: إذا أردت أن تصبح من (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) هذا بناء أهم من بناء الطبيب وأهم من بناء الدكتور، أنت مؤمن أصبحت الآن تُخاطَب من قبل الله عزّ وجلّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) لذلك ليس سهلاً إذا قرأت في كتاب الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) هذا خطاب بناء على العقد الإيماني، فالمخفّف الأوّل من الله أنه يذكّرك بما بينك وبينه من الإيمان، تماماً إن كنت تريد أن تخاطب أناساً بقضية متعلّقة بالحقوق، تقول: يا أيها المحامون، فينتبه المحامون لك، لأنّ القضيّة متعلّقة بالحقوق، وإن كنت تبني بناء تقول: يا أيّها المهندسون، والله تعالى يفرض علينا الأمر الإلهي بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) فهذا المخفف الأول.

2 ـ رمضان شريعة ماضية في كل الأمم:
قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) تَتَّقُونَ، أنتم لستم بِدَعاً من الأمم، الأمم السّابقة فُرِضَ عليها الصّيام أيضاً، أي الصّيام ليس في شريعتكم فحسب، إذا دخل المدرّس للصّف، وفرض واجباً، قال لهم: الصّفحة السابعة والستون فيها واجب عليكم كتابته، فيتململ بعض الطّلاب، فيقول لهم: هذا الواجب ليس لكم فقط، فأنا أعطيته للشُّعَب العشر وكلّهم أدَّوه، فأنتم لستم بِدَعاً من الطّلاب، فربّنا عزّ وجلّ يُهيِّئُنا لتلقِّي الأمر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، فهذا شريعة ماضية في كل الأمم.

3 ـ التقوى هي الحكمة من الصيام:
أعظم مخفّف قوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي بيّن لك الحكمة، هذا المخفّف الثّالث، بيّن لك الحكمة، أحياناً إن كان للإنسان مكانة كبيرة في المجتمع يقول لك: أنا غير مطالب ببيان الحكمة، يُصدِر أمراً: أيّها المواطنون يجب الالتزام بالحظر، انتهى.
إذا أردت أن تأمر بأمر فبيّن ما حكمته
من دون حكمة، لأنّه قويّ، والقويّ يطلب دون أن يبيّن الحكمة، ربنا جلّ جلاله يعلّمنا أنّك إذا أردت أن تأمر بأمر فبيّن ما حكمته، حتّى يُقبِلَ النّاس عليه برَحَابَة صدر، عندما تُوضّح الحكمة لابنك في أمر ما يتبنّاه، تقول له: يا بُني الصّلاة من أجلك أنت، الصّلاة ترقى بك في معارج الفَلاح والتّوفيق، إذا أردت أن تأمره بحفظ القرآن، أو أن تَعَلّمه تُبيّن له النّتائج المترتّبة على تعلّمه، فعندما تبيّن الحكمة يتبنّى الأمر، فإذا بيّنتَ الحكمة لموظّف في الشّركة عندك مثلاً يدافع عنه هو لأنه أصبح يعرف أن هذا الأمر له فيه مصلحة حقيقية وليست مصلحة وهميّة، فقال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي يا عبادي هذا الصّيام لم يُفرَض عليك من أجل أن تجوع وتعطش لعشر ساعات وخمس عشرة ساعة، الموضوع له هدف عالٍ جداً، يريدك أن تصل إليه وهو أن تحقق التّقوى، والتقوى من الوقاية، المصدر وقى، الوقاية أن تجعل بينك وبين الشّيء وقاية تتّقيه به، سُئِل سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه ما التّقوى؟ قال له: أسلكت طريقاً ذا شوك يوماً؟ قال نعم، قال: ما صنعت؟ قال: كنت إذا مررت بالشوك جاوزته أو ابتعدت عنه - إما أن أقفز فوقه أو أبتعد- قال: فذلك التقوى، أي فهّمه التّقوى من المعنى اللغوي، أنك إذا وجدتَ شيئاً فيه معصية لله تتجاوزه وتبتعد عنه، فالتقوى هي أن تخرج من رمضان وقد جعلت بينك وبين معصية الله تعالى وقاية، فتكون قد حقّقت هدف الصّيام، أما الذي يفطر في واحد شوّال فيفطر على الطّعام والشّراب، أما الامتناع عن المعاصي فيكون طوال العام، فيكون قد حصّل التّقوى. لماذا الصّيام يحصّل التّقوى بشكل رئيس؟ قال الله تعالى في الصلاة:

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ 45
(سورة العنكبوت)

فالمصلّي ليس في كلامه فحش، ولا في أفعاله منكر.
قال الله تعالى في الزكاة:

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 103
(سورة التوبة)

أي نفس الفقير تطهر، ونفس الغنيّ تطهر، والمال يطهر، ونفس الفقير تزكو، لحصوله على المال، ونفس الغني تزكو، لأنه شعر بالإحسان إلى الآخرين- وهذه قيمة عظيمة- والمال يزكو، وينميّه الله تعالى لك، فالزّكاة طهارة ونماء، والصّلاة امتناع عن الفحشاء والمنكر، هذه الحكم.
قال الله تعالى في الحج :

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 97
(سورة المائدة)

إذا ذهب الإنسان للعمرة أو الحج وطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وأدى المناسك، يحصل له إيمان عميق بعلم الله تعالى، يجد حوله الآلاف المؤلفة والملايين المملينة من كل حدب، ومن كل صوب، وكل يناجي الله تعالى بلغته، والله تعالى يتجلى على الجميع فيخرج وقد علم أن الله يعلم ما في السماوات وما في الحج، هذا الحج.
الصيام: (لعلكم تتقون).
كل عبادة من العبادات معللة بمصالح الخلق
فكل عبادة من العبادات معللة بمصالح الخلق، لم يشرع الله تعالى عبادة من أجله، وإنما شرع العبادات من أجلنا، فإذا علمت أن العبادة لك فيها منفعة ومصلحة – والإنسان يحب مصلحته- مصلحة حقيقية فيبادر لها فوراً، الأم أحياناً تريد أن يشرب ابنها الحليب، طفل عمره حوالي السنتين قال لها الطبيب: إنه يجب أن يشرب كل يوم كأس حليب لأن معه نقصاً في الكالسيوم مثلاً، فتجبره على شرب الحليب، هو لا يريد الحليب، يريد أن يشرب كأساً من المياه الغازية، يرى مصلحته في المياه الغازية، الأم والطبيب رأوا المصلحة الحقيقية وليس المُتَوَهّمَة، نحن نرى أحياناً المصلحة المتوهمة، الذي يرتشي لماذا يرتشي؟ مصلحة، لكن متوهمة، هو توهّمَ أن مصلحته في مئة دينار يأخذها من غير علم أحد، ما علم أنها نار تحرقه يوم القيامة، ظنّها مكسباً ومصلحة، الذي يمشي في الطريق، وينظر للغاديات والرائحات لمصلحة، فهو يرى مصلحته في إمتاع ناظريه، وما علم أن هذه النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، الذي يريد أن يصل لمنصب ما هذه مصلحة، فيدفع لفلان وعلان ليصل للمنصب الذي يريده، ولكنه لا يعطي الأمر حقه وبأمانة كما ينبغي فيحاسب يوم القيامة، قال تعالى:

وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ 24
(سورة الصافات)

