• محاضرة في الأردن
  • 2022-11-21
  • عمان
  • الأردن

المؤمنون حقاً

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملاً متقبلاً يا رب العالمين اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل و الوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، ومن ذل الشرك إلى عز التوحيد والعبودية.

الإيمان الحقيقي:
الإيمان مراتب
وبعد فيا أيها الأخوة الأحباب؛ روي أن رجلاً جاء إلى الحسن البصري، والحسن البصري سيد التابعين، وقال له: أمؤمن أنت؟ فقال له: إن كنت تعني بالإيمان، أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر فأنا من هؤلاء، وإن كنت تعني بالإيمان ما قاله تعالى:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
[ سورة الأنفال]

فما أدري إن كنت منهم أم لا !
فالإيمان مراتب، والإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان ودليل ذلك من القرآن، قوله تعالى:

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
[ سورة التوبة]

فالإيمان يزيد، والدليل من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم }

[أخرجه الحاكم ]

فإذاً الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، فلا بد بين الحين والآخر من مجلس إيمان، مجلس عبادة، قيام ليل، تفكر، نظر، تأمل، ذكر لله تعالى، قراءة قرآن تتنوع السبل التي تعزز الإيمان وتنميه بشكل دائم.

تربية القرآن الكريم للنفوس:
القرآن يريد أن يربي الأمة المسلمة
لو عدنا إلى هذه الآيات: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) سورة الأنفال سورة مدنية، عشر صفحات في كتاب الله، هذه السورة نزلت عقبة غزوة بدر، لما انتهت غزوة بدر جاءت الأنفال؛ الغنائم، ماذا نفعل بالأنفال؟ لمن هذه الأنفال؟ لي، لك؟ لمن أخذها؟ تُجمع وتوزع، أم لكل واحد ما أخذه يأخذه ويعود به، حصل هناك بعض التنازع والإشكال، الآن القرآن يريد أن يربي الأمة المسلمة، ويخرج حب الدنيا من قلوبها، فبدأ بقوله تعالى:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
[ سورة الأنفال]

انتهى الأمر، ليس لكم شيءٌ، أنت قاتلت لتكون كلمة الله هي العليا ابتغاء جنة عرضها السماوات والأرض، الأنفال ليس لك علاقة بها مبدئياً، هكذا يربي القرآن النفوس (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) انتهى الأمر، هذا الموضوع لم يعد في بالكم خرج الموضوع من قلوبكم، ومن أيديكم (الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أنتم ليس لكم شيء من الدنيا.
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إذاً المطلوب منكم الآن ليس الخلاف حول الأنفال لمن الأنفال؟ هذه دنيا، هذه الأنفال حكمها لله ولرسوله وليس لكم منها شيء، وعندما يأذن الله ويعطيكم تأخذون مما أعطاكم الله إياه، لكن المطلوب منكم الآن أولاً تقوى الله تعالى، وثانياً إصلاح ذات البين، ألا تكون هذه الغنائم، وتلك الدنيا مجالاً للتنازع والتفرق بينكم، وسوء ذات البين:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: ' إِيَّاكُمْ وسُوءَ ذَاتِ البَيْن، فَإِنَّهَا الحَالِقَةِ }

[أخرجه الترمذي]

{ عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قال هي الحالِقة، لا أقول: هي تحلِقُ الشَّعْرِ ولكن تَحْلِقُ الدِّين }

[أخرجه أبو داود والترمذي ]

فساد ذات البين مصيبة كبرى (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) يعني بيني وبينك وبين زوجتي، وبين ابني، أي علاقة بينية بين طرفين هي ذات بين، والمطلوب إصلاحها.
الأمر الثالث: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)
إذاً تقوى الله، وإصلاح ذات البين، والطاعة لله ورسوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) هذا شأن المؤمن، من هم المؤمنون؟ الآن جاءت أوصافهم، بعد أوصاف المؤمنين هناك خمس صفحات من سورة الأنفال، نصف سورة الأنفال تتكلم على غزوة بدر اقرؤوها اليوم:

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
[ سورة الأنفال]

ثم يتحدث عن غزوة بدر:

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
[ سورة الأنفال]

ثم يتحدث عن النصر الذي كان في بدر، وكيف كانت منة الله عليكم في ذلك إلى الصفحة رقم السادسة بسورة الأنفال:

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
[ سورة الأنفال]

الآن قسمة الغنائم بعد خمس صفحات، بعد أن ربيت النفوس على أن الدنيا لا ينبغي أن تستأثر فتفرق بيننا، وتشتت شملنا، وتغير من حالنا، وأن تغير من توجهنا إلى الله تعالى، الخُمس لله ولرسوله يوزعه رسول الله على الفقراء، على المساكين، على الأيتام، والأربعة أخماس يوزعها على المقاتلين، بيّن الحُكم في الغنائم، لكن قبل ذلك أخرج الدنيا من قلوبهم ووجههم إلى الإيمان الصحيح، هذا جو السورة العام التي وردت به الآيات المهمة.

خمس صفات للمؤمنين حقاً:
نعود إلى الآيات وهي موضوع بحثنا (الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً) من (الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً)؟ قال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الصفة الأولى، (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً)، الثالثة: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ)، أربعة (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) خمسة، خمس صفات للمؤمنين حقاً.
أساليب الحصر في اللغة العربية متعددة
(إِنَّمَا) أداة حصر وقصر، لو قلت الآن أحمد شوقي شاعر، لا يمنع هذا القول أن يكون شوقي ناثراً، مسرحياً، راوٍ، تاجراً، هو شاعر لكن هذه صفته، لكن إذا أردت أن أبين شاعريته وأهمية شعره، وأنه لا يطلق عليه إلا شاعر فإني أقول: إنما شوقي شاعر، أو أسلوب آخر؛ ما شوقي إلا شاعرٌ، يعني أساليب الحصر في اللغة العربية متعددة منها هذان الأسلوبان، الأول نفي مع إلا، لا إله إلا الله، يعني لا معبود بحق إلا الله، الثاني إنما:

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
[ سورة الكهف]

إما أن أستخدم إنما أو النفي ما أو لا، ثم إلا للحصر، هناك أساليب أخرى ليس المجال لذكرها.
فإنما أداة حصر وقصر، كأن الله تعالى يقول لك، والكلام مخيف هؤلاء هم المؤمنون فقط، طبعاً العلماء تلطفوا، وفهموا من قرائن أخرى والآيات، والسور الأخرى المقصود في هذه الآية إنما المؤمنون ممن كمل إيمانهم، لكن لا ننفي الإيمان عمن لم يتلبس بهذه الصفات، وإنما آمن بالله وكتابه ورسوله، وصدق، ولكن لم يصل إلى هذه المرحلة، لا ننفي عنه الإيمان بالكلية لكن لم يصل إلى مرتبة: المؤمنون حقا، يعني الإيمان الكامل، الإيمان الذي يستحق بناء عليه ما سيأتي في ختام هذه الآيات، أعلى درجات الإيمان (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) هؤلاء هم المؤمنون حقاً، ما صفاتهم؟ هذه الصفات الخمس أول ثلاث صفات، صفات قلبية، والصفتان الرابعة والخامسة صفات عملية، فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
فالصفات الثلاثة الأولى صفات قلبية متعلقة بالقلب، والصفتان الأخريتان عمليتان.

1. وجل القلب:
نبدأ بهذه الصفات، الصفة الأولى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) وجل القلب؛ هو خوفه وفزعه، والإنسان يخاف عند ذكر الله تعالى، لكن في آية أخرى يقول تعالى:

الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
[ سورة الرعد]

فكيف ذلك، هنا (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) وهناك (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) توضح الآيتين آيةٌ ثالثة قال تعالى:

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
[ سورة الزمر]

