لماذا نسعد في رمضان؟ - مخففات الصيام

  • محاضرة في الأردن
  • 2023-03-15
  • عمان
  • الأردن

لماذا نسعد في رمضان؟ - مخففات الصيام


مقدمة
المذيع:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً يا عليم، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكِلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم آمين.
بداية نرحب بكم أيها الإخوة والأخوات الذين معنا في البث المباشر، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يبارك في هذا اللقاء، وأن يكون لقاء طيباً، وأن يكون حجة لنا جميعاً لا علينا، اللهم آمين، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفق الدكتور والشيخ بلال فيما سيقدم لكم إن شاء الله في المادة، وعنوان اللقاء: "لماذا نسعد في رمضان"، وقبل أن ندخل في التفاصيل أو ندخل في الكلام أحب أن أجدد الشكر للدكتور بلال، فشكر الله لك، وكتب الله أجرك على إجابة الدعوة، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفع بنا وبكم، اللهم آمين.
نعرفكم على ضيفنا الشيخ بلال، حاصل على دكتوراه في الفقه المقارن، وكذلك معه إجازة في اللغة العربية، وعضو رابطة علماء الشام، ومعد ومقدم برامج إذاعية، فأنا لا أعرف أن أقدم برامج إذاعية نسبة للشيخ بارك الله فيه، قبل أن يبدأ الشيخ، عادة في شعبان، وقبيل رمضان تكثر اللقاءات والبثوث المباشرة والاجتماعات، والتذكير في رمضان، وحث الناس على اغتنام رمضان، ولكن في الفترة الأخيرة بدأ هناك تركيز –وهو طيب عموماً- في موضوع استغلال رمضان أو اغتنام رمضان من ناحية تربية الأبناء والتعامل مع الأبناء لدرجة أننا قد نغفل عن نفوسنا أحياناً لانشغالنا في أبنائنا، فالمطلوب منا في مثل هذه الأمور أن يكون لدينا شيء من التوازن، بحيث نعطي كل ذي حق حقه، لأن رمضان كما أنه غنيمة تربوية للأبناء فهو غنيمة أيضاً لنا، فهدف هذا اللقاء أن نذكر إخواننا وأخواتنا بما هو قادم إن شاء الله، فمجدداً لقاؤنا بعنوان: لماذا نسعد في رمضان؟ سيكون الحديث عن كيفية استقبال رمضان، وما خطوات السعادة في رمضان، ولي عندكم اقتراح: ليكن معكم ورقة وقلم لتكتبوا النقاط الرئيسية التي ترونها ولتخرجوا بأمور عملية تطبيقية، بحيث أن يكون هذا اللقاء ليس فقط عبارة عن كلام جميل وطيب استمعنا له وانتهى، بقدر ما نخرج منه بأمور فيها فائدة، فهذا اقتراحي لكم، بإذن الله سيحفظ البث ويرفع على القناة، بحيث من فاته، أو تريد إعادة الاستماع إليه للفائدة فهذا موجود.
لا أريد أن أطيل كثيراً بصراحة، فهذا اللقاء للدكتور بلال، فأترككم معه، فلتتفضل دكتور بلال رضي الله عنك.

الدكتور بلال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، اللهم بلغنا رمضان غير فاقدين ولا مفقودين برحمتك يا أرحم الراحمين، وأعنا فيه على الصيام والقيام، وغض البصر وحفظ اللسان، وبعد فيا أيها الإخوة الأحباب، فإنني بادئ ذي بدء أشكر لدار نبت هذه الدعوة الطيبة التي إن دلت على شيء فعلى حسن ظنهم بي، وأسأل الله تعالى أن أكون عند حسن ظنكم جميعاً.

لله خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص:
أيها الإخوة الأحباب، إن لله تعالى خواص في الأزمنة، والأمكنة، والأشخاص.
في الأشخاص: فإن الله تعالى خلق الأشخاص جميعاً، واختص منهم أنبياءه ورسله، ثم اختص من أنبيائه ورسله أولي العزم من الرسل، ثم اختص من أولي العزم سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم، فكان خير خلق الله كلهم.
في الأمكنة: وخلق الله تعالى الأمكنة، واختص منها بيوته، وجعلها بيوتاً له جل جلاله، يأوي إليها المحبون، ويذرف الدموع فيها الخاشعون، ثم اختص من مساجده ثلاثاً جعل الرحال لا تُشد إلا إليها؛ المسجد الحرام ، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الاقصى.
اختص الله من شهوره وأيامه شهر رمضان
في الأزمنة: وأما الأزمنة، فقد خلق الله الشهور والأيام، واختص من شهوره أشهراً حُرماً، واختص أيضاً من شهوره أشهر الحج، واختص من شهوره وأيامه شهر رمضان، فجعل هذا الشهر الكريم الأعمال فيه مضاعفة، والخيرات فيه مضاعفة، والنفحات فيه كثيرة، فقال صلى الله عليه وسلم:

{ مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ. }

(صحيح البخاري)

{ مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ. }

(صحيح البخاري)

فإن لله تعالى في أيام دهره نفحات، وما علينا إلا أن نتعرض لها، ومن نفحاته العظيمة شهر رمضان الكريم بأيامه التي نصومها، وبلياليه التي نقومها، فمن نِعم الله تعالى أن يحيي عباده إلى رمضان، وأن يبلغهم هذه الأيام الفُضلى، وتلك الليالي عظيمة القدر عند الله تعالى.
أيها الكرام عنوان لقائنا اليوم: "لماذا نسعد في رمضان؟ كيف نسعد في رمضان"؟ لا شك أننا جميعاً نشعر بسعادة استثنائية في رمضان، نحن المؤمنين، وننتطره بفارغ الصبر، وما أن يهلّ هلاله حتى تبدأ التبريكات والتهاني، ثم نجد في نهاره من الأنس ما لانجده في غيره، ونجد في لياليه من القرب ما لانجده في غيرها من الليالي، وهذه حقيقة مُسلَّم بها عند المؤمنين، وإذا سألنا لماذا نسعد في رمضان؟ أحب أن أجيب عن هذا السؤال من خلال مثلين توضيحيين:

إن عرفت هدفك صحت حركتك:
لا يمكن أن تصح حركتك إلا إذا عرفت هدفك
المثل الأول: رجل سافر إلى باريس، وباريس مدينة كبيرة ربما هي أكبر مدن أوروبا، وهي مدينة مترامية الأطراف، بعيدة المنازل كما يقال، ونزل في فندق وصل ليلاً نام، واستيقظ صباحاً فنزل إلى الاستعلامات (الاستقبال) وسأل الموظف هناك إلى أين أذهب؟ يجيبه الموظف إن كان عاقلاً لماذا أنت هنا؟ لن أستطيع أن أجيبك إلى أين تذهب إلا إذا قلت لي لماذا أنت هنا؟ بمعنى أنه لا يمكن أن تصح حركتك إلا إذا عرفت هدفك، فإن جئت إلى باريس سائحاً فعليك بالمقاصف والمتنزهات، والأماكن السياحية، والآثار وغير ذلك، وإن جئت إلى باريس طالباً سأدلك على المعاهد والجامعات، وإن جئت إليها تاجراً سأدلك على المصانع والشركات، فحوى هذا الكلام أنك إن عرفت هدفك صحت حركتك، ولا يمكن لإنسان أن يسير حركة صحيحة إلا إذا كان هدفه واضحاً أمامه، أما من يخبط خبط عشواء ولا يهتدي فهذا وصفه الله تعالى فقال:

أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (22)
(سورة الملك)

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
( سورة الفرقان)

فالإنسان إذا عرف هدفه صحت حركته، هذه قاعدة.

توافق الحركة مع الهدف:
الإنسان ينزعج إذا كانت حركته بخلاف هدفه
المثال الثاني: استنباط القاعدة الثانية: طالب توجيهي عنده يوم الأحد أهم مادة في الفرع العلمي؛ الرياضيات مثلاً، وله أصحاب يحبونه جاؤوا إليه يوم السبت صباحاً، وأخذوه بالمجاملة بالمخاجلة، بالإكراه إلى النزهة معهم، وذهبوا به إلى مكان جميل الشمس ساطعة، والعصافير تزقزق، والنهر يجري بمائه العَذْب، وأرادوا أن يتنزهوا يوم السبت من الصباح إلى المساء، الحقيقة هو يجلس معهم، لكن فكره ليس معهم، هو الآن لا تعنيه لا المناظر الجميلة، ولا الجو الجميل، ولا الرفقة، وإنما يعنيه شيء واحد؛ أن ينجح غداً في المادة المصيرية التي تنتظره، فهو لا يسعد، رغم أن الجو جميل، والرفقة جيدة، لكنه في وادٍ آخر، هذا الطالب نفسه لو أنه يوم السبت أكبّ على الكتاب، ودرسه وحل مسائله، وفهمه، وهو يقبع في غرفة صغيرة، لا فيها مناظر خلابة، ولا جو جميل، وربما لا يوجد مكيف، والجو حار، لكنه أنجز ما عليه، فإنه يأوي إلى فراشه مساء السبت سعيداً بخلاف الحالة الأولى، لماذا مع أنه متعب من الدراسة؟ لأنه تحرك نحو هدفه، لأن عمله متوافق مع هدفه.
القاعدة الأولى: لا تصح الحركة حتى نعرف الهدف، والقاعدة الثانية: لا يمكن أن تسعد إلا إن جاءت حركتك متوافقة مع الهدف الذي تسعى إليه. أما حركة بخلاف الهدف لا تسعدك، الإنسان ينزعج إذا كانت حركته بخلاف هدفه. هاتان القاعدتان معلومتان، ما علاقتهما بعنوان لقائنا لماذا نسعد في رمضان؟

الحركة وفق منهج الله عبادة:
علاقتهما أننا في نهار رمضان مشغولون بالهدف الذي خُلقنا من أجله؛ ولما كنا مشغولين بالهدف الذي خلقنا من أجله سعدنا، ما الهدف الذي خلقنا الله تعالى من أجله؟ الآية واضحة، صريحة، جامعة، مانعة، محكمة:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
(سورة الذاريات)

العبادة هي الهدف الوحيد للخلق
"ما" مع "إلا" تفيد الحصر "ما جاء إلا محمد" يعني لم يأتِ إلا طالب واحد اسمه محمد فقط، فما زائد إلا تفيد الحصر، أسلوب لغوي للحصر، مثله لا زائد إلا "لا إله إلا الله" يعني لا معبود بحق إلا الله، أساليب الحصر والقصر في اللغة العربية متعددة؛ أحدها أن يأتي النفي ويأتي بعده "إلا"، هذا حصر وقصر ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ يعني ما خلقتهم إلا لعبادتي فقط، لا يوجد أي هدف آخر للخلق، طبعاً حتى نفهم الموضوع على أبعاده ليست العبادة بالمعنى المتعارف بالذهن الاصطلاحي، الذي ينصرف في أذهان الكثير من الناس، إذا قلت له عبادة يعني يتصور إنساناً يصلي، أو إنساناً صائماً، أو إنساناً حاجاً، أو دافعاً للزكاة، يعني يتخيل أركان الإسلام فقط، ليست العبادة بهذا المعنى فقط، الله تعالى لم يخلقنا فقط لنصلي بين يديه، الصلاة هي أعظم ما في ديننا، ولكن ليست هي الهدف الوحيد، العبادة بمفهومها العام الشامل الواسع، ماذا نقول في اللغة العربية؟ نقول: طريق مُعبَّدة، ما معنى معبدة؟ يعني وطِئتها الأقدام حتى ذلّلتها، فأصبحت ذلولاً لمن يمشي عليها، بخلاف الطريق التي فيها أكَمات وحفر، فهي ليست مُعبّدة، فما معنى العبادة بالمعنى الشرعي العميق العام؟ العبادة هي أن تُعبِّد، تذلّل، تخضع حركتك في الحياة لمنهج الله، أنا أعمل عبادة؟ نعم، وأنت تعمل في عملك، في معملك، في مصنعك، وأنت أختي الكريمة وأنت في تربية أولادك، أو في رعاية أسرتك، أو في رعاية طالباتك، إلى غير ذلك من الأعمال الصالحة، ما دامت الحركة وفق منهج الله فهي عبادة، أنا في نزهة لكن وفق منهج الله فهي عبادة، أنا ألعب مع بعض أصدقائي كرة القدم لكن وفق منهج الله عبادة، كل عمل نعمله فنُعبّده أي نخضعه لمنهج الله تعالى فهو عبادة، فهذا معنى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ يعني الحركة في الحياة مُعبَّدة مذلّلة خاضعة لمنهج الله، فالإسلام لم يأمرنا بترك الدنيا، بل أمرنا بترك الحرام، الدنيا التدين لا يعني ترك الحياة، ولكنه يعني ترك الحرام، فالعبادة هي ترك الحرام، بمعنى أن نُخضِع حياتنا للمنهج، فإذاً: ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أي لتكون حياتهم وفق المنهج الذي يسعدهم ويرحمهم.

إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119)
(سورة هود)

عمارة الأرض عبادة، إنصاف المظلوم عبادة، العمل الذي يكسب منه ما يكون فيه قوت له ولأهل بيته عبادة، النزهة في طاعة الله عبادة، الإخوة في الله عبادة، كل حركة في الحياة تنضبط وفق منهج الله فهي عبادة، فالعبادة هي إخضاع الحياة لمنهج الله، ولا تعني ترك الدنيا أبداً.
لماذا نسعد في رمضان؟ لأننا مشغولون بالهدف الذي خُلقنا من أجله، كمثل ذلك الطالب طالب التوجيهي الذي سعِدَ لأنه انشغل بالهدف الذي خُلق من أجله، ولما توفرت له كل أسباب السعادة الخارجية مع رفاقه الذين يحبهم، وفي مكان جميل، وهواء عليل، وجو لطيف، وأصوات جميلة، رغم كل ذلك لم يسعد لأنه كان مشغولاً بغير الهدف الذي يسعى إليه وهو النجاح في التوجيهي، كذلك حالنا في هذه الدنيا لا يمكن أن تصح حركتنا إلا إذا عرفنا هدفنا، هدفنا هو إرضاء الله، هدفنا هو عبادة الله، إذاً ينبغي أن نسير وفق هذا الهدف، الآن إذا سرنا بخلافه لا نسعد، لا نسعد إلا إذا سرنا وفق الهدف الذي خلقنا من أجله.

الحركة في يوم رمضان:
الإنسان في نهار رمضان منضبط بمنهج الله
في رمضان نحن مشغولون في الهدف الذي خلقنا من أجله، انظروا في حركة نهار رمضان؛ خطوات عملية، يبدأ النهار بصلاة الفجر؛ الرجال في المساجد لأداء الصلاة في جماعة، النساء مع الأطفال يؤدين الصلاة في البيوت غالباً في وقتها، في وقت الفجر في وقت قرآن الفجر، في النهار؛ صيام امتناع عن المباحات، ومن باب أولى الامتناع عن المحرمات، فالذي يمتنع عن المباحات لا يُعقَل أنه يأتي المُحرّمات، يعني إنسان يمتنع عن الطعام والشراب هل يُعقل أن يغتاب الناس! مستحيل، هل يُعقَل أنه يطلق بصره في الحرام؟ مستحيل، هل يعقل أنه يأكل أموال الناس؟ وهو لا يأكل الطعام الذي أباحه الله له خارج رمضان، إذاً النهار منضبط وفق منهج الله؛ غض بصر، حفظ لسان...إلخ، قبل الغروب جلس يناجي الله يدعو الله،

{ إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد. }

(الألباني وهو ضعيف)

أذّن المغرب أفطر، فشعر بالسكينة وهو يفطر

{ للصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ. وَلَخُلُوفُ فيه أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِن رِيحِ المِسْكِ. }

(صحيح مسلم)

يفرح بفطره، كان الطعام عند الساعة 6،15 حرام، صار عند الساعة 6.16 واجب تعجيل الفطر، عجّلوا الفطر، فيفرح بفطره بعد أن امتنع وشعر أنه كان يعيش حالة الصبر، لأن الصيام صبر، الصيام مدرسة الصبر، وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول: "وجدنا خير عيشنا في الصبر"، الصبر مدرسة عظيمة، الصبر مطيّةٌ لا تكبو، الصبر مدرسة من مدارس الروح أن يشعر الإنسان أنه قادر أن يسيطر على نفسه، فإذا جاءت ساعة الغروب وأفطر فرح بفطره، فرح بانتصاره على نفسه، فرح بأنه قادر على أن يلتزم بمنهج ربه، فأفطر، الآن يأتي العشاء، تأتي التراويح، وقيام الليل ويصلي الناس في المساجد هذه الركعات الثمانية، أو الركعات العشرين، ثم يوترون، ويعودون إلى بيوتهم عنده جزء قرآن ربما يقرؤه عند الفجر، أو يقرؤه عند العصر، أو قبل الغروب، أو بعد التراويح، أمضي ليله بالقيام، نهاره بالصيام، يستيقظ للسحور:

{ تَسَحَّرُوا؛ فإنَّ في السَّحُورِ بَرَكَةً. }

(صحيح بخاري)

وقت مبارك، يستيقظ في وقت لا يستيقظ فيه عادة، يحاول أن ينتهي من طعامه قبل عشر دقائق من أذان الفجر، فيجلس يدعو الله عز وجل في هذه الساعة في ثلث الليل الأخير الذي ينزل فيه ربنا إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بكماله وبعظمته جل جلاله فيقول:

{ إذا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ، أوْ ثُلُثاهُ، يَنْزِلُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى إلى السَّماءِ الدُّنْيا، فيَقولُ: هلْ مِن سائِلٍ يُعْطَى؟ هلْ مِن داعٍ يُسْتَجابُ له؟ هلْ مِن مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ له؟ حتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ. }

(صحيح مسلم)

في النهار إذا أفطر صائماً أخذ ثوابه، إذا جعل كل يوم صدقة من الصدقات، ذكر من الأذكار، كل إنسان حسب طاقته، كل هذه الحركة التي يتحركها من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ثم من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، في يومه وليلته، الحركة كلها عبادة، فإذاً هو يتحرك وفق هدفه الذي خلقه الله من أجله، فيتناغم مع فطرته التي فطره الله عليها، فيسعد لأنه يتحرك وفق الهدف الذي خلقه الله تعالى من أجله.

