مفاهيم إسلامية بين النظرية والتطبيق

  • محاضرة في الأردن
  • 2023-02-23
  • عمان
  • الأردن

مفاهيم إسلامية بين النظرية والتطبيق

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله رب العالمين وأُصلِّي وأُسلِّم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فإنني أشكر لإخوتي في البيت الحمصي هذه الدعوة الطيّبة المُباركة التي إن دلَّت على شيء فعلى حسن ظنِّهم بي، وأسأل الله تعالى أن أكون عند حسن ظنِّكم بي جميعاً.
ثم إني أغتنم هذا اللقاء لأبدأ بالدعاء بالرحمة لكل من نحتسبهم عند الله تعالى من الشهداء من أهلنا وأحبابنا في الجنوب التركي والشمال السوري، بعد فاجعة الزلزال الذي أودى بحياة الكثيرين الذين نحتسبهم عند الله تعالى من الشهداء، ونُعزِّي أهلهم وأحبابهم وأصدقائهم ونسأل الله تعالى أن يجمعنا بهم في مستقر رحمته إخواناً على سررٍ مُتقابلين، وأبدأ بعون الله تعالى في موضوع لقاءنا اليوم كما أسلف الأخ جزاه الله تعالى خير الجزاء، فذكر أنَّ عنوان اللقاء مفاهيمٌ إسلاميةٌ بين النظرية والتطبيق.

الدين هو عقيدةٌ وشريعة:
الدين عقيدة وشريعة
أيها الإخوة الأحباب بادئ ذي بدء الدين أيُّ دين؟ بل لا أُبالغ إذا قلت الفكرة أيُّ فكرة؟ هي عبارةٌ عن شيئين اثنين عقيدةٌ وشريعة، الدين عقيدةٌ وشريعة، فالعقيدة هي ما يسمى بالمصطلح الحديث المُنطلقات النظريَّة، والشريعة هي التطبيقات العمليّة، أي أصحاب فكرة أو مبدأ أو قيمة أو حزب سياسي، اجتماعي، اقتصادي، ديني يجتمعون على شيئين، على عقيدةٍ يعتقدونها، على فكرةٍ يؤمنون بها، ثم على آليةٍ يُطبقون من خلاها هذه الفكرة، والدين عقيدةٌ وشريعة، فالعقيدة لخصّها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله الإيمان، مصطلح العقيدة مُصطلح حديث، المُصطلح الشرعي المُصطلح المُتداول في القرآن والسنَّة هو الإيمان، التصديق بالفكرة يعني.

{ الإِيمانُ : أنْ تُؤمن بِاللهِ ومَلائِكتِه، وكُتُبِهِ، و رُسُلِهِ، و اليومِ الآخِرِ، و تُؤمن بِالقَدَرِ خَيرِهِ و شَرِّهِ }

(الألباني صحيح الجامع)

هذه عقيدة

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
(سورة محمد)

عقيدة

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
(سورة الأنبياء)

(لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا )عقيدة (فَاعْبُدُونِ) شريعة.
فكلُّ نبيٍّ من الأنبياء سواءً ممن ذُكروا في كتاب الله أم لم يُذكَروا جاؤوا بعقيدةٍ هي التوحيد، لا إله إلا الله، وشريعةٍ هي العبادة، الآن التفاصيل مختلفة، كيف نُنفذ هذه الشريعة؟ كيف نعبد الله؟ الآليات، طريقة الصلاة، طريقة الزكاة، الحج، المُحرَّمات، المُباحات، المكروهات، المندوبات، هذه تفاصيل الشريعة، لكن في أصل الأمر الدين عقيدةٌ وشريعة (لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ) أي رسول، وبالمناسبة هذه (مِن) لاستغراق أفراد النوع، يعني كل الرُسل، كيف يعني استغراق أفراد النوع؟ نوضح المسألة، لو أنَّ مدرّساً دخل إلى الصف وقال: ما مِن طالبٍ في هذا الصف إلا له عندي جائزة، الصف فيه ثلاثون طالباً، ثماني وعشرون طالباً موجودون واثنان غائبان، هذا القول الذي قاله يشمل الغائبَين، يعني لا بدّ أن يكون هناك جائزة للغائبين يستلمانها عند حضورهما، لكن لو قال سأعطي جائزة لكل واحدٍ منكم، فلا تشمل الغائبين، أما ما مِن طالبٍ ألا وله جائزة، إذاً كل طالب ولو كان غائباً له جائزة، فيقولوا في اللغة (مِن) لاستغراق أفراد النوع، يعني كل الموجودين بالفرد وليس بالعموم (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا)عقيدة، (فَاعْبُدُونِ) شريعة.

الفجوة بين العقيدة والشريعة:
عقيدتنا هي التوحيد
إذاً الدين عبارة عن عقيدة نعتقدها ولأنَّ أهم ما فيها هو التوحيد، فعقيدتنا هي التوحيد سُمّيت بأهم ما فيها، والشريعة ولأنّ كل ما ينتظم الشريعة هو عبادةٌ لله، يعني الصدق عبادة، الأمانة عبادة، العمل المُباح عبادة، إلى آخره فسُمّيت عبادة، الشريعة عبادة والتوحيد عقيدة، فإذاً القرآن الكريم والسُنّة النبوية كثيراً ما يربطوا بين العقيدة والشريعة، يعني لا ينبغي أن يكون هناك فجوة بين ما تؤمنوا به وما تفعلونه، وإلا فهذا يندرج إما تحت النِفاق الاعتقادي أو النِفاق العملي، يعني النِفاق الأكبر أو النِفاق الأصغر، الأكبر هو المُخرِج من الملّة يعني النِفاق الاعتقادي، يعني يعتقد الكُفر ويُظهر الإيمان أو نِفاق عملي مثل قوله صلى الله عليه وسلم:

{ آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ }

( صحيح البخاري)

فإما نفاق اعتقادي، أو عملي إذا كان هناك فجوة، الأصل أن لا يكون هناك فجوة بين ما تعتقده وبين ما تفعله، لذلك عابَّ الله تعالى على بني إسرائيل

