أوصاف المطففين
أوصاف المطففين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يارب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، وبعد: |
في الجزء الثلاثين من كتاب الله تعالى، تطالعنا سورة ورد أنها من أوائل ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة، تعلمون أن معظم الآيات المكية تتناول تثبيت الإيمان في النفوس: التوحيد، العقيدة، الجنة، النار، معظم الآيات المكية ليس فيها أوامر ونواهٍ، فيها تثبيت الإيمان في القلوب، بينما جاءت الأوامر والنواهي في المدينة بعد تشكيل النفوس تشكيلاً صحيحاً، فهذه السورة سورة المطففين وردت بين سور مكية، تتحدث عن مظاهر الجنة والنار، واليوم الآخر، وتتوعد بوعيد شديد لفئة من الناس هي فئة المطففين: |
وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ(1)الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)(سورة المطففين)
فهذه الآيات تعود إلى الحديث عن الوقوف بين يدي الله تعالى وتذكر به، لكنها تُفتتَح بالويل، والويل: هو العذاب والهلاك والشقاء، وعيد شديد للمطففين. |
معنى التطفيف:
ما هو التطفيف؟ أولاً: المطففون جمع للمفرد: مطفف، والمطفف: اسم فاعل من طفف، طفَّف فهو مطفِّف، مثل: علَّم فهو معلِّم، ما معنى يطفف؟ |
التطفيف: نقص يخون به غيره في كيل أو وزن أو غير ذلك، نقص يخون به غيره يعطيه بدل 1000 غرام 990 غراماً ويبيعه على أنه كيلو كامل، هذا تطفيف، فهو نقص في كيل أو وزن يخون به المطفِّف غيره، إذا وسعنا مفهوم التطفيف، طبعاً الكيل أو الوزن هي ما تُعورف عليه في ذلك الزمن، ومثلها الذرع، الكيل للمكيلات، مثل الحليب يُكال كيلاً، والوزن مثل الحبوب مثلاَ توزن بالوزن بكفتي الميزان، والذرع هو القياس متر قماش، فمثلاً إذا أراد أن يبيع متر القماش يشده عن آخره على المتر، فإذا أراد أن يشتري يقول له: أرخِ يدك قليلاً يأخذ عشرة سم زيادة، هذا تطفيف (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) إذا كان الكيل له يستوفيه كاملاً، انتبه، حقي( وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) ينقصون الوزن، إذا كان يكيل لغيره أو يزن لغيره أو يذرع لغيره يُنقِص، هذا تطفيف. |
المطفف لا يؤدي حقوق الآخرين كما ينبغي
|
عن سيدنا عمر رضي الله عنه، انصرف يوماً سيدنا عمر من صلاة العصر، خرج من صلاة العصر من المسجد، فلقي رجلاً لم يشهد العصر، رجل الآن يجول في السوق ما دخل للعصر، فقال له: لمَ لم تشهد العصر معنا؟ |
{ عن مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب انصرف من صلاة العصر فلقي رجلاً لم يشهد العصر فقال عمر: "ما حبسك عن صلاة العصر؟ " فذكر له الرجل عذراً، فقال عمر: "طففت" }
(مسند الإمام مالك)
فذكر له عذراً، يعني عذراً غير مقبول، تعلل بشيء، فقال له عمر رضي الله عنه: طففت، لم تعطِ الحق الذي عليك في أداء صلاة العصر في وقتها، طففت. |
الأثر الثاني: |
وكان الإمام مالك رضي الله عنه إمام دار الهجرة يقول: يقال لكل شيء وفاء وتطفيف، لكل شيء وفاء توفيه كما ينبغي، أو تطفيف تُنقِص منه. |
{ قال يحيى: قال مالك: "ويقال: لكل شيء وفاء وتطفيف" }