في آية واحدة تقشعر الجلود من خشية الله، وتلين إلى ذكر الله، فإذاً عند قراءة الآيات، عند ذكر الله، وذكر الله مفهوم واسع، سنأتي عليه، عند ذكر الله تعالى يمكن أن يوجل القلب إذا مرَّ بآية فيها تخويف، أو بآية فيها نظر في مصير الأقوام المكذبين، أو ينظر في آيات الله الكونية، كالزلازل والبراكين، كله مما يخوف الله به عباده، أو الرعد، النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد يوجل قلبه لأن هذا نذير من الله تعالى، فكل ما يؤدي إلى ذكر الله تعالى إذا كان تخويفاً فإن القلب يوجل، قال ضيوف إبراهيم:

قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)
[ سورة الحجر]

الوجل هو خوف القلب
هذا الوجل فعله توجل، فالوجل هو خوف القلب عند ورود ما فيه ذكر الله من تخويف، وفي الوقت نفسه يطمئن القلب عند ذكر الله، فهو يخاف ويطمئن، رغباً ورهباً، خوفاً وطمعاً، هذه الآيات ذكرت وجل القلب عند ذكر الله تعالى للمؤمن، فالمؤمن يخاف الله تعالى، من علامة إيمانه الخوف، لا أقول الخوف المرضي المقعد عن العمل، لا أبداً، لكن الخوف خوف التعظيم.
سأضرب مثلاً كيف يجل القلب: لو أنك على موعد مع رجل مهم جداً جداً جداً له مكانة كبيرة جداً في المجتمع، وأنت ذاهب إليه بسيارتك، ودخلت القصر، أو دخلت المكتب المهم، أو إلى آخره، تشعر بخفقان في قلبك، ما سبب هذا الخفقان؟ هو أنك تدخل على رجل عظيم، هذا مع إنسان عادي، القلب يوجل.
فالوجل والخوف من الله أن الإنسان مدرك لعظمة الله تعالى، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان أشدَّ الناس خوفاً من الله، وأشد الناس عبودية لله مع أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو المعصوم صلى الله عليه وسلم، كيف ذلك ! نحن ينبغي أن نخاف أكثر لأننا مذنبون، الخوف ووجل القلب علامة التعظيم، كلما عظُم الله تعالى في قلب المؤمن فإنه يخافه حتى لو نظر إلى أثر من آثار الله عز وجل إلى السماء، إلى النجوم، إلى القمر يشعر بهذا التعظيم هذا وجل القلب، فليس الخوف من الله بمعنى الخوف منه جل جلاله لذاته وإنما لعظمته، يعني الخوف ناتج عن التعظيم في القلب، ثم يكون الخوف من التقصير في العبودية، ثم يكون الخوف من الذنوب، ثم يكون الخوف من الموقف بين يدي الله، وما أعددنا له جواباً، إلى آخره، الصحابة الكرام، والسلف الصالح كانوا في قمة العمل، وقمة الخوف من الله تعالى، قمة العمل، وقمة الخوف من الله تعالى، ونحن للأسف الشديد جمعنا مع شدة التقصير شدةَ الأمن، فإما أن خوفهم كان خوف العقلاء، أو أن اطمئناننا هو اطمئنان الساذجين، لا حل ثالث، الاطمئنان الساذج، الإنسان الذي لا يدرك هو الذي لا يخاف.
لذلك مثل بسيط جداً: طفل بالحقل عمره ستة أشهر، يحبو الآن، الآن بدأ يحبو، ظهر ثعبان مخيف، لا يخاف يمسك به، والده صاحب الشاربين المفتولين يقفز من هول ما رأى، والطفل يمسح عليه بيده، فمن العاقل بينهما؟ من الجريء والشجاع ؟ نقول: الطفل ما شاء الله شجاع ! لا ليس شجاعاً، لكنه ليس مدركاً.
فالمؤمن علامة أنه مدرك اليوم بحياتنا اليومية، إنسان يقول لك: ما فيها شيء خذ قرضاً ربوياً، ليس مدركاً، أنت لماذا تقول له: حرام، لا يجوز، أين ذاهب؟ لماذا تقول له حرام؟ إدراك، أنت مدرك أن هذا الأمر فيه عقوبة من الله، فأنت تخشى الله تعالى فيه، كلما نما إدراك الإنسان نما خوفه من الله، وكلما قل إدراكه لعظمة الله، ولمنهج الله قل خوفه ويقول لك: ماذا صنعنا، ولا تشدد علينا، فإذاً القضية قضية إدراك.
المؤمن يدرك عظمة الله عز وجل
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُم) لأنهم يعلمون عظمة الله تعالى يدركون عظمة الله فيتحرك في داخلهم شيء لا يتحرك في نفوس غيرهم من الخوف من عظمة الله تعالى، ومن التقصير في عبوديته، هذا معنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، تقول له السيدة عائشة رضي الله عنها: لِمَ وقد غفر الله ما تقدم لك من ذنبك وما تأخر؟ سؤال منطقي، أنا وأنت نصلي، ونستغفر، لِمَ فعلنا، لماذا تفعل ذلك يا رسول الله وأنت المغفور لك ما تقدم، وما تأخر، يعني ما سيأتي أيضاً، ما تقدم ما سيأتي، ما سيأتي وما مضى انتهى، فلماذا فقال:

{ عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: قال: قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: قد غفرَ الله لك ما تقدَّمَ من ذنبكَ وما تأخَّر؟ قال: أفلا أكونُ عبدا شكورا؟ }

[أخرجه البخاري ومسلم]

هو يدرك عظمة الله تعالى، يريد أن يقف بين يدي الله تعالى ويشكر له على نعمائه فليس الخوف دائماً سببه الذنوب، وإنما سببه عظم حق الله تعالى في قلب العبد.

مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً (14)
[ سورة نوح]

ربما ضربت لكم هذا المثل سابقاً: أن الإنسان بقدر معرفته بالشيء يزداد خوفه يزداد وجله، يزداد شوقه، يزداد خفقان قلبه، يزداد شعوره بقدر معرفته بالشيء.
لو قلت اليوم كلمة دمشق، دمشق عاصمة من عواصم الدنيا المعروفة، سمعها شخص ما زار دمشق في حياته، لكنه سمع عنها، كأنك قلت له نافذة، دمشق مثل نافذة، مقاطع صوتية دال، ميم، شين، قاف، لا تعني شيئاً أبداً، الثاني رجل نزل إلى دمشق مرة في حياته ثلاثة أيام بصحبة والده من عشرين سنة، سمع دمشق، فوراً: دمشق زرناها مرةً قبل عشرين سنة مع الوالد، وأكلنا من بعض طعامها، انتهى الأمر عنده في نصف دقيقة، والثالث درس في دمشق أربع سنوات، تذكر جامعتها، وتذكر رفاقه فيها، وتذكر وتذكر، الكلمة نفسها أربعة حروف، الأخير بينهما رجل يحب دمشق، نشأ فيها، وعاش فيها وتلقى تعليمه الابتدائي، والإعدادي، والثانوي، والجامعي، خمسون سنة وهو في دمشق يعيش في أزقتها، يحبها يعشق طرقاتها، يعشق ياسمينها، فلما قلت له دمشق ربما تدمع عينه ، الكلمة نفسها، كيف فعلت تأثيرها هنا، تغير هنا، تغير هنا، تغير بناء على المعرفة، ولله المثل الأعلى جل جلاله.
عندما نقول لإنسان: الله، اللطيف، الحليم، الكريم، كل إنسان بحسب تجربته مع هذه الأسماء الحسنى، وتجربته مع الله عز وجل يتأثر، قل هذه الكلمة لإنسان لا علاقة له بالدين أبداً: الله، ألف، لام، لام، هاء، تعالى الله، حاشاه جل جلاله لكن ما عنده تجربة مع الله، فالمؤمن بقدر تجربته مع الله يزداد تعظيمه لله تعالى وفهمه عن الله.