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
(سورة البقرة)

وخاطب المؤمنين فقال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
(سورة الصف)

فالأصل أنَّ العقيدة مُرتبطة بالشريعة، مثال والأمثلة كثيرة جداً كقوله تعالى:

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
(سورة الماعون)

هذه عقيدة، بالمعنى السلبي يعني لا يعتقد بالدين يعني هو مُكذِّب بالدين

فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
(سورة الماعون)

شريعة، يعني لولا أنَّ العقيدة السيئة تُنتج سلوكاً سيئاً لقلنا للإنسان اعتقد ما شئت، لكن إذا اعتقد عقيدة سيئة ستنتج سلوكاً سيئاً لذلك:

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
(سورة الماعون)

بالمقابل يقول صلى الله عليه وسلم:

{ مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جارَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ. }

(صحيح البخاري)

(مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ) عقيدة،(فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ،)شريعة،(مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ) عقيدة (فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ) شريعة،(مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ) عقيدة، (فَلْيُكْرِمْ جارَهُ) شريعة.

العقيدة الصحيحة والعقيدة السيئة:
الشفاعة حقّ
إذاً هناك ارتباط بين العقيدة من جهة والشريعة من جهة، لذلك نقول ينبغي أن تعتقد الاعتقاد الصحيح حتى يكون السلوك صحيحاً، مثال: لو أنَّ إنساناً اعتقد بعقيدة الجبر، أي أن الله تعالى أجبر عباده على الطاعة اعتقد ذلك، يا أخي نحن مُسيّرون وإذا كان مكتوب عليَّ أن أعصي ربي فسأعصي ربي وانتهى الأمر، ما السلوك الذي سينتج عن ذلك؟ معصية، سيُبرر معاصيه كلها بأنها من قضاء الله وقدره، زوراً وبُهتاناً عقيدة خاطئة، من اعتقد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سيشفع لأمته كلها، يعني كل إنسان مجرد أنه مُسجّل على هويته أنه مسلم ولو لم يُصلّي لله تعالى ركعةً، فهو في الجنة فقط لأنه مُنتسب للإسلام، ولو اغتصب أموال الناس، ولو أكل أموالهم بالباطل، ولو فعل ما فعل شفاعة، اعتقد هذه العقيدة، الشفاعة حقّ بالمناسبة لا نُنكرها نسأل الله أن يُشفّع نبيّهُ فينا، لكن المفهوم الخاطئ للشفاعة المُتغاضي عن أنَّ الناس سيُحاسبون:

لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
(سورة النساء)

هذا المفهوم الخاطئ للشفاعة سيدفعه إلى أن يستحل الغيبة والنميمة وإلى آخره، لأنه اعتقد عقيدة خاطئة، دائماً العقيدة الصحيحة غالباً ما تُنتج سلوكاً صحيحاً، إذا كان الإنسان مُقتنع بها من أعماقه، فالسلوك غالباً سينتج صحيحاً، والعقيدة الفاسدة ستُنتج سلوكاً فاسداً، لذلك ليس هناك في واقع الأمر من فجوةٍ بين العقيدة والشريعة، في الأصل العقيدة تؤدي إلى الشريعة، سنأتي على الاستثناءات لكن الآن أتحدث بالعموم، الآن لو نظرنا في واقع الناس، هل هناك من فجوة بين العقيدة والشريعة؟ الجواب نعم وفجوة كبيرة للأسف، يعني تجد إنساناً يعتقد بشيءٍ ما لكنه لا يفعل الأفعال التي تُثبت ذلك الاعتقاد، عقيدته في واد وأفعاله في وادٍ آخر، فهذه الفجوة موجودة لا ننكر ذلك، ما سببها الرئيس؟ سببها عدم تمكّن الإيمان في النفوس، يعني بمعنى آخر اليوم مُدخِّن، إنسان يُدخِّن سألته هل تعرف أضرار التدخين؟ قال: نعم، قرأتَ عنها؟ قرأتُ عنها، حضرت محاضرة عن الآفات العظيمة للتدخين وعن تأثيراته على الجسم والنَفِس والناس من حولك؟ نعم صحيح، لماذا إذاً أنت ما زلت تُدخِّن؟ بالطرف الآخر شخص زاد وزنه، وأصبحت مشيته ثقيلة بسبب الوزن الزائد، ونصحه الأطباء بأن يتبع أسلوب غذائي جديد وأن يمشي كل يوم نصف ساعة، هل أنت مُعتقد بأهمية ذلك؟ الجواب نعم، حسناً أنت تقوم بما طُلب منك من التزام حمية غذائية والمسير يومياً لنصف ساعة؟ لا! إذاً هناك فجوة بين ما تعتقده وبين ما تفعله سببه أو التشخيص له ضعف الإرادة، يقول لك أنا أريد، أنا مُقتنع، لكن أنا لا أقوى على ذلك، أنا أعلم يقيناً أنَّ الدين لا خير في دينٍ لا صلاة فيه، مُعتقد في ذلك لكن أنا مُنشغل بالدنيا ولا أُصلّي، فهذا ضعف إيمان يُسميه العلماء، ما معنى ضعف إيمان؟ يعني لو أنه وصل إلى المستوى الإيماني العالي بعقيدته لنفَّذ الأمر، بمعنى آخر أو بمثال موضح، ذاك الرجل الذي حدثتكم عنه الذي يعلم أن التدخين مُضر بصحته وبعائلته ومُدخِّن، في لحظة معيّنة يذهب إلى الطبيب يضع الطبيب يده على قلبه يقول الطبيب: المشكلة أصبحت صعبة، الشرايين سُدَّت، يعني أنت في المرحلة الخطرة جداً، في مكان مُعيّن يصل إلى عقيدة مئة بالمئة بضرر التدخين عليه فيتركه وهذا حاصل، قبل أيام كان يقول لك أنا مستحيل أن أترك التدخين، لأنَّ قوة تعلّقه بالتدخين أقوى من عقيدته بضرر لتدخين، لا أقول أنه غير مُعتقد بضرر التدخين، لكن التعلُّق بالتدخين أكبر من العقيدة التي يعتقدها، والشريعة عرضاً لمرض، إخواننا الأطباء يعلمون أن هناك أمراض وهناك أعراض، يعني لو أنَّ شخصاً ذهب إلى الطبيب وقال له: إنَّ رأسي يؤلمني فقال له خُذ حبتي بانادول في اليوم هذا ليس طبيباً، لأنَّه يُعالج العَرَض، لكن الطبيب سينظر ما أصل المرض، لماذا رأسك يؤلمك؟ وجع الرأس هو عرضٌ لمرض، ربما يوجد مشكلة في المعدة، ربما يوجد مشكلة بالدماغ، ربما يوجد مشكلة في الأعصاب، شقيقة، يوجد سبب، ربما السبب وراثي، لكن يبحث عن أصل المرض ولا يُعالج الأعراض فقط، لأنّ الأعراض تزول ربما لكن تعود، لأن المرض مازال موجوداً في الداخل، فالمشكلة في العقيدة هي مشكلة أمراض، المشكلة في السلوك هي مشكلة أعراض، والمُوفَّق هو من يُعالج المرض قبل أن يُعالج العَرَض.

