ومن الناس - اللقاء الثاني

  • محاضرة في الأردن
  • 2022-06-13
  • عمان
  • الأردن

ومن الناس - اللقاء الثاني

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدْنا علماً، أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول، فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، وبعد:

النماذج البشرية في القرآن الكريم:
أيها الإخوة الأحباب؛ في اللقاء السابق تحدثنا عن نماذج بشرية من القرآن الكريم، وبدأنا بنموذجين اثنين من سورة البقرة.

النموذج الأول:

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8)
(سورة البقرة)

هذا نموذج المنافقين، تحدثنا عنه بالتفصيل.

النموذج الثاني:

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ ۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ أَنَّ ٱلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ (165)
(سورة البقرة)

هذا نموذج المشركين الذين يتخذون أنداداً من دون الله، سواءً كان الشرك الأكبر؛ كما كان يفعل كفار مكة، فيتخذون اللات والعزى من دون الله أنداداً، أو كما يفعل بعض من المسلمين حينما يتخذ أحدهم ماله ندّاً لله، أو شريكه، أو عمله، أو تجارته، فيعصي الله من أجل تجارته، ومن أجل ربحه ...إلخ.

نموذج المفسدين:
اليوم نموذج آخر أيضاً من سورة البقرة، النموذج الثالث من سورة البقرة:

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُۥ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ (204)
(سورة البقرة)

هذا نموذج بشري موجود، لعل بعضكم صادفه في حياته، في عمله، في عائلته الكبيرة، في تجارته، صادف هذا النموذج. هذا النموذج يعجبك قوله في الحياة الدنيا، يشهد الله على ما في قلبه، وهو ألدّ الخصام.
هذا النموذج قريب جداً من نموذج المنافقين، ولكن أضاف إلى نفاقه إفساداً في الأرض، يمكن أن نسميه نموذج المفسدين.
لا بدّ أن يتطابق القول مع العمل
الإنسان أيها الكرام؛ قول، وعمل، ونية. الإنسان إما أن يقول، أو يعمل، ويوافق قوله وعمله نيته، فممكن أن يتكلم إنسان بكلام جميل جداً، لكن النية سيئة ويمكن أن يعمل أعمالاً في ظاهرها صلاح؛ كأن يقف ليصلي لكن النية رياء الناس، فلا بدّ أن يتطابق القول مع العمل، وأن تصح النية قبل ذلك، فإنما الأعمال بالنيات.
هذا النموذج البشري يعجبك قوله في الحياة الدنيا، هذا النموذج لا يتكلم إلا بالحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم (يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلْآخِرَةِ هُمْ غَٰفِلُونَ) الإنسان الذي ينظر إلى الدنيا فقط كأنه ينظر بعين واحدة. الصورة دائماً مشوهة غير صحيحة. يعني مثلاً: إنسان يجلس خلف مكتبه. جاءه مبلغ مالي كبير في مقابل أن يوقع توقيعاً بالباطل، فيه مضرة بالناس، فيه مخالفة للقانون العام، يوقع ويقبض المبلغ. لو نظر بعين واحدة عين الدنيا ينبغي أن يأخذ المبلغ فوراً، وإن لم يأخذه؛ فهو أحمق، التوقيع آمن ولن يسائله أحد، وهو في مكان جيد، لن يسائله أحد. إذاً ينبغي أن يأخذ المبلغ، وإن لم يأخذه؛ فهو أحمق، هذا النظر بعين واحدة، لو أفرج عن العين الآخرة، الآن يقول: إن أخذته وأغضبت ربي؛ فعندها أكون أحمق، اختلفت زاوية الرؤية فاختلف الحكم، لذلك قال تعالى:

يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلْآخِرَةِ هُمْ غَٰفِلُونَ(7)
(سورة الرّوم)