2. تلاوة القرآن الكريم تزيد إيمان المؤمن:
المؤمن لما يقرأ القرآن الكريم يزيد إيمانه
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) هذه الصفة الأولى قلبية (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً) المؤمن لما يقرأ في القرآن الكريم، أو يستمع القرآن يقرأ، يتلو هو، أو يتلى عليه يزيد إيمانه، لأنه لا يقرأ كلمات، يعني هذه ليست تعالى كلام الله عن ذلك، ليست جريدة تقرأها، وليست رواية، هذا كلام الله، فإذا قرأ بتمعن وتدبر ينبغي أن يزيد في الإيمان، بمعنى أن الإنسان يخرج بعد قراءة الجزء ليس كما كان قبله، ازداد الإيمان حتى هو يشعر بنفسه بقوة أكثر إذا نزل إلى الشارع، إلى الطريق، إلى المتجر بقوة أكثر على المعاصي والآثام، لذلك الذي ليس له ورد يومي من كتاب الله تعالى تضعف ذاته، يضعف إيمانه، لو قرأ كل يوم خمس صفحات، عشر صفحات، جزءاً، المهم أن يقرأ شيئاً من كتاب الله، يجعل لنفسه ورداً، لو يقرؤه في الصلوات الخمس، أو في ركعتي القيام، أو ركعتي الضحى أو من المصحف مباشرة، أو أقل الإيمان أن يستمع، وهنا لا يحقق أجر التلاوة والقراءة لكن أجر الاستماع، لكن لا بد أن يكون هناك تفاعل يومي مع كتاب الله (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً) فالإيمان كما قلنا في البداية يزيد، كيف نزيد الإيمان؟ نحتاج إلى ممارسة يومية.
إنسان طبيب تقول له: هل يمكن أن تزداد معلوماتك في الطب؟ طبعاً، كيف؟ مجلات طبية حديثة، مواقع طبية رصينة، متابعات، مؤتمرات يومية، حضور محاضرات قراءة، هذا يزيد في العلم، فتقول: مضى لي سنة كاملة ما تركت مؤتمراً، ولا قضية جديدة إلا تابعتها في اختصاصي طبعاً، قرأت المجلات الصادرة في هذا الموضوع شعرت نفسي أنا 1-1-2020، غير أنا بـ 1-1-2023 ـ طبعاً زاد.
الإيمان عبارة عن مجموعة معلومات، ومجموعة أحوال، تصديق وإقبال، الإيمان هو تصديق وإقبال، معلومة تستقر في الذهن من خلالها تقبل على الله أكثر، هذا هو الإيمان.
الكفر بالعكس تماماً؛ تكذيب وإعراض، كفر الإعراض، وأعرضوا، فالإيمان تصديق وإقبال، فلما الإنسان يزيد في معلوماته عن الإيمان يزيد في إقباله على الله فعملياً زاد إيمانه، الآن كلما زاد الإيمان زادت القدرة على مقارعة الشهوات والشبهات، الشبهات بالمعلومات، والشهوات بالأحوال مع الله عز وجل، المعلومة، هذا المجلس المبارك أخذنا منه معلومات، هذه تزيد في الإيمان، فأنا إذا جاءتني شبهة ممكن أواجهها بدروس العلم التي أحضرها، الشهوات لها قوة جذب مخيفة، لذلك ربنا عز وجل قال:

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (32)
[ سورة الإسراء]

ما قال: لا تزنوا بل قال: (وَلَا تَقْرَبُوا) لأنه عندما تدخل في الدائرة ستجذب إليها، فلا تقرب التيار الكهربائي التوتر العالي خطر الموت، لا يقول لك: لا تلمسه، طبعاً لا تلمسه، لكن لا تقترب لذلك (وَلَا تَقْرَبُوا)

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
[ سورة البقرة]

المال له قوة جذب
فلها قوة جذب، المرأة المتفلتة لها قوة جذب، المال له قوة جذب، حب العلو في الأرض والسيطرة له قوة جذب، فإذا دخل الإنسان في دائرة الشهوات جذبته، الأحوال مع الله عز وجل، والقرب من الله عز وجل يجعلك ما أقول تنتهي، ربما وصل بعض الصالحين كما في الآثار إلى حالة استوى عنده التبر بالتراب كما يقال، يعني المال ما عاد له عنده قيمة، ربما يصل، لن أقول سنصل إلى هذه المرحلة، نريد أن نصل إلى مرحلة لا نريد أن نأخذ مالاً من حرام، نحب المال، لكن لا نأخذه من حرام، فكيف يحصل ذلك؟ لما الإيمان بالأحوال القلبية يزيد، فيزيد الإقبال على الله فلا يستغني الإنسان عن حاله مع الله من أجل دريهمات، ولا من أجل امرأة فاجرة، يصبح دينه غالياً عليه لا يبيعه من أجل شيء تافه، زائل مهما عظم في عيون الناس، هذا معنى الإيمان يزداد، يقول لك: أنا لا أضحي، أنت عندك شهوة للنساء؟ طبعاً، مثلي مثل الآخرين، لماذا لا تقرب الفاحشة؟ لا أضحي بعلاقتي مع الله وبقربي من الله وبالأنس الذي يلقيه في قلبي من أجل دنيا زائلة دريهمات، أو امرأة، لأنه ذاق.
إنسان دخله قليل أطيب شيء أكل حلويات، هو المربى، مربى المشمش أو الفراولة، فهو يراه أطيب شيء، جاءه واحد قال له: العسل أطيب، قال له: لا كل المربى وانظر، يا أخي في شيء اسمه عسل، هو لم يذق العسل، هو لا يعلم.
المؤمن ذاق القرب من الله، القرب من الله عسل، إذا تقول له في رشة سكر يقول لك: لا أريد هناك أطيب، القضية أن المؤمن مسرور مع الله، فلا يريد أن يضحي بهذا السرور الذي يدخل على قلبه بالصلاة، بالذكر، بالطاعة من أجل دنيا زائلة وليس بمعنى أنه هو لا يحب هذه الأمور، والشهوات موجودة فينا كلنا، لكن لا نضحي بالخسيس ونترك النفيس، هذه هي المسألة (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً)

3. التوكل على الله:
الصفة الثالثة للمؤمنين قال: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) هذا أسلوب ثالث من أساليب الحصر، اليوم درس لغة عربية، الأول:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
[ سورة الحجرات ]

حصر، الثاني: نفي، زائد إلا، لا إله إلا الله، فقط.
الثالث: التقديم والتأخير؛ حصر.

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
[ سورة الفاتحة]

التوكل هو عمل القلب
يعني لا نعبد إلا الله، ولو قال نعبدك، لاحتمل أن نعبد غيرك (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لا نعبد إلا الله، التقديم والتأخير، هذا من التقديم والتأخير (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ولو قال ويتوكلون على ربهم لاحتمل ذهناً أنهم يتوكلون على الله وعلى غيره (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي لا يتوكلون إلا على ربهم، فهذه من صفات المؤمنين، أن التوكل على الله تعالى، الحصر والقصر، هذه صفة من صفات الحصر والقصر، التقديم والتأخير.
الآن؛ التوكل هو عمل القلب، فإذا نقل من عمل القلب إلى عمل الجوارح أصبح اتكالاً وتواكلاً وليس من الدين في شيء، إذا الإنسان لم يتحرك، هذا نقل التوكل من القلب إلى الجوارح، ماذا تفعل؟ أنا جالس، لماذا أنت جالس؟ يأتي الرزق وحده أنا لن أتحرك هذا اتكال، أو تواكل.
لأن سيدنا عمر رضي الله، لما مر على قوم لا يعملون، قال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون على الله، قال: كذبتم، أنتم المتكلون على الله، وفي رواية: المتواكلون المتوكل، على الله من ألقى بذرة في الأرض ثم توكل على الله، يعني عَمل عملاً.
(وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يعني أن القلب متعلق بالله، لكن الجوارح تعمل فيما يرضي الله، فإذا توقف الإنسان عن الأسباب وقع في المعصية، وإذا عمل بالأسباب واعتمد عليها وقع في الشرك، فأنت بين واديين، وادي الشرك ووادي المعصية، إذا ملت إلى الأسباب واعتمدت عليها ونسيت المسبب فهذا شرك، نوع من أنواع الشرك، لأنك ظننت أن الأسباب تفعل فعلها، والمسبب هو الذي يسببها، أما إذا تركت العمل بها نهائياً فهذه معصية، لأن الله تعالى أمرك أن تعمل بالأسباب، تداووا عباد الله على سبيل المثال، فمن ترك التداوي وادعى أنه متوكل على الله فإنه أخطأ، ومن توكل على الطبيب فقد وقع في الشرك، الموقف متوازنٍ جداً المؤمن فقط يتقنه، انتبه الموقف صعب، المؤمن يتقنه، لأن غير المؤمن عندما تكون الأسباب في يده يصعب أن يكون قلبه مع الله، يقول لك: هذه القضية رابحة رابحةَ المحامي خمس نجوم، القضية، 1 ـ 2 ـ 3 ـ 4، كل الخيوط بيدي، ينسى ربنا عز وجل، شرك، والطرف الثاني سهل جداً أيضاً، نقعد، هذا ايضاً نوع من أنواع المعاصي والآثام، أما المؤمن فهو المتوازن الذي يحرص على الأخذ بالأسباب والتوكل على رب الأرباب بحيث يعمل بهما معاً في تناسق جيد عجيب.
(وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) هذه الصفات الثلاثة كلها قلبية (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) التوكل عمل القلب كما قلنا.

4. إقامة الصلاة:
الآن صفتان بدنية ومالية، البدنية لها علاقة بصلتك بالله، والمالية لها علاقة بصلتك بالمخلوقين.

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
[ سورة البقرة]

هاتان الصفتان، إقامة الصلاة من أجل إحسان العلاقة مع الله يعني الحركة الشاقولية، وعبادة بدنية روحية الهدف منها أن تحسن صلتك بالله، وإيتاء الزكاة، أو الإنفاق عبادة مالية الهدف منها تحسين علاقتك مع خلق الله، فهناك حقوق للخالق وحقوق للمخلوقات.
إقامة الصلاة لا تعني أداءها
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) قلنا سابقاً، ونقولها الآن بمناسبتها إقامة الصلاة لا تعني أداءها، والله تعالى ما قال في كتابه أدوا الصلاة أبداً، تأدية الصلاة هذا مصطلح فقهي، يعبر به عن الشروط، والأركان، والأحكام الشرعية التي تؤدي في محصلة الأمر إلى صلاة مقبولة فقهاً، مكتملة الأركان فقهاً، لكن القرآن لا يقول أدوا الصلاة، وإنما يقول:

وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
[ سورة الأنعام]

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) لأن إقامة الشيء هو أن تأتي به على الوجه المطلوب بحيث تقومه، فلا يكون معوجاً، أقامه، وتقول العرب: أقام القوم سوقهم، إذ لم يعطلوها من البيع والشراء، أما إذا بنوا السوق، وما فيها بيع وشراء فلم تقم السوق، ما هذه السوق؟! فإذا حققت السوق المقصد منها فقد أقيمت، وإن لم تحقق فما أقيمت، فإذاً إقامة الصلاة تعني أن يأتي بها الإنسان على الوجه الذي طلبه الله تعالى منه، يعني بتمام ركوعها، وسجودها، وتسبيحاتها، وقراءتها لا ينقرها نقر الديكة، لا يستعجل فيها ليطمئن، إلى آخره، هذه في الفقه، ثم تحقق الصلاة المقصد الذي أراده الله تعالى منها.

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
[ سورة العنكبوت ]

هنا أقيمت الصلاة، هناك أديت الصلاة، ويقول الفقهاء عبارة يعني مريحة ومزعجة معاً سقط الوجوب وإن لم يحصل المطلوب، يعني هو أخذ أجر الامتثال، لكن هل حصل ما أراده الله من الصلاة؟ لا، إذا خرج من المسجد، وعلا صوته على الناس بغير حق وظلم هذا، فهو ما حقق مقصد الصلاة، الفحشاء والمنكر ما زالا في سلوكه، فهو ما حقق المقصد منها لكن سقط الوجوب فقهاً، وإن لم يحصل المطلوب.

5. الإنفاق:
الرزق ليس رزق المال فقط
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) والمطلق على إطلاقه (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) ليس رزق المال فقط، فهناك من الناس من رزقه الله الجاه، وليس معه مال، لكن جاهه بين الناس بحيث يدخل فيصلح بين متخاصمين، يدخل فيزوج شاباً لفتاة، يدخل فيحل مشكلة تجارية هذا أنفق مما رزقه الله، وقت، وجاه، ومن آتاه الله علماً، سواء علم الدنيا أو الدين الشرعية فأنفق منه، وأعطى منه فقد أنفق مما رزقه الله، ومن آتاه الله قوة فتدخل بها لحل إشكال أو كذا، سواء قوة المنصب، أو قوة المال، أو قوة الجسم، تدخل بها وحل إشكالاً فقد أنفق مما رزقه الله، وطبعاً من أتاه الله مالاً، وهذا متبادر إلى الذهن ينفق مما رزقه الله وهنا القرآن لما يربي النفوس كما قلنا في الأنفال لله وللرسول، هو رزق الله تعالى لك، فهو ليس لك وإنما هو مال الله، إتماماً لإخراج الدنيا من قلوبهم (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ولما قال: من، هذه من رحمة الله تعالى بعباده، فلو قال وأنفقوا ما رزقناهم يعني لن يكون لأحد من المؤمنين حق في ماله، يعني لا يستطيع الإنسان، المال شقيق الروح كما يقولون، فهو ينفق من للتبعيض، وهذه المن في أدنى حالاتها هي زكاة المال، اثنان ونصف في المئة، وفي أكثر حالاتها العبد وما ملك لسيده (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).

نقص الإيمان:
قال (أُولَئِكَ) الذين اجتمعت فيهم هذه الخصال الخمسة (هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً) إذاً غيرهم قد يتصف بالإيمان لكن ليس الإيمان الحق الذي يريده الله تعالى، ليس الإيمان الكامل كثيراً في السنة ما نقرأ:

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به }

[أخرجه الطبراني في المعجم الكبير والبزار ]

فهذا أيضاً لوصف نقص الإيمان.

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد }

[ أخرجه الحاكم ]

يعني لا صلاة كاملة، يعني لا صلاة تأخذ الأجر الكامل عند الله، هو جار للمسجد ولم يدخل إلى المسجد، فهذه الإضافات ليست من عند الفقهاء اعتباطية، لا لكن هي بدلالة النصوص الأخرى التي تؤكد مثلاً الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ عن أبي هريرة: صلاة أحدكم في جماعة تزيد على صلاته وحده في بيته وفي سوقه بضع وعشرين درجة. وذلك أن أحدكم إذا توضأ فأحسن الوضوءَ، ثم خرج إلى الصلاة لا يريد غيرها، لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه بها خطيئة }

[ أخرجه البخاري ومسلم]

إذاً الصلاة الكاملة هي 27 درجة، إن أحببت في البيت درجة واحدة، لكن فوت خيراً كثيراً، فلذلك يقول: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) لا صلاة تستحق الأجر الكامل لجار المسجد إلا بالمسجد، لكن يأتي بهذه الصيغة لبيان عظم الأمر (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به) أي إيمان هذا، وأن تترك جارك جائع وتأكل وتنام، بهذا المعنى.
فهنا أيضاً (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً) فغيرهم لا ننفي عنه الإيمان بالكامل فنقول هذا ليس مؤمناً إذاً لأنه لا ينفق مما رزقه الله، أو لأنه لا يجد قلبه عند ذكر الله، ولكن نقول ما يزال يحتاج إلى ترقية في الإيمان حتى يصل إلى مرتبة المؤمن الحق (لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يرفعهم الله درجات في الجنة.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
[ سورة المجادلة ]

(لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) هم لما أنفقوا مما رزقهم الله تعالى كان الجزاء من جنس العمل رزقاً كريماً يرزقه الله إياه.
والحمد لله رب العالمين