الفجوة الأولى في الشريعة هي الفجوة بين النظرية والتطبيق:
التوكل أن تأخذ بالأسباب وأن تتوكل على الله
الآن لو دخلنا في صلب الموضوع دخلنا في الشريعة، نجد داخل الشريعة فجوة بين النظرية والتطبيق، هذا موضوع لقائنا داخل الشريعة فجوة بين النظرية والتطبيق، يعني الغيبة حرام هذه شريعة وليست عقيدة، لماذا يغتاب الناس بعضهم بعضاً رغم معرفتهم أنَّ الغيبة حرام؟! إذاً يوجد مشكلة وفجوة داخل الشريعة، ليس بين العقيدة والشريعة لكن داخل الشريعة يوجد مشكلة، هذه المشكلة تتفرع إلى فرعين اثنين، الفرع الأول: هو المشكلة بين أصل الفكرة وفَهم الفكرة، قبل أن نقول بين النظرية والتطبيق، بين الأصل وبين الفَهم، بمعنى اليوم إذا قلت للناس عموماً مصطلح إسلامي التوكل، ائتني اليوم بعشرة من عَوام المسلمين، يعني أقصد بالعوام هنا غير المُتخصصين بالعلوم الشرعية، لم يحضروا دروساً، ما عندهم لقاءات طيبة كتلك اللقاءات يتعارفوا و يتدارسوا العِلم بينهم، من عوام الناس، قل لهم: ما معنى التوكل؟ أصل الفكرة، الإسلام دعا إلى التوكل على الله تعلمون ذلك؟ قالوا: طبعاً نعم نحن متوكلون على الله، تقول له: ما معنى التوكل على الله؟ يقول لك أنا أتوكل على الله عز وجل ، أفوض الأمر إليه، لو مرض ابنك ما معنى التوكل على الله، يقول لك: الله يشفيه هذا التوكل على الله، لو أنك تريد مالاً كيف تتوكل على الله؟ يقول لك أدعوا ربي أقول يا رب أعطني مال، أنا متوكل عليه، أريد المال من عندك، فأصل الفكرة شيء وفهم الناس لها شيء آخر، الواقع ليس التوكل أن تطلب من الله أن يُعطيك، التوكل هو شيئان أن تأخذ بالأسباب وأن تتوكل على رب الأرباب، من مِنَ المسلمين يعرف هذه الحقيقة؟ أنا أتكلم في العموم لا أتكلم الآن عن الإخوة الذين درسوا و تابعوا العلوم الشرعية، أو حتى الذين يُتابعون اللِّقاءات الدورية الذين ثقّفوا أنفسهم، أتكلم عن عموم الناس، فتجد المشكلة في فهم الفكرة بين فهم الفكرة وأصلها الفجوة، التوكل لا يعني أبداً ترك الأخذ بالأسباب كل النصوص الشرعية تؤكد أن التوكل يعني الأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله تعالى، لكن الناس يفهمون التوكل أنه ترك الأمر لله، فيمرض لا يذهب إلى الطبيب يقول الله يشفيني! هذا غير صحيح، يركب سيارته عنده سفر أربعمائة كيلو متر ولا يتفقد الزيت ولا يتفقد الماء في السيارة، ويقول توكلنا على الله يا رب، كيف توكلت على الله؟! الله لا يقبل منك هذا التوكل، لأنَّ هذا اسمه سذاجة، التوكل يعني أن تتفقد الماء والزيت وتجري الصيانة للمركبة وتتأكد من جاهزيتها، ثم تقول سلّمت أمري لله أنا غير مُعتمد على هذه الأسباب، لكنني أخذت بها تعبّداً، والآن جاء دور الاعتماد على الله تعالى وحده، هذه هو مفهوم التوكل بالعموم، لن أُكثر من الأمثلة لأنها كثيرة جداً، بالطرف المقابل لو جئت للناس اليوم جمعت أيضاً عشرة من المسلمين من عوام الناس غير المُتخصصين، وجئت برجل يركب سيارة فارهة جداً، يعني من أحدث طراز، ويلبس ثياب أنيقة جداً، وحذائه نعله حسن، وثيابه حسنة ومُشذِّب لحيته، وربما إذا كبير بالسن صبغ شعره، وأحسن الثياب ويركب بسيارته الفارهة ويمشي بها، وقلت للناس هذا الرجل برأيكم مُتكبِّر أم غير مُتكبِّر؟ كثير من الناس يقولوا مُتكبِّر خاصةً الذين لا يعرفونه، أول مرة يرونه، ما أدراك أنه مُتكبِّر؟ يقول لك: ما رأيته يجلس في السيارة الفارهة، وثيابه حسنة، ويلبس حذاء لامِع، ما رأيته؟! مع أنه هذا الرجل ربما يكون غير مُتكبِّر أبداً، فالجواب الصحيح أن نقول لا نعلم ربما يكون مُتكبِّر و ربما يكون غير مُتكبِّر هذا الذي نراه ليس له علاقة بالكِبر أبداً، النبي صلى الله عليه وسلم كيف صحح هذه المفاهيم لمّا قالوا له: يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنةً فقال صلى الله عليه وسلم: ليس ذاك، هذا ليس كِبراً، إنَّ الله جميل ٌ يحب الجمال.