فالظاهر يؤدي به إلى الحرام.
لو جاءته امرأة ذات منصب وجمال، وعرضت نفسها عليه وهو في أوج فتوته وشبابه. الذكاء أن يقبل، لكن لو نظر بعين الآخرة، يقول: إني أخاف الله رب العالمين. فهذا النموذج (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُۥ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا) إذا جلست معه حديثه جيد جداً، ولكن ضمن الحياة الدنيا فقط، ليس له في الآخرة من خلاق، يحدثك عن الدنيا، يحدثك عن العلاقات، عن التجارة، يتودد لك بمعسول الكلام، يعجبك قوله ويشهد الله على ما في قلبه. الآن دخلنا بالنية (وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِۦ) بالمناسبة كثير ممن يشهدون الله على ما في قلوبهم ويبالغون في ذلك، يكون هذا لظنه بأن الآخر يكذّبه. إذا جلست مع صديق لك تحدثه، لا ينبغي في كل لحظة أن تقول له: الله شاهد على قلبي، الله يشهد على نيتي، يمكن أن تقولها مرة لتطمئنه إذا كان في تجارة، لكن لو أكثرت من ذلك، فهذا مظنة أنني أظن أنك تكذّبني، فيزداد الظن عندي في أنك -والعياذ بالله – حاشاك-تكذب عليه، ويشهد الله على ما في قلبه؛ لأن نيته سوء، فيبالغ في إشهاد الله على ما في قلبه، يقول لك: أنا أشهد الله أني أحدثك من أجلك، أنا أحبك. يُشهد الله على كلامه، ويُشهد الله على ما في قلبه. الفعل ( وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ) هو في الحقيقة من أشد الناس خصومةً لك، يخرج فيتحدث عنك، يخرج فيكلم الناس عنك بالسوء( وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ). وإن الله تعالى يُبغض الأَلدَّ الخَصِم كما في الصحيح. فهو شديد الخصومة، لكنه يُظهر ما يعجبك في الحياة الدنيا، هذا النموذج.

من نعم الله العظيمة:
النية لا يطلع عليها إلا الله
أحبابنا الكرام؛ النية لا يطلع عليها إلا الله، هذا معروف. وربنا عز وجل من نعمه العظيمة أنه يعلم النوايا، من نعمه العظيمة. مثلاً: أنا وأنت عندما نلتقي، نلتقي على الله تعالى على محبة الله تعالى، فأنا أبرز لك النوايا الحسنة، وأنت تبرز لي النوايا الحسنة. لو لم أكن أنا وأنت نعلم يقيناً أن الله تعالى يعلم ما في نفوسنا لكانت الحال مختلفة، كان لا يمكن أن تثق بإنسان، متى تثق بالإنسان؟ عندما تعلم أنه يعلم أن الله يعلم، عندما تعلم أن من في مواجهتك يعلم أن الله يعلم، فلا يخونك في نيته تجاهك، هذا الشخص الوحيد، لذلك قال تعالى:

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
(سورة البقرة)

وإلا أي علاقة خارج الدين النوايا غير محسومة، إلا العلاقة في الدين. النوايا المفترض أن تكون محسومة، فلا ينوي لك سوءاً أبداً. يروون قصة للطرفة، أن أحدهم قال للآخر: تفكر بماذا؟ قال: أفكر بما تفكر به أنت، قال له: هل تريد أن تقتلني؟ لما انكشفت النوايا مصيبة، لذلك كانوا يقولون كما في الآثار: لو تكاشفتم لما تدافنتم.
هذه النعمة الثانية. النعمة الأولى هي: أن الله يعلم ما في النفوس، فأنت مهما أضمر لك إنسان شراً يكفيك أن الله يعلم؛ أما إذا لم تثق بهذه الحقيقة فمشكلة التعامل مع الناس. النعمة الثانية: أن الله أخفى سريرتك عن الناس، يمكن أن ألتقي بإنسان بلحظة معينة يكون في داخلي ضغينة له. بعد عشر دقائق وضّح موقفه زالت الضغينة. لو انكشفت سريرتي أمامه لن ينساها لي. الإنسان لا يغفر، يقول لك بقوله: سامحتك، لكن الحقيقة يعيش عمره، وهو يتذكر أنك أسررت له سوءاً، الإنسان لا يغفر، الله تعالى هو الغفور جل جلاله، فمن نعم الله أنه يعلم، ومن نعم الله أنه أخفى سرائرنا عن بعضنا، فلو أنني أضمرت-لا قدر الله -سوءاً لإنسان ثم تراجعت فهو لم يعلم بذلك أصلاً، وتبقى المودة قائمة.
ويشهد الله على ما في قلبه فالإنسان قول وعمل ونية. هذا الرجل قوله يأخذ بالألباب. جميل. نيته سيئة تجاهك، فيبالغ في الحلف على أنه يريد بك الخير، عمله أسوء العمل، وهو ألد الخصام.

