تعِسَ عبد الدينار والدرهم والخميصة

  • محاضرة في الأردن
  • 2022-11-14
  • عمان
  • الأردن

تعِسَ عبد الدينار والدرهم والخميصة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.


الولاء والبراء:
الناس تعارفوا على التقسيم
وبعد فيا أيها الأخوة الكرام؛ الناسُ كل الناسِ تعارفوا على تقسيمات وتصنيفات يُقَسمون بها البشر وفق تقسيمات معينة، يمكن مثلاً في بعض البلدان يقولون: فلان مدني من المدينة، فلان ريفي، ممكن، في بعض البلاد فلان من العاصمة، فلان من خارج العاصمة، أحياناً يوجد تطرف أكثر بالعنصرية، فلان من داخل السور، أو من خارج السور، أي الخانة واحد غير الخانة ثلاثمئة، الناس تعارفوا على التقسيم، بالأعراق العرق الآسيوي، العرق الآري، باللون حتى الآن في الولايات المتحدة الأمريكية يوجد أسود، ويوجد أبيض، شئنا أم أبينا، يدّعون الديمقراطية، يوجد شيء اسمه أسود، وشيء اسمه أبيض، فالناس تعارفوا على تقسيمات تعتمد على الأعراق، أحياناً على الطوائف، أحياناً على الدين، أحياناً على الانتماء، أحياناً على الحزبية، إلى آخره.
لكن الله تعالى جلّ جلاله في قرآنه، والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته ما اعتمد كل مقاييس البشر، لا تكاد تجد شيئاً متعلقاً بتفضيل عربي على أعجمي، أو من هذا العرق على هذا العرق، أو من لون على لون.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[ سورة الحجرات ]

لكنه إذا قسم الناس فيقسمهم وفق تقسيمين، قسمة ثنائية دائماً لا ثالث لها، فيقول مثلاً أما الذين آمنوا، وأما الذين كفروا.

فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)
[ سورة الليل]

يقسمهم دائماً بقسمة يمكن أن تدرج بها كل البشر مباشرة بلحظة واحدة، بعيداً عن كل الانتماءات الأخرى، فالناس عند الله إما رجل عرف الله، فاستقام على منهجه، وأحسن إلى خلقه، فسعد في الدنيا والآخرة، أو رجل غفل عن الله فانحرف عن منهجه، أساء إلى خلقه فشقي في الدنيا والآخرة، ولا ثالث لهؤلاء، هذه التقسيمات الإلهية، كلما ارتقى الإنسان بسلم الإيمان يعتمد التصنيف الإلهي، فمهما كان الإنسان ليس من مدينته أو أو إلى آخره لكنه مؤمن فإنه أخوه:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
[ سورة الحجرات]

ويتبرأ من عدو الله كائناً من كان، ولو كان من بني جلدته، يتبرأ منه لا يعني أنه يقاتله، أو يقف في وجهه، لكنه لا يواليه، بمعنى أنه يسايره على خطئه، أو يقف معه لمصلحة، أو لتجارة، أو لشيء، وإنما ولاؤه للمؤمن، وبراؤه من غير المؤمن، كل البشر في الأرض من آدم إلى يوم القيامة يوالون ويتبرؤون، ولا يستحون بذلك، إلا بعض المسلمين في هذا العصر يستحون من قضية الولاء والبراء، أن أخي هذا فيه طائفية، وكل هذه العنصرية في الأرض والطائفية ما رأيتها؟! يا أخي من حقي أنا أن أوالي من يوالي الله، وأن أعادي من يعادي الله، أن أوالي من يحسن إلى خلق الله، وأن أعادي من يسيء إلى خلق الله، أنا عندي مقياس كما أنت عندك مقياس غير موضوعي، أنا مقياسي إلهي وموضوعي.

