الوقت بين الاستثمار والاستهلاك
الوقت بين الاستثمار والاستهلاك
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين، كل عام وأنتم بخير، وتقبل الله الطاعات وبعد: |
الزمن يعمل في الإنسان:
أيها الإخوة الأحباب، عمر بن عبد العزيز وهو من التابعين، وهو أمير المؤمنين كان يقول: "الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما" |
الليل والنهار يعملان فيك
|
تعريف الإنسان:
الإنسان زمن
|
لذلك التعريف الجامع المانع الذي لا يختلف عليه اثنان في الأرض أن الإنسان وقت (زمن) فإذا انقضى الزمن انقضى الإنسان، هو يمشي مع الزمن، لذلك قال الشاعر: |
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني{ أحمد شوقي }
اسثتمار الوقت لا استهلاكه:
الانتقال من المباح إلى الطاعة
|
النية في الحالة الثانية والثالثة قلبت العمل من المباح إلى الطاعة، فإذاً استثمار الوقت لا يعني فقط- مع أن هذا مهم جداً- أن يُقضى في عبادة شعائرية "قراءة قرآن، ذكر" لكن يعني أنه إذا نزل إلى عمله أن يحول العمل إلى عبادة، بمعنى أنه يخرج صباحاً ويقول: يالله نويت النصح للمسلمين، ألا أغش مسلماً، ألا أُلجِئَه إلى حرام، أن أُنْظِر َالمعسر، أن أكسب مالاً لعيالي وأهل بيتي وأتصدق بها على الناس، فهو الآن نقل المباح إلى دائرة الطاعات. |
استثمار الوقت ليس بالضرورة أن يكون بالعبادات الشعائرية:
إذاً العمل في الليل والنهار حتى نكافئ أو نرد فعلاً على عمل الليل والنهار فينا أن نستثمر الوقت، كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: والله ما ندمت على شيء ندمي على ساعة انقضى فيها أجلي ولم يزد فيها عملي" |
يعني الساعة انقضت من أجله، نقص من عمره، لكن هو ما زاد في عمله شيئاً فيها، يعني الناتج صفر، هذا ابن مسعود ليس عنده ساعة فيها معصية، طبعاً ابن مسعود وغيره نحن لا نقول بعصمة أحد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم والأنبياء، لكن أعمالهم كلها كانت في الطاعات، لكن هذه الساعة لم يزد فيها في عمله فيندم، فكيف بإنسان يمضي ساعته في المعصية، أو يمضيها في اللغو، أو يمضيها في شيء لا يقدم ولا يؤخر، فكان أحد تلاميذ حماد ابن سلمة، وهو أيضاً من العلماء الأجلاء كان يقول: "حماد بن سلمة لو علم أن غداً أجله ما قدر أن يزيد في عمله"، كانوا يصفونه فيقولون: "لو علم أن غداً أجله ما زاد في عمله" نحن كلنا إذا علمنا أن غداً أجلنا وأنا على رأسكم نزيد جداً، نقضي اليوم مختلفاً تماماً، إذا شخص اليوم الأحد وقالوا له غداً آخر يوم فهو عنده الكثير من الأعمال المهمة ليقوم بها في هذا اليوم، حماد ابن سلمة وصل إلى قمة العمل، بمعنى أنه لو قيل له أن غداً أجلك لا يزيد شيئاً؛ لأن الذي يفعله بيومه العادي سيقوم به نفسه، طبعاً هذه الحالة خاصة جداً، وكانت مكررة على رأس أتباعه أنهم يقولون: "حماد بن سلمة لو علم أن غداً أجله ما قدر أن يزيد في عمله" لما يجدونه من اهتمامه في الوقت، متابعته في الطاعات، في القربات، في الأعمال الصالحة، في خدمة الناس...إلخ. |
ما قلته بأن الوقت عندما يُستثمر ليس بالضرورة أن يكون في عبادة شعائرية فقط، يؤيده ما حصل مع ابن عباس رضي الله عنهما يوم كان معتكفاً في المسجد، فجاءه رجل فكلمه في حاجة له، يعني فلان قال له دين علي وأريد أن تكلمه لعله يُنظِرني (يمهلني) حتى أؤدي الدين، فقام ابن عباس من مُعتكَفه وخرج وقال له أحدهم: أنسيت يابن عباس أنك معتكف، قال: والله ما نسيت، أنا في الاعتكاف، ولكني سمعت صاحب هذا القبر والعهد به قريب، وبكى ابن عباس عندما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سمعت صاحب هذا القبر والعهد به قريب يقول: "لئن أمشي مع أخ لي في حاجة خير لي من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا". |
فإذاً الفهم كان أن الاستثمار للوقت ليس بالضرورة أن يكون في الاعتكاف، أو في الصلاة أو في الصيام، وإنما في أي عمل يرضي الله تعالى، فأن تخفف عن إنسان فتكلم إنسان، تشفع شفاعة حسنة، لك دالة عليه وطلب منك أن تذهب وتتكلم معه، فذهبت وتكلمت معه هذا عمل طيب وصالح يرضي الله. |
أعطى الله بحكمته لكل إنسان زمنه الكافي:
الحياة ليست منتهى الآمال
|