{ لا يدخُلُ النَّارَ مَن كان في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِن إيمانٍ ولا يدخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِن كِبْرٍ، فقال الرَّجلُ: يا رسولَ اللهِ إنَّ الرَّجلَ لَيُحِبُّ أنْ يكونَ ثوبُه حسَنًا ونعلُه حسَنةً فقال: إنَّ اللهَ جميلٌ يُحِبُّ الجمالَ، الكِبْرُ مَن بطِر الحقَّ وغمِص النَّاسَ }

(أخرجه مسلم وابن حبان)

الكِبر غمص الناس
ارتدي ثياب نظيفة، ربما إذا كان مُقتدر ارتدي ثياب جميلة، ونعل حسنةً وليس ذاك هو الكِبر، قال: (الكِبْرُ مَن بطِر الحقَّ وغمِص النَّاسَ) الكِبر أن أقول لك قال الله وقال رسول الله وترفض، أقول لك الحقُّ في المسألة هو كذا وترفض كِبراً، الكِبر غمص الناس، أن تقول لإنسان ألا تعلم فلان يقول لك: الناس كلهم لا يفهمون هذا غمص الناس، ألا تعلم أنَّ فلاناً له فضل له كذا أنا ما عندي أحدٌ يفهم، هذا مُتكبِّر لأنه يرفض الحقَّ ويُنزِل الناس عن منازلهم ويظن نفسه وحده من يفهم، وأنَّ الآخرين لا يفهمون شيئاً، هذا هو الكِبر، لكن واقع الناس أنهم يفهموا الكِبر بشكل مختلف عن الموجود، ليس طبعاً كل الناس ولكن كثير من الناس يفهمون الكِبر أنه شيء له علاقة بالمظهر، وليس شيئاً متعلّقاً بالسلوك وفي التعامل مع الحقّ ومع الناس، فهذه الفجوة بين أصل الفكرة التي جاء بها الإسلام نقيةً صافيةً وبين فهم الناس لها، القسم الثاني قلت في البداية عندما تكلمت عن الشريعة أنَّ هناك قسمين لمشكلة الفجوة في الشريعة، الفجوة الثانية أو القسم الثاني في الشريعة هو الفجوة بين فَهم الفكرة، ثم تطبيق الفكرة في الواقع، هذه فجوة أُخرى، الفجوة الأولى أصل الفكرة وفهم الفكرة ضربنا مثالاً التوكل الناس يفهمونه على أنه مجرد اعتماد على الله تعالى خالياً عن الأسباب، وحقيقته أن تأخذ بالأسباب وكأنها كلُّ شيء ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، والكِبر حقيقته بطل الحق وغمص الناس، والناس يفهمونه أنه مظهر يظهر به الإنسان فيظنونه مُتكبِّراً من خلاله، هذه مشكلة بين أصل الفكرة وفهم الفكرة هذه فجوة.

الفجوة الثانية في الشريعة هي الفجوة بين فهم الفكرة وتطبيقها:
الفجوة الثانية وهي الأكثر وجوداً في عالمنا الإسلامي، هي الفجوة بين فهم الفكرة وتطبيق الفكرة، بين النظرية والتطبيق الذي هو عنوان لقائنا، بين النظرية والتطبيق، وهذه أمثلتها كثيرةٌ أكثر من أن تُحصى، يعني اليوم لو قلت اليوم في الأرض ملياري مسلم ربما أو قريب من ذلك، لو قلت لهم الكذب ما حُكمه في الإسلام؟ لا أظن أن مسلماً يجهل أن الكذب حرام، واضح جداً فهو يعرف الكذب حرام حُكم شرعي، فإذا جئت إلى الواقع تجد أن كثيراً من المسلمين يكذبون، وهم يعرفون أنَّ الكذب حرام، الغيبة حرام لكن بعض الناس يغتابون، النميمة حرام لكن بعض الناس يَنمّون، الخمر حرام لكن هناك من يشرب الخمر وهو مسلم وربما يُصلّي أحياناً، لكن يشرب الخمر وخاصةً في البلاد التي فيها جهل بالأحكام وتطبيق الأحكام، الأمثلة كثيرة أكثر من أن تُحصى عن الفجوة بين النظري والتطبيقي في شريعة الله تعالى.
الآن سأتحدث عن قصتين في كتاب الله تعالى من خلالهما سأصِل إلى السبب الرئيس إن صحَّ التعبير وأرجو أن أوفق إلى ذلك، في مشكلة المسلمين بين معرفتهم بالحُكم ومخالفتهم له، حرام حرام يفعلونه، واجب واجب لا يفعلونه! كيف يستقيم معك أنك تعلم أنه يجب عليك أن تُحسن إلى زوجتك ثم تُسيء إليها؟ كيف يستقيم معك أن الكذب حرام ثم تكذب؟!

