• محاضرة في الأردن
  • 2022-12-19
  • عمان
  • الأردن

كفى بالله

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.


مقتضيات الوكالة:
وبعد أيها الإخوة الأحباب ؛ عنوان لقائنا اليوم: كفى بالله.
إعرابياً: كفى بالله.
كفى: فعل ماض.
بالله: الباء حرف جر زائد.
الله: هو الفاعل.
أي كفاني الله تعالى، أي الله كافيني.
عدة آيات وردت في كتاب الله تعالى:

وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)
[ سورة النساء]

أو:

وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)
[ سورة النساء]

أو:

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)
[ سورة الإسراء]

وفي آية ثانية:

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
[ سورة الإسراء]

الإنسان أحبابنا الكرام أحياناً يوكل، يوكل محامياً، ثم يرتاح، يقول لك: قد وضعت الملف عند محامٍ لا تخيب عنده قضية، فينام ملء عينيه، وأحياناً إنسان يوكل صديقاً له بمهمة، يقول لك: فلان خير من توكله، وكله وانسَ الأمر، وهو يتابع القضية كاملة فالإنسان يوكل لأنه ضعيف، قال تعالى:

يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً (28)
[ سورة النساء]

إذا توكلت على الله تعالى فلن يخيبك
كثيراً ما يحتاج أن يوكل غيره في مهمة ليقوم بها عنه، ولأن الله تعالى جعل بعضنا بعضٍ سخرياً فسخر بعضنا لبعض، فأنا أستطيع شيئاً وأفقد مئة شيء، أحتاج مئة شخص لمئة شيء أفقدها، الطبيب يتقن طبه، لكن يحتاج إلى من يصلح له مواسير المياه، يحتاج إلى من يصلح له حاسبه، هاتفه المحمول، يحتاج إلى من يحلق له شعره، يجلس بين يديه، ويسلم رقبته له، فكل إنسان مهما بلغ من العلم لا يستطيع إلا أن يوكل غيره في أشياء كثيرة، لكن كل الوكالات التي يوكل بها إنسان غيره في شأن من شؤونه مهما يكون الوكيل على درجة عالية من الفهم، والعلم، والدقة، والخبرة، فإنه لا نستطيع أن نقول له كفى به، إلا الله تعالى الوكيل جلّ جلاله نقول: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً) فقط ربنا جلّ جلاله إذا أوكلت أمرك إليه فقل: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً) إذا توكلت على الله تعالى فلن يخيبك، حاشاه جلّ جلاله، لأن الوكيل الذي تتوكل عليه إن لم يكن هو خالقك فإنه ضعيف مثلك، شئت أم أبيت، فقد يستطيع أن يقوم بالمهمة، أو لا يقوم، أو يقوم بها ناقصةً، أو يقوم ببعضها ويترك بعضها، أو يقصر في أدائها خوفاً، أو جبناً، أو كسلاً، أو تهاوناً، إلى آخره، لكنك إذا أوكلت الأمر إلى الله فهو القدير جلّ جلاله، ولا يعجزه شيء، وهو العليم، فالعلم والقدرة مقتضيات الوكالة، أنت إذا وكلت إنساناً قد يكون عالماً لكن لا يوجد عنده قدرة، وقد توكل إنساناً قادراً لكن لا يوجد عنده علم، فينقصه العلم، أو القدرة، أو كليهما، أو بعضهما، لكن ينقصه شيء، لكن الله تعالى لأنه العليم، ولأنه القدير، فإذا وكلته هو يعلم ما تريد، ويقدر على تنفيذه، ولا يعجزه شيء، إذاً (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً) هذا معنى أن توكل الله في أمرك.

الوكيل مؤتمن يقوم بالوكالة:
الآن لا يعني إذا وكل الإنسان ربه بأمره أن الله تعالى سيحقق له مراده كما يشتهي، لا، إذا إنسان قال: أنا والله وكلت أمري لله عز وجل أن أُرزق هذا المال ثم لم أرزقه، كيف؟ لا، أنت عندما توكل الأمر إلى عليم وقدير فهو يختار لك ما يصلحك، لا ما تشتهيه، يختار لك ما يصلحك لا ما تريده، لكن يوم القيامة تعلم أن ما حصل إنما حصل لمصلحتك أنت.

وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
[ سورة الزمر]

لا يوكل إلا الله
فنحن عندما نوكل الله لا يعني أن يقول الإنسان: أنا وكلت الله وما حصل ما أردته، لا، أنت وكلت الله تعالى أن يقدم لك ما يصلحك لا ما تشتهي نفسك، هذه القصة.
تماماً كما يوكل الابن أباه بشيء ما، فالأب الآن يتصرف وفق حكمته لا وفق ما يريده ابنه، فإذا قال له الابن: أنا وكلتك اتركني نام إلى الوقت الذي أريد، يقول له: لا؟! استيقظ وقم إلى المدرسة، أنا موكل لأقوم بالوكالة كما ينبغي أن يصلحك لا كما تشتهي نفسك.
إذا ذهبت إلى طبيب وقلت له: أنا وكلتك بأمري، طبعاً مجازاً، لا يوكل إلا الله، إذا قلت له: أنا وكلتك بأمري، الآن الطبيب يعطيك الدواء ولو كان مراً لأنه يناسبك، لا ما تشتهيه نفسك فيقول لك: كُلْ ما شئت، فالوكيل مؤتمن، سيقوم بالوكالة على النحو الذي ينفع ويصلح، لا على النحو الذي يسيء لك، فينبغي أن نفهم وكالة الله على هذا المعنى.

توكيل الإنسان للرب:
نحن أول آية في كتاب الله في كفى بالله (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)، الثانية (وَكَفَى بِرَبِّكَ) هنا إشارة إلى ربوبيته، أي من ينبغي أن توكل؟ الرب الذي يمدك بما تحتاجه.

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
[ سورة الأنعام ]

ربنا جلّ جلاله يطعمك، ويرزقك
ربنا جلّ جلاله يطعمك، ويرزقك، هذا هو الرب، مفهوم الربوبية أنه يعطي مثل رب الأسرة، لله المثل الأعلى، لماذا يوكل رب الأسرة بشأن الأسرة؟ لأنه هو الذي يكون واسطة لإطعام الأسرة، وكسوتها، وعلاجها، وتأمين أقساط المدارس، والجامعات، فيوكل بها لأنه ربها، رب الأسرة، والله تعالى رب العالمين فلذلك لا يوكل غيره في شأن، فإن وكلت من البشر محامياً، طبيباً، بنّاءً في شأن من شؤونك، مهندساً فإنما توكله أخذاً بالأسباب، لا اعتماداً عليه على أنه الوكيل (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)، فتقول: ذهبت إلى الطبيب أخذاً بالسبب، لا أوكله بالشفاء وإنما أوكل الله بالشفاء، وذهبت إلى المحامي لأوكله بالقضية أخذاً بالأسباب، لا على أنه هو الذي ينصرني من المظلمة التي أنا فيها، وإنما على أنه سبب، لذلك أمرني الله باتخاذه (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً) (وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً).

الله تعالى يعلم حال عباده ونياتهم:
الآية الثانية:

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
[ سورة الرعد]

ومثلها:

قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)
[ سورة الإسراء]

(كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) الشهيد؛ من شهد، شاهد، ويقال في المحكمة: جاء الشاهد، يشهد في المحكمة على ما رآه، وقالوا: على مثل قرص الشمس فاشهد، أو فدع، أي الشهادة إما أن تكون على شيء شهدته يقيناً أو اترك، لا يشهد الإنسان إلا بما رأى، فالله تعالى أعظم شهيد، شهيد على وزن فعيل، أبلغ من شاهد، لما خاطب نبيه قال:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45)
[ سورة الأحزاب]

فنبينا يشهد علينا.