(مسند الإمام مالك)
فمن هذين الأثرين استنبطت أن التطفيف يكون في كل شيء وأن هذه الآية (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) يجب أن تكون حاضرة في أذهاننا في كل لحظة فليس التطفيف فقط في الوزن والكيل والذرع، بل هناك تطفيف أشد في العلاقات، وسأضرب الأمثلة على ذلك: |
كيف يطفف المعلم؟
المعلم: المعلم في صفه قد يطفف في الوقت، تبدأ الحصة والطلاب لهم عنده أربعون دقيقة مقررة، أول خمس دقائق يبقى في غرفة المدرسين، وقبل أن يُقرَع الجرس بخمس دقائق يخرج، مطفف، وقد يطفف في المادة، المقرر عشرة دروس في هذا الفصل، وليس له عذر أُعطِي الوقت الكافي الكامل، لكنه أضاع حصصاً بغير مبرر، فأعطى ثمانية دروس وأنقص على الطلاب درسين، هذا تطفيف، أعطى الواجب للطلاب ثم لم يصحح الواجبات، والمطلوب منه أن يصحح، تطفيف، في نهاية الشهر يذهب ويريد راتبه كاملاً، الآن قد يقول لك: الراتب لا يكفي، أنت اخترت هذه المهنة التي راتبها لا يكفي، ما دمت قد قبلت يجب أن تعطي الحق، الراتب لا يكفي هذه مسؤولية الدولة وليست مسؤولية الطلاب أن تطفف معهم، في نهاية الشهر تأخذ راتبك كاملاً، (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) تطفيف، هذا تطفيف المعلم. |
كيف يطفف الموظف؟
من التطفيف أن تتأخر دون عذر
|
كيف يطفف الرئيس ومدير العمل ؟
الرئيس، مدير العمل، مدير الشركة، أيضاً يطفف، كيف يطفف مدير العمل؟ يقرب ويبعد الموظفين وفق العلاقات الشخصية والقرابات، هذا من جماعتنا، هذا أوصتني به أمي، هذا ابن خالتي، يطفف، يقدم ليس وفق الكفاءة، يرفّع الموظفين ليس وفق الكفاءة، وإنما وفق علاقاته الشخصية، هذا نوع من أنواع التطفيف، قال تعالى في الحديث القدسي: |
{ ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى منه ولم يُعطِه أجرَه. }
(صحيح البخاري عن أبي هريرة)
الإسلام جاء لحرب العبودية
|
{ أعطوا الأجيرَ أجرهُ قبل أن يجفّ عرقهُ ، وأعلمهُ أجرهُ وطرفَي عملهِ }
(البيهقي في سننه عن أبي هريرة وهو ضعيف)
ما قال أعطوا الأجير أجراً، بل أجره: أي الأجر المكافئ لعمله قبل أن يجف عرقه، مباشرة ما دام أدى الذي طُلِب منه أوفِه الحق الذي له، فإن لم تفعل فهذا تطفيف (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) أجلت له، لماذا؟ المال إذا بقي في الحساب البنكي أفضل لشهر أو شهرين، ما يفعله الكثير من الناس أن يبيع على الأمانة ويستلم الثمن، وهو عنده الثمن لكنه يدور في البنك، هذا نوع من أنواع التطفيف، ما دام أدى الذي عليه واتفقت معه طبعاً إلا إذا كان البيع مشروطاً بالأجل هذا شيء آخر، هناك حالات يكون البيع مشروطاً بالأجل، طبيعة الأعمال، لكن ما دام العامل أدى العمل الذي عليه وتملك المال لماذا تؤجل عطاءه؟ موضوع المبيعات التي تحتاج إلى تأجيل معروف أن الاستلام دائماً خلال ثلاثة أشهر..إلخ هذا أمر آخر لا علاقة له بموضوعنا، لكن أتحدث عن الأجير عن العامل الذي أدى الذي عليه ثم يؤجَّل عطاؤه بغير سبب، هذا نوع من أنواع التطفيف. . |
كيف يطفف المصلي؟