يقول: أنا مسؤول كبير، ويترنّم فيها، مسؤول كبير يوم القيامة: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ فتجبره عليه، ستُسأل، ظنّ أنّ مصلحته في ذلك، أما نحن فنتكلم عن المصلحة الحقيقية، فالطفل يرى مصلحته المُتوهّمة التي تريحه كأساً من الماء الغازيّة، بينما الأم قال لها الطبيب: المصلحة الحقيقية في كأس الحليب صباحاً، العاقل عندما يكبر يقول له الطبيب: يجب أن تشرب الحليب، ولكنه لا يحبه فيضع له قليلاً من النسكافيه ويشربه لأنه يعلم أن مصلحته هنا، وكذلك المؤمن يعلم مصلحته الحقيقية وليست المتوهمة، فالله تعالى يخبرك عن المصالح الحقيقية في كتابه فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إذا ظننت أن مصلحتك بالطعام والشراب، لا، في هذا الوقت مصلحتك في الامتناع عن الطّعام والشّراب، لذلك يقول تعالى كما في الحديث القدسي: .

{ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، ولَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ }

(رواه البخاري)


الله تعالى يجازي عن الصيام لأن الصيام عبادة الإخلاص:
أنا كنت دائماً أفكر في هذا المعنى، أي الصلاة لله، الحج لله، لماذا الصيام قال فيه: (إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ).
إخواننا الكرام: العبادات كلها فيها فعل إلا الصيام فيه امتناع، ركن الصيام هو الإمساك.
الصلاة: أقوال وأفعال مفتتحة بالتّكبير ومختتمة بالتّسليم.
الزكاة: دفع مال.
الحج: طواف وسعي، وقوف بعرفة، تلبية.
الإخلاص يظهر في الصيام بشكل واضح
فكل العبادات أفعال وأقوال، الصّيام ما ركنه: لا فعل ولا قول، بل امتناع، لا يجب أن يدخل أي طعام أو شراب، حتى الامتناع عن الرّفث والفسوق، فالإخلاص فيه يظهر بشكل واضح مئة بالمئة بخلاف العبادات، قد يزين صلاته عندما يرى أن هناك من ينظر إليه، يكون في عجلة من أمره، فيلمح أحدهم دخل إلى المسجد، وله تجارة معه فيغمض عينيه، رياء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّ يَسيرَ الرِّياءِ شِرْكٌ ، وإنَّ مَنْ عادَى ولِيًّا للهِ فقدْ بارزَ اللهَ بِالمُحارَبَةِ ، إنَِّ اللهَ يُحِبُّ الأبْرارَ الأتْقياءَ الأخْفياءَ؛ الذين إذا غابُوا لمْ يُفتَقَدُوا ، و إنْ حضَرُوا لمْ يُدْعَوا و لمْ يُعرَفُوا ، مَصابيحَ الهُدَى ، يَخرجُونَ من كلِّ غَبْراءَ مُظلِمَةٍ }

(رواه البيهقي وابن ماجه)

{ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟ " قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: " الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ " }

(صحيح ابن ماجه)

الزكاة: يكون في مجلس فيدفع، من يعلم نيته؟ قد تكون نيته أن يقال: فلان منفق.
الحج: يعود وتقام له حفلة ويقال له: الحاج في السوق، ولكن قد تكون نيته غير حقيقية ، فقط من أجل السمعة، ومن ضمن النشاطات يسافر ويحج وكأنه نشاط اجتماعي.
الصوم: فيه معنى الإخلاص بخلاف بقية العبادات، ندر أن يتطرّق إليه الرّياء، فقال: (إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) لأنه امتناع، ادخل إلى بيتك الساعة الثانية ظهراً، وأنت عائد من العمل، والحرارة في الخارج خمس وثلاثون درجة، الجو حار، ولا يوجد أحد في المنزل، ولا يوجد كاميرات تصوّر، ممكن أن تفتح الثلاجة وتشرب الماء ولن يعلم أحد إلا الله، لذلك الصوم عبادة الإخلاص، فقال: (إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) الجزاء من الله لأنه لا يكون إلا لله. فالمخفف الثالث: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لأن التقوى أكثر ما تظهر في الصيام.

