• محاضرة في الأردن
  • 2022-08-29
  • عمان
  • الأردن

الجميل والجمال

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يارب العالمين، وبعد:


أشياء لا يحتملها الإيمان:
روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ قالَ رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يَكونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا ونَعْلُهُ حَسَنَةً، قالَ: إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ. }

(رواه مسلم)

حديثنا اليوم حول جزئية من هذا الحديث، وهي الجميل والجمال، لكن قبل أن نبدأ بالجمال وكلُّ النفوس تتوق إلى الجمال، وتحب الجمال، قبل أن نبدأ نشرح قليلاً هذا الحديث لما فيه من فوائد:
(لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ) الذرة: هي النملة الصغيرة، وقيل: هي حبات الغبار في الهواء التي تظهر في ضوء الشمس، صباحاً إذا دخل ضوء الشمس تنظر في ضوء الشمس فتجد ذرات من الغبار، هذه هي الذرة، طبعاً اليوم هناك للذرة مفهوم فيزيائي آخر، لكن نتكلم عن وقت ورود الحديث، فالذرة قالوا: هي النملة الصغيرة أو هي ذرات الغبار التي تظهر في ضوء الشمس، مثقال ذرة من كِبر تمنع دخول الجنة، لماذا؟ يمكن للإنسان أن يأتي الله تعالى بمعاصٍ كثيرة وفي الحديث:

{ ابنَ آدَمَ، إنَّكَ لو لَقيتَني بقُرابِ الأرضِ خَطايا، ثم لَقيتَني لا تُشرِكُ بي شَيئًا، لَقيتُكَ بقُرابِها مَغفِرةً. }

(أخرجه الترمذي)

مثقال ذرة من كبر تمنع من دخول الجنة! سأضرب مثلاً يوضح المقصود: جاءك ضيوف في يومٍ حارٍّ كهذا اليوم، وما عندك ما تقدمه لهم من ضيافة، وما تستطيع أن تخرج لإحضار الضيافة، جاؤوا فجأة، لكن عندك في الثلاجة كيلو من اللبن، أخذته وأضفت له مثله أو مثليه ماءً وحركته بشكل جيد مع قليل من الملح، وقدمته للضيوف، فشرب الضيوف مع القليل من الثلج شراباً لذيذاً وطيباً ومفيداً، اللبن احتمل ثلثيه أو نصفه ماء، لو وضعت معه فقط نقطة واحدة من الكاز لأتلفته، فاحتمل اللبن كلَّ هذا الماء لكنه لم يحتمل نقطة الكاز.
الكبر يتنافى مع الإيمان
فهناك أشياء الإيمان لا يحتملها، يمكن للإنسان أن يخطئ بنظرة، يمكن لإنسان أن يخطئ بكلمة، يمكن لإنسان أن ينام عن صلاة فيذكرها فيستغفر الله ويصليها، هناك معاصٍ كثيرة نسأل الله السلامة وكلنا ذو خطأ، لكن أن يكون في قلبه الكبر فهذا يتنافى مع الإيمان ويفسد العمل كما أفسدت نقطة الكاز كيلو اللبن، لا يحتمل الإيمان كِبراً لأن الإيمان عبودية، الإيمان مطلق العبودية لله:

{ الكبرياءُ ردائي والعظمةُ إزاري فمَن نازَعني واحدًا منهما ألقيتُه في النَّارِ }

(أبو داوود وابن ماجه وأحمد عن أبي هريرة)

مع الإيمان لا يوجد كبر، الكبرياء لله فقط، فلذلك (لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ) المؤمن متواضع، المؤمن لا يحتقر عباد الله، لا يتكبر عليهم، لا يرى لنفسه فضلاً على الآخرين، قد يرى الناس له ذلك الفضل لكن هو لا يراه لنفسه، فقالوا: (إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يَكونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا ونَعْلُهُ حَسَنَةً) ظنَّ بعض الصحابة أو خافوا، وانظر إلى حساسية الصحابة لهذا الموضوع، مباشرة يسألون لعل ذلك كبر، إذا كان كبراً نخرج من قلوبنا حب الثياب الحسنة، وحب النعل الحسنة، نخرجه لأن هناك جنة في المقابل (إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يَكونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا ونَعْلُهُ حَسَنَةً، قالَ: إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ) أبداً ليس هذا هو المعنى، ليس متكبراً من يلبس ثياباً نظيفة وربما مكوية، وربما من نوع فاخر يحب أن يلبسها في مناسبة ما، نعله حسنة يحب أن يرتاح بها، أن يسير بها مسافة طويلة دون أن تزعجه، والله قد وسَّع عليه في رزقه، فأراد أن يوسع على نفسه وعلى عياله فقال: (إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يَكونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا ونَعْلُهُ حَسَنَةً، قالَ:إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ) وهذه سنعود إليها قال: (الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاس) بطر الحق أي رفض الحق.

الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاس:
الكبر له قسمان: القسم الأول: بطر الحق، والثاني: غمط الناس.
بطر الحق: أن ترفض الحق، يقول لك أحدهم: كيف تفعل ذلك؟ ألم تقرأ قوله تعالى :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا (12)
(سورة الحجرات)

وأنت تتجسس على الناس مثلاً! فيرد الحق، لا أريد أن أسمع ذلك، تأتي بآية بحديث فيقول: هذا لغير الزمن الذي نحن فيه، يرد الحق، لا يقبل الحق:

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
(سورة البقرة)

أعظم الكبر أن يرفض الإنسان الحق
هذا من الكبر، أعظم الكبر أن يرفض الإنسان الحق فلا يستجيب له، تأمره بالصلاة فلا يأتمر، تنهاه عن الغيبة فلا ينتهي، تأمره بالطاعة فلا يفعل، تنهاه عن المعصية فيفعل، هذا بطر الحق، رد الحق، قد يقبل الإنسان الحق ثم يزيغ عنه فيستغفر الله، لكن أن يرفض الحق هذا كبر، لكن يقبله ويقول أنا مقصر وأسال الله أن يغفر لي هذا حاله أهون بألف مرة ممن يرفض الحق ابتداء، لا يريد الحق، فقال: (الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ) هذا أولاً (وغَمْطُ النَّاسِ) أي احتقارهم، فلان لا يفهم، وفلان أيضاً لا يفهم، ومن الذي يفهم؟ هو فقط، يغمط الناس، فلان عنده شهادة، وماذا تنفع الشهادة؟ فلان عنده خبرة وما معه شهادة، ماذا تنفع الخبرة؟ لا شيء ينفع، يحتقر الناس جميعاً، ويرى نفسه صاحب الفضل الأول، ولا قيمة للناس عنده، المؤمن يجلُّ جميع المؤمنين، سيدنا عمر رضي الله عنه قال: أصابت امرأة وأخطأ عمر.

{ رُبَّ أشعثَ أغبرَ ذي طِمرينِ لا يؤبَه لَه لو أقسمَ على اللَّهِ لأبرَّهُ }

(أخرجه الطبراني بسند حسن)

{ رُبَّ أشْعَثَ مَدْفُوعٍ بالأبْوابِ، لو أقْسَمَ علَى اللهِ لأَبَرَّهُ. }

(مسلم عن أبي هريرة)

لو قال: أقسم عليك يا الله أن تنجيني من هذه الكربة لأبره الله وأعطاه ما أراد، وأنت تراه ربما تقول: من هذا؟ المؤمن لا يحتقر أحداً، حتى العاصون لا يحتقرهم المؤمن بمعنى الاحتقار، يحتقر عملهم، يحتقر إفسادهم، يحتقر نهجهم في الحياة، ولكن لا يحتقرهم لشخصهم، بعد ساعة إن تاب يصبح أقرب الناس إليك، أحياناً يكون من المغنين أو المفسدين إنسان بعيد عن الله عز وجل، فأنت ليس لديك به أي صلة بلحظة معينة يعلن توبته ويصبح أخاً لك في الله، إذاً أنت ما كنت تحتقره لشخصه، لذلك شعيب عليه السلام ماذا قال:

قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ (168)
(سورة الشعراء)