في قصة بني إسرائيل فجوة بين النظرية والتطبيق:
القِصتان في كتاب الله تعالى، القصة الأولى قصة بقرة بني إسرائيل، وتعلمون جميعاً القصة، القصة باختصار أنه قُتل رجل في بني إسرائيل، جاء بعض الناس إلى سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، قالوا: قُتل فلان نريد أن نعرف من القاتل؟ أنت نبيُّ الله وكليم الله و يوحى إليك من الذي قتله؟ المفاجأة أنَّ موسى عليه السلام بدلاً من أن يقول لهم القاتل فلان، أو لا أعلم من القاتل أو ربنا لم يُعلمني من القاتل كانت المفاجأة أنه قال لهم:

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
(سورة البقرة)

معرفة الآمر تؤدي إلى تنفيذ الأمر
حسناً ما علاقة البقرة نقول لك قُتل فلان تقول لنا اذبحوا بقرة؟! ماذا نفعل بالبقرة( قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، أنا أنقل ما قاله الله تعالى لي، قال لي اذبحوا بقرة، الآن طريقة الخطاب، أسلوب الخطاب إن صحَّ التعبير، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ)، يعني إذا كنتم تعرفوا من الذي يأمر فيجب أن تُسارعوا إلى تنفيذ أمره، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ) يعني ولله المثل الأعلى، والمثل للتوضيح فقط، لو قلت لشخص إنَّ أخاك يأمُرك، ربما يُنفِّذ وربما لا يُنفِّذ، لو قلت له إنَّ أباك يأمُرك أن تفعل كذا، يقول لك: أبي؟ نقول: نعم، أبداً لو كنت أنا فرضاً غير مُقتنع بهذا الأمر، لكن أبي أمر صاحب الفضل الكبير عليَّ سأُنّفذ، فهو لمّا عرف من الآمر بادر إلى تنفيذ الأمر فوراً، عرف الآمر فاندفع إلى تنفيذ أمره بإخلاص، لذلك لمّا يصدر مثلاً مرسوم ملكي إنَّ الملك يأمر بكذا، الناس تعرف من الملك وتعرف مغبِّة مُخالفة أمر الملك فتبادر إلى التنفيذ، لكن لو موظف في شركة من الدرجة الخامسة كتب أنا فلان آمر بكذا، لا يُنفِّذ الناس، فجاء الخطاب بأسلوب إن الله يأمركم مثله قوله تعالى:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
(سورة النحل)

ما الذي فعله بنوا إسرائيل؟ كان المفترض ألا يكون هناك فجوة بين الأمر والتطبيق، يذبحوا بقرة فوراً، أي بقرة يذبحوا بقرة فوراً ننتظر التعليمات بعدها، ماذا نفعل ؟ لا نسأل لماذا، لأنَّ الآمر هو الله، وليس من شأن المخلوق أن يسأل الخالق، يفهم الحكمة وحده فيما بعد لكن أن يناقش الأمر ممنوع، يعني نحن في حياتنا اليومية الطبيب لا نناقشه فيما يأمر، لأننا نعلم أن له علماً يفوق علمنا في مسائل الطب فنستجيب له فوراً، ولو ناقشناه ربما اعتبر ذلك إساءةً له، فكان المفترض أن يبادروا فوراً إلى ذبح البقرة، لكنهم لم يفعلوا، ما هي؟ ما لونها؟ ما هي؟ ثلاثة أسئلة، ثم قال تعالى:

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
(سورة البقرة)

يعني حتى وهم يُنفّذون الأمر ربما نفّذوه في النتيجة خجلاً من موسى عليه السلام، أو خروجاً من المسألة لأنهم يريدوا أن يعرفوا من القاتل، فقالوا نذبح هذه البقرة ثم ننظر ماذا يحدث، تبيّن أنَّ أمر الله له حكمة جليلة.

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
(سورة البقرة)

أراد الله أن يُبيّن لهم كيف ربنا عز وجل أحيا هذا الميت ونطق قال فلان قتلني، أعظم دليل في التاريخ أنَّ المقتول الذي وقع عليه فعل القتل هو الشاهد، لا تحتاج شهود المقتول قام وقال: فلان قتلني، انتهت مشكلة، أقوى قضية في التاريخ أن ينهض المقتول من قبره ويحدد قاتله، هم لم يفهموا حكمة الله في ذلك فناقشوا لأنَّ عندهم ضعفاً في معرفة الآمر، لذلك كانوا يقولوا" لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت"

العلم بالله هو الذي يُلغي الفجوة:
القصة الثانية في كتاب الله تعالى:

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
(سورة الصافات)

هنا ما قال إن الله يأمرني أن أذبحك، خفف الأمر عليه لأنَّ رؤيا الأنبياء حقّ وهي أمر من الله، لكن ما قال له إن الله يأمرني أن أذبحك، وجدها قد تكون ثقيلة عليه، فقال (إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) وأرى فعل مضارع يُفيد التكرار، يعني الرؤيا مُتكررة دائماً أرى (أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ)، خيّره هو خيّره يعني كان رحيماً به ابنه، (فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ)، أعطني رأيك أنا هكذا أرى، فَهِم الرسالة إسماعيل عليه السلام (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)،هناك ذبح بقرة (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا)، هنا اذبح ابنك (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)

فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
(سورة الصافات)

وضعه ووضع السكين على رقبته، انتهى نفذَّ الأمر، يذبح ابنه النبي! ثم جاءت حكمة الله من هذا الأمر، وتبين أنَّ الإنسان بقدر معرفته بخالقه، يُبادر إلى تنفيذ أمر الله تعالى.
معظم المشكلة هي ضعف في معرفة الله تعالى
فإذاً هاتان القِصتان لأؤكد حقيقة أعتقد بها وأسأل الله أن أكون مُصيباً فيما أقول، أنَّ معظم المشكلة التي تتعلق بالفجوة بين ما يعلمه الناس وبين ما ينفّذونه على أرض الواقع، أو حتى بين ما يعتقده الناس وبين ما ينفّذونه، معظم المشكلة ضعف في معرفة الله تعالى في معرفة الآمر، يعني هم عندهم مشكلة في أنهم لا يعرفوا حقَّ المعرفة من الذي يأمر، هو يعلم أنَّ الكذب حرام لكنه ما رُبيَّ على أنَّ الذي حرَّم الكذب هو الله صاحب الأسماء الحُسنى، والصفات الفُضلى، ما رُبيَّ على هذا العِلم العظيم الذي هو العِلم بالله تعالى، لذلك لمّا ذكر

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
(سورة الزمر)

فهؤلاء العلماء الذين يخشون الله وربما هذا فيه تكرار لِما تحدّثنا به في لقائنا السابق في موضوع العِلم، العلم بالله تعالى هو الذي يُلغي تلك الفجوة بين ما يعرفه الناس وما يُنفّذونه من تلك المعارف التي يعرفونها.
أيُّها الإخوة الكرام، آخر شيء في هذا اللقاء الطيّب، يعني بعض الأسباب الأُخرى أنا ذكرت السبب الشرعي المُباشر الذي أعتقد أنه هو أساس المشكلة، وهو النقص في ضعف الإيمان أو النقص في معرفة الله تعالى، لكن بالعموم هناك أسباب أُخرى طبعاً، يعني لا ينحصر سبب مشكلتنا في أمر واحد لكن هذا هو السبب الرئيس وتتفرع عنه أسباب أُخرى.