4 ـ الصيام أيام معدودات:
قال الله تعالى:

أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ 184
(سورة البقرة)

الإنسان ملول، وعندما دعا النبي صلى الله عليه وسلم ونزل المطر دعوا: يا رب خفف المطر، فضحك النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالإنسان ملول فقال له: شهر من اثني عشر شهراً، ثلاثون يوماً من ثلاثمئة وخمسة وستين يوماً، أي الصيام أقل من العشر، باقي الأيام لك كُلْ واشرب وتمتّع، لكن هو أيام معدودات أي يُعَدُّوا وليسوا بالكثير، تسعة وعشرون أو ثلاثون يوماً فقط.

5 ـ من يشق عليه الصوم وفق الضوابط الشّرعية يُعفى منه:
قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي الصيام يُعفَى منه أصناف، على رأسهم المريض، ويلحق به الحامل إذا خافت على حملها أو على نفسها، والمرضع إذا خافت على نفسها أو على ولدها، والمسافر ضمن أعذار السفر المبيح للفطر، فجعل المخفف الخامس هو أن الإنسان الذي يشق عليه الصوم وفق الضوابط الشّرعية، وليس وفق الهوى يُعفى من الصوم، فإن كان يستطيع القضاء قضى، وإن لم يستطع القضاء فعليه (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) فجعل هذه المخفّفات الخمس في مطلع فرضيّة الصّيام.

أعظم ما في رمضان أنه شهر القرآن:
ثم يقول تعالى في الآية التي تليها:

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 185
(سورة البقرة)

شرَّف الله رمضان ببدء نزول القرآن الكريم
يبيّن لك أن شرف الزمان جاء من شرف المُنَزّل فيه، فرمضان شهر كشوال وكشعبان، ولكن شرّفه الله تعالى بأن ابتدأ فيه نزول القرآن، أو أن القرآن نزل من اللّوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وكلاهما قولان صحيحان، إمّا أن القرآن ابتدأ نزوله في رمضان، أو أنه نزل كليّاً من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في رمضان، ثم نزل مُنجَّماً على ثلاث وعشرين سنة، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فأعظم ما في رمضان أن نلزم كتاب الله، وأعظم ما في رمضان أن نتلو كلام الله، وأعظم ما في رمضان أن نتدبّر معاني وهدي القرآن الكريم، هذا أعظم ما في رمضان، لأنّه شهر القرآن.

أوصاف القرآن الكريم:
القرآن أيّها الكرام ربنا جل جلاله - من يومين كنت أقرأ في سورة الزمر- وصفه بعشرة أوصاف في آية واحدة، عشرة أوصاف في آية واحدة، أجمل آية تصف كتاب الله، اسمعوها منّي، قال الله تعالى:

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ 23
(سورة الزمر)