يعني الكارهين، ما قال: وإني لكم من الكارهين، إذا كنت تكرهنا فلن نستجيب لك أبداً، قال أنا أكره أعمالكم، أنا لا أكره أشخاصكم، عمير بن وهب الجمحي كان جالساً بفناء الكعبة مع صفوان بن أمية، ويقول عمير لصفوان: لولا ديون ركبتني، وأولاد أخشى عليهم الضياع من بعدي لذهبت إلى محمد فقتلته وأرحتكم، انتهز الفرصة صفوان بن أمية، كان رجلاً ذكياً لكنه ذكي في الباطل، قال له: أولادك أولادي ما امتدت بي الحياة، وديونك عليّ بلغت ما بلغت، فاذهب إلى محمد فاقتله، وأرحنا منه، وهذا بعد غزوة بدر، عمير بن وهب سقى سيفه سُمّاً وذهب إلى المدينة فلما اقترب من المدينة رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخذه من تلابيبه وأمسك سيفه وأدخله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: أطلقه ياعمر فأطلقه، قال: ما جاء بك؟ قال له: عم صباحاً، فقال له صلى الله عليه وسلم: لقد أبدلنا الله بتحية خير من تحيتك، فقال: ما أنت ببعيد عهد عن تحيتنا يا محمد، يعني أنت منا وفينا، من سنتين فقط كنت تحيي بهذه التحية، قال له: ما الذي جاء بك؟ قال: جئت لأفتدي ابني من الأسر، ابني في بدر أُسِر عندكم وجئت، قال: وما هذه السيف التي في عنقك؟ إذا كنت جئت لافتداء ابنك فلماذا تحمل السيف؟ قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر؟ فقال له: يا عمير، ألم تجلس في فناء الكعبة وتقول لصفوان: والله لولا ديون ركبتني، وأولاد أخشى عليهم العنت من بعدي لذهبت إلى محمد فقتلته، فأرحتكم منه، فتحمل دينك، وتحمل عيالك وجئت لتقتلني؟ فقال: أشهد أنك رسول الله، لأن هذا الذي دار بيني وبين صفوان لا يعلم به أحد إلا الله، وهو الذي أخبرك، فمرني ماذا أفعل؟
موطن الشاهد قول عمر رضي الله عنه: قال: دخل عمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجه الخنزير أحب إلي من وجهه، وخرج من عنده وهو أحب إلي من بعض أولادي.
الرابطة رابطة إيمان
إذاً الرابطة رابطة إيمان، كل الناس تتجمع على عقيدة، لا أحد يتجمع مع الآخرين من غير الأنساب إلا بفكرة، نحن اليوم نجلس في هذا المجلس تجمعنا فكرة، فكرة الإسلام، فكرة دخول الجنة، فكرة أن هذا المجلس سينتقل إلى الملأ الأعلى وسيباهي الله تعالى بنا ويقول انظروا عبادي، فكرة أن هذا المجلس مجلس ذكر تحفه الملائكة، تجمعنا فكرة وإلا ما اجتمعنا، عندما يجتمع التجار مع بعضهم تجمعهم فكرة، فكرة الربح وقد يكون الذي يجلس أمامه لا يحبه كثيراً، لكن يجلس معه من أجل رسالة وهي تحقيق ربح أعلى، كل الناس عندما يتجمعون يتجمعون من أجل مصالح معينة، حتى الكائنات الأخرى مثل قطيع الأغنام عندما يتجمع يتجمع على موارد الكلأ والماء.
نحن تجمعنا العقيدة فما أحد يقول لك أنتم أيها المسلمون متحزبون لبعضكم ، أنتم كلكم متحزبون على بعضكم ضد الإسلام، يفرقكم مئة شيء ولكن تجمعكم عداوة الإسلام، فلماذا تعيبون علي أن أجتمع مع إخوتي في الله ولله، فالاجتماع دائماً يكون في العقيدة، سيدنا عمر بن الخطاب عندما انتقل هذا الرجل عمير من الكفر إلى الإيمان بلحظة معينة أصبح أخاه في الإسلام.
فهذا كله من مفهوم غمط الناس، يعني احتقار الناس هو كبر، المؤمن لا يحتقر أحداً من خلق الله، ولكن هو يكرهه لعمله، أو يكره عمله كلاهما صحيح، قد نقول: يكرهه لعمله، أو يكره عمله النتيجة واحدة، فإذا غيّر وبدل أصبح أخاً له في الله.
فقال: (الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاس) لو عدنا إلى الموضوع الذي جئنا من أجله:

إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ:
الستر والعفة هي الجمال
(إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ) الله تعالى من أسمائه الجميل جل جلاله، الجميل (إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ) ومن أسمائه الجميل، (يُحِبُّ الجَمالَ) طبعاً بعض الناس يستخدمون هذا الحديث استخداماً ما أراده الله تعالى، فيبرر بعض معاصيه، إطلاق البصر، وصحبة بعض النساء الكاسيات العاريات، فإذا نهيته وقلت له: اتق الله قال لك: يا أخي (إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ) ، الجمال له مفهوم شرعي، فالمرأة التي تخرج من بيتها شبه عارية هذا ليس جمالاً بالمفهوم الشرعي، فالله لا يحب هذا الجمال لأنه ليس جمالاً، الستر والعفة هي الجمال، الطهر والحياء هو الجمال، الحجاب هو الجمال، الموقف الجميل جمال، المنظر جميل، جمال المرأة لزوجها جمال، الأخت بين إخوتها جمال، المرأة مع محارمها جمال، لكن عندما يكون الشيء محرماً فلا يوصف أصلاً بأنه جميل، فاستدلاله بـ (إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ) الله لا يحب المعاصي والآثام، ولا يأمر بالفحشاء جل جلاله، فمن الافتراء على الله كذباً أن يُستخدم (إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ) لاقتراف المعاصي والآثام، أما (إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ) الثوب الحسن جمال، والنعل الحسنة جمال كما في الحديث، والموقف جمال، والكلمة جمال:

وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا (53)
(سورة الإسراء)

يعني لو كان هناك كلمتان واحدة حسنة، والآخرى أحسن فاترك الحسنة وخذ الأحسن:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
(سورة النحل)

اختر دائماً الأحسن وليس الحسن فحسب، فالموقف جمال، والكلمة جمال، النبي صلى الله عليه وسلم يجلس مع عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، أراد أن يقوم لمناجاة ربه، عبادة، هل منا أحد وأنا معكم إذا أراد أن يقوم للصلاة يستأذن زوجته؟ يريد أن يصلي فهل يحتاج لإذن! طبعاً هو أراد أن يصلي النفل في الليل صلاة الليل، وزوجته قد تكون تحب أن يكون بجانبها، وهي ليلة من لياليها لأنها امرأة من عدة نساء فهنا كان لا بد من الاستئذان هذا جمال الموقف، قال لها: يا عائشة تأذنين لي أتعبد لربي، الآن السيدة عائشة عندها جوابان لا ثالث لهما، الأول: آذن لك والثاني: لا، لا يوجد غيرهما، لو قالت له: آذن لك فكأنما جفته، يعني أنت قلتها وأنا أنام، مثلاً، ولو قالت له: لا آذن لك، يريد أن يعبد الله وتمنعيه من أحب الأشياء إليه؟ من يتحمل ذلك؟ السيدة عائشة ما قالت له: آذن لك، ولا قالت: لا آذن لك، قالت: يارسول الله إني أحب قربك، ولكني أؤثر ما يسرك، هذا الجواب جميل: (إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ) هذا الجواب جميل، لا فيه جفاء ولا فيه منع، أحب قربك ولكنني أؤثر ما يسرك، يعني أعطته الإذن بالقيام بكل لطف، في أي مدرسة تعلمت الإتيكيت السيدة عائشة رضي الله عنها؟ بأي دورة التحقت؟ بأي نساء كبار ورجال الأعمال التقت؟ هؤلاء أدبهم ربهم جل جلاله