نموذج المفسدين:
الآن وإذا تولى هنا تأخذ معنيين:

وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
(سورة البقرة)

التولي يكون بمعنى الإعراض
تولى، يمكن أن تكون من التولي، يعني أعرض عنك تركك وأعرض عنك (لاتولوهم الأدبار). التولي، يكون بمعنى الإعراض. تولى الإنسان أعرض ترك وذهب. وقد تكون تولى من الولاية، يعني صار والياً تولى أمراً، المعنيان صحيحان. وإذا تولى أي أصبح ذا ولاية عامة أو خاصة، ممكن يكون مدير شركة ولاية، وممكن ولاية عامة وزير مثلاً، وإذا تولى أعرض عنك وذهب وحده أو أخذ ولاية.
(سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ). يروى أن هذه الآيات نزلت في الأخنس بن شريق وهذا الرجل سمي الأخنس، يعني لقبه؛ لأنه خنس مع المشركين، وخاف، فلم يذهب لقتال المسلمين. ترك قتال المسلمين لا رغبة في ترك قتالهم أو خوفاً من الله، ولكن ترك قتالهم جبناً، فسماه المشركون الأخنس؛ لأنه خنس. هذا الرجل لم يسلم. فيروى أن الآيات نزلت فيه؛ لأنه كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيظهر المودة والمحبة. وإذا تولى، ذهب إلى مكان ما، فأحرق لبعض القبائل حرثهم ونسلهم، لكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. العبرة بعموم اللفظ. لكل نموذج بشري على هذه الشاكلة (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا).

الإفساد في الأرض:
هنا أريد أن أقف مع الإفساد. ربنا جل جلاله يوم خلق المخلوقات خلقها صالحة. الطفل لو تُرك، فرضاً، على فطرته، فهو صالح، كما خلقه الله:

{ كل مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ }

(رواه البخاري ومسلم)

نحن خُلقنا على الحنيفية السمحاء. لو فرضنا جدلاً أن طفلاً تُرك دون مؤثرات خارجية، فهو صالح. ربنا عزوجل خلق الماء غير ملوث، الماء نظيف. الفساد يوم أُدخل في الأنابيب. لم يُراعَ بعض شروط التخزين، تلوث الماء. الله عزوجل لما أنزله من السماء أنزله ماءً طهوراً.
النبات خلق صالحاً. لما عبثنا به ببعض الهرمونات، وزدنا النِّسب، صار النبات بشكل جيد، لكن بطعم غير طيب مثلاً. هذا من عبث البشر. هذا إفساد اسمه، وإخراج الشيء عن أصل خلقته.
الآن لا أحد يقول لك في العالم هناك أزمة هواء، تنفس، حتى الآن الحمد لله؛ لأن الهواء متروك على خلق الله عز وجل. فما أحد استطاع حتى الآن أن يسيره في أنابيب، ويعطينا إياه بالفاتورة. فلا أحد يقول هناك أزمة هواء في العالم. التلوث ناتج عن البشر. ليس من أصل الخلق. يعني مثلاً: سيارة مرسيدس 2022، تراها تعجب بصنعتها تماماً، تقول: من صنعها بهذه الإتقان ؟! والله، وراءها مهندسون، وراءها مصممون، وراءها صناعيون، وإداريون. وضع جيد. حسناً هذه السيارة ركبها صاحبها، وأسرع بها في طريق غير صالحة لهذه السرعة، فتدهورت المركبة في الوادي، فأصبحت كتلة من الحديد. لو جاء إنسان وقال: من صنع هذه السيارة بهذا الشكل؟! ما أحد صنعها بهذا الشكل. هي صُنعت بالشكل الأول. الفساد هو الذي صنعه البشر. هذا الذي أريده. طبعاً، الذي يصنع كل شيء الخالق هو الله جل جلاله. لكن القصد، السبب، سبب السيارة هذه لا تحتاج أن نسأل من وراءها. وراءها فساد البشر أدى إلى هذا الحادث، فالفساد هو: أن تحول الشيء عن أصل خلقته. ولو كان في الأصل مفيداً. فإذا وضعته في غير موضعه أفسدته.
كنت أضرب مثالاً: طبخنا أرز منسف، وما انتبهت الخادمة، قالت لها سيدة المنزل: ضعي الملح، فوضعت بدل الملح سكراً. هذا الطعام سوف يلقى في القمامة. لن يؤكل. ولو صنعنا كنافة ولم ننتبه ووضعنا ملحاً، أيضاً تُلقى في القمامة. فالإفساد هو أن تحول الشيء عن أصل خلقته. السكر للكنافة، والملح للطبخ، فإذا وضعت الملح في الحلويات، والسكر في الطبخ أفسدت الاثنين.
الإفساد هو أن تُخرج الشيء عن أصل خلقته
هذا كله مقدمة لما أريد أن أقوله. الإفساد في الأرض هو: أن تُخرج الشيء عن أصل خلقته. يعني، المرأة، أعظم ما يُمارس الآن من إفساد هو إفساد المرأة. سواءً بطريقة مبطنة كما تفعل النسويات اليوم. أو بطريقة ظاهرة كما يفعل أعداء الإسلام. يعني مثلاً: ماذا فعل معك زوجك؟ زوجي تكلم معي البارحة كلمة غير لائقة، وهذا لا ينبغي، طبعاً، ينبغي على الزوج أن يعامل زوجته بما عامل النبي صلى الله عليه وسلم زوجاته. لكن حصل وغضب. لا تجلسي معه ولا لحظة. اتركيه فوراً. لا تسمحي لأحد يهينك. أنت امرأة معززة مكرمة. جميل! حسناً، مديري بالعمل تكلم معي كلاماً غير لائق، وتحرش بي. اصبري قليلاً؛ لأنه رزق يجب ان نصبر. هذا رزقك يجب أن تتعلمي. آه. تمام! إذاً الثورة هي على الزوج، وليس على الرجل. هي على إفساد الأسرة. هذا ما يصنعه الأعداء اليوم. فالمرأة خلقت في الأصل لتكون أولاً بنتاً في البيت. ريحانة أشمها، وعلى الله رزقها، صلى الله عليه وسلم:

{ مَنِ ابْتُلِيَ مِن هذِه البَنَاتِ بشيءٍ كُنَّ له سِتْرًا مِنَ النَّارِ }

(رواه مسلم)

تشجيع على رعاية البنات، تكبر تصبح أختاً. هذه أختك. النبي صلى الله عله وسلم يوم جاءته الشيماء، الشيماء أخته بالرضاع ليس بالنسب. رضع معها من حليمة السعدية يوماً. فلما رآها قام وتهلل لها، وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، حتى لا تجلس على الأرض. وجعل يقول لها: كيف حالك يا أختاه؟ كيف أنت يا أختاه؟ ثم خيّرها بين الإقامة معه، أو اللحاق بقومها. فأرادت اللحاق بقومها. فجهّزها وودّعها، حتى خرج معها حتى أبلغها مأمنها. أخت!
تكبر تصبح أماً في البيت، الجميع يطلب رضاها. زوجة وأم. تكبر تصبح جدةً تجلس في صدر البيت. يدخل الأولاد والأحفاد يقبلون يدها، يقبلون رأسها. تصبح بركة البيت. هكذا خلق الله الفتاة، الأنثى. الإفساد هو: أن يُقال لها: أنتِ حبيسة البيت، يجب أن تخرجي وتخالطي الرجال، وتزاحمي الرجال. أنتِ يجب أن تكون لك شخصيتك المستقلة. ومن قال لك إنه ليس لها شخصيتها المستقلة؟! يجب أن تفعلي أن تتمردي أنتِ لك ما له وعليك ما عليه، ومن قال إن له القِوامة. أفسدوها. لماذا الحجاب؟ أفسدوها. أخرجوها عن خلقها الذي خلقه الله عليها. فالإفساد هو: أن تضع الشيء في غير موضعه أن تُخرج الشيء عن أصل خلقته (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) ولا يرضى به جل جلاله، لكنه يسمح بوقوعه أحياناً؛ لأن الإنسان مخير. أنت لما تخيّر إنساناً يمكن أن يفسد أو أن يصلح. ربنا عزوجل الملائكة لم يخيّرهم.

أصل الإفساد في الأرض:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
(سورة التحريم)

لذلك قال:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
(سورة البقرة)

الإفساد يكون من الإنسان المخيّر غير المنضبط
أول ملاحظة الملائكة خافوا أن يُفسَد في الأرض. (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا). فالإفساد يكون من الإنسان المخيّر غير المنضبط بمنهج الله. يحتاج إلى تخيير دون انضباط، يعني أنت إذا كان ابنك هنا موجوداً، هذا المكان نظيف مرتب جيد، وابنك قلت له: أنت بالخيار، افعل ما تريد، والولد لم يأخذ تربية كافية، سوف يفسد في المكان فوراً، أما إذا أمسكته ومنعته فلن يفسد، إذا ربيته وأطلقت يده لن يفسد، فمتى يكون الإفساد ؟ من كائن مخير غير منضبط بالمنهج، فيفسد في الأرض وهذا الذي يحصل اليوم. بُعد عن منهج الله عزوجل مع خيارات واسعة، إذاً الإفساد (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ).
الحرث يُطلق في القرآن على معنيين: النوع الأول:

أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ. أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (63-64)
(سورة الواقعة)

هو الحرث الذي يكون بعد الزرع، يعني نباتات، والحرث الثاني: هو إنبات الولد.