مطلق التعاسة:
هذه مقدمة لموضوع هذا اللقاء، وهو حديث شريف في صحيح البخاري رواه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه فقال قال صلى الله عليه وسلم:

{ عن أبي هريرة: تَعِسَ عبدُ الدِّينار، وعبدُ الدِّرهم، وعَبْدُ الخميصة، إن أُعْطِيَ رَضِيَ، وإن لم يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيكَ فلا انْتُقِشَ، طوبى لعبد آخذ بعِنان فرسه في سبيل الله، أشْعَثَ رأسُه، مُغْبَرَّة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقَة كان في الساقة، إن استأذَن لم يُؤذَن له، وإن شَفَعَ لم يُشَفَّع }

[ أخرجه البخاري ]

هذا الحديث في الصحيح ما معناه؟
أولاً: (تَعِسَ عبدُ الدِّينار، وعبدُ الدِّرهم، وعَبْدُ الخميصة) الدينار الذهبي، والدرهم الفضي، الأموال كلها، بكل ما فيها، السيارة مال، والبيت مال، والزخرفات مال، والموبايل مال، وكله مال، عبر عنه بالدينار والدرهم، خصص شيئاً يعتز به الإنسان اللباس (الخميصة) ثوب من حرير، من خز أسود مربع كان من أجود الأنواع، أشهر ماركة في ذلك الوقت، هذا عبد الدينار، عبد الدرهم، عبد الخميصة، يشمل كل ما يوازي ذلك من متاع الدنيا.
ما معنى العبودية؟ العبودية هي الخضوع المطلق، ومنه الطريق المعبد، تقول: طريق معبدة، لماذا؟ لأنها وطئتها الأقدام حتى أصبحت ذلولاً ممهدة، لم يعد فيها أكمات.
العبادة في الأصل هي الخضوع الكامل
فالعبادة في الأصل هي الخضوع الكامل، ونحن نعبد الله بمعنى أننا نخضع لمنهجه، افعل ولا تفعل، صلِّ أو لا تصلي، هذه العبادة، صم نصوم، لا تكذب لا نكذب، فنحن نعبد الله بمعنى أننا نخضع لمنهجه، نجعل حياتنا وفق منهج الله، كل الناس في الأرض، ولا أبالغ ولا أستثني أحداً يعبدون، لأن الإنسان مبرمج، أو مفطور على أنه يتبع شيئاً، فإن لم يتبع هذا تبعه ذاك، قال تعالى:

فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
[ سورة القصص ]

أي إذا ما استجابوا لك ليس معنى هذا أنهم أصبحوا بمنطقة الفطرية، لا يوجد شيء، لا، هو إذا ما كان صادقاً فهو كاذب، والله أنا لست صادقاً، ولا كاذباً، لا يصح الحال، إما صادق، وإما كاذب، لا يوجد حياد بالمسألة ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ) قطعاً، فأنت هنا في هذه الحياة ستعبد، المؤمن وحده عرف الجهة التي يعبدها، الآخرون يعبدون، يوجد أناس يعبدون الجرذ، أناس يعبدون البقر، أناس يعبد شهوته، يعبد فرجه، مستعد يبيع دينه كله من أجل ليلة والعياذ بالله في معصية الله مع فلانة، يعبد فرجه من دون الله، يوجد أناس يعبد ماله، لا ينفق منه، زكاة المال لا يدفعها، هو عبد المال، أسير له، يبيع دينه من أجله، فهو عبد له، فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا يعبر عن الصنف الأول من البشر، ويبدأ به (تَعِسَ) أي عثر، وسقط على رأسه، أي مبالغة في وصف حاله، هذه تعاسة، مطلق التعاسة أن تترك عبادة الله، وأن تكون عبداً لشهوتك، ما تشتهيه، عبد الهوى.
أحبابنا الكرام؛ الإنسان إما أن تكون الدنيا في يديه فيملكها، أو تكون في قلبه فتملكه، إما أن تكون في يده فيحكمها، أو تكون في قلبه فيحتكم إليها، لا تعني (تَعِسَ عبدُ الدِّينار) أن المؤمن ليس معه دينار، لا أبداً بالعكس.