{ يا عائشةَ ! ذَرِينِي أتعبَّدُ الليلةَ لربِّي قلتُ : واللهِ إنِّي أُحِبُّ قُرْبَكَ ، وأُحِبُّ ما يَسَرُّكَ . قالتْ : فقامَ فتَطَهَّر ، ثُم قامَ يًصلِّي ، قالتْ : فلمْ يَزلْ يَبكِي حتى بلَّ حِجْرَه ، قالتْ : وكانَ جالِسًا فلمْ يَزلْ يبكِي حتى بَلَّ لِحيتَه . قالتْ : ثُم بكَى حتى بلَّ الأرضَ . فجاء بلالُ يُؤْذِنَه بالصَّلاةِ ، فلمَّا رآهُ يبكِي ، قال : يا رسولَ اللهِ ! تبكِي وقدْ غفر اللهُ لكَ ما تقدَّمَ من ذنبِكَ وما تأخَرَّ ؟ قال : أفلا أكونُ عبدًا شكورًا ؟ لقد أُنزِلتْ علىَّ الليلةَ آيةٌ ؛ ويْلٌٌ لِمن قرأَها ولم يتفكرِ فيها : إن في خلق السموات والأرض الآيةُ كلُّها }

(ابن حبان عن عائشة أم المؤمنين)

التربية من الله والتأديب من الله جل جلاله، الإنسان إذا أحسن صلته بالله، والله ليس بحاجة إلى جامعات، أنا لا أنكر الآن دورة العلم والتربية والتعليم، ولكن كان من جداتنا وأنتم جميعاً تعلمون ذلك من المربيات الفاضلات اللواتي لم يلتحقن بمدرسة أصلاً كن يوزعن تربية على مئات الأمهات من اليوم، في أدب التعامل مع الكنة ومع الحماة ومع الابن، ومع الابنة، والتعامل في البيت، والأخلاق الراقية والأجوبة الحسنة، فما تربوا في مدارس ولا جامعات، ولكن التربية تنتقل من بيت إلى بيت، وعندما يكون هناك صلة بالله عز وجل ستجد الأمر مختلفاً.
فالجمال في الموقف والكلمة والسلوك
فالجمال في الموقف، الجمال في الكلمة، الجمال في السلوك، الجمال في الهيئة في المظهر في النظافة، أجمل الثياب ما كان نظيفاً واشتُرِي بمال حلال، وأجمل الجمال جمال المَخبَر لا جمال المظهر فحسب، كم من جميل في المظهر قبيح في المخبر، وكم من قبيح في المظهر في عرف الناس، ولكنه رائع في مخبره.
الأحنف بن قيس كان أحنف الرجلين، ناتئ الوجنتين، صغير العينين، يقول الأدباء: ما من شيء من قُبح المنظر وإلا وهو آخذ منه بنصيب، قال: وكان إذا تكلم اهتز لكلامه مئة ألف سيف من مضر لا يسألونه لمَ قلت ذلك.
لَيسَ الجَمالُ بِأَثوابٍ تُزَيِّنُنا إِنَّ الجَمالَ جَمالُ العَقلِ وَالأَدَبِ
{ علي بن أبي طالب رضي الله عنه }
لكن النبي صلى الله عليه وسلم مع ذلك ما أنكر جمال الثياب ولا جمال النعل بالعكس قال: (إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ) فالإنسان ينظف فناءه، وينظف داره، في بعض البلاد يزعجك كثيراً أن تجد بيوتات غير المسلمين منظفة مرتبة، الشرفة الخارجية ما عليها شيء يزعج الآخرين، ما عليها أغراض مكومة فوق بعضها، وغبار متراكم بالعكس بعض الورود، ثم تجد في بيوتات المسلمين عدم عناية بهذا الأمر، نحن ينبغي أن نعتني بما نراه، وبما يراه الآخرون منا، هناك أشياء أنت لا تراها، ولكن يراها الناس، فمن الجمال أن تنظف لهم ما يرونه: الشرفة، إذا كان يسكن فوقك أحد، السقف القرميد هذا يرونه، فيعني بين الحين والآخر تنظيفه شيء جيد وهكذا.
فالإسلام اعتنى بجمال الظاهر:

{ أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى رجلاً شعثاً قد تفرق شعره فقال: أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره؟ ورأي رجلاً آخر وعليه ثياب وسخة فقال: أما كان هذا يجد ماءً يغسل به ثوبه }

(أبو داود عن جابر بن عبد الله)

النبي صلى الله عليه وسلم التفت لهذا الأمر، لما دفنوا ميتاً بقيت حفرة لم يُحكِم الحفار إغلاقها وتسويتها بالأرض تماماً، فقال صلى الله عليه وسلم: من فعل هذا؟ إن هذه لا تؤذي الميت، الميت دفن وانتهى الأمر، وُضعت البلاطة وانهال التراب، لم يعد هناك أذى للميت، قال: ولكنها تؤذي الحي، الحي سيراها أمامه فسيزعجه، أحكم الإغلاق:

{ إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه. }

(أخرجه الطبراني)

فالجمال متنوع، والمؤمن يحرص على جمال بيته، وجمال داخله، وجمال ظاهره لكن الحرص على جمال المخبر وخلوه من الحقد، من الحسد، من الغيبة، من النميمة، من الحقد على الآخرين، من تمني زوال الخير عن الآخرين، هذا أهم من جمال المظهر، فينبغي أن يعتني الإنسان بجمال المظهر وجمال المخبر، فلو جئتني بكأس كريستال فاخر ثم وضعت بداخله مياهاً آسنة فلن أشربه، ولو جئتني بأطيب شراب ووضعته بكأس ملوث فلن أشربه، فأنا بحاجة إلى ظاهرك وباطنك، إلى مظهرك ومخبرك معك، لكن المخبر دائماً أهم من المظهر بالتأكيد.

في القرآن الكريم أربعة أشياء وصفها الله بأنها جميلة:
في القرآن الكريم وصف الله تعالى أربعة أشياء بأنها جميلة، في القرآن الكريم أربعة أشياء أمر بها بالجمال:

وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ (18)
(سورة يوسف)

جاءت مرتين على لسان يعقوب عليه السلام:

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
(سورة يوسف)

(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ) ووصف الهجران بالجمال فقال:

وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
(سورة المزمل)

ووصف الصفح بالجمال فقال:

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ(85)
(سورة الحجر)

وصف السَّراح بالجمال فقال:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)
(سورة الأحزاب)

وقال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
(سورة الأحزاب)


أولاً: الصبر الجميل:
يكون الصبر جميلاً عندما لا يكون فيه شكوى
كيف يكون الصبر جميلاً؟ عندما لا يكون فيه شكوى، فكم ممن يقول لك أنا صابر ويكثر الشكوى، فكلما زاره شخص شكا له حاله، فالشكوى لغير الله ليست صبراً جميلاً، الصابر صبراً جميلاً لا يشكو أمره إلا إلى الله، فمهما كان حاله يقول: الحمد لله، نعم قد يشكو لبعض المقربين ليأخذ نصيحتهم، أو ليستفيد من خبرتهم، ولكن أن يكثر الشكوى للمؤمن ولغير المؤمن فهذا ليس صبراً جميلاً، وقد قيل: من اشتكى إلى مؤمن فكأنما اشتكى إلى الله، ومن اشتكى إلى كافر فكأنما اشتكى على الله، هو يعرفك مؤمناً بالله، فلما جاءك وهو منحرف لا يصلي وأنت تصلي وقلت له: الحال صعبة والأمور معسرة، وهو بعيد عن الله، قال في نفسه: هذا هو المؤمن أين صلاتك التي كنت تحدثنا عنها؟ ففتنته عن دينك، فكأنما اشتكيت على الله، يعرفك مؤمناً ثم تشتكي له! كأنك تشتكي على ربك والعياذ بالله، أما أخ مؤمن وقريب منك وقلت له: والله الوضع صعب قليلاً، أريد نصيحتك ماذا أفعل؟ أوسع أم أضيق العمل؟ آخذ قرضاً أم لا آخذ؟ طبعاً قرض بلا فائدة، أم أكتفي بما عندي دون أن أوسّع وهكذا، قال فكأنما اشتكى إلى الله لأن المؤمن يساعدك، وينهض بك إلى الله، أما غير المؤمن فيستغلها فرصة ليُفتن عن دينه ودينك.
فالصبر الجميل صبر بلا شكوى.