أسباب أُخرى لوجود الفجوة بين النظرية والتطبيق في الشريعة:
هناك ثلاثة أمور سأذكرها الآن مُتعلِّقة بهذه المشكلة، أولأقول مُتعلِّقة بمشكلة الفجوة بين النظرية والتطبيق عموماً، ما كلها تنطبق على الدين لكن للفائدة سأتحدث بالثلاثة معاً، وأُبيّن ما ينطبق منها على ديننا.

أولاً المِثالية الحالمة:
الدين ما يجب أن يكون وفق الواقع
أول ما يذكره المُنظِّرون إن صحَّ التعبير في قضية أسباب الفجوة بين النظرية والتطبيق هو مثالية الفكرة المُبالغ بها، يعني المثالية الحالمة، بمعنى آخر عدم واقعية الفكرة، يعني مثلاً الليبرالية فكرة حالمة جداً بالديمقراطية والحرية والمساواة مدينة فاضلة يعني، فكرة حالمة جداً، وضعها فلاسفة والفلسفة كما تعلمون هي ما ينبغي أن يكون، النتاج الشعوري والبشري والمعرفي للبشرية لا يزيد عن عِلم وفلسفة وفن، فالعِلم هو وصف ما هو كائن، والفلسفة هي وصف ما ينبغي أن يكون، والفن هو ما يُمتع الإنسان، المُمتع فن، وما ينبغي أن يكون فلسفة، وما هو كائن عِلم، في ما ينبغي أن يكون، الفلاسفة أحياناً يشطحون، أي يضعون أشياء في الأصل غير قابلة للتطبيق، فعندها سيقع هناك فجوة لأن المكتوب لا يمكن أن يُطبّق، أو يصعُب أن يُطبّقه الناس، مثالية حالمة غير موجودة، طبعاً هل هذا له علاقة بالدين؟ من حيث المبدأ لا، لأنَّ الدين ليس فلسفةً، الدين ما يجب أن يكون وفق الواقع، يعني ما يستطيعه الإنسان.

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
(سورة البقرة)

لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
(سورة الطلاق)

يعني الإسلام يقول لك لن أُكلِّفك إلا ما هو في وسعك، ولن أُكلِّفك إلا شيئاً أعطيتك مُؤهلاته، فإذاً أنت قادر على التطبيق لا يوجد مثالية حالمة في الإسلام، الإسلام أهم شيء فيه أن لا يوجد مثالية حالمة، أنه يعترف بأن الإنسان يُذنب.

{ كلُّ بني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخطَّائين التوابونَ }

(أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجه)

لا يوجد مثالية حالمة في الإسلام، نحنا لسنا بشر لا نُخطئ أبداً، لم يقل لنا الله تعالى كونوا معصومين، بالعكس قال:

{ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لهمْ. }

( صحيح مسلم)

طبعاً ليس هذا معناه أن نُكثر من الذنوب، حاشى أن نفهم ذلك، لكن معناه أننا جُبلنا على أننا نُخطئ.

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
(سورة طه)

الإسلام يعترف ببشريتك
فالأصل أنَّ الإسلام يعترف ببشريتك أو الإسلام يقول لك أنت بشر، يقول لك أنت تُخطئ، فليس في الإسلام مِثالية حالمة، لكن هو يضع لك ما ينبغي أن تفعله وكله ضمن وسعك، ولا يُكلِّفك إلا ما آتاك، فإذاً ليس عندنا في الإسلام مِثالية حالمة، لكن عندنا في فهمنا للدين أحياناً مِثاليات، في فهمنا للدين، ليس في الدين مِثالية، لكن بعض العلماء، أو بعض الوُعّاظ، أو بعض الدُعاة من حيث لا يشعرون يضعون للناس مِثالية حالمة، والآن سأتكلم كلاماً قد يُنكره عليَّ البعض، لكن أنا فكرتي أنا مقتنع فيها تماماً، يعني يضعون مثالية حالمة لأشياء لا يمكن للناس أن تُطبقها، يقول لك الإمام الفلاني صلّى الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة، يعني هذا الرجل أربعين سنة لم يكن ينام، لو فرضاً حصل ذلك، يعني لو افترضنا أنه حصل وأنا أشكّ أنه حصل، لأنه لا يستطيع إنسان أربعين سنة أو عشرين سنة أو عشر سنوات أن لا ينام في الليل، لكن لو أنه حصل فهو حالة فردية لم يُكلّفنا بها الإسلام، بالعكس تماماً النبي عليه الصلاة والسلام قال:

{ جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي }

(صحيح البخاري)

كنت أقرأ لسيدنا عمر قولاً أتعجب منه يقول:" إني إن نمت ليلي أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي" كنت أستغرب من هذا القول حتى وقعت على القول الذي أعتقد أنه الصواب في الكتب، قال " إني إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي" هذا واقعي، لكن إن نمت ليلي معناه أنا لا أنام الليل، أنا لا أستطيع أن لا أنام الليل، فأنت عندما تضعني أمام مِثالية حالمة، هذا سيجعل هناك فجوة غير مصطنعة لكن حقيقية طبيعية لا بُدَّ منها، فالإسلام ليس فيه مِثالية حالمة، فيه أشخاص يُذنبوا ويتوبوا، النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ المؤمنُ كالسنبلةِ تقومُ أحيانًا وتميلُ أحيانًا }

(أخرجه البخاري والبزار وأبو يعلى)