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
(سورة البقرة)

فالحرث الثاني: هو إنبات الولد، وهذا يهلك الحرث والنسل، سواءً هذا الحرث بإفساد المرأة، أو بإباحة العلاقات الآثمة-العياذ بالله-أو الحرث الذي هو الزرع. اليوم هناك إفساد للزروع لا يُعد ولا يُحصى. اليوم إذا وُضعت هرمونات غير منضبطة غير مرخّصة، يمكن أن تسبب أمراض وبيلة للناس، يهلك الحرث والنسل، لأنه يريد الربح، ولو على حساب صحة الناس قال: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ).

العزة بالله تعالى:

وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُۥ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ(206)
(سورة البقرة)

يوجد عزة بغير الإثم؟ نعم، هذا قيد احترازي، هناك عزة بغير الإثم.

مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُۥ ۚ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُوْلَٰٓئِكَ هُوَ يَبُورُ(10)
(سورة فاطر)

أي عزة بغير الله تعالى هي عزة بالإثم
فالذي يعتز بالله هذه العزة الوحيدة التي بدون إثم، وأي عزة بغير الله تعالى فهي عزة بالإثم، يعني بالمعصية (وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ). لماذا يقال له: اتقِ الله لأنه ظهر على حقيقته، يعني هو يعجبك قوله، لكن أصبح الناس يكثرون من قول: اتق الله له؛ لأنهم رأوا فيه ما يدعو لذلك. والمؤمن إذا قيل له: اتق الله، يقول: سمعاً وطاعة.
قال أحدهم لعمر رضي الله عنه: يا عمر اتق الله، فهبَّ إليه بعض الجالسين، تقول لأمير المؤمنين: اتق له، قال: دعه، والله لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها. وكان يمسك بمن يصاحبه مزاحم، ويقول له: إذا رأيتني قد ضللت الطريق، فخذ بتلابيبي، وقل لي: يا عمر، اتق الله. فإنك يوم القيامة سوف تُسأل. ذكرني بالله.
المؤمن إذا ذُكّر الله تذكر. أما هذا الرجل البعيد المنحرف (وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلْإِثْمِ). بالمعصية لا يريد أن يعود إلى طريق الصواب (فَحَسْبُهُۥ جَهَنَّمُ) أي تكفيه جهنم وكفى بها من عذاب.

من أشكال التعبير القرآني:
(وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ) ما علاقة المهاد بمصير هذا الرجل؟ المهاد هو المُمهد، والطفل يوضع في المهد، ألا نقول "من المهد إلى اللحد"؟! الإنسان يعيش حياته من المهد إلى اللحد. المهد هو سرير الطفل، فكيف بئس المهاد؟ هو ممهد يعني مريح جداً. لماذا شبهه بالمهاد؟ لأن الطفل يوم يكون في مهده تكون إقامته في المهد إجبارية، فلا يستطيع فكاكاً منها، ولكنها بالنسبة له راحة، لكن لما يكون الكافر في جهنم، فهو في مكان يشبه مهد الطفل من حيث إنه لا يستطيع أن يغادره، فهو ملقًى فيه عنوة مجبراً عليه، لكنه لا يشبهه من حيث الراحة، فهو بئس المهاد.
انظر للتعبير القرآني شبهه بمهد الطفل. الطفل مرتاح بالمهاد. هذا بئس المهاد؛ لأنه أخذ من المهاد أنه مربوط لا يستطيع فكاكاً، ولم يأخذ من المهاد راحته، فهذا بئس المهاد له ( فَحَسْبُهُۥ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ ) فهذا نموذج. النموذج الذي يليه.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207 )
(سورة البقرة)

كيف يشري الإنسان نفسه؟ كيف يبيع نفسه لله؟ وكيف يشتري نفسه خلاصاً من عقوبة الله؟ فيشري هنا بمعنى يشتري، وبمعنى يبيع نفسه لله. ويشري بمعنى يشتري نفسه ليخلصها من عذاب الله. وهذه الآية لها سبب نزول نتحدث عنه إن شاء الله في اللقاء القادم. والحمد لله رب العالمين.