حركتنا في رمضان وفق منهج الله:
إذاً: لماذا نسعد في رمضان؟ لأننا نعبد الله، لأننا نتحرك الحركة التي يريدها الله منا، لأنه عندما خلقنا الله فطرَنا على حبه، وعلى حب الخير:

وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ(7)
(سورة الحجرات)

الحركة وفق منهج الله هي سر السعادة
فعندما يتحرك الإنسان بالكفر والفسوق والمعصية، ربما يرضي جسده لكنه يتعب نفسه، وعندما يتحرك وفق منهج الإيمان فهو المنهج المُحبَّب، المُزيَّن في القلوب، الذي يُسعِد القلوب، فحركتنا في رمضان وفق منهج الله، لذلك نحن نجد سعادة في رمضان لا نجدها في باقي الشهور؛ لأننا في باقي الشهور، لا أقول نحن نسأل الله أن نكون ممن يكون ربانياً لا رمضانياً؛ بمعنى أنه يعبد الله في كل العام، لكنه يزيد في رمضان، لكنه لا ينتقل بعد رمضان إلى المعصية، ربما يقل ما كان عليه في رمضان، لكنه لا ينتقل -والعياذ بالله- إلى المعاصي، لكن أقول كثير من الناس خارج شهر رمضان مشغولون بكل شيء إلا بالهدف الذي خُلقوا من أجله، مشغول بتجارته، وبعمله دون أن يكون له هدف من هذه التجارة، هدف عبادة، هدف أعمال صالحة، لا ينتبه إلى أوقات صلاته، لا ينتبه إلى صيام النوافل، إلى الصدقات، إلى تلك التجليات في الليل، لا يستيقظ ربما لأداء الفجر، وإن استيقظ ربما يؤخرها عن وقتها، لا يقوم الليل، فيقول لك أنا في حالٍ لست مرتاحاً، في رمضان أشعر بالراحة، نفس الشيء تماماً، هذا في الأزمنة، في الأمكنة يشبه ذلك تماماً يعني إنسان سافر إلى العمرة، يقول لك: قضيت أياماً وكأني في الجنة، في عشرة أيام وأنا في العمرة في مسجد رسول الله، أو في مكة في حرم الله، يقول لك قضيت أياماً رائعة، كنت مسروراً جداً جداً، طبعاً؛ لأنك شغلت نفسك بما خُلقت من أجله، فأنت مسرور، سعيد لأنك شغلت حركتك في الحياة، وأوقعتها وفق منهج الله، وفي الهدف الذي يتوافق والذي خلقك الله تعالى من أجله.

رمضان فرصة استثنائية:
رمضان فرصة استثنائية يمنحها الله تعالى لعباده
إذاً أيها الكرام، هذا الشهر؛ شهر رمضان فرصة استثنائية يمنحها الله تعالى لعباده، من أجل أن يمحو كل ما كان في السابق، ويفتح صفحة جديدة، يعني مثلاً هناك تاجر له أو عليه ديون عند تاجر آخر، والديون تراكمت خلال السنة حتى بلغت 20 ألف ديناراً فرضاً، وأثقلته، وراتبه في الشهر لا يتجاوز 300 دينار، وهو غير قادر على السَّداد، وكثرت عليه الديون وأهمّته، والدين فيه ذل في النهار، وهمٌّ في الليل، ثم تفاجأ أن هذا التاجر الذي قد سجل الديون في الدفتر، جاء بالدفتر وشطب الديون كلها، وقلب صفحة جديدة، وقال له: بدأنا من اليوم، كم يعود إلى بيته مسروراً، كيف يكون حاله وقد سقطت عن كاهله كل الديون التي ركبته؟ هذا يشبه حالنا مع الله في رمضان، خلال العام كم قصرنا في جنب الله، كم تجاوزنا في حقوق الله، كم تركنا من واجبات قد أوجبها الله علينا، كم فعلنا من محرمات نهانا الله تعالى عنها، تراكمت في أحد عشر شهراً هذه الديون علينا، ولزمتنا ولا نطيق سدادها، فنحن مهما فعلنا لا نؤدي واجب العبودية، فكيف بنا وقد قصرنا في جنب الله!؟ فإذا جاء رمضان يقول لك الله تعالى: صم أيامه، وقم لياليه، وفي 1 شوال صفحة جديدة، والماضي كله قد انتهى، طبعاً إلا حقوق العباد حتى نعطي الموضوع حقه، إلا إذا كان هناك حقوق للعباد فهذا شيء آخر، يعني لا يقولن قائل: أنا في 1 شوال شُطِبت ديوني، وشطبت معها ديون العباد، لا، إذا كان العباد لهم حق عندك فينبغي أن تؤديه، لكن حقوق الله عز وجل كلها بـ 1 شوال انتهت، وتفتح مع الله صفحة جديدة، وهذا من كرم الله تعالى العظيم، وهذا من فضل الله تعالى علينا أنه فتح لنا أبواب التوبة، فتح لنا باب رحماته.

فعل الكتابة في القرآن:
أيها الإخوة الكرام، أيتها الأخوات الفُضليات، لا يمكن أن نتحدث عن الصيام وعن شهر رمضان إلا ونتذكر تلك الآيات الكريمات التي شرّع الله تعالى بها الصيام، والله تعالى عندما قال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
(سورة البقرة)

كُتِبَ يعني أوجب وفرض، والكتابة دائماً أو غالباً تأتي في القرآن الكريم للدلالة على الأشياء التي فيها مشقة على النفس، كقوله تعالى:

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
(سورة البقرة)

وكقوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
(سورة البقرة)

وكقوله تعالى:

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
(سورة البقرة)

فالكتابة تأتي للأشياء التي فيها مشقّة على النفس، والصيام جعل الله تعالى فيه مشقة، لا سيما في أيام الصيف الحارة، أو الناس الذين عندهم أعمال شاقة، ويقضون نهارهم في عملهم، ومع ذلك يصومون، ويمتنعون عن المُفطرات، فالصيام فيه بعض هذه المشقة، لذلك أراد الله تعالى أن يخفف عن عباده تلك المشقة، وأن يفرض عليهم الصيام بطريقة مُحبَّبة، يعلّمنا من خلالها آداباً تربوية، ويُعلِمنا من خلالها برحمته وبفضله العظيم.

مخففات الصيام:
فبآيات الصيام خمس مخففات ذكرها الله تعالى:

المخفف الأول:
المخفف الأول: قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ولسائل أن يسأل ما التخفيف في قوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا؟ التخفيف في أنه يخاطبك أنت المؤمن، كأن بينه وبينك عقداً إيمانياً، كأنه يقول لك: يا من آمنت بعدلي، برحمتي، بحكمتي، بوجودي، بكمالي، بوحدانيتي آمرك بكذا؛ لأن العمل ينبع دائماً من الفكرة، فإذا كانت الفكرة صحيحة جاء العمل صحيحاً، فكأن الله تعالى يذكرنا بما بيننا وبينه من عقد إيماني، فأنا لا آمرك من فراغ، وإنما بما كان من إيمانك بي، فهذا مُخفِّف لأنه يدفع الإنسان إلى الالتزام أكثر بالفكرة.