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً (41)
[ سورة النساء]

الله تعالى أعظم شهيد جلّ جلاله
لكن الله تعالى أعظم شهيد جلّ جلاله، لأنه يشهد عباده، يعلم حالهم، يعلم نياتهم، يعلم بواعثهم، يعلم لماذا فعلوا، أهل الأرض لا يدخلون في النيات، لو شهدوا يشهدون بالظاهر وببعض الظاهر، قد يغيب عنه شيء، يقول له: ما رأيته وهو يقص الشريط كان وجهه متجهماً؟ يقول: ما انتبهت والله، الثاني يقول له: هو بنى هذه المستشفى أتعلم لماذا؟ من أجل أن يقال: فلان محسن، أتعلم لماذا بنى هذا المسجد؟ لأن المنطقة لا يمكن أن تنظم، ويرتفع سعرها إلا إذا بني فيها مسجد، حتى يحرز المخططات التنظيمية، كله ظن، لكن لا يشهد الناس على بعضهم بالنيات، لذلك قالوا: لو تكاشفتم لما تدافنتم، لو الإنسان يطلع على ما في داخل الإنسان لربما مات فلا يدفنه لأنه علم ما كان يضمره له، أما نحن سترنا الله عز وجل، الأجسام ستر، الكلام ستر، وقالوا: إنما اخترع الناس الكلام ليخفوا مشاعرهم، فالإنسان غالباً وهذا من المجاملة، المجاملة محمودة ليس بها شيء في دين الله.
النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه بعض القوم فهش لهم، فلما خرجوا قالت عائشة: يا رسول الله أنت لا تحبهم وهششت لهم، قال: متى عهدتني يا عائشة بذيئاً فاحشاً؟
المجاملة ليس فيها شيء مادام على حساب الدين فهي مداراة فيداري الإنسان وقد يخفي شيئاً آخر ولا حرج، مداراة وليس مداهنة في دين الله.
إذاً حتى الكلام، قالوا: إنما تكلم الناس ليخفوا مشاعرهم، حتى لا يظهر ما في داخله، يتكلم فيغلف مشاعره بكلامه.
فلذلك ما يشهد على الخلق إلا الله، شهادة الحق (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً).

من يعمل لله يكفه أن يشهد الله عمله:
الخبرة أعمق من العلم
الآية الثانية: (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) التعليل (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) ما دام عنده خبرة، ويبصر عباده، والخبرة أعمق من العلم أحبابنا الكرام، العلم قد يكون بالظواهر، لكن الخبرة تكون بالبواطن، يقال: فلان خبير، أي ائتِ به، وإن شاء الله يصلح هذا الجهاز، خبير، لا يقال: عليم، خبير، الخبرة عنده علم ببواطن الأمور، في الداخل، فالله تعالى لأنه خبير بصير فـــ (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً)، فالمؤمن عندما يقرأ (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) عندها لا ينظر إلى الخلق، لا يشاهد الخلق، يشاهد رب الخلق جل جلاله، هذه هي منزلة المراقبة، المراقبة أن تشهد أن الله يشهد، المراقبة أن تعلم أن الله تعالى يشهد، أن تشهد ذلك، أشهد أن لا إله إلا الله، أي كأنني رأيت بعيني ذلك، الشهادة، نحن نقول: ندخل الإسلام بالشهادة، وقالوا: الشهيد الذي استشهد في سبيل الله تعالى سمي شهيداً لأنه شاهد، أي شهد شيئاً من عظمة الله تعالى جعله يقدم روحه في سبيل الله، ولا أقول يقدم روحه رخيصة، هنا يقدمها غالية في سبيل الله، لأنه يعلم يبيع من، فشهد، الإنسان الذي يستشهد شهد شيئاً لم يشاهده الخلق، فهذه (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً).
فالمردود علينا إذا قرأنا (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) ألا تلتفت إلى الخلق، فإذا الإنسان عملَ عملاً وقال لك: ذموني بعد أن عملت، وأنا عملت والله أبتغي رضوان الله، لكن هذا ذمني وهذا ذمني فدخل الحزن إلى قلبي، نقول لك: (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً)، ما دام العمل لله فالخلق إن رأوه أو لم يروه، إن مدحوا أو ذموا (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً)، وإذا كان الإنسان في مصلاه يصلي وحده ولا يراه أحد (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً)، وإذا أنفق نفقة لم تعلم شماله ما أنفقت يمينه (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً)، فكلمة (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) تريح الإنسان، لأنه إن كان يعمل لله وحده فيكفه أن يشهد الله عمله، حتى في الخصومات والنزاعات والجدال، قد لا تصل مع إنسان إلى نتيجة ويحرجك في موقف، تقول له: (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) بيني وبينك، الله يعلم ما في داخلي وما في داخلك فيرتاح الإنسان لشهادة الله تعالى عليه.

الله تعالى حافظ لأعمال خلقه وسيحاسبهم عليها:
الآية الثالثة: (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) الحسيب هو: أولاً الحافظ لأعمال خلقه ثم يحاسبهم عليها، وهو الكافي جل جلاله.
معاني الحسيب: أول شيء يحفظ الأعمال، ثم يجازي عليها، يحاسب عليها فهو حسيب، أي محاسب، بمعنى المحاسب، حسيب بمعنى المحاسب هنا، وهو الكافي، الذي يكفي عباده.

وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86)
[ سورة النساء]

ربنا سيحاسِب وسيعاقِب
أي كان قديراً كافياً لعباده في كل شيء، فالإنسان إذا كان لم يحاسب في الدنيا (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) إذا كان طغى، وبغى، ونسي المبتدى والمنتهى، ثم قضى ومات، فقال قائل: يا أخي فلان بعد كل ظلمه، وبعد كل جبروته، مات وخرجت له جنازة مشرفة في عرف الناس، نحن نقول له: (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) إذا ربنا سيحاسب وسيعاقب (وَكَفَى بِاللَّهِ) وفي الوقت نفسه إذا كان إنسان قضى عمره في طاعة الله، ثم قضى إلى الله عز وجل مريضاً متعباً نقول: (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً).
وقد قيل لأعرابي، سأل أعرابي الناس، قال: إذا قضينا من يحاسبنا؟ قالوا: الله قال: إذاً لا شيء عليّ، قالوا: ما بك؟ قال: إن الكريم إذا حاسب تفضل.
أنت إذا جلست مع إنسان كريم، وتكتب الحسابات، يقول لك: هذه اخصم هنا، الكريم لا يدقق بالحسابات، فالإنسان طبعاً إذا كان على جناح الرغبة بعمل صالح يتقرب به من الله فكلمة (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) تريحه لأن الحسيب هو الله، والحسيب كريم جلّ جلاله، وإذا كان على معصية (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) تخيفه.

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
[ سورة الحجر]

حب وخوف الناس منك مرتبة علية
هذا الموقف الكامل، أن تخافه بقدر ما تحبه، وأن تحبه بقدر ما تخافه، وهذا لا يستطيعه إلا ندرة من الناس، حتى في دنيانا في البشر، أنت في المدرسة كلنا خضنا تجربة المعلمين، جاءنا معلمون كثر، تقول: هناك معلم لا أنساه، هذا المعلم كنا نحبه جداً لكن إذا دخل إلى الصف نخافه جداً، تقول: لا أنساه علمنا ما شاء الله، أما هناك معلمون تقول، أحببناه كثيراً يروي لنا قصص وحكايا، لكن الصف دائماً مضطرب وما فهمنا شيئاً، أو تقول، كان عندنا مدرس حازم جداً، قاس جداً، يضرب ويعاقب فهمنا عليه لكن ما أحبه أحد، فأن تصل إلى مرحلة أن يحبك ويخافك الناس في الوقت نفسه هذه مرتبة علية، هذه عند الله تعالى جلّ جلاله قال:

تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
[ سورة الرحمن]

بالجلال تخافه، وبالإكرام تحبه، نحن كلنا نحب جداتنا، إذا ذُكرت جدتك أمامك قد تبكي حنيناً لأيامها الجميلة، تحبها، إكرام، لكن لو أن حاسبك تعطل لا تذهب إليها لتصلحه لك، لأنك لا تجد أنها قادرة على ذلك، وهناك مدرس في الجامعة تقول: مدرس ما شاء الله عظيم جداً! لكن لا أتمنى أن أراه، تعظمه لكن لا تحبه، أما أن يجتمع الأمران فهذا شأن نادر في البشر، أما أن يجتمعا بشكل واضح عظيم جليل، فهو عند الله وحده (ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) جلّ جلاله.
(وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) يقولها الراغب فيسعد، ويقولها الراهب فيخاف، لأن الله هو المحاسب.

الله تعالى هو الناصر:
الآية الرابعة:

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً (45)
[ سورة النساء]

وفي آية أخرى:

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً (31)
[ سورة الفرقان]

الناصر الذي يكفي الإنسان أعداءه
من ينصر الإنسان من بأس الله إذا جاءه؟ الله، من ينصره إذا خاض معركة مع أعدائه؟ الله، من ينصره في مظلمة خاصة اجتمع عليه بعض التجار، أو بعض المهنيين، أو إلى آخره يعادونه في شيء ما؟ الله جل جلاله، فهو النصير، النصير؛ أي الناصر الذي يكفي الإنسان أعداءه وينصره عليهم، (وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً) لا تستنصر أحداً إلا الله.
(وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) يهدي عباده إلى الطريق المستقيم، وينصرهم على أنفسهم، وعلى شهواتهم ، وينصرهم على أعدائهم.
النصر أحبابنا الكرام ؛ مفهوم محبب.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
[ سورة محمد]

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
[ سورة آل عمران]

هذه سنن، النصر من عند الله، والنصر مفهوم شرعي، لا ينتصر إلا مؤمن، قد يتغلب غير المؤمن على المؤمن لحكمة، لكن المؤمن ينتصر، كيف ينتصر؟
أصحاب الأخدود في عرف البشر انتصروا أم انهزموا؟
انهزموا، حُفر لهم شق في الأرض، وأضرمت النار، وألقوا فيها، هؤلاء منتصرون؟ كل الناس قالوا: هؤلاء هزموا، لكن عند الله انتصروا، لأنهم ماتوا ثابتين على مبدئهم فمدحهم الله، قال:

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
[ سورة البروج]

نصر، أما في عرف الناس، نظر الناس، رأوهم منهزمين:

وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
[ سورة يس]

قتلوه.

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)
[ سورة يس]

انتصر، فالنصر، إذا نصرك الله فقد يكون النصر مبدئياً بأن تكون ثابتاً على مبدئك، وقد تحقق شروطه فينصرك في الدنيا والآخرة، وقد ينصرك على نفسك فتقوى عليها فتنظر إلى الآخرين الذين لا يستطيعون قياماً إلى صلاة الفجر فتقول: ما أشد نصرة الله لي! أنني أنتصر على نفسي وأنهض للصلاة، نصر، وقد يقول لك إنسان: أنا والله لا أستطيع، أنا متعلق جداً بهذه الخمرة، أو بالزنا والعياذ بالله، فتقول: الحمد لله أن نصرني على نفسي، فلا ألتفت إلى المعاصي والآثام والكبائر، هذا نصر (وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً)، (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) يهديك وينصرك.

الله عز وجل خبير بصير بأحوال عباده:
الآية الخامسة:

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)
[ سورة الإسراء]

وفي آية:

وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58)
[ سورة الفرقان]

هذه الآية أحبابنا الكرام إذا قرأها العاصي فيقول: كفى بالله خبيراً بذنبه، لعله صدر عن غلبة وضعف، لا عن كبر واستعلاء، فتبت فتاب الله عليّ، كفى به خبيراً يعلم أنني ما أردت فعل ذلك، لكن غلبتني نفسي، فكفى به خبيراً، بصيراً، يعلم حالي، ويعلم نيتي، ويعلم أنني أخطأت فعدت، إلى آخره.
العاقل من يشغله عيبه عن عيوب الآخرين
وإذا قرأها إنسان - نسأل الله السلامة - يتتبع عورات الآخرين، وذنوب الآخرين فنقول له: دع الناس، دع الخلق للخالق (وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)، لا تشغل نفسك بذنوب الناس، هذا رأيته في المكان الفلاني، وهذا فعل كذا، وهذا كان قصده كذا، دعك من ذنوب الناس، العاقل من يشغله عيبه عن عيوب الآخرين، أما من ينشغل بعيوب الناس فنقول له: (وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) هو أعلم بهم، فأنت لا توكل نفسك لتحاسب الناس على ذنوبهم، الله أعلم بعباده، طبعاً قلنا سابقاً: هناك من يجاهر بذنبه، وفي فسقه، هذا أمر آخر، لكن إنسان تغلبه نفسه، إنسان يذنب، الأصل بالمؤمن أنه يترك الخلق للخالق.
روى ابن قدامة في كتابه: "التوابون"، له كتاب لطيف اسمه "التوابون"، يذكر فيه قصص التائبين، فروى أنه لحق قحط على عهد سيدنا موسى بقومه، قحط أي السماء لا تمطر، فجاؤوا إلى موسى، قالوا: يا موسى ألا تستسقي الله لنا؟ استسقاء، اسأل الله السقيا، فجمعهم فكانوا عشرين ألفاً أو يزيدون، قال: فقام فيهم، يا رب اسقنا غيثاً، هنيئاً، مريئاً، يستسقي الله، قال: فما ازدادت الشمس إلا حرارة، وما ازدادت السماء إلا تقشعاً، أي لا يوجد مطر، والداعي هنا نبي، أي نحن ندعو وذنوبنا كثيرة، فإن لم نجب فهذا من عدله، وإن أجبنا فبفضله، أما الأنبياء فدعاؤهم مستجاب، قال: فما ازدادت السماء إلا تقشعاً، وما الشمس إلا حرارة، فناجى ربه، كان موسى كليم الله جلّ جلاله، فقال: يا رب استسقيناك فلم تجبنا؟ قال: يا موسى إن فيكم عبداً يبارزني بالمعصية منذ أربعين سنة، يبارزني أي ليست غلبة، وإنما مصر، يعصي ويتوب، لكن هذا يبارز الله والعياذ بالله، قال: فبشؤم ذنبه حرمتم القطر من السماء، فموسى عليه السلام قال: يا رب أين يبلغ صوتي؟ قال: فمره فليخرج من بين ظهرانيكم قال: يا رب أين يبلغ صوتي وهم عشرون ألفاً أو يزيدون؟ لا يوجد ميكروفون، قال: منك النداء وعلينا البلاغ، فنادى أن يا أيها العبد الذي بارز بالمعصية لله أربعين سنة اخرج من بين ظهرانينا فبشؤم ذنبك حرمنا القطر من السماء، فأوحى الله إلى موسى أن هذا العبد تلفت يمنة أو يسرة لعله يخرج غيره، فلما لم يخرج أحد، وضع رأسه في ثيابه، قال: يا رب عصيتك أربعين سنة وأمهلتني، وجئتك اليوم تائباً، طائعاً، نادماً فاقبلني واسترني بين هؤلاء الخلق يا أرحم الراحمين، استر يا رب، فدعا الله عز وجل، قال: فأمطرت السماء كأفواه القرب، نزل المطر، وفرجت، ولم يخرج أحد، في المناجاة قال موسى: يا رب، سقيتنا ولم يخرج من بين ظهراننا أحد! قال: يا موسى سقيتكم بالذي منعتكم به، أي الذي كان سبب المنع أصبح هو سبب العطاء، بتوبته، وبإنابته، وبصدق إخلاصه لله، فقال: يا رب أرني هذا العبد التائب الطائع النادم؟ أريد أن أراه، قال: يا موسى عجبت لك! أستره وهو يعصيني ثم أفضحه وهو يطيعني؟!
أحبابنا الكرام ؛ (وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) الستير جلّ جلاله جمّلها بالستر، فاستروا كما ستر الله على أنفسكم، وعلى غيركم، نحن منهجنا الستر وليست الفضيحة، إلا المجاهر هذا هو يجاهر بالمعصية (وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً).

ربنا عز وجل هو من يتولى عباده:
قال تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً) الله يعلم عدوك، ويعلم حاجتك، ويعلم رغبتك بالنصر، فهو الذي يتولاك، وهو الذي ينصرك.
(وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً) (وَلِيّاً) كيف ولي أحبابنا الكرام؟ قال تعالى:

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
[ سورة محمد]

سأضرب مثلاً كيف يكون الولي إذا تولاك الله.
الطفل له ولي يتولاه
جرب أن ترى طفلاً مؤدباً صباحاً ينتظر حافلة المدرسة، ثيابه نظيفة، مكوية، شطيرته في كيس معد لها، موضوعة داخل الحقيبة بمكان مناسب، كتبه مرتبة، واجباته قد أعدت، وقف صباحاً، لباسه كامل في الشتاء: تقول وحدك: هذا الطفل له ولي يتولاه، هذا ما استيقظ وحده صف أول، وصار بهذا الشكل، هناك من تولى أمره، وإذا رأيت طفلاً بالشارع تصدر منه ألفاظ نابية، يمشي متسخ الثياب، حافي القدمين، يركض في الشارع، وتكاد السيارة تدهسه، تقول فوراً: هذا أين أهله؟ وقد يكون له أهل لكنهم تخلوا، أو ليس له أهل، نسأل الله أن يرحمه ويكون له عوناً، لكن أنت تسأل: أين وليه؟ هذا معنى ولي الأمر، فإذا كان الله تعالى ولياً للمؤمن أدبه، كلامه يصدر عن لطف، عن لين، عن خير، عن مودة، أفعاله تتسم بالصدق، بالخير، حركاته مؤدبة، تعامله مع الناس مؤدب، هذا: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ).
للطرفة: مرة صديق من أصدقائي، قال لي: والله ذهبت إلى مكان بعيد في أطراف دمشق حتى أصلح سيارتي، عنده مشكلة بالسيارة، فجلس ينتظر حتى ينتهي الميكانيكي من إصلاح السيارة، قال لي: والله على الشرفة فوق المحل، بشرفة من الشرف بيوت قديمة، بشرفة من الشرف يخرج طفل صغير، قال لي: عمره لا يتجاوز العشر سنوات، قال لي: يتكلم بألفاظ نابية غير طبيعية مع طفل آخر في الأسفل، ويصرخ بأعلى صوته بألفاظ نابية، قال لي: وأنا انزعجت جداً من هذا الطفل، من رباه يا ترى؟ فجعلت أقول لهذا الشخص الذي يصلح السيارة: أين أهله؟ من هذا؟ قال لي: غضبت، والرجل يقول لي: اتركه ولد، اتركه ولد، ولد، أنا تركت مرة مرتين ثلاث ثم تركته، قال لي: بعد ذلك خرج الطفل ونادى بابا، فرد عليه مصلح السيارة.
الذي لا مولى له إما أنه له مولى لكن لا يحسن تربيته، أو ليس له مولى حقاً ، قالوا: إن اليتيم الذي تلقى له أماً تخلت أو اباً مشغولاً، هذا اليتيم الحق، أما إذا كان يتيماً فقد والده، أو والديه، أو أحدهما، ثم تولى عمه، أو جده، أو دار محترمة تربيته فقد يكون خيراً ممن له أب، وهذا يدل على أن الإنسان صاحب خيار في المحصلة، وربنا عز وجل يتولى عباده فليست العبرة في يتيم الأب والأم، وإنما في التربية، (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً) .

معالجة الله عز وجل للمؤمن:
قال:

ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)
[ سورة النساء]

يكفي أن الله يعلم، فإذا كفاك الله علمه جلّ جلاله، قل: كفاني علم الله تعالى بحالي، كفاني علمه بحالي، فإن كنت في حال سيئة فهو يعلم الحال، وإن كنت في إقبال عليه يعلم حالك، وإن كنت في إدبار يعلم، ويعالج جلّ جلاله، وهذا من مفهوم ربوبيته جل جلاله أن يعالج المؤمن قبل أن يلقاه.

الله تعالى لا يضيع شيء عنده:
وآخر ما في هذا اللقاء قال:

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
[ سورة الأنبياء ]

يوم القيامة يوجد موازين
يوم القيامة يوجد موازين، توزن الأعمال بالموازين، هناك موازين للعلاقة مع النساء، وموازين للعلاقة مع المال، وموازين للعلاقة مع الآخرين، وموازين للصلاة، موازين وليس ميزاناً واحداً (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ – العدل - لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) ولا أي شيء، قال: (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) قال:
اليوم إذا كان هناك محاسب في شركة، وقلت: ما شاء الله! عندي محاسب تخرج الميزانية على ربع دينار، ميزان المحاسبة مئة بالمئة، الدخل مع الخرج صفر، الله أكبر، الصندوق واضح، إذا ربنا عز وجل (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) لا يوجد حبة من خردل.

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7)
[ سورة الزلزلة]

إذا كنت تتوضأ في مزرعة ما على مغسلة، وجاءت نملة وانتظرتها حتى تخرج قبل أن تفتح الماء أتى بها الله عز وجل يوم القيامة لك، وبالمقابل إذا كنت تمر في الطريق ووجدت قطة دون أن تؤذيك ركلتها بقدمك (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) لا يضيع شيء عنده لا بالإحسان ولا بالإساءة (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ).

محاسبة الله تعالى العباد كلهم:
وفي آية أخرى:

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
[ سورة الأنعام]

أسرع من يحاسب هو جلّ جلاله
اليوم يقول لك: تطورت الأجهزة، أي وضعت العملية معقدة جداً في أقل من ثانية جاءني الجواب، آلة حاسبة معقدة، حاسوب معقد، على الهاتف عمليات حسابية رهيبة بتحويل الأموال، بكذا (وهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)، هناك من يحسب في الأرض لكن أسرع من يحاسب هو جلّ جلاله، تخيل أنت نحن اليوم في الأرض بغض النظر عن الأمم والقرون التي ماتت، أمامك اليوم ثمانية مليارات من البشر، فقط الذين هم اليوم، هؤلاء إذا وقفوا بين يدي الله يريد أن يحاسبهم عن كل كبيرة وصغيرة، وليس عن الظواهر، وإنما عن الأعمال والنيات، وكل إنسان آتاه الله شيئاً سيحاسبه بناءً عليه، فالذي آتاه الله لأهل العرب لم يأته لأهل العجم، وآتى أهل العجم شيئاً لم يأته لأهل العرب، وآتى، وآتى، وآتى، وهؤلاء بلغتهم الدعوة، وهؤلاء لم تبلغهم، وهؤلاء بلغتهم مشوهة، وهؤلاء ماتوا قبل الإسلام، وهؤلاء أهل الفترة، وهؤلاء من النصارى، وهؤلاء من اليهود، وهؤلاء، وهؤلاء، أنت تتخيل تريد أن تحاسب عشرة أشخاص تقول: والله لا أكاد ذهني يتحمل كيف سأفصل، أحياناً بين ولدين من أولادك تحدث مشكلة تقول لهم: قوموا عني والله لم أعد أعرف سأعاقب من وأحاسب من؟ كل واحد يقنعك بجوابه، فتقول له: قم عني.
يروى أن جحا جاءه متخاصمان، عمل قاضياً، فجاءه متخاصمان، فروى الأول قصته بإحكام متقن، فقال له: والله أنت معك حق، فلما انقضى قال للخصم: تفضل، فروى الخصم قصته بأبدع مما رواها الأول، فقال له: وأنت معك حق، فزوجته من خلف الستار ما أعجبها هذا القضاء، أول قضية تأتيك يا جحا تقول: معك حق، ومعك حق، قالت له: ما هذا الحكم يا جحا؟ قال لها: والله وأنت معك حق.
فالإنسان إذا دخل في الحساب يعجزه أحياناً.

{ عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سمع جَلَبةَ خَصم ببابِ حُجرتِهِ، فخرج إِليهم، فقال: إِنما أنا بشر، وإنَّهُ يأتيني الخصم، فلعل بعضَهم أن يكون أبلغ من بعض، فأحْسِبُ أنه صادق، فأقضي له، فمن قَضَيْتُ له بحقِّ مسلم فإنما هي قطعة من النار، فَلْيَحْمِلْها أو يَذَرْها، وفي رواية أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: إِنما أنا بَشَر وإِنكم تختصمون إِليَّ، ولَعَلَّ بعضكم أن يكونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بعض فأقضي نحو ما أسمع، فمن قضيتُ له بحَقِّ أخيه، فإنما أَقْطَعُ له قطعة من النَّار، وفي أخرى نحوه، وقال: فمن قضيتُ له من حقِّ أخيه شيئاً فلا يأخذْه }

[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومالك]

وهو نبي الله، ويقضي على نحو ما يسمع، فإذا تأملت في هذا المشهد العظيم يوم القيامة مليارات البشر بين يدي الله (وهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) وكفى به حاسباً جل جلاله، وحسيباً يحاسب العباد كلهم ويعطيهم ما يكافئ أعمالهم.

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
[ سورة الأنبياء]

حتى يقول العباد جميعاً: الحمد لله رب العالمين.
والحمد لله رب العالمين