يريد الله صوتك، يريد منك أنك بشر، يريد منك أنك تُخطئ وتتوب، لكن يريد منك أن تعتزل الكبائر طبعاً، يريد منك أن لا تستمر بالمعاصي في الوقت نفسه، يعني نحن لا نهّون المعاصي معاذ الله، لكن نحن مجبولون على ذلك، لكن لمّا يضع بعض الدُعاة مِثاليةً حالمة غير موجودة لم يأمر بها الإسلام، ويجعلون منها ديناً ويأمرونك بأن تكون في مصافِ الأنبياء والمعصومين، فهذه مشكلة ليست في أصل الدين حاشا لله تعالى، ولكنها في فَهِم البعض للدين، وهذا يُنتج فجوةً طبيعية بين النظرية والتطبيق. السبب الثاني من الأسباب الفرعية لأنه اتفقنا أنَّ السبب الأساسي هو ضعف الإيمان ونقص المعرفة بالله، هو ضعف النُّخبة القائمة على تنفيذ الفكرة، دائماً الأفكار العظيمة ينبغي أن يحملها رجال يتمثلونها في أخلاقهم، لمّا يضعف أصحاب القضية عن حمل قضيتهم، تنتُج فجوة بين النظرية والتطبيق، فأنا عندما أنظر إلى أمين الحزب الفلاني مثلاً، الذي يُنادي بأهمية واحد اثنان ثلاثة، ثم أجده هو غير قادر على حمل الفكرة هو في وادٍ آخر بعيد، فقط هو اسمه الأمين العام للحزب الفلاني، ما هذه الفكرة إذاً إذا كان من يحملونها غير قادرين على تنفيذها؟ّ! تضعف الفكرة ويضعف التطبيق، الناس اليوم لماذا كفروا بالكلمة؟ الكلمة جاء بها الأنبياء

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
(سورة إبراهيم)


ثانياً بُعد الناس عن الكلمة وعن تطبيق الفكرة التي يحملونها:
الناس يتعلّقون بالإنسان
أهم أسباب بُعد الناس عن الكلمة أنهم وجدوا الكلام في واد والمتكلم في واد، يعني ضعفت المصداقيّة، لم يجدوا سلوك القائل مُتناسقاً مع كلامه، فعندما لا يحمل الفكرة أشخاص قادرون على حمل الأمانة تضعُّف نظرة الناس إلى الفكرة في الأصل، ويقولوا نحن من باب أولى أن لا ننفذ فكرةً من وضعوها غير قادرين على تطبيقها، طبعاً نحن لم نضع فكرة في الدين بل نتحدث بشكل عام عن الأحزاب، لكن لو طبّقنا ذلك على دين الله تعالى، الدين وحيّ من الله تعالى، نحن مسلمون بقدر قربنا من تنفيذ دين الله، وإيماننا به، وحرصنا على تطبيق أحكامه، نُحبب الناس به، وبقدر تفلُّت بعض الناس من الدين ينفِّرون الناس منه، طبعاً هذا سلوك الناس خطأ، لكن هو واقع يعني لا عُذر لهم، ليس صواباً، لذلك دائماً نقول للناس لا تنظروا إلى الإسلام من خلال المسلمين، لكن انظروا إلى الإسلام خلال النصوص الشرعية، لكن الناس هذه طبيعتهم يتعلّقون بالإنسان، يقول لك فلان جاري مسلم يُصلّي في المسجد، دائماً لمّا نجلس معه يحدّثنا في الدين، لكن فعل كذا وكذا، وجدته يفعل كذا في مكان كذا، يجد لنفسه مُبرراً وهو عذر غير مقبول لكن هو يفعل ذلك ولذلك قال تعالى:

رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
(سورة الممتحنة)

كيف يكون المسلم فتنةً للكافرين؟ عندما يجدوا فجوةً بين إسلامه وتطبيقه لإسلامه، يعني بين ما يعتقده و ما يفعله، فيفتنون نقول إذاً نحن على حق، ما دام المسلمون الذين يدَّعوا أنهم أصحاب أخلاق وكذا، لكن يغشّوا في المُعاملة، يكذّبوا، يحتالوا، إذاً أنا غير مُلزم بهذا الدين الذي أنتج هذه الأفعال! قولهم خطأ لأنه لا أحد يُنكر الطب وعِلم الطب لأنَّ طبيباً أساء إليه، لكن هذا واقع الناس، فنحن مضطرون أن نُعالج المشكلة حتى لا نجعل للناس مدخلاً من خلالها، يقولوا إننا نحمل أهم فكرة، القول المشهور نحمل أهم فكرة مع أضعف تسويق، هذا يؤدي إلى هذه الفجوة، يعني نحن لا نسوّق لديننا بالشكل الصحيح إن صحَّ التعبير، التسويق مُصطلح أن توصل الفكرة إلى الناس، فأنت تحمل فكرة عظيمة لكن أحياناً كثيرون يسيئون إيصال الفكرة إلى الناس، فيترك الناس التطبيق فتقع هذه الفجوة.

ثالثاً: تبنّي الفكرة بعض المُنتفعين وأصحاب المصالح:
الأمر الأخير من الأسباب أنه أحياناً يتبنّى الفكرة بعض المُنتفعين منها وأصحاب المصالح، وهذا أصعب ما يكون في دين الله تعالى، لو أنه في حزب سين من الأحزاب، وتبنّى الفكرة فلان أو فلان من الناس، وهم أصحاب مصالح يعني يُريدوا أن يجمعوا مالاً، أو يحصّلوا منصباً في مجلس الأمة أو يريدونها من أجل أن ييسروا أمور تجارتهم ويأخذوا تسهيلات لا يأخذوها إلا وهم في هذا الموقع، فهذا شيءٌ سيء ومزعج، لكن ليس مُعيباً في دين الله، الناس تُشير إليهم على أنهم سياسيون والسياسة فيها عريضة، وليس لنا علاقة بالسياسة إلى آخر هذا الكلام، بغض النظر، فالناس عموماً إذا أساء السياسيون الاقتصاديون، انتفع الناس بأحزابهم وإلى آخره ينزعجون منهم، لكن الأمر بعيد عن الدين، لكن أسوأ شيء أن يُتاجر بالدين، لذلك يُنسب للإمام الشافعي رحمه الله أنه كان يقول:" لأن ارتزق بالرقص أهون عليَّ من أن أرتزق بالدين" لأن الرقص الناس يقولوا هذا يرقص ويُعطيه الناس المال وانتهى الأمر، أما الدين فهو يلعب بالمقدّسات، فالإتجار بالدين وجعل الدين تجارةً من أجل تحصيل المكاسب والمصالح، وعندما يحمل الفكرة المُنتفعون، يكونوا بذلك يُسيئوا إلى فكرتهم، ويجعلوا بين الواقع والتطبيق عند الناس، بين النظرية والتطبيق، وبين الفكرة وإسقاطها على أرض الواقع فجوةً كبيرةً فتكون هذه المشكلة التي نتحدث عنها في هذا اللقاء الطيب بصحبتكم الكريمة.

