لست أرضى الجاهلية

  • محاضرة في الأردن
  • 2023-01-02
  • عمان
  • الأردن

لست أرضى الجاهلية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.


الجاهلية ليست مرحلة زمنية:
وبعد: أيها الأخوة الأحباب؛ كثيراً ما نسمع بمصطلح الجاهلية، هي مرحلة زمنية سبقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، والحقيقة أن الجاهلية ليست مرحلة زمنية بقدر ما هي توصيف لمجتمعات معينة، فقد تتكرر الجاهلية في أي عصر، وهذا يستأنس من خلال قوله تعالى إذ يقول:

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)
[ سورة الأحزاب]

وكأن هناك جاهلية ثانية، هناك جاهلية أولى، وجاهلية ثانية، وثالثة، ورابعة، فكل عصر فيه مواصفات العصر الجاهلي فهي جاهلية، وكان بعض العلماء يقول: نحن في جاهلية القرن العشرين، واليوم أصبحنا في جاهلية القرن الواحد والعشرين نسأل الله السلامة.
الجهل يطلق على معنيين
والجهل يطلق على معنيين، المعنى الأول المتبادر إلى الذهن في حياتنا ضد العلم، من يكون خالي الوفاض من العلم يسمى جاهلاً، لأنه لا يوجد عنده المعلومة، والجهل قد يكون عاماً وقد يكون خاصاً، فقد أجهل معلومة فأقول لك: أنا في هذا التخصص جاهل، لكنني في تخصص آخر عالم، فالجهل ضد العلم، لكن العصر الجاهلي لم يكن خالياً من العلوم، في اللغة كانوا يعتبرون في الدرجة الأولى، كانت تعقد الأسواق من أجل المباريات الشعرية، والشعر الجاهلي استقيت منه قواعد اللغة العربية لما كان فيه من عظيم الفصاحة، والبيان واللغة، وحتى كان عندهم بعض المعارف الأخرى.
فالجهل ضد العلم هذا معنى، لكن المعنى الآخر الذي كان يستخدمه العرب في الجاهلية هو أن الجهل ضد الحلم، فالحليم غير الطائش، الذي يزن الأمور بميزان العقل والمنطق شيء، وصاحب الطيش وهوى النفس، والذي يقيم الدنيا ولا يقعدها من أجل عصبية قبلية، حرب داحس والغبراء من أجل ناقة، وهكذا، هذا يسمى جاهلاً، وإن كان يملك المعلومات، لكن كونه ليس حليماً يسمى جاهلاً، وهذا ما دفع الشاعر عمرو بن كلثوم أن يفتخر فيقول:
ألا لا يجهلنّ أحد علينــــــــــــــا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
{ عمرو بن كلثوم }
وقال غيره:
أحلامنا تزن الجبال رزانة وتخالنا جناً إذا مـــــــــــا نجهل
{ الفرزدق }
طبعاً مديح، عند الحلم نحن رزانتا تزن الجبال، لكن عندما نجهل نصبح كالجن، لا تعرف كيف نتحرك في الجهل، فكانوا يفتخرون بجهلهم، اليوم يوجد عبارات أخرى للجاهلية يقول لك: أنا أكيل الصاع عشرة أصوع، أنا الذي يتكلم معي كلمة أردها عشر كلمات، أنا لا أحتمل أحداً، عنده جاهلية بطريقة جديدة، بدل حلم وجهل يعبر عن جاهليته بأنه إنسان لا يسترضى بالشيء السهل، المؤمن لين هين، الحليم يسترضى، الجاهل لا يسترضى، فالجهل يكون تارةً ضد العلم، وتارةً ضد الحلم، العصر الجاهلي كانت الجاهلية بمعنى ضد الحلم وليست ضد العلم، فيقول: نجهل بمعنى لا نحلم على المخالف، نقيم الدنيا ولا نقعدها من أجل قبيلتنا، من أجل عشيرتنا.
إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا
{ عمرو بن كلثوم }
الطفل عندما يفطم الجبابرة تخر له ساجدة من عظمته، لماذا؟ لأنه من قبيلتهم، من عشيرتهم، من طائفتهم، من قوميتهم، إلى آخره، فهذا معنى الجاهلية في عرف العرب، لكن الجهل ضد العلم موجود أيضاً في اللغة لكن استخدامهم لها كان كذلك.

لفظ الجاهلية في القرآن الكريم:
القرآن جاء باستخدام لفظ الجاهلية في 4 مواضع
القرآن جاء باستخدام لفظ الجاهلية في أربعة مواضع، وأضاف الجاهلية، أو أضيفت الجاهلية إلى عدة ألفاظ: ظن الجاهلية، حكم الجاهلية، تبرج الجاهلية، حمية الجاهلية، هذه أربع آيات، ما ورد لفظ الجاهلية إلا بأربعة مواضع، الآية الأولى ظن الجاهلية هذه تعبر عن فساد التصورات، قال تعالى:

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
[ سورة آل عمران]

ظن الجاهلية، هذه تعبر عن فساد التصور، أي عنده تصور مغلوط عن الله عز وجل، ومن عرف ربه عرف نفسه، ومن عرف ربه عرف الكون من حوله، لأنه الخالق جلّ جلاله، فالذي يغيب عنه معرفة ربه يغيب عنه كل شيء، ولو وجدته في أعلى منصب في الأرض، إذا لم يكن عنده تصور صحيح عن الخالق فلا يوجد عنده تصور صحيح عن الخلق بالمطلق، يتعلم، ويبدع في الأرض، وربما يتفوق فيها، لكن لا يفلح الفلاح الحقيقي لأنه لا يوجد عنده التصور الصحيح، فظن الجاهلية هو فساد التصورات.
أما حكم الجاهلية فهو فساد الأحكام، القضاء، فإذا كان تصور الإنسان خطأ فحكمه خطأ، إذا كان القاضي غير مرتش، وتصور أن الحق مع الظالم لا مع المظلوم، لأن الظالم عنده بينات ولحن في اللسان أكثر من المظلوم، إذاً سيحكم حكماً خطأ، الحكم الخاطئ ناتج عن تصور خاطئ.
بالعرف الديني؛ إذا إنسان تصور أن النبي صلى الله عليه وسلم سيشفع لأمته كلها ويدخلها الجنة فوراً لأنها من أمة محمد سواء صلى أو لم يصلّ، صام أم لم يصم، زكى أم لم يزكِ، زنا أم لم يزنِ، كل أمة محمد يوم القيامة تعالوا أنتم لكم مدخل خاص، مسرب خاص، الكل يدخل الجنة، لا يوجد حساب، إذا تصور هذا المفهوم الساذج للشفاعة من صباح اليوم الثاني سيبدأ بالمعاصي والآثام، ويترك الفرائض، ما من داع للالتزام، الحكم من أين نتج؟ عن تصور خاطئ.
المرأة إذا فسدت فسد المجتمع
تبرج الجاهلية؛ فساد النساء، فساد تصورات، فساد أحكام، فساد النساء، لأن المجتمع إذا كان فيه التبرج، المرأة إذا فسدت فسد المجتمع، هي عصب المجتمع، لأن البيت هو الخلية الأساسية في المجتمع، والبيت فيه الأم، وفيه البنت، وفيه الأخت، وفيه الزوجة، والعمة، والخالة، عماد البيت، عماد البيت النساء، الرجال عماد الأعمال في الأعم الأغلب، لكن عماد البيت المرأة الصالحة، فإذا خرجت عن مهمتها فسدت وأفسدت (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) اليوم الجاهلية الثانية.
وأما حمية الجاهلية فهي فساد المجتمع كاملاً، تعصب طائفي، أحكام مبينة على فلان من جماعتنا، وفلان ليس من جماعتنا، الذي من جماعتنا يغفر ذنبه مهما كبر، والذي من غير جماعتنا يحاسب على أدق التفاصيل مهما صغرت، لأنه قريب للمدير يعين في منصب قريب جداً، وهو لا يملك مؤهلاته، وصاحب المؤهلات يُترك في منصب بسيط جداً براتب قليل لأنه لا يحبه المدير، أو لأنه ليس من أقرباء المدير، أو ليس مقرباً له، الآن أعطي أمثلة عامة سأعود إلى التفاصيل.
عموماً إذا كان في المجتمع تصور مغلوط، ونتج عنه حكم مغلوط، وكان في المجتمع نساء مفسدات، وكان في المجتمع علاقات بينية اجتماعية، فاسدة، مبنية على المصالح، والطائفية، لا على الخبرات.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[ سورة الحجرات]

فنحن أمام جاهلية، هذه هي الجاهلية الحقيقية، ولو كان العصر قال لك: غزونا الفضاء، وصلنا للمريخ، هذه تكنولوجيا، لها ما لها، وعليها ما عليها، لو وصلنا إلى القمر تكنولوجيا، لكن الحضارة هي المجتمع، أن تكون المرأة في دورها، التصور صحيح، الأحكام صحيحة، ثم العلاقات الاجتماعية مبنية على الكفاءة والعلم.

قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
[ سورة القصص]

القوي؛ في علمه، الأمين؛ في سلوكه.

شروط صحة الحديث:
يشترط في كل راوٍ العدالة والضبط
بمصطلح الحديث يشترط في كل راو حتى يُحكم للحديث بالصحة، يشترط في كل راو أن يملك صفتين؛ العدالة، والضبط، الضبط قوة، قوة الذاكرة، ألا يكون ممن ينسى، ممن وهم في آخر عمره، ممن كان ينقل الأحاديث بالمعنى وليس باللفظ كما وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعدالة أن يكون عنده أمانة بحيث لا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فينقل شيئاً لصالحه، كان هناك أسباب كثيرة لوضع الأحاديث، من أسباب الوضع المعارك التي حدثت في المجتمع المسلم فصار كل واحد يضع حديثاً يناسب طائفته وجماعته، طبعاً هذه موجودة في كتب الموضوعات، ومعروفة، لأن الله هيأ لهذه الأمة من نقح أحاديث رسول الله.
ومن الطرائف، أي من أسباب الوضع أحياناً أن يكون مصلحة مالية، فتجد مثلاً حديثاً في فضل البطيخ، ربما وضعه بائع البطيخ، حتى يشتري الناس منه فوضع حديثاً في فضل البطيخ.
ومن الطرائف أيضاً أن أحدهم وضع حديثاً جعل فيه فضلاً لكل سورة، من قرأ سورة البقرة فله كذا، ومن قرأ آل عمران فله كذا، إلى سورة الناس، فلما كُشف وضعه بناء على معطيات علم الحديث، ليس هناك سند متصل، عدالة، ضبط، فقال له أحدهم: ما دفعك إلى ما فعلت؟ فقال: رأيت الناس قد اشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي ابن إسحاق، فأردت أن أشغلهم بالقرآن، النية سليمة، والأفعال خاطئة مئة بالمئة، فلا تكفي النية السليمة دائماً، لابد من أن يكون الفعل موافقاً لشرع الله، فكذب على رسول الله، والعياذ بالله بزعم أنه يريد أن يرجع الناس إلى كتاب الله، ويرغبهم في قراءته، وفي الصحيح ما يجعلنا أكثر رغبة في قراءة كتاب الله من أحاديث موضوعة.

من أساء الظن بربه فقد خاب وخسر مهما كثرت أعماله:
على كل حال، إذاً هي أربع كلمات في هذا اللقاء، نبدأ بالتفصيل، ظن الجاهلية، قال تعالى: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) ما معنى سوء الظن بالله؟
إخواننا الكرام؛ الإنسان إذا جاء الله تعالى بحسن الظن فقد أفلح، وإذا أساء الظن بربه فقد خاب وخسر مهما كثرت أعماله، فلذلك في الحديث:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن حسن الظن بالله تعالى من عبادة الله }

[أخرجه الحاكم ]

ثمن الجنة، ويقول تعالى في الحديث القدسي:

{ عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن الله جل وعلا أنه قال: أنا عند ظن عبدي بي فليظن في ما شاء }

[أخرجه الدرامي والطبراني في المعجم الكبير وابن حبان ]

الظن الحسن بالله أساس في ديننا
فالظن بالله الحسن هذا أساس في ديننا، فالظن غير الحق سماه الله تعالى (ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) ضرب لنا مثلاً في القرآن حتى نقيس عليه، قال: (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) أي إذا ظن الإنسان أنه صاحب تصرف وأمر في الكون فهذا ظن سوء بالله تعالى لأنه نسب إلى الله تعالى العجز، إذا شخص قال لك: الحياة تمشي أخي بإرادة أمريكية بحتة، لا أحد يستطيع أن يتصرف بالكون غيرهم، طبعاً يقولها الإنسان أحياناً من غير أن يشعر يريد أن يبين الغطرسة الغربية الحالية، لكن بالعمق هذه الكلمة غير صحيحة، هذه فيها سوء ظن بالله، الكون تديره جهة واحدة هي الله تعالى، وهؤلاء الذي يتحركون يتحركون على ظهر السفينة، لكن الربان هو الذي يحرك السفينة، فيتحركون شرقاً أو غرباً، شمالاً أو جنوباً، لكن السفينة في طريقها إلى هدفها، لو أن إنساناً غضب من ربان السفينة وقال: أنا أريد أن أذهب إلى الجنوب وهو يذهب إلى الشمال، فنهض على ظهر السفينة العملاقة، وركض من الشمال إلى الجنوب، افعل ما شئت السفينة متجهة باتجاهها، أنت تبلعط بلعطة على ظهرها، أما هي متجهة بأمر الربان، ولله المثل الأعلى، فالكون كله يتجه بأمر خالقه، قال تعالى:

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
[ سورة الأعراف ]

الأمر لله (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) وما تراه من حركة الناس في الكون إنما هي بإرادة الله، سواء إرادته الشرعية إذا تحركوا وفق دينه، أو بإرادته الكونية إذا تحركوا بخلاف دينه، حتى لو سرق السارق فهو بإرادة الله، لكن بإرادته الكونية وليس الشرعية، قال:

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
[ سورة الزمر]

كل ما نفعله بأمر الله تعالى
فهناك ما يرضاه الله، وهناك ما لا يرضاه الله، لكن كل ما يحصل يحصلُ بإرادته سواء ما رضيه أو ما لم يرضه، فضرب لنا مثلاً الآن بأن من سوء الظن بالله أن تظن أن هناك من يتحرك في الكون وحده، وأن تنسب صفة العجز لله تعالى الله، من سوء الظن بالله أن تظن أن الله تعالى لا ينصر دينه، ولا أولياءه، ولا يعز دينه، وأنه قد خذل أهل دينه، وتخلى عن دينه، حاشاه جل جلاله، من سوء الظن بالله أنه أجبر عباده على المعاصي والآثام، ثم سيحاسبهم، من ظن أن الله تعالى أجبر عباده على المعصية، قال لك: والله الأمور كلها منتهية، ونحن نتحرك بأمر الله، وكل ما نفعله بأمر الله تعالى، قال:

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
[ سورة الأعراف]

ولما عدد الله تعالى المحرمات، العقوق، والخمر، وإلى آخره، جعل أعلاها قال: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ):

مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
[ سورة المائدة]

فالإنسان أعظم فرية يفتريها أن يتحدث عن الله تعالى بخلاف ما هو عليه جل جلاله، تنزيه الله، ما معنى سبحان الله؟ نسبح الله دائماً، ننزهه عن كل نقص، حاشاه جلّ جلاله، من ظن أن الله تعالى قد ظلم في دينه المرأة، المرأة ظنت أن الله ظلمها، أخي الشرع ما أنصفنا، نحن مظلومون في كتاب الله، جُعل للرجل القوامة علينا، وجُعل حظنا من الميراث:

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)
[ سورة النساء]

طبعاً قد يسأل الإنسان، قد يستفسر، ويفهم، لا مانع، لكن أن يستقر في قلبه أنه ظُلم في شرع الله فهذا سوء ظن بالله، من ظن بأن الله تعالى لن يدخله النار.

وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
[ سورة البقرة]

فهذا ظن سوء بالله، ومن ظن أنه سيدخل النار لكن مدة.

وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
[ سورة البقرة]

هذا سوء ظن بالله، أي لو رحت أعدد ما يسيء الناس الظن بربهم به لما انتهى المجلس، ونحن - ولله الحمد - كلكم أهل فضل ومبرؤون من ذلك لكن حتى نُعلّم الناس، وننقل لهم، سوء الظن بالله مصيبة، مصيبة المصائب أن يسيء الإنسان الظن بربه، فيظن مثلاً أنه يعذب أولياءه، ويقرب أعداءه حاشاه جلّ جلاله، قد يترك المجال لأعدائه ليتمادوا.

وَأُمْلِي لَهُمْ – يتركهم - إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
[ سورة الأعراف]

وقد يسمح لبعض أعدائه أن يتسلطوا على بعض أوليائه ليردهم إليه لذنب اقترفوه، أو لحكمة يعلمها، لكنه لا يتخلى عن أحبابه، ولا يقرب أعداءه، وإنما هؤلاء مبعدون عنه، وهؤلاء الأحباب قريبون منه، وإن بدا لك خلاف ذلك، يكفي أنه يتجلى على قلوب عباده المحبين، يكفي أنه يلقي في قلوبهم السكينة، يكفي أنه أعد لهم:

﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
[ سورة آل عمران]

فهذا كله من سوء الظن.

فساد التصور:
الآن فساد التصور، هذا بالظن هو تصور، أنا أظن ذلك، من سوء الظن مثلاً ما قاله الشاعر:
زعم المنجم والطبيب كلاهمــــا لن تبعث الأموات قلت إليكمـــــــا إن صح قولكما فلست بخاسر وإن صح قولي فالخسارة عليكما
{ [ أبو العلاء المعري] }
أي إذا كان هناك آخرة خسرتم، وإذا لم يكن هناك آخرة أنا لا أخسر شيئاً، فهذا فساد تصور، إن كان يعني ما يقوله فهو فساد في التصور، بأن الآخرة بين بين، فكل فساد تصور ينتج عليه فساد أحكام، وإلا لقيل للإنسان: اعتقد ما شئت، تصور ما شئت، إذا كان الإنسان سلوكه لا يرتبط بتصوره إذاً تصور ما شئت، نريد سلوكك، نقطة انتهى، لذلك يربط القرآن الكريم بين العقيدة والشريعة في كثير من الآيات، منها قوله تعالى:

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
[ سورة الماعون]

هذا تصور، يتصور أنه ليس هناك يوم قيامة، لن يحاسبنا الله.

وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
[ سورة آل عمران]

يربينا القرآن من خلال الأقوام السابقة
تصور خاطئ، نحن يكفي أننا نحن من اليهود حتى نكون (أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ) تصوركم خاطئ، وإذا قالت أمة محمد اليوم: نحن أمة محمد المرحومة، ثم ظلم بعضنا بعضاً، واعتدى بعضنا على بعض، وفسدت علاقاتنا، يقال لنا: (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) يربينا القرآن من خلال الأقوام السابقة، فلو كان الإنسان يتصور شيئاً ثم يسلك السلوك الصحيح بغض النظر عن التصور إذاً اعتقد ما شئت، لكن لينعكس (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) تصور.

فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ
[ سورة الماعون]

حكم، تكذيبه بالدين جعله لا يعطي اليتيم حقه، وإن أعطاه، قد يقول قائل في داخلكم: أعلم أناساً يكذبون بالدين، لكن يعتنون بالأيتام، وأنشؤوا مؤسسة، تماماً، أعطاهم الله العافية، نحن نشكرهم على ذلك، لكن هل هذا الذي فعلوه ناتج عن تصور أم عن غير تصور؟ عن تصور، لكن ليس التصور الإسلامي، أي ليس التصور أنهم ينتظرون موعود الله عز وجل، قد يكون التصور أنهم يريدون بهذه الجمعية أن تنزل الضرائب عنهم، ممكن، وقد يكون التصور أن نظهر نحن أمام المجتمع على أننا نعمل الخير، وقد يكون التصور إنسانياً، وقد يكون التصور وطنياً قومياً، نحن في هذا البلد وطنية وكذا، نبني أوطاننا، وبعض التصورات إذا ضمت إلى التصورات الأخروي لا مانع منها، لكن التصور الأخروي لا يوجد عندهم، لذلك يقال لهم: خذوا أجركم في الدنيا، لأن التصور الأخروي غير موجود، فأنت ما تريده في الدنيا خذه، أما:

وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)
[ سورة الإسراء]

سعي الآخرة غير سعي الدنيا (فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً):

كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)
[ سورة الإسراء]

حتى الذي يعمل للدنيا نمده من عطاء الله، الذي يوفر لمواطنيه رعاية صحية نمده من عطاء الله، (وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)، لكن الآخرة تحتاج إلى سعي الآخرة، تصور الآخرة، لينتج عنه فعل مرتبط بالآخرة لتثاب عليه في الآخرة، فالتصورات ينتج عنها أحكام، أيضاً من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم:

{ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره }

[أخرجه الطبراني، والإمام أحمد]

إذاً التصور يرتبط بالسلوك، ما الذي دفعه إلى أن يكرم جاره؟ إيمانه بالله واليوم الآخر، ما الذي دفعه إلى ألا يتكلم بسوء (فليقل خيراً أو ليصمت)؟ إيمانه بالله واليوم الآخر، وكذلك إكرام الضيف.
كثير من الآيات والأحاديث تربط بين العقيدة والسلوك، العقيدة هي التصور، والسلوك هو الشريعة، الأمر والنهي، افعل ولا تفعل، مرتبطان ارتباطاً وثيقاً.

حكم الجاهلية:
هنا ظن الجاهلية ينتج حكم الجاهلية، قال تعالى:

أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
[ سورة المائدة]

هذا استفهام إنكاري (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)؟!
الإنصاف يكون حصراً في دين الله تعالى
أي إذا شخص الآن أخرجناه إلى الشارع وقلنا له: هذه سيارة مرسيدس 2023 - يمكن لم تنزل بعد - 2022، وهذه دراجة صغيرة خاصة بالأولاد، أيهما تحب أن تأخذ لك؟ فأخذ الدراجة، نقول له: أخذت الدراجة؟!
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أيعقل أن نأخذ حكم الجاهلية وبين ظهرانينا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟! فالأحكام الأقضية الناتجة عن التصورات لا ينبغي أن تكون أحكام جاهلية، وكل حكم كما قال العلماء: ليس في كتاب الله تعالى، أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حكم الجاهلية ولو كان في دساتير أعظم الدول، فإذا كان في دستور أعظم دولة أن المرأة إذا طلقت تأخذ نصف أملاك زوجها فهذا حكم الجاهلية، حكم الإسلام أنها تأخذ مهرها، ونفقة عدتها، وإذا كان في أحكام أهل الأرض في أكبر الدساتير أن الرجل إذا توفي، أو المرأة أخذ أبناؤه الذكر كالأنثى سواسية فهذا حكم الجاهلية، لأنه ليس في كتاب الله، فأي حكم ليس في كتاب الله فهو حكم جاهلي، من أحكام أهل الجاهلية، فيجب الانتباه إلى ذلك، المؤمن يحتكم إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة رسوله، البعيد عن الإيمان أو ضعيف الإيمان ينظر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فإن وجد الحكم لصالحه أخذ به، وإلا قال للآخر: نحتكم إلى القوانين، يا أخي نحن اليوم البلد فيها قوانين، نحتكم للقوانين، لماذا؟ لأن القوانين أنصفته في زعمه، والإنصاف حصراً في دين الله تعالى، فعندما يحتكم الإنسان إلى غير منهج الله تعالى فقد استبدل:

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
[ سورة البقرة]

ترك حكم الله وأخذ حكم الجاهلية.

الموقن يتجه إلى حكم الله:
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) الموقن يتجه إلى حكم الله، يقول لك: إذا أنا لي حق في الشرع آخذه، وإذا كان الشرع يقول: لا، انتهى، أنا ليس لي حق، لذلك لما قال تعالى:

فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)
[ سورة النساء]

هل يكفي ذلك؟ لا: (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) هل يكفي ذلك؟ (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) هي ثلاثة مستويات، أولاً: إذا وقع خلاف نحكّم فيما شجر بيننا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تمّ التحكيم، ليس في القلب حرج، ضيق، أنا سأقبل لأنني وضعت يدي على شاربي، أما أنا لا أقبل هذا الكلام كله، إذا هكذا الدين أنا لا أقبل أخي، لا، ما دام الحكم واضحاً، وكتاب الله مدللاً بالكتاب والسنة (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ مِمَّا قَضَيْتَ) ثم (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) انتهى، أبداً ولا كلمة، ما دام هذا حكم الله انتهى الأمر، حكم الله فيه المصلحة للجميع، أحكام أهل الأرض قد يجد الإنسان فيها مصلحة لطرف لكنها على حساب طرف آخر.
لما كان في حكم الله تعالى أن تغض بصرك عن محارم الناس فقد أمر ملياراً ومئتي مسلم أو أكثر أن يغضوا أبصارهم عن محارمك، ولما كان في حكم الله تعالى أن تقطع يد السارق فإنه قطع مليار يد أن تمتد إلى مالك، فهذا حكم الله، أما الذي يجد اليوم حرجاً في أحكام الله يقول لك: اليوم الحدود بهذا العصر غير ممكنة حتى نتكلم فيها، أي قطع يد السارق هذه حدود - والعياذ بالله - يقول لك أحياناً بعض الناس: هذه همجية، كيف همجية؟ أو الجلد يا أخي! والحكم في كتاب الله.

الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
[ سورة النور]

هذا حكم الله، الملاحظ في فجر الإسلام أنه كان حتى الذين يقعون في المعاصي التي تستوجب الحدود بشروطها المعتبرة، ويقيمها الحاكم طبعاً وليس أفراد الناس، وبعد إقامة البينات، والزاني الذي يزني في الطريق وليس في البيت دون شهود إلى آخره ضمن النطاق أنه يأتي إلى رسول الله فيقول: طهرني، أي هو عصى الله لكن لا يوجد عنده فساد في التصور، حكم الله، للأسف اليوم مع انتشار الزنا تجد المشكلة الأكبر في فساد عقول بعض المسلمين الذين يجترئون فيقولون على الله الكذب، فيقول لك هذا الحكم، بعض الناس على الفيس بوك من يدعون أنهم أهل العلم وكذا، مشكلته في التصور، في أنه يجد أن دين الله فيه ظلم والعياذ بالله، وهذا أعظم، أي أن تنكر حدود الله الثابتة في كتابه بالصريح أعظم من أن يأتي الإنسان ما يستوجب الحد، هذا حكم الجاهلية، وهذا فيه فساد الأحكام.

النهي عن التبرج:
أما الثالثة فقد قال:

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)
[ سورة الأحزاب]

وهذا الكلام وإن كان موجهاً في الأصل إلى أمهات المؤمنين، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أهل العلم يقولون: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فما دامت أمهات المؤمنين مأمورات بترك التبرج فكل المسلمات مأمورات تبعاً بترك التبرج، فقال: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى).
والحقيقة أنه بحسب الأخبار الواردة إلينا من الجاهلية الأولى التبرج لم يكن يساوي واحد بالألف من تبرج جاهلية قرننا الواحد والعشرين، ومع ذلك فالله تعالى يقول: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) فكيف إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم حال أمته اليوم وقد تبرجت تبرجاً ليس من دينه في شيء؟!

حمية الجاهلية:
وأما الأخيرة: حمية الجاهلية، قال تعالى:

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)
[ سورة الفتح ]

الحمية هي الأنفة التي تمنع من قبول الحق
الحمية هي الأنفة التي تمنع الإنسان من قبول الحق، لذلك يقال: أخذته الحمية، أي إذا قيل له: اتقِ الله أخذته العزة بالإثم، أبو طالب كانت تأخذه حمية الجاهلية، قال له: قلها يا عم وأنا أشفع لك بها عند الله، قلها كلمة، قال: وتعيرني بنو عبد المطلب يقولون: إنما قالها جزعاً من الموت؟ خاف من الموت، وهو على فراش الموت، يقولون: خائف من الموت، من منا لا يخاف من الموت ولقاء الله؟ أي الحمية أنفة تمنع من قول الحق، الكثير من المشركين رفضوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لا لأنهم لم يقتنعوا بها، قال تعالى:

وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
[ سورة النمل ]

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
[ سورة الأنعام ]

أي:

إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
[ سورة المدثر ]

النصرة بالأخذ على اليد والمنع من الظلم
هم لم يكن عندهم مشكلة في الحق، هم أصحاب البلاغة، وعلموا أن هذا الكلام كلام الله، لكن أخذتهم حمية الجاهلية، واليوم تتكرر حمية الجاهلية بصيغ مختلفة، أي عندما تقام الدنيا ولا تقعد من أجل كلمة فيها إساءة لطائفة، أو شيء، فتقوم طائفة أخرى وتتقاتل مع الأولى، هذه حمية الجاهلية، يندفع بدافع التعصب الطائفي، الأعمى، المقيت، بدافع من حزبيته، بدافع من طائفته، من عائلته، من قبيلته، من عشيرته، نظام العشيرة، نظام القبيلة على العين والرأس، هو نظام اجتماعي يؤمن رقابة داخلية مجتمعية، أي يكون بالعشيرة كبير، إذا كان استخدمت العشيرة بالشكل الصحيح فهو مثل ضمان، صمام أمان، أي في الآخر إن صار جريمة، أو أي شيء فيرجع له، لكن عندما تتحول العشيرة إلى حمية ندافع عنها بالحق والباطل هنا المصيبة، لذلك كانوا في الجاهلية يقولون: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، كلام أهل الجاهلية، هو في الأصل كلام أهل الجاهلية، انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، أنا أقف مع ابن عشيرتي ولو كان ظالماً، فقط لأنه ابن عشيرتي، حمية الجاهلية، فلما قالها النبي صلى الله عليه وسلم استغرب أصحابه، كلام الجاهلية، قالوا: يا رسول الله ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: نرده عن ظلمه، صحح المفهوم، انصره ليس بالوقوف معه بظلمه، انصره بأن تأخذ على يده وتمنعه من الظلم، هذا نصرة له، فحمية الجاهلية هي أن يتحرك الإنسان بدافع طائفي، تعصبي، قومي، قبلي، إلى آخره، فيندفع، فيفعل الأفاعيل، أو تأخذه الأنفة بدافع قبيلته وعشيرته:

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
[ سورة البقرة]

حمية الجاهلية تؤدي إلى فساد المجتمع
لذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، أي ضربه، فقال المهاجري: يا للمهاجرين! رجعوا للعصبية، وقال الأنصار: يا للأنصاريين ! كل واحد رجع لعشيرته، وقبيلته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها منتنة، أبدعوى الجاهلية، دعوها فإنها منتنة – رائحتها نتنة - أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ ما زلتم بينكم وعدتم إلى دعوى الجاهلية؟
ثم عالج المشكلة صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، منهج في حلّ المشكلات، قوموا، وجعلهم يمشون من ستة عشرة إلى ثمانية عشرة ساعة حتى تعبوا، جلسوا ناموا ثم مشوا حتى وصلوا إلى المدينة.
اليوم بأنظمة الجيش، يقول لك: مجرد ما تركت إشغاله يشتغل الأول بالثاني، فحل المشكلة بطريقة عظيمة جداً، بأنه ما ركز عليها، لم يركز عليها.
أنت اليوم جرب بالطرقات، صارت مشكلة مثلاً بين اثنين، هدؤوا، بعد أن هدؤوا وكان الناس مجتمعين، اتصلوا بالشرطة، جاءت الشرطة ماذا حدث؟ خير، شعلت مرة ثانية، لأن كل واحد يريد أن يتكلم بما عنده، الحكمة أن تأخذ الطرف الأول وتجلس معه، وتسمع منه، ثم تأخذ الطرف الثاني، ثم تبعد الناس، أنتم اذهبوا، وتحل المشكلة، لا تؤججها من جديد، هذا يسمونه: فن حلّ النزاعات، أو المشكلات فالنبي صلى الله عليه وسلم كان رائداً به صلى الله عليه وسلم.
أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ فحمية الجاهلية تؤدي إلى فساد المجتمع بالكامل عندما يتحرك الناس بناء على انتماءاتهم لا بناء على انتمائهم للحق.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[ سورة الحجرات]

{ عن أبي نضرة رحمه الله قال: حدثني من سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق فقال: يا أيها الناس إن ربكم واحد وأباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا أسود على أحمر ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أي يوم هذا؟ 'قالوا: يوم حرام ثم قال: أي شهر هذا؟ '. قالوا: شهر حرام. قال: أي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام. قال: فإن الله عز وجل قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم، قال: ولا أدري. قال: وأعراضكم، أم لا؟ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، أبلغت؟ قالوا: وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ليبلغ الشاهد الغائب }

[أخرجه الإمام أحمد ]

إذاً هذه أربع كلمات: ظن الجاهلية، وحكم الجاهلية، وتبرج الجاهلية، وحمية الجاهلية، تفسد الأمة من خلال فساد تصوراتها، وفساد أحكامها، وفساد نسائها، وفساد مجتمعها.
والحمد لله رب العالمين