المخفف الثاني:
الإنسان في طبيعته يميل إلى أن يكون مع جماعة
ثم يقول تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ فهذا مخفف ثانٍ، الإنسان في طبيعته يميل إلى أن يكون مع جماعة، فإذا وجد أن غيره قد لاقى مثل ما لاقى من البلاء يهون عليه البلاء، مثلاً: لو أن إنساناً مرض مرضاً عضالاً، وزاره صديقه، من المخففات التي نستخدمها جميعاً أن يقول له: خيراً يا أبا فلان، أسأل الله أن يشفيك...إلخ، ويذكر له بعض القصص المشابهة، يقول له: أعلم فلان ألا تسمع به أصابه المرض نفسه، وسبحان الله كان خفيفاً عليه، وأعانه الله، ويسّر له، وشفاه منه، وخفّف عنه، فمن المخففات أن يأتيه بذكر أشخاص آخرين لهم حالات مشابهة له، وأحياناً يعطيه حالات أشد من حالته فيهون عليه الحالة التي هو فيها، هذا من المخففات، فالله تعالى يقول ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ فهذه سنة الله الماضية في خلقه أنه كتب الصيام على خلقه، ولعل الصيام في شريعتنا أخف من الصيام في شرائع أخرى، لكن أصل الصيام موجود في كل شريعة من الشرائع، فقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾.

المعنى السلبي لتعميم الخطأ:
بالمناسبة، وإتماماً للفائدة، والشيء بالشيء يُذكَر، الإنسان يميل أيضاً بحالة سلبية أحياناً إلى تعميم الخطأ، تعميم الصواب وتعميم الخطأ، تعميم الصواب شيء إيجابي، يقول الإنسان: لست وحدي في الإيمان، هناك إخوة لي في الله، لست وحدي في صلاة الفجر، هناك من يتصل بي ويذكرني بصلاة الفجر ومَن أذكّره، هذه ناحية إيجابية، لكن هناك ناحية سلبية في التعميم وهي أن الإنسان عندما يخالف المنهج يحاول أن يُعمّم الخطأ على الجميع من أجل أن يرتاح، فإذا قلت لإنسان: كيف تأخذ قرضاً ربوياً، ألا تعلم أن الربا حرام؟ أول جواب يجيبك به: كل الناس هكذا، السوق هكذا، اليوم تغير الحال، كل الناس يفعلون ذلك، يعني يحاول أن يتهرب من مسؤوليته من خلال تعميم الخطأ على الجميع، حتى عندما كنا صغاراً لو تذكرون، كانت إذا دخلت المعلمة إلى الصف وقالت: مَن لم يكتب الواجب اليوم؟ فأحد الطلاب الكسالى لم يكتب الواجب، ماذا يقول للمدرّسة؟ يضع رأسه خلف زميله ويقول: آنسة لم نكتب الواجب، يتكلم بالجمع، كلنا ليس هو فقط، وربما يكون وحده أو طالبان فقط لم يكتبا الواجب، لكن هو يريد أن يشعر المدرّسة أن كل الطلاب لم يكتبوا لعلها لا تعاقب أحداً، هنا يقع بعض المدرسين وبعض المربّين في الخطأ فلا يعاقبون أحداً؛ فيتجرّأ الجميع على عدم كتابة الواجب، وعلى عدم الالتزام بالنظام؛ لأن المدرّس لم يعاقب أحداً، ولم يكافئ أحداً، لم يكافئ المُحسِن، ولم يعاقب المُقصّر فيعني يترك المحسن إحسانه، ويتمادى المُقصّر في تقصيره.
فعلى كل حال هذا المعنى السلبي لتعميم الخطأ ذكره المولى جل جلاله بقوله:

وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
(سورة الزخرف)

يعني لو أن أهل النار كانوا مليارات فإنه لن ينفعهم كثرتهم في إعفائهم من العقوبة، فالعقوبة حاصلة حاصلة، فالمُخفِّف الثاني: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾.

المخفف الثالث:
المخفف الثالث في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فبيّن الحكمة جل جلاله، بيّن لنا لماذا فرض علينا الصيام.
إن العبادات إنما شُرِّعت لمصالح الخلق
أيها الكرام، أيتها الكريمات، الله -سبحانه وتعالى- ما شرّع لعباده عبادة إلا جعلها مرتبطة بمصلحة حقيقية له، ومن هنا يقول الإمام الشاطبي: "إن العبادات إنما شُرِّعت لمصالح الخلق" ما من عبادة شُرّعت إلا لمصلحة، ولكن مصلحة حقيقية، وليست مُتوهَّمة، يعني قد يتوهم إنسان أن مصلحته أن يأكل في نهار رمضان، هذه ليست مصلحة، ولكنه يتوهم أنها مصلحة، نقول مصالح حقيقية، فشُرِعت الصلاة لتنهى عن الفحشاء والمنكر، وشُرعَت الزكاة طُهْرةً وزكاة:

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(103)
(سورة التوبة)

وشُرِع الحج قال:

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
(سورة المائدة)

وشُرِع الصيام لتحصيل التقوى، الصيام مدرسة في الصبر، مدرسة في تحصيل الخوف من الله -عز وجل-، يقول تعالى في الحديث القدسي:

{ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له، إلَّا الصِّيَامَ؛ فإنَّه لي، وأَنَا أجْزِي به. }

(صحيح البخاري)

لماذا الصيام لله؟ أليست الصلاة أيضاً ينبغي أن تكون لله؟ بلى، لكن الصيام فيه جانب الترك، باقي العبادات فيها جانب الفعل، الصلاة: أفعال وأقوال مُفتَتحة بالتكبير، مُختَتمة بالتسليم، الشهادة: نطق، قول، الزكاة: دفع، الحج: عبادة بدنية مالية.
الصيام الجانب الأساسي فيه الامتناع، لا تفعل، فالامتناع يتجلّى فيه الإخلاص بشكل أكبر بكثير من الفعل، قد يصلي رياء، قد يحج ليقال عنه حاج إلى بيت الله الحرام، قد يدفع ماله ليُقال مُنفِق، لكن الصيام فيه امتناع، لا يوجد فعل، ممكن ألا يمتنع، ممكن أن يقول للناس هو صائم، وفي الحقيقة هو غير صائم، يدخل إلى بيته من غير أن يراه أحد ويشرب الماء، ويقول أنا صائم، فالامتناع جانب الإخلاص فيه عالٍ، لذلك يحقق التقوى، يحقق الخوف من الجليل.

تعريف التقوى:
فالتقوى: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد للموت قبل الرحيل، والتقوى أن يُطاع الله فلا يُعصى، وأن يُذكَر فلا يُنسَى، وأن يُشكر فلا يُكفَر جل جلاله، فعندما بيّن الحكمة خفف علينا، كيف يعني أنه بيّن الحكمة؟ مثلاً أنت اليوم كمربية فاضلة، أو أنت اليوم أب فاضل، إذا أحببت أن تربي أولادك على شيء من الحكمة أن تبيّن لهم الحكمة؛ لو قلت لابنك لا تفعل كذا، ولم تبيّن له لماذا، فإنه ربما يغافلك ويفعله، ولكن لو أعطيته المَضار الناجمة عن فعل ذلك الأمر، يكون ذلك أدعى للتنفيذ، ينبنّاه معك، يدافع عن الفكرة معك؛ لأنك أقنعته بها، فهو يدافع عنها معك؛ لأنه يعلم الحكمة منها، كثير من الأطباء، والطبيب يسمونه حكيماً، ولكن بعض الأطباء يفتقدون للحكمة، يدخل إليه المريض لا يتكلم معه ولا كلمة سوى: السلام عليكم، وعليكم السلام، ثم ينظر في التصاوير، في التحاليل وهو صامت، ثم يكتب الوصفة ويعطيها له، يخرج المريض غير مرتاح للطبيب، لكن الطبيب الحكيم يقول له: عندك مشكلة في كذا، لذلك منعتك من كذا، خذ هذا الدواء لمدة خمسة عشر يوماً حتى ترتاح إن شاء الله، هذا الدواء يفيدك في أنه يسكن بعض الآلام، هذا الدواء يفيدك على المدى الطويل في أنه يرمم بعض المشكلات، فعندما يبين له الحكمة لماذا يعطيه الدواء، ولماذا يمنع عنه كذا، ولماذا يأمره بكذا، يخرج مرتاحاً لأنه فهِمَ الحكمة.
فإذا علّمت حاول أن تبيّن للناس الحكمة مما تعلمهم إياه، قال تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

المخفف الرابع:
المخفف الرابع: فهو في قوله تعالى:

أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(184)
(سورة البقرة)

الله تعالى ضيّق دائرة الممنوع رحمةً بعباده
سبحان الله يعني السنة القمرية 354 يوماً، الصيام 30 يوماً يعني أقل من 10%، 8% تقريباً، فالممنوع شهر، والمسموح أحد عشر شهراً، المسموح 23 ساعة، والصلاة ساعة، لك تسعة أعشار فاصلة خمسة وسبعون، والمطلوب ربع العِشْر زكاة، لك أن تشرب شراب البرتقال، والمنغا والأناناس والأفوكادو وأي شيء تريده والحليب، وعد ما شئت، وممنوع عنك المُسكِر، لك أن تأكل لحم الغنم والمعز والضأن والجمل...إلخ، وممنوع عنك لحم الخنزير، وبعض الحيوانات الجارحة، فربنا -عز وجل- فتح دائرة الحلال، وضيّق دائرة الممنوع رحمةً بعباده، لكن الشيطان يزيّن الممنوع، ويُزهِّده بالحلال، هذه قصة بدء الخليقة:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(35)
(سورة البقرة)

كل الجنة لك ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ فقط، الشيطان زهّدهم بالجنة كلها، وقال:

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ(20)
(سورة الأعراف)

فالشيطان يزهّدك بالحلال ويحبّب إليك الحرام، والمؤمن يحبّبك بالحلال ويبغّض إليك الحرام، فربنا جل جلاله قال: ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾ لو ربنا -عز وجل- جعل الصيام 40 يوماً أو 50 يوماً أو 60 يوماً لقال البعض تعبنا، أو لو جعل الصيام نصف العام، لا أبداً، لو جعل الصلاة كما كانت قبل أن يقول:

{ قد أمضيتُ فريضتي، وخففتُ عن عبادي. }

(صحيح النسائي)

50 صلاة في اليوم، يعني كل عشر دقائق يوجد صلاة، لكن ربنا -عز وجل- رحيم بعباده فما كلفهم إلا اليسير.
المخفف الرابع: ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾.

المخفف الخامس:
المخفف الخامس أنه حتى تلك الأيام المعدودات لك فيها منفذ، إذا كان الإنسان من أصحاب الأعذار يمكن أن يترك حتى هذه الأيام المعدودات، إما تركاً كلياً وعليه الفدية، وإما تركاً جزئياً إذا كان قادراً على الصيام بعد حين كالمسافر والمريض الذي يُرجى بَرْؤُه، فيتركها ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، فقال: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
فإذاً أيها الأحباب وأيها الكرام، هذه خمس مخففات خففها الله تعالى على عباده في فرضية الصيام.

من لوازم الصيام أن تسأل الله:
آخر ما أريد الحديث عنه في هذا اللقاء الطيب هو ما تخلّل آيات الصيام من قوله تعالى:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
(سورة البقرة)

ثم تابع آيات الصيام:

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
(سورة البقرة)

أعظم سؤال في الكون أن تسأل عن الله
لماذا دخلت هذه الآية ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ بين آيات الصيام؟ لأنه من لوازم الصيام أن تسأل عن الله، الناس يسألون، وقد أثبت الله تعالى هذه الحاجة الفطرية في الناس في آيات كثيرة بدأها بقوله "يسألونك"، فالناس يسألون ليتعلموا، فهناك من يسأل عن أمور الدنيا، وهناك من يسأل عن الحرام -والعياذ بالله-، عن الأماكن المحرمة، عن البرامج المحرمة..إلخ، وهناك من يسأل عن المباحات في الدنيا، سؤال حسن عن أسعار العملات، السياسة، الاجتماع، الاقتصاد...إلخ، وهناك من يسأل عن شرع الله؛ حرام، حلال، أفعل، لا أفعل، يجوز، لا يجوز، لكن أعظم سؤال في الكون أن تسأل عن الله، أن تسأل عن المُشرِّع الذي شرّع الأحكام، وليس عن الأحكام فحسب، فرمضان هو تلك الفرصة التي تؤهلك أن تسأل عن الله؛ لأنك ذقت حلاوة القرب منه في نهار رمضان، وذقت حلاوة الأُنْس به في ليل رمضان، فإنك ستسأل عنه؛ كيف أتقرب إليه؟ كيف أزيد من محبتي؟ كيف يحبني؟ كيف أحبه؟ كيف يرضى عني؟ كيف أرضى عنه؟