أين العشرة؟ اسمعوا:
الأولى: (اللَّهُ نَزَّلَ) القرآن منزل من قبل الله تعالى، فهو كلام الله، وفضل الكلام من فضل المتكلّم، فإذا علمت أن الكلام منزل من الله تعالى، فذلك أدعَى أن تخشع جوارحك له (اللَّهُ نَزَّلَ).
الثانية: ولا أحد غيره، من أين أتيت بها فهذه غير موجودة في الآية؟ هذه من اللغة العربية، مفهوم الكلام، عندما تقول: الملك أمر بمنحة ماليّة لكل مواطن مئة دينار- هذه إشاعة لا علاقة لها، هذا الكلام من عندي- عندما تقول: إن الملك أمر بمئة دينار لكل مواطن، كأنك تقول بداخلك ليس لرئيس الوزارة علاقة بالموضوع، ولا لمجلس النوّاب، ولا للمالية، هذا أمر ملكي، خاص صرف، عندما يكون المبتدأ اسم معظّم، والخبر جملة فعلية، أي لا أحد غيره، عندما قال: (اللَّهُ نَزَّلَ) أي ضمناً لا أحد غيره، أي لم يشاركه أحد جلّ جلاله، هذه الثانية.
كلام الله قرآن عربي
الثالثة: (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) من حدث الأمر إذا استجدّ، أنا أقول: اليوم يوجد حدث، أي شيء جديد استجدّ، القرآن الكريم من الفاتحة إلى النّاس لا يعدو أن يكون خبراً أو إنشاءً، كيف؟ ركّزوا معي قليلاً، هذه مهمّة جدّاً، كلامنا في اللغة العربية إما أن يكون خبراً أو إنشاءً، أي كلمة تحكيها إمّا أن تكون خبراً أو إنشاء، إذا قلت لك: الشّمس ساطعة؛ خبر، الجو بارد؛ هذا خبر، إن قلت لك: يا محمد؛ إنشاء، اكتب؛ إنشاء، ادرس؛ إنشاء، لا تغتب الآخرين؛ إنشاء، الخبر: كل كلام يحتمل الصدق أو الكذب، أي خبر ممكن أن تواجهني به وتقول لي: صح أو غلطـ ممكن أن أقول: اليوم حدث حادث في الدّوّار السّابع فيأتي شخص ويقول: هذا الكلام خطأ فمحلّي عند الدّوّار، ولم يحدث شيء، هذا خبر، بينما إن قلت لإنسان: ادرس، هل يستطيع أن يقول لي: صادق أو كاذب؟ هذا أمر والإنشاء لا يحتمل التّصديق أو التّكذيب، والخبر يحتمل التّصديق أو التّكذيب، الآن: كل ما في داخل دفّتي المصحف لغة عربية، كلام الله قرآن عربي، إمّا أن يكون خبراً أو إنشاء، قال تعالى:

وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 115
(سورة الأنعام)

فكل ما فيه من الأخبار صدق، وكل ما فيه من الإنشاء والأوامر عدل، فالله لا يأـمر إلا عدلاً، ولا ينهى إلا عدلاً، ولا يحدّث إلا صدقاً: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا).
الآن من زاوية ثانية: كل ما في القرآن حديث، حتى الأمر والنهي هو إخبار عن الله، فهو خبر عن الله، فصار القرآن حديثاً، سماه الله تعالى حديثاً، لكنه هو أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ، أنا أتكلم عن كلام الله فأنتم تطربون لبعض كلامي لأنه عن كلام الله، إن أتى أحدهم وتكلم عن الدنيا فقد ينهض بعضكم ويذهب، وإن أتى أحدهم وتكلّم كلاماً فاحشاً فتذهبون كلكم لأن هذا أسوا الحديث، كلام الله أحسن الحديث، إذا أحب إنسان أن يسمع حديثاً في منتهى الحسن فهو كلام الله، أما كلام البشر ففيه الصواب وفيه الغلط، (أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ) هذه الثالثة.
(كِتَٰبًا): أي مكتوب، ولو لم يكن الكتاب مكتوباً لما تمّ حفظه، قال تعالى:

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ 9
(سورة الحجر)

فحُفظ في الصدور، وحُفِظ في السّطور، فهو مكتوب حتى بإملائه كما جاء في القرآن الكريم:

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ56
(سورة الأعراف)

بالتاء المبسوطة، بينما بقواعد اللغة بالتاء المربوطة، لا نغيرها بالمصحف، لها حكمة، عندما جمع النبي صلى الله عليه وسلم المصحف قال لهم: ضعوا هذه الآية هنا وهذه هنا، فكُتب المصحف حتى يُحفظ، فمن ميزاته أنه كتاب.
الخامسة: (مُتَشَابِهًا) ما معنى متشابه؟ كلمة متشابه ليس لها علاقة بالمحكم والمتشابه، قال تعالى:

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ 7
(سورة آل عمران)

هنا الموضوع مختلف، هناك المتشابه مقابله المُحكم، المُحكم الذي لا يحتاج إلى تأويل أو تفسير، قال تعالى:

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ 1
(سورة الإخلاص)