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلّ خير، احرِصْ على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزْ، وإن أصابك شيء فلا تَقُل: لو أنَّي فعلتُ لكان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَّر الله وما شاءَ فَعَل، فإن ' لو ' تفتحُ عَمَلَ الشيطان }

[ أخرجه مسلم ]

عبادة المال مرفوضة
ومن القوة المال، فلا يعني أبداً ترك المال، لكن عبادة المال هي المرفوضة وليس اقتناء المال، فالدنيا عندما تكون في قلوبنا تملكنا والعياذ بالله، لكن عندما تكون في أيدينا نملكها، فنتحكم بها ولا نحتكم إليها أو تتحكم هي بنا.
قلنا العبادة هي الخضوع للمنهج، العبادة هي الخضوع، طريق معبدة، أي خاضعة مذللة، وطئتها الأقدام، الإنسان ماذا يعني يعبد الدينار؟ أي هو يريد الدينار، من أجله يغضب ربه، من أجله يغتصب أموال الناس، من أجله ربما يرتكب جريمة ليصل به الأمر حتى يأخذ المال، يسرق من أجل المال، يرتشي من أجل المال، إذاً أصبح هو أسيراً له، هذه العبادة، المؤمن كيف يعبد الله؟ لا يرضى أن يصرفه شيء عن طاعة الله فهو عبادة لله تعالى، يقول: هذا القرش حرام لا آخذه، إذاً هو يعبد الله، أما لا يبالي من أين جاء به، إذاً هو يعبد المال ولا يعبد الله.

بطولة الإنسان ليست عند العطاء ولكن عند المنع:
الأمر ليس في العطاء لكن عند المنع
(تَعِسَ عبدُ الدِّينار، وعبدُ الدِّرهم، وعَبْدُ الخميصة- قال -: إن أُعْطِيَ رَضِيَ وإن لم يُعْطَ سَخِطَ) بطولة الإنسان ليست عند العطاء ولكن عند المنع، لا يوجد إنسان يأتيه المال ويسخط، كل الناس يرضون، جاءه المال، وإذا قلت: معظم الناس يشكرون، يقول: الحمد لله الله رزقنا هذه السنة، ولو كان لا يصلي، لكن الحمد لله السنة يوجد رزق، أي من غير أن يشعر يحمد ما تعارف عليه الناس، لكن الأمر ليس في العطاء لكن عند المنع (وإن لم يُعْطَ سَخِطَ)، لذلك:

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
[ سورة الحج ]

فبطولة الإنسان ليست في حالة الصحة، وإنما في المرض، ليست في حالة إقبال الدنيا، ولكن في حالة إدبارها، ليست في حالة الغنى ولكن في حالة الفقر، ليست في حالة الشفاء ولكن في حالة المرض، وهكذا (وإن لم يُعْطَ سَخِطَ) المؤمن إذا أعطي رضي، وإن لم يعطَ رضي، على الحالتين الحمد لله.

{ عن صهيب رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: عَجَبا لأمر المؤمن ! إنَّ أمْرَه كُلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْهُ سَرَّاءُ شكر فكان خيراً له، وإن أصابتْهُ ضرَّاءُ صَبَر، فكان خيراً له }

[ أخرجه مسلم ]


ربط الدين بمنهج الله:
(إن أُعْطِيَ رَضِيَ، وإن لم يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيكَ فلا انْتُقِشَ) تعس وانتكس؛ تعثر وسقط على وجهه، انتكس؛ تراجع على عقبيه، ارتد، كان متقدماً في العبادة جاءه ظرف سيئ جداً جداً.
المال في الدنيا وفق حكمة الله
ما أسباب نزول الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)؟ قال: كان بعض المسلمين الجدد يسلم، فإن أنجبت زوجته غلاماً، وأنتجت خيله قال: هذا دين حسن، وإن لم تنجب غلاماً، ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء، هذا المثل مضحك، لكن هو بطريقة أو أخرى ليس بهذه الحرفية حالة كثير من الناس، هو رابط الإيمان بالمتغيرات، بالحياة، يظن أنني أنا استقمت لماذا لم يأتِ المال؟ استقمت يوجد جنة، المال في الدنيا وفق حكمة الله، قد يعطيك وقد لا يعطيك، يوجد تاجر كل معاملاته حرام، وأعرفه يعمل بالربا، وهو أموره جيدة، وأنا صادق جداً، وأمين جداً، وكنت كذا، لكن أموري ليست على ما يرام، أتعثر، أنت راض أنك إن استقمت على منهج الله فقط تريد الدنيا أن تمشي؟ أما أنت:

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
[ سورة آل عمران ]

إذا كان يوم القيامة فهذا غيب، يجب أن تنتظره، لذلك:

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
[ سورة البقرة ]