المصلي يطفف، كما قلت لكم: سيدنا عمر رضي الله عنه قال للرجل لقد طففت، الذي يتم ركوع صلاته ولا يتم سجودها مطفف، هذه حقوق عليك، حقوق عليك، أنت تطلب من الله يارب الجنان، الفردوس الأعلى من الجنة، تريد حقك كاملاً، هو ليس حقاً، ليس لأحد حق على الله، لكن يعتبره حقاً له فإذا طولب بالواجبات لم يؤدِّها كما ينبغي، يسيء صلاته، يتم ركوعها ولا يتم سجودها، ينقرها كنقر الدّيَكة، تطفيف، هذا تطفيف بالصلاة بالعبادة، يسرق من صلاته. |
كيف يطفف المستشار؟
المستشار يطفف، قال صلى الله عليه وسلم: |
{ المستشارُ مؤتَمنٌ }
(صحيح الترمذي عن أبي هريرة)
فإذا استشارك إنسان فلا تعطِه نصف الحقيقة وتخفي النصف الآخر، وفِّه المشورة كاملة كما تحب إذا استشارك إنسان، تقول: والله أنا قلت له العمل هذا فيه إشكال لكن أنا أعلم أنه خاسر، لكن دعه فليجرب، لا، لا تدعه فليجرب، هو يستشيرك (المستشارُ مؤتَمنٌ) قل له هذا العمل فيه إشكال ستخسر، لا تدخل به، أحِبَّ له ما تحب لنفسك وإلا فهذا من التطفيف، (المستشارُ مؤتَمنٌ). |
كيف يطفف البائع والمشتري؟
البائع يطفف بكتم العيوب
|
البائع يطفف حينما يبيع شيئاً ناقصاً أو يكتم عيباً، أو يضع في الميزان كيساً ثقيلاً جداً، وزنه مئة غرام ويقول هذا كيلو، لا، هذا ليس كيلو، هذا 900 غراماً والكيس، الكيس المتعارف عليه معروف أما أنت الكيس الذي وضعته كبرته، هذا أخذ وزناً كثيراً لا تطفف. |
والمشتري قد يطفف أحياناً على البائع، بائع بسيط يبيع فقال له: كيلو فيقول له ضع هذه أيضاً لن يحدث شيء، إذا وضعها من نفسه وزاد فهذا كرم وإن لم يضعها فأنت خذ الوزن الذي عنده، فالتطفيف قد يكون من البائع وقد يكون من المشتري، ويقول صلى الله عليه وسلم: |
{ رحم اللهُ عبدًا سمحًا إذا باعَ ، سَمحًا إذا اشتَرى ، سَمحًا إذا قضَى، سَمحًا إذا اقتضى }
(أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله)
السماحة في البيع والشراء والقضاء والاقتضاء مطلوبة، الله تعالى يقول: |
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)(سورة النحل)
الإحسان مرتبة فوق العدل
|
اليوم كنت في لقاء على الإذاعة الأردنية فقال لي المحاور: كيف يستطيع الإنسان أن يحل المشكلة بالإحسان؟ كيف تدفعه أنت إلى أن يتنازل عن حقه، لماذا لا يتنازل الطرف الآخر؟ فقلت: والله يا أخي ما من إنسان في الأرض يعمل شيئاً بلا مقابل، قال: هكذا؟ قلت: نعم، ولا تصدق إنساناً يقول لك فعلتها بلا مقابل، قال: كيف؟ قلت: الذي يفعل بلا مقابل ينتظر مقابلاً أعظم من الذي كنت ستعطيه إياه، وإلا لمَا فعل، قد ينتظر سمعة في الأرض، ممكن أن يقال فلان ما شاء الله بالجلسة يعني تاجر مهم جداً وسامح بالأخير، فيحبه الناس ويثنون على تجارته، ممكن لكن المؤمن عندما يسامح ويعفو لا يفعل ذلك من غير مقابل، لكن المقابل الذي ينتظره عظيم جداً في مقابل الدريهمات التي بقيت له عندك، وتلوت له قوله تعالى: |
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)(سورة الإنسان)
ليس لا نريد جزاء ولا شكورا، لا نريد منكم، نريد لكن ليس منكم، (لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً) يعني مكافأة ولا كلمة شكر حتى، لا أريد منك كلمة شكراً، ولا تجازِني وتعطني، ثم تأتي الآيات متتالية في فضل هؤلاء، إلى أن يقول تعالى: |
إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا (22)(سورة الإنسان)
فجاء الجزاء وجاء الشكر، لكن جاء من الله وما أعظم الجزاء والشكر عندما يكونان من الله، فعندها العبد لا يأبه بالجزاء من البشر ولا الشكر من البشر، فالإنسان لا يعمل شيئاً بلا مقابل، ولكن إما أن يبتغي مقابلاً آنياً سريعاً بسيطاً، أو أن يدخر ذلك لمقابل عظيم مستمر، والعاقل من ينتظر الأمر العظيم المستمر، هذا من السماحة في البيع والشراء، والسماحة من الإحسان والله تعالى يأمر بالعدل والإحسان، فالعدل أن يُعطَى كل ذي حق حقه والإحسان أن يتنازل صاحب الحق عن حقه أو عن بعض حقه إنهاء للمشكلة وحسماً للخلاف، والعدل والإحسان مطلوبان، فإما أن يقوم العدل، وإما أن يقوم الإحسان مكانه، بل قال البعض إن الإحسان هو عدل ولكنه في أعلى مراتب العدل، يعني مرتبة عالية من العدل. |
كيف يطفف الزوج مع زوجته والعكس ؟
من التطفيف في العلاقات الزوجية تطفيف الزوج مع زوجته والعكس، كيف يطفف الزوج مع زوجته؟ يطالبها بكل ما له من حقوق، بل يحصر لها كل ما جاء من أحاديث في طاعة الزوج، ألم تسمعي ما قال الشيخ؟ ويعد لها أحاديث طاعة الزوج، ثم إذا جاءت حقوقها لم يعطِها حقها كاملاً إما في الحسنى في المعاشرة، في الكلمة الطيبة، في الشكر على الصنيع، فهو يتقن حقوق الزوج ولكنه لم يسمع عن حقوق الزوجة شيئاً، قال تعالى: |
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)(سورة البقرة)
الزوجان متساويان في الحقوق
|
( الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) لا يقبل شيئاً ناقصاً له (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) هذا تطفيف، فالزوج الذي لا يعطي زوجته حقوقها ويريد حقوقه مطفف. |
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ (34)(سورة النساء)
وأنت معززة مكرمة، فإذا جاء عمل البيت أما سمعت الشيخ الفلاني على التلفاز قال: المرأة غير مسؤولة عن عمل البيت، غير مكلفة بأعمال البيت، وإذا أرادت خادمة ينبغي أن تأتي لها بخادمة، وذكر لنا شيئاً من كتب الفقه، وإن كان في كتب الفقه، أنت لماذا تطالبين زوجك بأن يأتي لك بكل ما تحتاجين ويذهب ويعمل طيلة النهار، ثم أليس من حقه أن يأتي مساء فيجد بيته مرتباً، وأولاده قد كتبوا واجباتهم، وقد ناموا في الوقت المناسب للاستيقاظ المبكر وهكذا؟ أنت تطالبين بالحقوق فلماذا لا تأتين بالواجبات؟ فهذا أيضاً نوع من أنواع التطفيف، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر من تطفيف المرأة أنهن يكفرن العشير ويكفرن الإحسان: |
{ أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أكْثَرُ أهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ قيلَ: أيَكْفُرْنَ باللَّهِ؟ قالَ: يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، ويَكْفُرْنَ الإحْسَانَ، لو أحْسَنْتَ إلى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شيئًا، قالَتْ: ما رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ. }
(صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس)