القرآن الكريم متشابه في الحُسن والجمال والبلاغة
هل تحتاج إلى تفسير أو تأويل؟ هل يوجد لها معنيان؟ ولكن أحياناً تكون الآية تحتمل معنيَين فنسمّيها متشابهة، أي تشبه هذا المعنى، وتشبه هذا المعنى، هذا المتشابه أمر آخر، هنا ما معنى (مُتَشَابِهًا)؟ أي كل آية فيه تشبه أختها في الحُسن والجمال والبلاغة، وكل سورة فيه تشبه أختها في الحُسن والبلاغة، من أين جئنا بهذا المعنى؟ من لغة العرب، العرب كانوا إذا وجدوا وجهاً جميلاً يقولون: هذا وجه مُقَسَّم، أي كل جزء منه يشبه الجزء الآخر في الجمال والحُسن، النّساء إن كان هناك خطبة، يتكلّمن مع بعضهن، ممكن أن تقول لها: والله عيونها جميلة، ولكن الفم غير جميل، كلام نساء، وكل خلق الله جميل، ممكن أن تقول: العيون جميلة ولكن الأنف ليس جميلاً، أي تفصّل الوجه، أما الحُسن فمتكامل، فالعرب تقول: وجه مُقَسّم أي كل أجزائه متشابهة في الحُسن والجمال، ففي القرآن لا يوجد إنسان ممكن أن يقول: والله سورة العلق رائعة وجميلة، ولكن تلك أقل، معاذ الله ! كلّه جميل، قد تقول: أنا أتأثّر كثيراً بسورة الزّمر، فهذا موقفك من الآية، لأنك قد سمعتها في الحرم مثلاً، وتفاعلت مع آياتها، فهذا موقفك، بينما في الجمال والبلاغة والحُسن فكله سواء، هذا (مُتَشَابِهًا).

تأثر المشركين بالقرآن الكريم:

{ عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب بالطُّور، فلما بلغ هذه الآية: ﴿أم خُلِقُوا من غير شيء أم هم الخالقون، أم خَلَقُوا السموات والأرض بل لا يوقنون، أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون﴾. قال: كاد قلبي أن يطير. }

(متفق عليه)

الوليدِ بنِ المغيرةِ قالَ لرسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ اقرأ عليَّ فقرأَ عليهِ:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 90
(سورة النحل)

{ قالَ: أعِدْ فأعادَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ: واللَّهِ إنَّ لهُ لحلاوةً، وإنَّ عليهِ لطلاوةً، وإنَّ أعلاهُ لمثمرٌ، وإنَّ أسفلَهُ لمغدقٌ، وما يقولُ هذا بشرٌ، وقالَ لقومِهِ: واللَّهِ ما فيكم رجلٌ أعلمُ بالأشعارِ منِّي، ولا أعلمُ برجزِهِ ولا بقصيدتِهِ منِّي، ولا بأشعارِ الجنِّ واللَّهِ ما يشبهُ هذا يقولُ شيئًا من هذا واللَّهِ إنَّ لقولِهِ الَّذي يقولُ حلاوةً، وإنَّ عليهِ لطلاوةً، وإنَّهُ لمثمرٌ أعلاهُ، مغدقٌ أسفلُهُ، وإنَّهُ ليعلو وما يُعلَى، وإنَّهُ ليحطِّمُ ما تحتَه. }

(البيهقي)

وهو على شركه تأثر بالقرآن هذا التأثر.
عتبة بن ربيعة ذهب للنبي صلى الله عليه وسلم ليحدثه لعله يكفّ عن سبّ آلهتهم، أي كفّ عن آلهتنا يا محمد فحدّثه فلمّا فرغ قال النبي : أوقد انتهيت؟ قال: نعم قال فاسمع مني: فقرأ عليه سورة فصلت:

حم 1 تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 2
(سورة فصلت)

حتى بلغ قوله تعالى:

فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَٰعِقَةً مِّثْلَ صَٰعِقَةِ عَادٍۢ وَثَمُودَ 13
(سورة فصلت)

قال: فقام من فوره فوضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أنشدك بالرحم إلا كففت. هذا تأثر العرب بالقرآن وهم على غير الإسلام.