على رأس الأولويات، فهذا الرجل (تَعِسَ وانْتَكَسَ) تراجع (وإذا شِيكَ) شيك؛ شاكه أي وخزه بالشوكة، شيك هو المبني للمجهول من شاك، مثل قال قيل (وإذا شِيكَ) أي جاءته شوكة من جهة مجهولة، فهذا دعاء (فلا انْتُقِشَ) المنقاش؛ هو ما تزال به الشوكة، اليوم اسمه: ملقط الشوكة، بمعنى أي أذى يصيبه لا يجد من يعينه على إزالته، أقل أذى هو الشوكة، النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ مُصيبة تُصِيبُ المسلم إلا كفَّر الله عنه بها، حتى الشَّوكةِ يُشاكُها لا يُصِيبُ المؤمن شوكة فما فوقها إلا نقص الله بها من خطيئته، إلا رفعه الله بها درجة }

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ومالك ]

أدنى شيء هو الشوك، شوكة واحدة توخز الإنسان، فهذا الرجل يقول صلى الله عليه وسلم يدعو عليه: (وإذا شِيكَ فلا انْتُقِشَ) فهذا الحديث دلالة على جواز الدعاء على العصاة المبالغين في المعصية لكن من غير التحديد، أي لا يقف في مجلس يقول: اللهم عليك بفلان فقد رأيته يشرب الخمر، لا، لا يجوز، لكن بشكل عام إذا كنت بمجلس قل: أسأل الله عز وجل أن يهدي العصاة، فإن لم يهدهم يخلصنا منهم ومن شرورهم، بالعموم هذا الحديث استدلوا به على جواز الدعاء على العصاة، لكن ليس العاصي أي الذي يصلي ويعصي، يوجد عصاة، كلنا ذو خطأ، وكلنا ذو معصية، لكن هذا الإنسان الذي هو عبد الدرهم والدينار الذي يغتصب، والذي يسرق المال، والذي يكون عبداً لشهوته، ويفعل الأفاعيل هذا نسأل الله أن يخلصنا من شره، دون تحديد.
(وإذا شِيكَ فلا انْتُقِشَ) الآن انتهى الصنف الأول، هذه مواصفاته يعبد شهوته، يعبد ماله، يعبد ثيابه.

على الإنسان أن يطلب الجمال الشرعي:
إن الله جميل يحب الجمال
كيف يعبد ثيابه؟ البريستيج عنده مهم جداً، هو ليس مستعداً أن يغير العطر، ولا نوع الجاكيت، ولا النبطال، ولا الساعة، ولا الموبايل، لا يوجد مشكلة، المؤمن أنيق، والأناقة جميلة، لكن هي هذه منتهى الأمل؟ هل يعقل أن نصبح عبداً لثيابنا؟ أي أنا مستعد أعمل كل شيء حتى آتي ثمن الثياب من أجل كل يوم ألبس ثياباً معينة؟ هنا المصيبة، إذا المال متوفر، والإنسان الله فاتح عليه، وأراد أن يتجمل فالجمال:

{ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدْخُلُ الجنةَ مَنّ كان في قلبه مثقالُ حبَّة من كِبْر، فقال رجل: إنَّ الرجلَ يحب أن يكون ثوبُه حَسَنا ونعلُه حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبِرْ: بطَرُ الحقِّ، وغمطُ الناس }

[أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي]

الجمال الشرعي، أن يكون ثوبه حسنة، ونعله حسنة، ضمن الحدود الطبيعية غير المبالغ فيها، لكن عندما يكون الإنسان أصبحت الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه، هنا المصيبة، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ عن نافع مولى ابن عمر رحمه الله: قال: كان ابنُ عمر - رضي الله عنهما - إذا جلس مجلسا لم يَقُمْ حتى يدعوَ [ بهنَّ ] لِجُلَسَائِه، وزَعم أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهنَّ لِجُلسائِهِ: اللَّهمَّ اقْسِم لنَا من خَشْيَتِكَ ما يَحُولُ بيننا وبين معاصِيك، ومِن طاعتك ما تُبَلِّغُنَا به جَنَّتك، ومن اليَقِين ما تُهوِّنُ به علينا مصائِبَ الدنيا، اللَّهمَّ أَمتِعنا بأسماعنا أبصارنا، وقُوَّتنا ما أَحيَيتنا، واجعَلُه الوارثَ منا، واجعل ثَأْرنا على من ظلمنا، وانْصُرْنا على منْ عادانا، ولا تجعلْ مُصيبَتَنَا في دِيننا، ولا تجعل الدنيا أكبرَ همِّنا، ولا مَبْلَغَ عِلْمِنَا ولا تُسَلِّطْ علينا مَن لا يَرحَمُنا }