الخاتمة:
إذاً أحبابنا الكرام أُلخّص الموضوع في دقائق، واعذروني لأنَّ الموضوع مُتشّعب، قُلنا الدين عقيدة وشريعة، العقيدة مُرتبطة بالشريعة ارتباط عضوي، كل عقيدة سليمة ينبغي أن تنتج سلوكاً سليماً في الأصل، وكذلك العقيدة الفاسدة غالباً ما تنتج سلوكاً فاسداً، العقيدة والشريعة مرتبطان ارتباطاً وثيقاً، هناك فجوة بين ما يعتقده الإنسان وما يفعله، وهذا إما أن يكون نفاقاً اعتقادياً أو بعضهم نفاقاً سلوكياً عمليّ، وعلى كل حال فالإسلام يُحارب النِفاق ويجعل المُنافقين في الدرك الأسفل من النار لأن ما نعتقده يجب أن يظهر في أفعالنا، في الوقت نفسه لو دخلنا في الشريعة فهناك فجوة في الشريعة من زاويتين أو من قسمين، الزاوية الأولى الفجوة بين أصل الفكرة وفهم الناس لها، ضربنا مثال على ذلك التوكل، الكِبر في طرفين مُتناقضين، فعل إيجابي وفعل سلبي.
وهناك الزاوية الثانية في الشريعة وهي الفجوة بين الفكرة نفسها وفهمنا لها، ثم تطبيقها على أرض الواقع، وقد بينّا من خلال قصة بقرة بني إسرائيل وقصة ذبح إسماعيل عليه السلام، أنَّ أهم سبب من أسباب هذه الفجوة هو ضعف الإيمان، أو ضعف المعرفة بالآمر، أو نقصٌ في معرفة الله تعالى، يعني أسماء مختلفة لمُسمّى واحد وهو ضعف إرادة في التطبيق، ناتج عن عدم وجود أرضية كافية من المعرفة بالله تعالى التي تؤهل الإنسان أن يُعظُّم الله في قلبه، فلا يريد أن يستحلّ شيئاً من محارمه لأنَّه يعرف من الآمر جلَّ جلاله.
ثم ذكرنا أسباباً فرعيةً لهذه الفجوة، وهي وجود مِثالية حالمة أحياناً وهذا غير موجود في ديننا، ولكن بعض الدُعاة من حيث يشعرون أو لا يشعرون يجعلون هذه المِثالية الحالِمة التي تُنتج حتماً فجوةً حقيقةً غير مُصطنعة، وربما غير مسؤول عنها كثير من الناس وإنما مسؤول عنها من وضع هذه المثالية الحالمة، وتحدثنا عن السبب الآخر وهو أنَّ النُخبة التي تحمل الفكرة أحياناً وينادي بها في ديننا العلماء والوعَّاظ والدعاة إلى الله تعالى، أنهم يضعفون عن حملها بالشكل الصحيح، فينتج فجوة عند الناس طبيعية لأنهم ينظرون إلى القدوات، وهي غير قادرة على حمل الفكرة، فهم من باب أولى أن لا يحملونها بالطريقة الصحيحة، والسبب الأخير هو وجود المُنتفعين وأصحاب المصالح الذي يُتاجرون في دين الله، فيسّتغلون الفكرة استغلالاً سيئاً فيدفعون الناس إلى الفتنة في دين الله تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن والاه، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل التفرق من بعده معصوماً، ولا تجعل فينا ولا مِنّا ولا مَعنَا شقياً ولا محروماً، اللهم ربنا ارحم شهداءنا، ارحم من قضى في هذا الزلزال ارحم من قضى في هذه الأحداث الأليمة، اللهم صبِّر أحبابهم، اللهم يمِّن كتابهم، اللهم يسِّر حسابهم، اللهم اجعل الملائكة الكرام زوارهم، اللهم لقهم الأمن والبُشرى والكرامة والزُلفى، اللهم مُدَّ لهم في قبورهم مدَّ أبصارهم وجافي الأرض عن جنوبهم، اللهم اغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أنزل على أحبابهم وأصدقائهم وأقربائهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، فإنك إلهي تنزل الصبر على قدر البلاء، تعاليت وتباركت يا رب العزة، يا رب الجلالة والإكرام، اللهم اجعل بلادنا آمنةً سخيةً رخيةً مطمئنة، اللهم فرج عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم رُدّنا إلى دينك ردّاً جميلاً ورُدّنا إلى ديارنا وأهلنا ردّاً جميلاً، واجعلنا عندك من المقبولين تقبّل مِنّا إنك أنت السميع العليم، وتُبّ علينا يا مولانا إنك أنت التواب الرحيم، واهدنا ووفقنا إلى الحقّ ووفقنا وإلى الطريق المستقيم، اللهم اغفر لإخواننا الذين أسّسوا هذا البيت المُبارك، اللهم اغفر لهم وضاعف مثوبتهم وأعظِّم أجرهم، و اجعل هذا المِنبر مِنبر حقٍ وخيرٍ وفضل، دائماً نسعد به ونتعرّف به إلى ديننا وإلى شرعة نبينا صلى الله عليه وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.