والعياذ بالله، وهذا وإن كان قد ورد في النساء لكن كثير من الناس يطففون في هذا الجانب، عنده موظف مثابر، خدوم، معتنٍ جداً بالمعمل، إذا غاب وكأنه موجود، أمين ...إلخ، ثم جاءه عارض فغاب يوماً أو يومين، فيأتي فيقول له: أنت مقصر وأنت وأنت وأنا لم أجد منك شيئاً يعجبني في هذا العمل، يكسر قلبه، هذا تطفيف، الرجل أعطاك عمره، بقي عندك عشر سنوات، يعمل، أمين، الآن أخطأ بخطأ فلا تلغِ له عمله السابق، النبي صلى الله عليه وسلم، سمع جلبة في المسجد: |
{ أنَّهُ دخلَ المسجدَ والنَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ راكعٌ فرَكَعَ دونَ الصَّفِّ ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ زادَكَ اللَّهُ حرصًا ولا تَعُدْ }
(صحيح النسائي عن أبي بكرة نفيع بن الحارث)
ما طفف صلى الله عليه وسلم، حاشاه، أعطاه إيجابياته في أن هذا الركض لم يكن من أجل دنيا، كان من أجل أن يدرك الركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو حرص منه فدعا له: (زادَكَ اللَّهُ حرصًا) على الطاعة والخير (ولا تَعُدْ) لذلك مرة ثانية، إما أن تبكر أو إن تأخرت لعذر قال: |
{ بيْنَما نَحْنُ نُصَلِّي مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: ما شَأْنُكُمْ؟ قالوا: اسْتَعْجَلْنَا إلى الصَّلَاةِ؟ قَالَ: فلا تَفْعَلُوا إذَا أتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَعلَيْكُم بالسَّكِينَةِ، فَما أدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فَاتَكُمْ فأتِمُّوا. }
(صحيح البخاري عن أبي قتادة الحارث بن ربعي)
فلم يطفف صلى الله عليه وسلم، أعطاه حقه، بالكلمة إخواننا الأحباب يوجد تطفيف، بالكلمة، حينما يعمم الإنسان فهو يطفف، يقول في مجلس ما: كل أصحاب هذه المهنة محتالون، هذا تطفيف، أو يقول لإنسان أنت دائماً تفعل ذلك، وهو فعلها مرة أو مرتين، يعمم الأحكام، يعمم ويطلق أحكامه، هذا تطفيف. |
إخواننا الكرام، والله أنا كنت أفكر في هذه الآية من أيام (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) ما وجدت شيئاً لا ينطبق عليه التطفيف، كل شيء في حياتنا، في الكلمة، في القول، في الفعل، يطفف الناس به، فإذا كان التطفيف في عشر غرامات في الكيل، في الوزن، أو جزء من ليتر، ميليات في الليتر فقال: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) ، فكيف بمن يطفف في علاقاته، ومن يطفف في كلامه، ومن يطفف في واجباته وحقوق الناس عليه، فأيضاً هذا من التطفيف، الزوج مع زوجته، والزوجة مع زوجها. |
كيف يطفف الآباء مع أبنائهم وبالعكس ؟
من التطفيف تطفيف الآباء مع الأبناء، الأب يطفف مع ابنه، كيف؟ يقول له: واجب عليك أن تبرّني، ويعطيه عشرة بنود للبر إياك أن تنقص واحداً منها، لكنه لا يعطيه وقتاً للتربية أو للتعليم، لا يعطيه حقه وافياً من البيئة الآمنة، ربما في بعض الأحيان يقول له: اذهب واعمل وهو في سن ليس مكلفاً بالعمل، هذا سن الدراسة في الصف الخامس والسادس، فيريد من ابنه أن يبرّه، وهو لا يبر ابنه، وكثير من عقوق الأبناء سببه عقوق الآباء، ويروى أن رجلاً شكا إلى الخليفة عقوق ابنه فجاء بالابن فقال له: يا أمير المؤمنين لقد عقني قبل أن أعقه، لم يختر لي أمي، اختار امرأة غير صالحة للتربية، ثم سماني جُعلا، سماه اسم حشرة من الحشرات، لم يحسن اسمي، ثم لم يعلمني القرآن. |