[أخرجه الترمذي ]

ما قال: لا تجعل الدنيا همنا، لأنها همّ، ولكن لا تجعلها أكبر الهم (ولا مَبْلَغَ عِلْمِنَا) فالدنيا علم، إذا الإنسان أخذ شهادة بالفيزياء علم، لكن لا يكون مبلغ العلم، مبلغ العلم هو التوحيد، أن تصل إلى الله، وأكبر همّ هو الآخرة أن تصل ناجياً إلى الله عز وجل، هذا الصنف الأول، عبد لشهوته، يرضى عند العطاء، ويسخط عند المنع، ينتكس لأدنى ما يصيبه (وإذا شِيكَ فلا انْتُقِشَ).

الحياة في سبيل الله جميلة وممتعة ولها أجر عظيم:
الآن الصنف الثاني، انظر كيف نقلنا النبي صلى الله عليه وسلم ببلاغته العظيمة وبجوامع كلمه، أي هذه صدمة، (طوبى) فوراً، طوبى؛ هي الجنة، وقيل: هي أطيب شجر الجنة، يعبر بها عن الجنة، لمن؟ قال: (طوبى لعبد آخذ بعِنان فرسه في سبيل الله) العنان؛ لجام الفرس، راكب على الفرس ومضى في سبيل الله، جهاداً في سبيل الله، طبعاً المعنى المتبادر إلى الذهن، والصحيح، والمعنى الأول هو الجهاد في سبيل الله، لكن لو إنسان قال لي: اليوم لا يوجد عنان الفرس، ولا دبابة، أي حركة الجهاد معطلة (في سبيل الله) واسعة جداً.
فلنحيا في سبيل الله
كنت قبل أن أتي إليكم في عزاء، وأعلم أن المتوفاة رحماها الله كانت على دعوة إلى الله، أمضت حياتها لله، فقلت لهم: هناك من يموت في سبيل الله، وما أعظم الموت في سبيل الله، ونسأل الله أن يبلغنا شهادة في سبيله، ولكن هناك أيضاً من يحيا في سبيل الله، فليس كل الناس مطلوب منهم أن يموتوا في ساحة المعركة في سبيل الله، لكن إن لم يتح لنا أن نموت في سبيل الله فلنحيا في سبيل الله.

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
[ سورة الأنعام ]

فالحياة في سبيل الله جميلة، وممتعة، ولها أجر عظيم، مثل الموت في سبيل الله، (آخذ بعِنان فرسه) ممكن نعطيها تعبيراً أنها تشمل أيضاً الإنسان الذي جعل حياته لله، في سبيل الله.
قال: (أشْعَثَ رأسُه، مُغْبَرَّة قدماه) طبعاً تسريح الشعر من السنة.

{ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى رجلاً ثائر الرأس فقال: أما يجد هذا ما يسكن به شعره، ورأى رجلاً وسخ الثياب فقال أما يجد هذا ما ينقي به ثيابه }

[أخرجه ابن حبان والحاكم ]

لكن عندما يكون الأمر جللاً، والإنسان في سبيل الله، هذا تعبير عن أنه لا ينتبه إلى المظاهر الآن، الأول (وعَبْدُ الخميصة) أما أنا الآن في عمل صالح، في شيء (أشْعَثَ رأسُه، مُغْبَرَّة قدماه)هنا موضوع حرب غير موضوع السلم (أشْعَثَ رأسُه، مُغْبَرَّة قدماه).
الآن أجمل ما في هذا الصنف من الناس قال: (إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقَة كان في الساقة) الحراسة؛ أي وكل بحراسة الجيش، أي بالمقدمة يجب أن يجلس، هو كأنه في القيادة (وإن كان في الساقَة) أي وضعوه في مؤخرة الجيش، (كان في الساقة) أي هذا الرجل لا يهمه الموضع الذي يخدم به دينه، المهم أنه في خدمة دينه، اليوم بعض الناس يقول لك: أنا إذا عينتني مديراً أعمل، غير هذا أخي أنا لا أستطيع العمل، أنا لا أعرف أن أعمل تحت يد أحد، لذلك كثرت دورات صناعة القادة وتمنيت لو يجعلون هناك دورات اسمها: صناعة الجنود، لأن الشعب العربي كله يريد أن يصبح قادة، وأين الجنود الذين سيقودهم القادة؟ وطن نفسك، ووطن نفسي أن نكون جنوداً لخدمة الدين، ليس من الضروري أن أكون قائداً، أي إذا كل الناس قادة فمن الجنود؟ أنا جندي يا أخي في خدمة دين الله عز وجل، أنا لست قائداً، أنا الله مكنني من الكلام، أتكلم، أنت الله عز وجل مكنك من العلم تعلم، العلوم الدنيوية، أنت الله مكنك من الطب تطبب، أنت مكنك من التجارة تتاجر وتكسب مالاً، وتنفق على عيالك، وتدفع زكاة مالك، وتدفع الصدقات، أنت ربنا عز وجل وكلك من مصلحة ومهنة معينة تتقي الله عز وجل فيها، وتقدم للناس فيها بضاعة جيدة، لاسيما مثلاً مواد الغذائية تكون صحيحة صحياً، فأنت كن جندياً في خدمة دين الله عز وجل، لا يهمك الموقع الذي تُجلس فيه.
كن جندياً في خدمة دين الله عز وجل
ورد وإن كان في الحديث ضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه في غزوة أو في سرية، فذبحوا شاةً يريدون أن يأكلوا، فقال الأول: عليّ سلخها، وقال الثاني: علي ّذبحها، وقال الثالث: عليّ شواؤها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وعليّ جمع الحطب، الآن النبي صلى الله عليه وسلم وضع نفسه جندياً، هو قائد الأمة، صار الآن جندياً مهمته جمع الحطب، وهذا ربما يكون أصعب عمل، أو أقل عمل.
الإنسان إذا كنت بأي مجلس، بأي نزهة، بأي مكان، وهناك تعاون، بجمعية، بجمع مال، لا يكن الهم أنه أنا أكون أنا عند الكاميرا، أي يجب أن أظهر بالكاميرا أني أنا أسلم البضاعة، لا، أنا أكون بالمستودع في الأسفل أعلب لا يوجد مشكلة، لأن هذا الرجل همه الآخرة، وليس الدنيا، ليس عبداً للدينار وللدرهم، هذا عبد لله، فالعبد لله لا يهمه الموقع الذي هو فيه، وإنما يهمه ما يستطيع أن يقدمه لخدمة دينه، في أي مكان كان، في أي مكان، في أي يوم يجعل نفسه في خدمة دينه.
فقال:(إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقَة كان في الساقة) أي لا يوجد عنده مشكلة أن يكون في مقدمة الجيش أو في مؤخرته، في وسطه أو عن يمينه، المهم أنك جندي في هذا الجيش، وإذا تصورنا أن الإسلام جيش عظيم من أجل خلاص الأمة، والنصر، والفرج عن الأمة، فيكفيني أن أكون جندياً فيه، أعمل عملاً صالحاً ألقى الله تعالى به، (وإن كان في الساقَة كان في الساقة).

اختلاف مقاييس الدنيا عن مقاييس الآخرة:
الآن هذا الرجل ليس ملفتاً للنظر قال: (إن استأذَن لم يُؤذَن له) هذا نحن لا نعرف من هو، أي هو ليس من جماعة من يدخل ويقوم الناس يوسعون له بصدر المجلس، هذا من جماعة إذا أردت أن أدخل يعتذرون منه، تعبير عن أنه غير مشهور.
قال: (وإن شَفَعَ لم يُشَفَّع) جاء جاهة يريد أن يحل مشكلة، اذهب وآتِ بعضو مجلس الشعب، آتِ بعضو مجلس، آتِ بوزير، هذا لا يشفع ، النبي صلى الله عليه وسلم مرّ رجل فقال لأصحابه:

{ عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: مَرَّ رجل على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عندهُ جالِس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشْرافِ النَّاسِ، هذا واللهِ حَرِيّ إن خَطَبَ أن يُنكَحَ ـ يعني أن يعطى ـ وإن شَفَع أن يُشفَّعَ، قال: فسكت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم مَرَّ رجل، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيكَ في هذا؟ فقال: يا رسول الله هذا رجل من فُقَراءِ المسلمين، هذا حَرِيّ إن خطب ألا يُنكح، وإن شَفَعَ ألا يُشَفَّعَ، وإن قال ألا يُسْمَعَ لقوله، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من مِلءِ الأرض مِثلِ هذا }

[أخرجه البخاري ومسلم ]

أنت مقاييسك غير صحيحة، أنت مقاييسك دنيوية، ترى إن كان معه مال، معه جاه، معه منصب، هذا حري أن نعطيه، مقاييس ربنا مختلفة تماماً.

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: كم من أشْعَثَ أغْبَرَ ذي طِمْرَيْنِ لا يُؤبَه له، لو أقسم على الله لأبَرَّه }

[أخرجه الترمذي ]

فعلى الإنسان ألا يستهين بأحد، لا تعرف الخير أين، فقال: (إن استأذَن لم يُؤذَن له، وإن شَفَعَ لم يُشَفَّع).

على الإنسان أن يضع نفسه دائماً في خدمة الدين:
المؤمن يرى فضل الله عليه
إذاً هذا الحديث أخواننا الكرام من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، قسم العباد إلى قسمين كما بدأت في الحديث أن العباد في القرآن الكريم وفي السنة قسمان لا ثالث لهما، والإنسان يجب أن يضع نفسه في أحد القسمين، أي أن يرى نفسه في أي القسمين هو، لكن يجب أن يضع نفسه في القسم المؤمن الذي يضع نفسه في سبيل الله، ويضع ماله في سبيل الله، ويضع جاهه في سبيل الله، فأي مكان يجد نفسه أنه يمكن أن يخدم به دين الله فليتقدم ويعطي ما عليه، وأي مكان وجد أن هناك من هو أصلح منه يقدم من هو أصلح منه، ويبقى هو في المؤخرة، لا مانع، المهم قالوا: إذا عز أخوك فهن أنت، أي إذا أنت كنت في مجلس، وذهبت إلى مكان، والمفترض أن تتكلم أنت فتكلم هو كلاماً جميلاً وأدى المطلوب، لا تزاحمه، انتهى المطلوب حصل، انتهى، ليس أنني أنا يجب أن أتكلم بالمجلس حتى أبرز أنني أنا، المؤمن تذوب ذاته يرى فضل الله عليه، لا يرى ذاته، المنحرف يرى نفسه لا يرى فضل الله عليه.
قيل إن أحد علماء دمشق بدر الدين الحسني رحمه الله، دخل المسجد مرةً فوجده ممتلئاً عن آخره، فوقع في قلبه ما هذا ! الشهرة، ووجود الناس، وكذا يحرك القلب، فسجد على عتبة المسجد وقال: يا رب لا تحجبني عنك بهم، ولا تحجبهم عنك بي، لا تحجبني عنك بهم؛ أن أرى الناس وأنسى الخالق، المهم كثر الأتباع، ولا تحجبهم عنك بي، يرون الشيخ وينسون رب الشيخ الذي جاء الشيخ من أجل الكلام عنه، يصبحون يقدسون الشيخ، يقول لك: القطب العلّامة، الفهّامة، قطب زمانه، أي أعينوه على نفسه، لا تعينوا نفسه عليه، أي ضمن المقبول لكن لا تبالغ، لا تحجبهم عنك بي، ولا تحجبني عنك بهم، هذا من أدب هذا الرجل.
إذا عندك زجاج شفاف بلجيكي، قد لمع تلميعاً جيداً مرتبة خمس نجوم، لا ترى الزجاج ترى ما وراءه، المؤمن بأخلاقه العلية لا يلفت الناس إليه، يلفت الناس إلى ما يشف عنه، ولله المثل الأعلى، فهو يريد أن يصل الناس إلى الله، لا يريد أن يصل الناس إليه، أنت زجاج من خلالك يصلون إلى الله عز وجل، فهذا مما ينبغي على الإنسان أن ينتبه إليه.
والحمد لله رب العالمين