ثانياً: الهجر الجميل:
الهجر الجميل: هجر بلا أذى، في الأصل:

{ لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ، يَلْتَقِيانِ؛ فَيَصُدُّ هذا، ويَصُدُّ هذا، وخَيْرُهُما الذي يَبْدَأُ بالسَّلامِ. }

(البخاري عن أبي أيوب الأنصاري)

في الأصل لا يوجد هجر بين المؤمنين
في الأصل لا يوجد هجر بين المؤمنين، أخي المؤمن لا أهجره، صار هناك خلاف مالي، فكرة، وجهة نظر، سياسة اقتصاد لا يوجد هجر، قد نختلف ولكن لا يهجر بعضنا بعضاً، لن أتكلم معه طيلة حياتي، أنا منذ سنة لم أكلم فلاناً، لا، أعطاك الشرع ثلاثة أيام لا تتصل به، ثم (خَيْرُهُما الذي يَبْدَأُ بالسَّلامِ) تقول لي هناك مؤمن لكن يلحقنا أذى منه، نزوره في البيت، فيوقع الأذى بين العائلتين، لا، هذا أمر آخر، هذا صار مسلماً بالاسم لكن لم يعد أخاً، فيمكن أن أخفف علاقتي به، وإن كان هناك سوء شديد أن أقطعها هذا أمر آخر، هناك ضرر يلحق بي من هذه العلاقة، لكن حتى عندما يهجر الإنسان هذا الشخص، أو يهجر حتى الكفار غير المسلمين، قال: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) (وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ) يقولون شاعر، مجنون، معلَّم ساحر، مسحور، جمعت الصفات قبل أيام، عشر صفات تكلموا بها في حق النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) يعني بلا أذى لعله يعود يوماً، أما إذا آذيته فلن يعود، فالهجر ينبغي أن يكون جميلاً بلا أذى، اضطرتك الظروف فانقطعت السبل بينك وبين إنسان معين، هجرته التقى بك إنسان، خير؟ علاقتك مع فلان، والله ربنا عز وجل ما قدر استمرار العلاقة، قطعتها ما أتكلم عنه بالسوء، إلا في حالة نادرة يكون أذاه يلحق بالآخرين، هذا محذّر صار، يُحذَّر منه الناس، أو مجاهر بالمعصية، أما بشكل عام حدث خلاف مالي بيني وبينه فاتخذ موقفاً، واتخذت موقفاً فاضطررنا لعدم التواصل (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) بلا أذى، لا تؤذِه.

ثالثاً: الصفح الجميل:
الصفح: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) الصفح الجميل بلا عتاب، صفحَ عنه: أعطاه صفحة وجهه، أحياناً هناك إنسان يتتبع العورات، عكس الصفح، رأى إنساناً جالساً في مكان لا يرضي الله، الرجل يحضر بالمسجد أحياناً لكنه ليس ملتزماً 100%، كان جالساً بمكان ليس لائقاً بالمؤمن أن يجلس به، مررت بالشارع رأيته فاصفح، أعطه صفحة وجهك وكأنك لم ترَه، هناك إنسان يبحلق بالعينين به، رأيتك، من منا معصوم؟ (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) لكن الصفح الجميل بلا عتاب، يعني إذا صار مشكلة بينك وبينه، ثم قلت له: أنا سامحتك وبعد أسبوع رأيته: تتذكر المشكلة أنا سامحتك، لكن بصراحة أنا منزعج إلى الآن ولكن قد سامحتك، حسناً صفحت وصفحت، فاصفح الصفح الجميل، الصفح ليس بعده عتاب.

رابعاَ: السراح الجميل:
(فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) إنسان ما استقامت الحياة بينه وبين زوجته صار الطلاق، من ألفاظ الطلاق: السراح، سرّحها: تركها وشأنها، السراح ينبغي أن يكون جميلاً، فلا يذكرها بسوء بعد طلاقها، والله المرأة صالحة، ما علمت عليها من سوء، لكن نحن ما وفق الله بيننا، نقطة انتهى، يوجد أولاد، الأولاد يتمزقون إذا كان الطلاق ليس جميلاً، أما إذا كان جميلاً تنخفض المشكلة إلى العُشر والله، إذا وجدوا أن والدهم ووالدتهم لا يزالون على تواصل من أجل تربية الأولاد، لا يسمع من أمه كلاماً على أبيه ولا العكس، لا يزور أهل أبيه فيحدثونه عن أمه، ولا أهل أمه فيحدثونه عن أبيه، وعن ضلاله، وعن أفعاله، فيكون السراح جميلاً فينشأ الأولاد ببيئة أفضل بكثير من أن يكون السراح غير جميل (وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا).
والحمد لله رب العالمين