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
(سورة التوبة)


أعظم ما في الصيام الدعاء:
كيف أزيد من تعلقي به؟ كيف أجعل من نفسي مُنقادة لمنهجه؟ ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ فمن أعظم ما في الصيام الدعاء؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:

{ الدعاءُ هو العِبادةُ }

(رواه أحمد في المسند)

وهذا مُستنبَط من قوله تعالى:

وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ(60)
(سورة غافر)

وما قال عن دعائي لأن الدعاء هو العبادة ﴿سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ فلذلك من أعظم ما في الصيام الدعاء، اجعلوا لأنفسكم في كل يوم في رمضان دعاء يومياً، وأعظم وقت للدعاء وقتان: قبيل الفجر في الثلث الأخير من الليل، وقُبيل الفطر، أو عند الفطر، هذه الدعوات لا تُرَد، الله -عز وجل- ينتظرنا ويريدنا ويحبنا:

وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا(27) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28 )
(سورة النساء)

فإذاً أيتها الكريمات، أيها الكرام، هذا الشهر فرصة نوعية للعودة إلى الله، للصلح معه، للتوبة إليه، ما زال أمامنا أيام لبدء هذا الشهر الكريم، أرجو الله أن نستثمرها في الاستعداد لهذا الشهر؛ بالتوبة، ببعض الأعمال الصالحة، نبدأ من الآن بقراءة القرآن، بقيام بعض الليالي، بصيام بعض الأيام لمن كانت هذه عادته، لأنه كما تعلمون بعد نصف شعبان إن لم تكن للإنسان عادة فلا يُسَن له الصيام، لكن عموماً إذا إنسان أكثر من الصيام في شعبان فلا حرَج عليه أن يصوم من بعض هذه الأيام المتبقية من شهر شعبان، فلنستعد لهذا الشهر من الآن بالتوبة حتى إذا جاء 1 رمضان نحن إن شاء الله في اندفاع قوي، لا نبدأ من اليوم الأول، وإنما نبدأ قبله، حتى يكون 1 رمضان ليس وقت الاستعداد، وإنما وقت الجِدّ والاجتهاد بأعلى مستوى ممكن، وأسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم بما فيه الخير في شعبان وفي رمضان، وأن يلهمنا الصواب، وأن يعيننا في رمضان على الصيام والقيام، وغض البصر، وحفظ اللسان.
ختاماً أعود وأشكر لدار نبت هذه الدعوة الكريمة، وذلك اللقاء الافتراضي الذي سعدنا بصحبة كل من يتابعنا، وإن كنا لا نعرف الكثيرين، ولكننا نعلم أن الله تعالى يعلم، وهذا مجلس ذكر نسأل الله أن يكتبه عنده، وأن يجعلنا ويجعلكم مباركين أينما كنا، وأينما كنتم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المذيع:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، جزاك الله خيراً دكتور بلال، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل، وأن ينفع بما ذكرت، اللهم آمين.
إذا ممكن أن أسألك سؤالين أو ثلاثة قبل الختام إن أمكن ذلك؟

الدكتور بلال:
لا يوجد أي مشكلة.

المذيع:
السؤال الأول: أكرمك الله، شيخ بلال، البعض قد يقول: أنا أعيش في بلاد غير مسلمة، أو أنا أعيش في بيئة والبيئة بعيدة عن الله -سبحانه وتعالى-، سواء في مدرسة أو في جامعة، أو حتى في عمل، ممكن أن أكون الصائم أو الصائمة الوحيدة في هذه البيئة، وأريد أن أسعد في رمضان، أريد السعادة في رمضان، ولكن أشعر بغربة، أشعر بضيق، أشعر وكأن رمضان أعطاني عبء، فالكل يقول لي: هل حقاً أن صائم؟ أنت كذا، فممكن رسالة للإخوة والأخوات الذين يعيشون في وسط هذه البيئة ليسعدوا في رمضان؟

الصيام في الغربة:
الدكتور بلال:
جزاك الله خيراً، الحقيقة الرسالة في قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث القدسي:

{ الْعِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إلَيَّ. }

( صحيح مسلم)

الأجر على قدر المشقة
نحن في رمضان عندنا معينات، وعندنا مُخفّفات، وعندنا من يعيننا على هذا الشهر، الذي يقيم في بلاد الغربة وربما من حوله، سواء في بلاد المسلمين ولكن مجتمعه في غربة، أو خارج مجتمع المسلمين، أو الأكثرية المسلمة فيجد غربة أكثر، فهذا ثوابه أعظم، فالأجر على قدر المشقة، فالذي يجد عبادة في الهرج؛ عند الفوضى واشتداد المعاصي والآثام والبعد عن الله كهجرة إلي، فالثواب على قدر المشقة، الحقيقة حتى أتعمّق قليلاً في الإجابة على هذا السؤال المهم، أقول: إن هناك لذة وهناك سعادة، اللذة تحتاج إلى شروط خارجية، وغالباً ما تحتاج إلى ثلاثة أمور: صحة، ووقت، ومال، إذا إنسان جسمه صحيح، لا يوجد مرض مزمن، ومعه وقت، ومعه مال، يحصّل اللذائذ، لكن ربنا -عز وجل- شاء ألا تجتمع هذه اللذائذ مع بعضها في الحياة الدنيا، ففي مقتبل الحياة: غالباً الناس يملكون الصحة، ويملكون الوقت، ولكن لمّا يملك المال. وفي منتصف الحياة: يعمل فيحصّل بعض المال، ويملك صحة الشباب، ولكنه لا يملك وقتاً، يقول لك كل الوقت مشغول، وفي خريف العمر: يحصّل المال الذي جمعه في هذا العمر، وعنده وقت لأنه سلّم أعماله لأولاده، لكنه لا يملك صحة تعينه على اللذائذ، فهذا ممنوع من الطعام، وممنوع أن يذهب...إلخ، فشاء الله تعالى أن تكون الدنيا غير قادرة على إمداد الإنسان بالسعادة.
أما السعادة فهي من الداخل، تنبع من الداخل، فلو كنت في السجن يمكن أن تجد السعادة، ابن تيمية رحمه الله كان في السجن يقول: ماذا يفعل أعدائي بي؟ بستاني في صدري، إن أبعدوني فبعدي سياحة، وإن سجنوني فسجني خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة.
يونس وجد السعادة في بطن الحوت، إبراهيم في النار، الحبيب صلى الله عليه وسلم في الغار:

لَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
(سورة التوبة)

إذاً في أي مكان كنت، وفي أي زمان كنت، أنا لا أنكر أن هناك أشياء تعيننا في بلادنا قد لا تجدها أنت، لكن قد تجد أنت من السعادة في داخلك ما لا نجده نحن في بلادنا، كفى أنك تشعر أنك ترضي الله -عز وجل- في هذا المجتمع المنحرف، كفى أن تشعر أنك غريب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ بَدَأَ الإسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كما بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ. }

(صحيح مسلم)

الذين يحسنون إذا أساء الناس، الذين يصلحون إذا أفسد الناس (طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ). فكفى أن تشعر بهذه الغربة المحمودة، الغربة العظيمة، أنك غريب في دين الله، فهذه الغربة وذاك المفهوم يجعل السعادة تنبع من الداخل، فالآن لا تحتاج إلى أحد، في الليل تناجي الله، الله معك، فما شأنك بالناس إن كانوا معك أو لا، أنا لا أنكر دور الناس:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119)
(سورة التوبة)

لكن إن لم يتوفر هذا لا يعني أنني سأفقد السعادة، لأن سعادتي تنبع من داخلي، ولا تحتاج إلى عناصر خارجية، العناصر الخارجية التي فيها إحسان قد تزيدها، لكنها لا تلغيها بعدم وجودها، بل قد يشعر الإنسان بالسعادة من داخله ما لايشعره غيره وهو مُحاط بكل أصنافٍ تعينه على تلك السعادة، والله أعلم.

المذيع:
السؤال الثاني: جزاك الله خيراً، السؤال الثاني ونختم فيه: يقول موظف أو موظفة أن أوقات الدوام طويلة جداً، عدا عن البيت والطبيخ، وغير ذلك من الأمور، والإنسان يصل إلى الليل يكون مُجهَداً، وخاصة مع الأولاد وغيره، فماذا يوجد من وصايا وأعمال يحاول الإنسان قدر المستطاع على الأقل ألا يتركها في رمضان؟ أبرز العبادات، أبرز الأعمال التي ممكن أن يحافظ عليها في هذه الأيام إذا ضاق عيه الوقت؟

الصيام وضغوط الحياة:
الدكتور بلال:
كل إنسان يزيد من الطاعات والنوافل بما يستطيع
أعظم عبادة والتي نشترك بها ولله الحمد الصيام، مع استشعار أن هذا الصيام هو لله تعالى، فهذا يشعر الإنسان بتلك المزية؛ مزية الصبر "وجدنا خير عيشنا في الصبر" كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه، وكما أسلفنا في بداية هذا اللقاء. الآن كل إنسان يزيد من الطاعات والنوافل في نهاره وليله بما يستطيع، فلو إنسان التزم فرضاً بأن يأوي إلى الله قبل الإفطار بعشر دقائق، بالمناجاة، بالدعاء، بالطلب، بالافتقار، فهذه تغنيه عن نهاره كله وهو في عمله، عشر دقائق مع الله قبل الفطر، حتى النساء، النساء لهنّ عند الله مكانة كبيرة خاصة في هذا الشهر، فيتفرغن لإعداد الطعام الطيب على الفطور، يهيئن الطعام للأزواج والأبناء، أنا أقول هذه عبادة، تستشعر فيها الأخت معنى العبادة، لأنها تُفطِر صائماً، ومن هذا الصائم؟ أهلها وعيالها، وهذا أعظم شيء، لكن رغم ذلك إذا حرصت في بعض الأحيان أن تنهي الأشياء الضرورية بالفطور قبل خمس دقائق أو عشر دقائق، وأن تجعل آخر وقت قبل الغروب فيه مناجاة، وفيه ذكر لله -عز وجل- فهذا شيء جيد.
بالنسبة لقيام الليل؛ من يذهب إلى المسجد فهذا شيء عظيم جداً، المتعب الذي لا يستطيع ممكن أن يؤجل قيام الليل، فوقته ممتد من بعد العشاء إلى الفجر، فإذا وجد أن نهاره متعب جداً، وقال أستيقظ قبل السحور وأصلي ركعتين أو أربعة أو ثمانية حسب قدرته فهذا شيء جيد، أيضاً إن ذهب إلى المسجد وقت التراويح طبعاً لا شك أن فضيلة الجماعة، وفضيلة الانصراف مع الإمام عظيمة، لكن يعني ربنا -عز وجل- نوّع العبادات في هذا الشهر، ممكن إنسان بصدقة يومية، ممكن إنسان بعمل صالح يومي، ممكن إنسان بصيامه وقيامه، ممكن إنسان بأذكاره اليومية، ممكن وهو يعمل يقوم بذكر يومي، ممكن أن ينتهز نصف ساعة في النهار يقرأ فيها جزءاً من القرآن كل يوم، فسبحان الله العبادات منوعة في رمضان وخارج أوقات رمضان، وقد قالوا: الطرق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق.

الدكتور بلال:
جميل، فتح الله عليك دكتور، الشيء الأخير الذي نطلبه منك أن نختم هذا المجلس بدعاء، وننصرف إلى أعمالنا وصلاتنا، ونختم بذلك رضي الله عنك.

الدعاء:
الدكتور بلال:
بارك الله بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اجعل هذا الجمع جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل التفرق من بعده معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا يا مولانا إنك أنت التواب الرحيم، واهدنا ووفقنا إلى الحق، وإلى الطريق المستقيم، اللهم ما أمسى بنا أو بأحد من خلقك من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد على ذلك، فأتم اللهم نعمتك وفضلك علينا يا أكرم الأكرمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسنبا عليك اتكالنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين، اللهم اجعل هذا البلد وسائر بلاد المسلمين أمناً سخاء رخاء، بلغنا اللهم رمضان وأنت راضِ عنا، ونحن في عافيةٍ وفضلٍ وسترٍ منك يا أرحم الراحمين، غير فاقدين ولا مفقودين، اجمعنا عليك، وفرقنا عليك، ولا تجعل حوائجنا إلا إليك، سبحانك اللهم وبحمدك، نستغفرك ونتوب إليك، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، والحمد لله رب العالمين.

المذيع:
جزاكم الله خيراَ جميعاً، نراكم على خير، وعلى عافية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدكتور بلال:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.