هذا الأب مطفف تطفيفاً عظيم، لأنه يريد منه أن يبره وهو لا يبر ابنه، والأعظم منه والأكثر صوراً تطفيف الأبناء مع الآباء، فيريد من أبيه أن ينفق عليه، وأن يطعمه، وأن يعطيه حقوقه، وأن يسجله بأحسن المدارس وأن وأن...إلخ، ثم الابن لا تجده يؤدي حق والده عليه من البر والصلة أو حتى من الدراسة، أو حتى من الاجتهاد، فيريد ما له ثم لا يعطي ما عليه. |
كيف يطفف مجلس الأمن ؟
خمسة دول تستطيع أن توقف أي قرار
|
فإذاً أيها الأحباب، العنصرية ليست في العلاقات الدولية فقط، العنصرية موجودة بين الناس الذين يريدون حقوقهم ولا يتساهلون فيها أبداً، ثم إذا اقتضى منهم الواجب أن يؤدوا حق الآخرين امتنعوا عنه أو أدَّوه منقوصاً، إذا امتنع عنه كاملاً هذا أعظم من المطفف، لكن الذي يؤديه ويتساهل فيه هذا هو المطفف، الذي يتساهل في واجباته، ويشتد في طلب حقوقه، يقول لك أنا لا أقبل كلمة جارحة، أنا لا أقبل من إنسان أن يهين كرامتي، حسناً والله شيء جيد وهذا حقك، |
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)(سورة الإسراء)
لا تقبل من أحد أن يهين كرامتك، ولكن أمَا انتبهت إلى نفسك عندما تكلمت بكلمة جارحة أهنت بها هذا الإنسان أو هذا العامل أو هذا الشخص أو هذا الحارس!؟ لماذا لا تقبل أن يهين أحد كرامتك ثم تقبل أن تهين كرامة الآخرين؟ |
التطفيف في الأقوال كثير، التطفيف في الأفعال كثير، التطفيف في العلاقات كثير، التطفيف في الحقوق والواجبات كثير (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ) (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) بعبارة أخرى: إذا كان الحق لهم استوفوه كاملاً غير منقوص، (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) بعبارة عامة: وإذا كان الحق عليهم أو الواجب عليهم فإنهم ينقصون منه ولا يؤدون حق الناس فيه، ولا حق الله فيه. |
(أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ) ما الذي يمنع الإنسان من التطفيف؟ أن يعتقد جازماً أنه مبعوث إلى ربه يوم القيامة، أما لو كان يعتقد أن الدنيا ستنتهي وليس هناك بعْثٌ فهو نِعمَّا يفعل فإنه أخذ أكثر ما يستطيع في أقل مدة ممكنة، هذا ذكاء، عنده سبعون سنة سيعيشها، ولا يوجد غيرهم، وبعدهم موت وانتهينا، إذا الحَقْ بنفسك واجمع ما استطعت قبل أن يأتي ملك الموت ويفوتك كل شيء، لا يمكن أن يمنع الإنسان شيء عن التطفيف إلا قانون رادع يغيب فيحصل التطفيف، أو وازع بأننا سنبعث يوم القيامة (أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ) (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) والعظيم جل جلاله هو الذي يصف هذا اليوم بأنه عظيم، فما عساه يكون؟( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) فالموقف بين يدي الرب جل جلاله وهناك سيحاسب كل مطفف عن تطفيفه، وكل مقصر في حقوقه عن تقصيره، وكل مقصر في واجباته عن تقصيره. |