تتمة أوصاف القرآن الكريم:
السادسة: مَثَانِيَ، (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) الله نزّل ولا أحد غيره أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني.
لها معنيان؛ المعنى الأول من المعاني أن كل آية تنثني على أختها فتفسرها، وهذا مذكور في السبع المثاني، الفاتحة:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 2
سورة الفاتحة

رب العالمين: تشعر بالهيبة، تخيل إن كنت أمام ملك على ألفي رجل، تشعر بالرهبة، فجاءت:

ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيم ِ3
(سورة الفاتحة)

على الرغم من أن ربوبيته تشمل العالمين ليس الإنس والجن فقط، كل العوالم: نبات، حيوان، ولكن انتظمت علاقته معك بالرحمة، فكل آية تنثني على أختها فتفسرها.
كل موضوع له نظيره في القرآن الكريم
المعنى الثاني أن القرآن الكريم إذا ذكر الجنة ذكر النار، وإذا ذكر مصير المحسنين ذكر مصير الطغاة والظالمين، وإذا ذكر المؤمنين ذكر الفاسقين، ثم قارن بينهما هل يستويان مثلاً، فالقرآن فيه مثانٍ، بمعنى أن كل موضوع له نظيره في القرآن الكريم، هذا مثان.
السابعة: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) الاقشعرار هو انقباض الجلد، وهذا يتم في حالتين: في حالة البرد، أو في حالة الخوف، هنا كناية عن الخشية في القلب، اقشعرار الجلد كناية عن الخشية في القلب، فالجلد ينقبض انقباضاً شديداً.
الثامنة: (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) كيف؟ سأقرأ عليكم بعض الآيات كتجربة لتروا كيف تقشعر الجلود وتلين، ليس من الضروري أن يقشعر الجلد، ولكن القلب، فالاقشعرار كناية عن القلب:

قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ 27 قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ 28 مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ 29 يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ 30 وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ 31 هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ 32 مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ 33 ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ 34 لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ 35
(سورة ق)

الاقشعرار عند قوله: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ثم جاءت الآية بعدها (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) هنا (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ).
التاسعة: (إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) سماه: ذكر الله، القرآن ذكر الله، لأنه يذكرك بالله، بل هو أعظم ما يذكرك بالله، أن تتلو كلامه.
العاشرة: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ)، القرآن كتاب الهداية فيه إعجاز علمي؟ نعم، فيه أخبار السّابقين؟ نعم، فيه بلاغة عظيمة؟ نعم، لكن هو لماذا جاء؟ هل ليعلّمنا العربية؟ لا، ليس هذا الهدف، هل جاء من أجل أن نتعلم العلوم؟ لا، فيه بعض الإشارات العلمية، جاء لنهتدي به، حتى يدلّك على الطريق، الطريق الصحيح من هنا، والخطأ من هنا، (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) أي ربنا عز وجل يبيّن لك طريق الهداية من خلال القرآن، فمن سلكه هداه الله، ومن لم يسلكه أضله الله، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) أنت موقفك من القرآن بين هدايتين من الله، أو بين هداية وإضلال نسأل الله السلامة، المؤمن موقفه بين هدايتين هداه الله بالقرآن استجاب فوفّقه الله، هذه الهداية الثانية، المعرض هداه الله تعالى بالقرآـن فلم يقبل فأضلّه الله، أنت صاحب الموقف، أنت مختار أن تسلك طريق الحق أو الضلال، ولكن الله ابتداء هدى الجميع، فهذه الآيات بين أيدينا جميعاً من يقبل بها يهديه الله، ومن يرفضها مختاراً والعياذ بالله يضلله الله، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) وكل عام وأنتم بخير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته