• محاضرة في الأردن
  • 2022-12-12
  • عمان
  • الأردن

عزم الأمور

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللّهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدْنا علماً، وعملاً متقبّلاً يا رب العالمين، وبعد: عنوان لقائنا اليوم أيها الكرام: عزم الأمور.

مواطن العزم:
الأمور الشاقة على النفس تحتاج عزماً
هناك أمور تحتاج إلى عزم، بعض الأمور في حياة الإنسان لا تحتاج إلى جهد، لا يوجد إنسان يقول: أنا اليوم عازم -إن شاء الله- على حلاقة شعري، لا تحتاج حلاقة الشعر إلى عزم، لكن قد يقول: أنا عزمت اليوم على قراءة هذا الكتاب، قد عزمت في هذا اليوم على قيام الليل، قد عزمت على أن أداوم دواماً طويلاً في النادي الرياضي بحيث أُجهد نفسي و أخفف من وزني، فالأمور التي تحتاج عزماً هي الأمور الشاقة على النفس، أما الأمور البسيطة التي يفعلها الناس فما أحد يقول: قد عزمت على طعام الغداء فهذا لا يحتاج إلى عزم! كل الناس تأكل ، العزم يكون في الأمور التي تحتاج إلى جد وجهد وبذل وأن يقوم الإنسان بها بإرادة قوية.

1- أولو العزم من الرسل:
القرآن الكريم ذكر العزم في مواطن منها قوله تعالى:

فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَٰغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْفَٰسِقُونَ(35)
(سورة الأحقاف)

هذه الـ"من" (مِنَ ٱلرُّسُلِ) إن فهمناها تبعيضية فإذاً بعض الرسل أولو عزم والباقي ليسوا أولي عزم، وإن فهمناها بيانية لبيان الجنس فكل الرسل أولو عزم، إما أن نفهم (فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ) أنهم بعض الرسل وليس كل الرسل، وإما أن نفهمها (فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ) يعني لبيان من هم هؤلاء أولو العزم وهم جميع الرسل، وكلاهما قولان معتمدان لأهل العلم؛ أما التبعيضية فجمهور العلماء على أن أولي العزم من الرسل هم خمسة، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله:

وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّينَ مِيثَٰقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا(7)
(سورة الأحزاب)

عطف فقال: (وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ) فذكرهم معطوفين على جميع الرسل فتبين أن لهم مزية فضل، وهذا من باب عطف الخاص على العام، وإذا نظرنا في سيرة هؤلاء الأنبياء الخمسة وجدنا العزم في سيرتهم واضحاً؛ فأما نبينا -صلى الله عليه وسلم-فلا حاجة للاستدلال على عزمه فهو سيد الرسل وخاتم النبيين، وهو الذي يقول:

{ لقد أُخِفتُ في اللَّهِ وما يُخافُ أحدٌ. ولقد أوذيتُ في اللَّهِ وما يُؤذى أحدٌ. ولقد أتت عليَّ ثلاثونَ من بينِ يومٍ وليلةٍ وما لي ولبلالٍ طعامٌ يأْكلُهُ ذو كبدٍ إلاَّ شيءٌ يواريهِ إبطُ بلالٍ }

(أخرجه الترمذي وأحمد عن أنس بن مالك)

صبر في الشِّعب، صبر في الطَّائف، صبر على قومه في مكة، صبر على المنافقين في المدينة، كان عنده العزم واضحاً وهذا في سيرته كلها، وكذلك نوح الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وما ترك وسيلة من الوسائل لدعوة قومه إلا سلكها:

قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلًا وَنَهَارًا(5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِىٓ إِلَّا فِرَارًا(6) وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمْ فِىٓ ءَاذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَارًا(7) ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا(8) ثُمَّ إِنِّىٓ أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا(9)
(سورة نوح)

نوّع أساليب الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعو قومه فهو من أولي العزم؛ وأما إبراهيم عليه السلام فلا يخفى تنفيذه لأمر ربه يوم أُمر بذبح ابنه فبادر من غير أن يسأل عن علة ولا حكمة.

فَلَمَّآ أَسْلَمَا وَتَلَّهُۥ لِلْجَبِينِ(103)
(سورة الصافات)

ولا يخفى ما في عزمه يوم أسكن من ذريته بوادٍ غير ذي زرع عند بيت الله تعالى المحرم، ولا يخفى ما في عزمه يوم أُلقي في النار، ويوم دعا أباه آزر إلى عبادة الله وحده، وقد كان بعيداً عن الدين وعن الحق وعن الخير؛ وأما موسى وعيسى-عليهم جميعاً وعلى أنبياء الله أفضل الصلاة والسلام-، موسى -عليه السلام-مع قومه وفي رحلته ومع فرعون وفي دعوته، وعيسى-عليه السلام-وما واجهه من قومه من تكذيب.

قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مِّنكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّٰزِقِينَ(114)
(سورة المائدة)

فهؤلاء أولو العزم من الرسل، أو أن نقول: إن جميع الأنبياء أولو العزم، يكفي أنهم حملوا رسالة الله تعالى فهم من أولي العزم حتى إن الله تعالى يوم قال:

وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُۥ عَزْمًا(115)
(سورة طه)

سارع إلى التوبة
فإما أننا لم نجد له عزماً على المعصية، لم يكن عازماً على المعصية ولكنه نسي، قيل له: لا تأكل من هذه الشجرة فنسي فأكل، لكن لم يكن عازما ً لذلك سارع إلى التوبة، أو أن نقول: (وَلَمْ نَجِدْ لَهُۥ عَزْمًا) في هذه المسألة لكن ليس في كل المسائل، فكل أنبياء الله وكل رسل الله أولو العزم، وإن خصصنا هؤلاء الخمسة ففعلاً لهم مزية، وقد ذكرهم الله تعالى في قرآنه بشكل واضح بأنهم من الأنبياء الذين اختصهم الله بمزية فضل، ولولا ذلك لما عطفهم على بقية أنبيائه (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيّينَ مِيثَٰقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ) وكل رسل الله -عز وجل -فيهم من العزم ما فيهم، لكن لعل هؤلاء فيهم مزية إضافية.
أحبابنا الكرام؛ موضوعنا هو عزم الأمور، ما الذي ذكره الله تعالى في قرآنه من عزم الأمور؟ هي ثلاث آيات لا رابع لها، الآية الأولى في آل عمران قال تعالى:

لَتُبْلَوُنَّ فِىٓ أَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوٓاْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ (186)
(سورة آل عمران)

هذه الآية الأولى، الثانية: يقول تعالى على حكاية على لقمان يخاطب ابنه قال:

يَٰبُنَىَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ (17)
(سورة لقمان)

والثالثة قوله تعالى في سورة الشورى:

وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ(43)
(سورة الشورى)


2- العزم عند الابتلاء:
ثلاث آيات؛ نبدأ بالأولى:( لَتُبْلَوُنَّ فِىٓ أَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ) الابتلاء قدرنا، (لَتُبْلَوُنَّ) نون التوكيد الثقيلة واللام الموطئة لجواب القسم؛ كأن هناك قسماً؛ أقسم لتبلونّ، الابتلاء ليس قضية تكون أو لا تكون، بل هي جوهر حياتنا:

ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ(2)
(سورة الملك)

الحياة امتحانٌ وابتلاء
فلو قال إنسان: أريد أن أدخل الدنيا من غير أن ابتلى، قلنا له: مثلك كمثل من دخل الجامعة وقال: أريد أن أنال شهادة من غير أن امتَحن، وما الجامعة إلا للامتحان، فالحياة للامتحان والابتلاء، فنحن مبتلون (لَتُبْلَوُنَّ فِىٓ أَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ) في الأموال الإنسان يفتقر فيُبتلى، ويزيد ماله فيُبتلى، يُبتلى عند زيادة المال ويُبتلى عند نقص المال، فإن زاد المال فهو مُمتحن، هل ينفقه في الحق أم في الباطل؟ هل يدفع زكاته أم يمسكه؟ وإن نقص ماله فهو مبتلى هل يتعفف ويتجمَّل أم يسخط ويضجر؟ فهو مبتلى بماله في الزيادة والنقص.

كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ(35)
(سورة الأنبياء)

فالابتلاء ليس بالشر دائماً، الابتلاء يكون في الخير أيضاً، وقد يكون الممتَحن في الخير أشدَّ امتحاناً من الممتحن بالشر، فكم من إنسان طغى بماله، وكم من إنسان غرَّته صحته وقوته، أحياناً الإنسان في ضعفه وفقره يكون أقرب إلى الله، فالامتحان موجود في القوة والضعف، في الغنى والفقر، هذه في أموالكم، (وَأَنفُسِكُمْ)، أنفسكم يمكن أن تكون بفقد إنسان كأن يفقد أخاه، يفقد صديقه، يفقد أحداً من أهل بيته، أو بالمرض يبتلى بنفسه بمرض معين يبتليه الله تعالى ويمتحنه، هل هو راضٍ عن الله أم غير راضٍ؟ هل يتسخط ويضجر ويشكو أم يتجمل بالستر ويحمد الله تعالى على الضراء كما يحمده على السراء؟ هذه في أنفسكم فالإنسان يبتلى في ماله ويبتلى في نفسه، قال: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ) اليهود والنصارى (وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوٓاْ أَذًى كَثِيرًا) يعني وطّن نفسك أنك ستُؤذى، أنت التزمت بالحق والخير، والناس بعيدون، ستسمع منهم أذًى كثيراً(وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوٓاْ أَذًى كَثِيرًا)؛ لأن معركة الحق والباطل مستمرة، هذه سُنة الله في الحياة لو أراد الله تعالى أن يلغي هذه المعركة لألغاها ، كيف يلغيها قال:

ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ(4)
(سورة محمد)

بلحظة واحدة ينصرنا عليهم وانتهى الأمر، قال: (وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) امتحان، (وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ) يعني نتائج المعركة قد تكون مؤلمة، قتلى لكن في سبيل الله.

سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ(5) وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ(6)
(سورة محمد)

إذاً المعركة موجودة سنة من سنن الله تعالى، فما يقول إنسان: لماذا نعيش مع أهل الباطل؟ لأن الله تعالى شاء ذلك، ولوشاء لجعلهم في كوكب آخر يعيشون وحدهم وهو أعلم بهم، ولوشاء لجعلهم في قارة أخرى، ولوشاء لجعلهم في حقبة أخرى، فجعل القرن السابع عشر للكفار، والثامن عشر للمؤمنين وانتهت المشكلة، لكن أراد الله أن نجتمع معاً في أرض واحدة، وفي زمان واحد لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي، ولأن أهل الحق لا يستحقون الجنة إلا بالبذل والتضحية (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوٓاْ أَذًى كَثِيرًا) سيؤذيك أهل الباطل، ستُمتحن بهم ويُمتحنون بك، هذه سنة الله قال تعالى: ( وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ).

الصبر مقترن بالتقوى:
ما عزم الأمور هنا؟ الصبر والتقوى، هناك صبر بلا تقوى نتيجته القهر ثم القبر، وهناك صبر مع تقوى نتيجته النصر.

إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـًٔا إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(120)
(سورة آل عمران)

المؤمن صبره مع التقوى
في آية أخرى، وهنا (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ) أن تحقق الأمرين معاً، أن تصبر على البلاء وأن تتقي معصية الله، أما إذا كان الإنسان غارقاً في المعاصي وقال لك: "أنا صابر"، أي صبر هذا وأنت لا تتقي الله تعالى؟! هذا صبر المضطر، الذي يكون بلا تقوى صبر المضطر، إنسان أراد الله تعالى به مرضاً، وسخط قليلاً ثم رضي بما كان، لكن ما عنده تقوى، يأتي ما حرّم الله تعالى لا يتقي الله فهذا صابر صبر الاضطرار؛ أما المؤمن فصبره مع التقوى، يصبر على أداء الواجبات ويتقي أن يرتكب المحظورات، يصبر على الصلاة ويتقي أن يطلق بصره (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ) يصبر على الابتلاء ويتقي أن يقع في المخالفات كلاهما مع بعض، يصبر على أداء الواجبات ويتقي أن يرتكب المحظورات؛ هذا هو الصبر.

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْـَٔلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ(132)
(سورة طه)


أنواع الصبر:
إما أن يكون صبراً على الطاعة، أو أن يكون صبراً عن المعصية، أو أن يكون صبراً على القضاء والقدر، الصبر إما على الطاعة أو عن المعصية أو على القضاء والقدر، هذه حروف الجر باللغة العربية كل حرف يعطي معنى، لو قلت: "رغبت في الشيء "فأنت تريده، ولو قلت:" رغبت عنه" فأنت لا تريده.

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ ءَالِهَتِى يَٰٓإِبْرَٰهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَٱهْجُرْنِى مَلِيًّا(46)
(سورة مريم)

فرغب فيه شيء، ورغب عنه شيء آخر، وصبر عليه شيء، وصبر عنه شيء آخر، صبر عليه:
أ-صبر على الطاعة: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا) اصطبر أبلغ من "واصبر" الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، (وَٱصْطَبِرْ) تحتاج الصلاة إلى صبر، تستيقظ لصلاة الفجر وتوقظ أولادك (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ) وأول يوم سيزعجونك يستيقظون أو لا يستيقظون، وثاني يوم وأنت تصطبر، تصطبر على الصلاة، ومساءً تأخرت قليلاً بصلاة العشاء وشعرت بالنعاس وقمت إلى الصلاة، الصلاة تحتاج إلى الصبر (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا) هذا صبر على الطاعة.
ب-أما الصبر عن المعصية: فغض البصر يحتاج إلى صبر، وارتكاب المخالفات كلها يحتاج إلى صبر، ما مشكلة الذين يعصون الله؟ أنهم لا يصبرون، ما معنى لا يصبرون؟ يستعجلون، لا يصبر يعني يستعجل، ربنا -عز وجل – قال له: إن اتقيت الله ولم تأتِ الحرام أعددت لك ما لاعين ولا أذن سمعت، لكن اصبر حتى تصل إلى الحلال، فهو لم يصبر فاستعجل فوقع في الحرام، فهو لم يصبر عن المعصية.
ج-والصبر الثالث: صبر على قضاء الله وقدره:

ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ(156)
(سورة البقرة)

فقد قريب، فقد حبيب، فقد مال، قضاء الله الذي قد يراه الإنسان من منظوره شراً، يراه من منظوره هو أنه شر، فيصبر على ذلك، على ما فقده أو على ما فاته من الدنيا يصبر، فالصبر على الطاعة وعن المعصية وعلى القضاء والقدر، والتقوى أن يُطاع الله فلا يُعصى، فصار عندنا صبر وتقوى هذا من عزم الأمور، الذي يحقق الصبر والتقوى معاً قال: (فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ) يعني من الأمور التي تحتاج إلى صبر وجهد ومثابرة، ليست بالأمور السهلة، لا يستطيعها إلا أولو العزم.

3- إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إبدأ مع الناس بالحب قبل الأمر
الآية الثانية يخاطب لقمان ابنه فيقول له: (يَٰا بُنَىَّ) تودد، تحبب، لأن بُنيّ تصغير ابني بُنيّ، والتصغير يأتي للتودد، وقد يأتي للتحقير، هنا عندما يكون من الأب لابنه فهو من التودد، وقد يقول إنسان لآخر: فلان ليس بشاعر، فلان شويعر فيريد بذلك أن يحقره، وقد يقول قائل: شويعر نبغ في العلم، فيراد به التعظيم، فالسياق يوضح لماذا صغّرنا الكلام، هنا التصغير للتودد يا بني ، فتودد له أولاً ثم أمره، وهذا يعلمنا درساً في أن تبدأ مع الناس بالحب قبل أن تأتيهم بالأمر(يَٰبُنَىَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ) هذه الأربعة معاً قال: (إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ).
إقامة الصلاة من عزم الأمور، وليس في القرآن كما أسلفنا سابقاً" أدِ الصلاة" ما ورد في القرآن "الذين يؤدون الصلاة" أو "الذين يُسقطون الصلاة " فريضة الصلاة يعني يسقطونها عن كاهلهم، يعني يؤدونها، لكن ورد في القرآن (إقام الصلاة، أقاموا الصلاة، يقيمون الصلاة) لأن إقامة الصلاة تعني أن تُؤدى على الوجه الذي أراده الله تعالى، وأن تحقق المقصد الذي أراده الله تعالى منها، فالذي يصلي ولا يطمئن أدى الصلاة لكنه ما أقامها، والفقهاء لهم في ذلك كلمة، يقولون: سقط الوجوب وإن لم يحصل المطلوب، والذي يؤدي الصلاة، ثم يأتي الفحشاء والمنكر فما أقام الصلاة، لكنه أداها، قال تعالى:

ٱتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ(45)
(سورة العنكبوت)

فإن لم تنهَ الصلاة عن الفحشاء والمنكر فما أُقيمت، لكنها أُدّيت وسقط الوجوب عن المكلف بذلك ولعله يثاب عليه، لكن هل أقامها الإقامة التي ترضي الله؟!لا، لأنه أتى الفحشاء في قوله والمنكر في فعله، فإذاً "أقم الصلاة" على هذا المعنى هي من عزم الأمور، أما إذا كانت تأدية حركات فليست من عزم الأمور، لكن إقامتها من عزم الأمور، قال: (وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ) قالوا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الفريضة السادسة في الإسلام، نحن عندنا خمس فروض:

{ بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ. }

(أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر)

يقول أهل العلم: السادسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله تعالى ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في صفات المؤمنين مراراً ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله:

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَٰبِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ(110)
(سورة آل عمران)

وهنا (وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ) لماذا؟ لأن هذه الفريضة إن توقفت انحصر انتشار الخير، إذا أقام الإنسان صلاته في بيته وأدّى زكاه ماله، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وصام شهر رمضان، وحج البيت، فقد أدى ما عليه تجاه فرائض ربه بنفسه، لكن هل انتشر الخير إلى الآخرين؟ لا.
المعروف والمنكر كلمتان جامعتان مانعتان
الأمر بالمعروف في أضيق دائرة الأسرة، هناك دائرة أوسع العائلة، هناك دائرة أوسع العمل، ربنا اختار المعروف والمنكر كلمتان جامعتان مانعتان، يعني لو قال: الأمر بالخير لقال بعض الناس: ربما الخير نسبي، ما أراه خيراً قد تراه، قال: (وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ)، فقالوا: المعروف ما تعرفه الِفطر السليمة ابتداءً قبل التعليم، والمنكر ما تنكره الفِطر السليمة ابتداءً، ثم المعروف: ما عرّفك الله تعالى به أنه معروف ،والمنكر: ما أنكره الشرع، فالمعروف والمنكر كلمتان جامعتان مانعتان، كل شيء فيه خير -من مقياس الشرع طبعاً- فهو معروف، وكل شيء فيه شر -بمقياس الشرع- فهو منكر، وسماهما الله تعالى معروفاً ومنكراً؛ لأن الفطر السليمة -دققوا بكلمة سليمة- تعرف المعروف وتنكر المنكر، السليمة، لكن قد تقول لي: فلان من الناس يرى الزنا معروفاً، هذا طُمست فطرته، أما إلى العمق إلى الفِطر السليمة فالزنا لا يقبله إنسان، النبي-صلى الله عليه وسلم- لما جاءه هذا الرجل الذي قال:

{ يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! }

(رواه أحمد بإسناد صحيح عن أبي أمامة)

يعني تريد أن تزني يعني شهوة، أمّا تريد أن تأخذ فتوى وحكماً شرعياً من رسول الله-صلى الله عليه وسلم-تريد إذناً قبل أن تفعل الفاحشة! (ائذن لي بالزنا)، يعني لا يوجد اليوم عالِم يدخل عليه أحد يقول له: (ائذن لي بالزنا) ربما ينهض إليه ويوسعه ضرباً، إذا لحقه من بين أيدي الإخوان الذين حوله، قال له: "تعال"، الآن ما خاطب فيه الشرع، بل خاطبه بالفطرة، لكن كانت الفِطر سليمة، يعني أخشى اليوم لو أن أحدهم أجرى ذلك في الغرب أن يقول له: أترضاه لأمك؟ فيقول: نعم، القصة بذلك تنتهي، هو يخاطب فِطراً سليمة، فطرة العربي السليمة، دون الانحراف فطرة الصحراء.

{ قال: ((أتحبه لأمك؟))، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لأمهاتهم))، قال: ((أفتحبه لابنتك؟))، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لبناتهم))، قال: ((أفتحبه لأختك))، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لأخواتهم))، قال: ((أفتحبه لعمتك؟))، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لعمَّاتهم))، قال: ((أفتحبه لخالتك))، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لخالاتهم))، قال: فوضع يده عليه، وقال: ((اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصِّن فَرْجَه))، فلم يكن بعد -ذلك الفتى -يلتفت إلى شيء. }

فما الذي خاطبه فيه؟ خاطب الفطرة، قال:

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(30)
(سورة الروم)

فالفطر السليمة تنكر المنكر، لذلك من هنا قال-صلى الله عليه وسلم-:

{ الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حاكَ في نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ }

(أخرجه مسلم وأحمد عن النواس بن سمعان الأنصاري)

{ وَالإِثْمُ مَا حاكَ في النَّفْسِ وَتَردَّدَ في الصَّدْرِ، وَإنْ أَفْتَاكَ النّاسُ وَأَفْتَوْكَ }

(أخرجه أَحمَدَ وَالدَّارِميِّ بإسْنَادٍ حَسَنٍ)

ما كرهت أن يطلع عليه الناس، وحاك في صدرك هذا هو الإثم، (وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ) الثانية والثالثة، الرابعة قال: (وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ) الصبر من عزم الأمور هذه المرة الثانية، والثالثة فيها صبر يعني وكأن عزم الأمور الكلمة المفتاحية فيه هي الصبر، الكلمة المفتاحية في عزم الأمور هي الصبر (وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ) عطفها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر سيصيبه ما يؤذيه فينبغي أن يصبر عليه، لا تقل: لن أدخل نفسي في هذا الموضوع لأنه سيأتيني وجع رأس، لا، طبعاً ضمن ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ضوابطها بيده، بلسانه، بقلبه، هذا أول ضابط، يبدأ باليد ضمن الدائرة التي يستطيع أن يوقف المنكر بيده، فلا يُقبل من أب في بيته أن يقول: ابني مُصّر على فعل ذلك في داخل بيته-والعياذ بالله-مثلاً يشرب الخمر، وأنا قلت له لكن لم يستجب، هذا بيتك هذه مملكتك، هذه تحتاج أن تزيل المنكر بيدك، ما تسمح به في بيتك، بالدائرة الأوسع، تقول لي: والله أنا ابن عمتي أنا أنصح له، هذه بلسانه، أنا في الطريق شخص تلفظ بكلام سيء جداً ما أعرفه من هو، لو أنني نهيته ربما يزيد في غيه وما أعرفه، فقلت في قلبك:" اللهم هذا منكر لا أرضى به"، فهذه مراتب.
الآن من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف، ومن نهى عن منكر فليكن نهيه بمعروف، فالأمر بالمعروف لا يكون بمنكر، بمعنى أنه يريد أن يأمره بالمعروف فيصفعه على وجهه، هذا ليس أمراً بمعروف، أو ينهاه عن المنكر فيغلظ له في القول بكلام فاحش، قال لك: أنا أنهاه عن المنكر، من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف، ومن نهى عن منكر فليكن نهيه بمعروف، وإلا ليس أمراً بالمعروف ونهياً عن منكر.
أيضاً من الضوابط قالوا إذا أدى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى منكر أشد منه فلا ينبغي أن يكون إلا في القلب، شخص غاضب جداً متفجر غضباً، يتلفظ بألفاظ سيئة، فليس من الحكمة أن تقترب منه في هذا الوقت وتقول له:" صل على النبي" ف-والعياذ بالله- يطلق سبابه وشتائمه أوسع مما كانت عليه، فعندما تعلم أن هذا سيؤدي إلى منكر أشد من المنكر الذي هو واقع فعندها تنكر بقلبك، هذه كلها ضوابط ذكرها أهل العلم واستندوا فيها إلى نصوص الشريعة العامة أو الخاصة في هذا الموضوع، لكن عموماً يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمرتبة من مراتبه، أما الذي يستبيح يستمرئ المعاصي؛ هنا المشكلة، يقول لك: ماذا حصل؟ هنا المشكلة استمراء المعصية؛ لذلك عندما وصف الله تعالى بعض أهل الكتاب قال:

كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ(79)
(سورة المائدة)

الإنسان يألف المعصية بعد حين
وورد في بعض الروايات أن الله تعالى أرسل ليهلك قرية فقالوا: يا رب إن فيها رجلاً صالحاً، ليس مصلحاً، لكنه صالح جيد، قال:" به فابدؤوا إنه كان لا يتمعر وجهه إذا رأى منكراً " ليس ينهى عن المنكر لكن وجهه لا يتمعر، لا يتغير وكأن الأمر طبيعي جداً، وهو صالح في بيته وكذا، لكنه استمرأ المعصية وأصبحت عنده سهلة جداً ،لذلك خاصة- لاسيما- إخواننا الكرام الذين يعيشون أحياناً في بلاد الغرب أو في بيئات العمل، أحياناً بيئات سيئة نوعاً ما، ينبغي أن ينتبهوا إلى هذا الأمر كثيراً ؛لأن الإنسان عندما يجلس في هذه البيئات من غير أن يشعر يستمرئها بعد حين، وهذه المصيبة لا ينكرها قلبه، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، يألفها هذه طبيعة في الإنسان أنه يألف المعصية بعد حين.
أنا لما ذهبت إلى مكان لا بد من الذهاب إليه في دمشق، كان أول ما أُوصيت به: أن هناك ستسمع الناس يطلقون أحياناً -والعياذ بالله-كفراً بالله، فأول ما أوصيك به ألا تستمرئ هذه المعصية أن تبقى على الإنكار دائماً في قلبك وإلا فإن أصابتهم دائرة فأخشى أن يصيبك مثل ما أصابهم، فالإنسان ينبغي أن ينتبه إلى أنه إذا كان في مكان، أحياناً بالعمل طبيعة العمل فيها اختلاط، فيها أناس يتكلمون كلاماً غير مقبول الخ...، فبعد حين يضحك لهم، يلقون شيئاً سيئاً أو يتكلمون كلاماً سيئاً، فيضحك لهم ويبش لهم، فيقع معهم في الإثم، لذلك قالوا: من غاب عن معصية فأقرّها كان كمن شهدها، ومن شهد معصية فأنكرها كان كمن غاب عنها، إنسان جالس في مجلس قيل له: أمس الجلسة الفلانية، راحت عليك، "خير" صار كذا وكذا، وجاء فلان وجاء.... معاصٍ وآثام، فسُرّ بذلك وهز رأسه موافقاً، فكأنه حضر رغم أنه لم يحضر، والثاني كان في المجلس مضطراً لأمر أو لآخر، وأنكر ذلك بلسانه أو بيده أو بقلبه بحسب ما يستطيعه فكان كمن غاب عنها لا يأثم معهم، هو لا ينبغي أن يكون معهم ابتداءً، لكن لو كان معهم لسبب أو لآخر مضطراً فعندها لا يأثم إذا أنكر (إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ).
إذاً إقامة الصلاة، مع الأمر بالمعروف، مع النهي عن المنكر، مع الصبر على ما يصيب الإنسان عموماً أو ما يصيبه من جراء أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ فهذا من عزم الأمور التي تحتاج إلى عزم وإرادة صادقة من الإنسان وإلا لا يستطيعها إلا من يعزم الأمر.
بالمناسبة كيف يكون الإنسان عنده العزم والإرادة؟ من صلته بالله تعالى، فالإنسان ضعيف.

يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا(28)
(سورة النساء)

لكن من أين يستمد عزمه؟ من اتصاله بالله، قال تعالى:

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ(159)
(سورة آل عمران)

هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-لولا أنه اكتسب رحمة من الله لما لان الناس له، كيف اكتسب الرحمة من الله؟ بالاتصال به.

4- الصبر على ما يصيب الإنسان ومغفرته لإساءة الناس إليه:
والآية الأخيرة من سورة الشورى (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ) صبر وغفر هنا (إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ) الآيتان السابقتان(من)هنا(لمن)، أولاً ما هذه اللام؟ هذه اللام يسميها أهل اللغة (لام المزحلقة) لماذا هي لام المزحلقة؟ هذه أصلها لام الابتداء كانت في المبتدأ وزُحلقت إلى الخبر، كيف كانت بالمبتدأ؟ أنت تقول: "الشمس ساطعة" الشمس مبتدأ، ساطعة خبر، جملة، لو أردت أن تؤكد "الشمس ساطعة" فتقول: "للشمس ساطعة" هذه لام الابتداء لام التوكيد، تضع لاماً في بدايتها "للشمس ساطعة" تأكيد أو تقول: "إن الشمس ساطعة" توكيد (إنّ) أو(اللام) حسناً لو أردت أن تجمع المؤكدين معاً (إنّ واللام) لا ينبغي ان تضعهما خلف بعض فتقول: "إن للشمس" فنقول:" إن الشمس -وتزحلق اللام إلى الخبر-إن الشمس لساطعة هذه لام المزحلقة (إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ) يعني جمع لها مؤكدين هنا، لماذا هنا مؤكدان وفي الأول مؤكد واحد؟ هنا (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ).
الصبر والمغفرة يحتاج إلى إيمان القوي
يعني عندما يكون مثلاً-نسأل الله السلامة للجميع-طفل خرج من نافذة البيت فوقع فأصابه مكروه، هذا يحتاج إلى صبر من الإنسان، حسناً طفل يقطع الشارع فجاءت سيارة فصدمته صبر وغفر هذا أصعب من الأولى، عندما يكون الابتلاء شيئاً خارجاً عن إرادة الناس (زلزال، بركان) هو كله قضاء وقدر، لكن قضاء وقدر صرف من غير تدخل بشري لا يوجد ظلم من أحد، قال: (إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ)، لكن لما يكون هناك ظلم من إنسان وتحتاج أن تسامحه مع صبرك (لَمِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ) المسامحة تحتاج (لام) توكيد آخر (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ) صبر على ما أصابه وغفر لمن أساء إليه (إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ)، الناس غالباً يستقبلون -المؤمنون طبعاً- قضاء الله الذي ليس فيه ظلم من مخلوق بالصبر، لكن إذا كان الذي ظلمك أمامك وأنت قادر عليه وغفرت له (إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ) هذه اللام جاءت هنا للتوكيد الأكثر؛ لأن مع الصبر مغفرة وهذا لا يستطيعه إلا أصحاب الإيمان القوي، طبعاً هنا قد يسأل سائل: يجب أن أعفو عن كل من ظلمني؟ لا، أتكلم عن الحالة التي تكون فيها المغفرة شيئاً جيداً، أن تسامح الناس، لكن لو قلت لي: والله هذا الشخص أساء لي إساءة بالغة، وما تاب ولا يريد أن يتوب، ويسيئ للناس فأردت أن أعاقبه، لا يوجد مانع، بالعكس أحياناً قد يكون معاقبة المسيء على إساءته أمراً حسناً، لكن إذا وجدت منه توبة وندماً، ووجدت أن عفوك عنه يصلحه، ويقربه من الله تعالى، ويقربه منك، ويجعله أفضل(وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ) لا نقول دائماً ينبغي أن يغفر الإنسان، قد يسامح وقد لا يسامح، وهذا يتبع لكل حالة بحالتها، لكن عندما تكون الحالة تستدعي مغفرة قال: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُور).

الخاتمة:
فأحبابنا الكرام؛ هذه الآيات الثلاث فيها عزم الأمور، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا العزيمة، ليس العزيمة على الطعام، أن يعزمنا إنسان لنأكل، أحد الأشخاص قيل له: إخفاض الوزن يحتاج إلى عزيمة، قال لهم: والله ما تركت عزيمة لم أحضرها وحتى الآن ما نزل وزني، فالعزيمة ليست للأكل والطعام، وإنما أن يعزم الإنسان على الشيء ويجدّ فيه وما من إنسان يعزم على شيء إلا ويوصله الله تعالى إليه؛ لأن الله تعالى قال:

وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحْصُوهَآ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ(34)
(سورة إبراهيم)

فالله تعالى من يسأله صادقاً الجنة يصل إلى الجنة -إن شاء الله-، ومن يسأله صادقاً أن يقوم الليل يقوم الليل، ومن يسأله صادقاً أن يحافظ على الصلوات في أوقاتها يحافظ، الذي يعزم على الشيء يصل إليه، يحتاج إلى نية وصدق، وتحدثنا عن صدق النية سابقاً، والحمد لله رب العالمين.