{ اللهمَّ اقسِمْ لنا مِنْ خشيَتِكَ ما تحولُ بِهِ بينَنَا وبينَ معاصيكَ، ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنَا بِهِ جنتَكَ، ومِنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ علَيْنَا مصائِبَ الدُّنيا، اللهمَّ متِّعْنَا بأسماعِنا، وأبصارِنا، وقوَّتِنا ما أحْيَيْتَنا، واجعلْهُ الوارِثَ مِنَّا، واجعَلْ ثَأْرَنا عَلَى مَنْ ظلَمَنا، وانصرْنا عَلَى مَنْ عادَانا، ولا تَجْعَلِ مُصِيبَتَنا في دينِنِا، ولَا تَجْعَلْ الدنيا أكبرَ هَمِّنَا، ولَا مَبْلَغَ عِلْمِنا، ولَا تُسَلِّطْ عَلَيْنا مَنْ لَا يرْحَمُنا. }
(أخرجه الترمذي)
هذا الرجل إذا عاش ثلاثين أو أربعين أو سبعين العبرة على ماذا مات، فربنا بعلمه جل جلاله وبحكمته يقدر هذا العمر للإنسان، فقد يعمر طويلاً، وقد يعيش قصيراً، لكن أمام الآخرة السنة مثل المئة سنة، لأن كله صفر، السنة والمئة سنة أمام اللانهاية صفر، وهذا معروف في الرياضيات، يعرفه أهل الرياضيات أن أي رقم مهما كبر إذا وُضع بسطاً، أو لمخرج أو لمقام وهو اللانهاية (والتي هي ثمانية مسطحة) فيساوي الصفر في الرياضيات لأنه لا يوجد شيء يُوازى مع اللانهاية، فبالتالي مهما عاش الإنسان بالنتيجة من عاش سنة أو مئة سنة فهو صفر أمام ما أعده الله له سواء لمن أطاعه أو لمن عصاه، فبمحصلة الأمر لأن الإنسان زمن فقد منحه الله زمناً. |
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)(سورة الأعراف)
فلسفة سعادة الفقد:
هذا الإيمان يجعل الإنسان يوقن أن أي إنسان مات مات في أجله، فمع الحزن على فراقه يرضى بقضاء الله تعالى ويوقن أنه مات في أجله، وأن الملتقى عند أرحم الراحمين. |
سعادة الفقد تنبع من الإيمان
|
{ إذَا ابْتَلَيْتُ عَبدِي بحبيبتَيْهِ فَصبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجنَّةَ يُريدُ عينيْه }
(رواه البخاري)
الآن الإنسان الذي فقد حبيبتيه هذا فقد، ولكن الفقد له حزن بالتأكيد، هذا من طبيعة البشر، لا يوجد إنسان يموت له صديق فيفرح، يحزن، لا يوجد إنسان يموت له حبيب أو قريب ثم يفرح، هذا ينافي الطبيعة البشرية، النبي صلى الله عليه وسلم حزن عندما فقد ابنه، لكن هل مع حزن الفقد شيء يخفف من حزن الفقد نسميه حلاوة الفقد؟ نعم، حلاوة الفقد هي أن تنظر لما أعده الله تعالى بعد الموت، إلى ما أعده الله تعالى لمن فقد شيئاً من صحته، لمن ابتلاه الله ببعض ماله، أن ينظر للمستقبل فيخفف ذلك من آلامه. |
الزمن ليس بتعداد أيامه، وإنما بما ننجز فيه:
فإذاً ربنا جل جلاله لأن الإنسان زمن أعطاه الزمن كمقوم من مقومات التكليف، حتى يكلفه يقول له: أنا أريد مدة، هذه المدة كافية لكي تؤمن بالله تعالى، أحياناً ساعة واحدة كافية، إذا إنسان أخلص لله تعالى بساعة واحدة كافية، لذلك ربنا عز وجل قال: |
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2 ) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)(سورة القدر)
ليلة واحدة كافية، الألف شهر للتكثير وليس 83 سنة فقط يعني، هي للتكثير، هي خير من كل شيء، هي ليلة واحدة، لكن تعرف فيها على الله، وقدره حق قدره فأصبحت هذه الليلة خير من الدنيا وما فيها، فالزمن ليس بتعداد أيامه، وإنما بما ننجز فيه، يعني هناك تاجران بمحلين تماماً، نزل الأول إلى محله، والثاني إلى محله، الأول فتح ساعة وربح ألفاً، والثاني فتح عشر ساعات ربح ديناراً، أيهما أفضل؟ الذي فتح ساعة لأنه حقق الربح بساعة واحدة، فالعشر ساعات مع دينار لا قيمة لهم مقابل ساعة بألف، فالقيمة في الوقت هي ليست لتعداده، كم سنة عاش، ولكن لما أنجز في الوقت الذي منحه الله تعالى له. |
خيار الإنسان مع الإيمان:
خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت
|
فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ(24)(سورة النازعات)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)(سورة القصص)
لما أدركه الغرق رأى ما آمن به الأنبياء كلهم، عند الغرغرة رأى الحقائق كلها، رأى كل شيء، قال: |
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)(سورة يونس)
انتهى الوقت، فقط انتهى الوقت، مثل شخص في الامتحان مدة الامتحان ساعتان، في الثانية الأخيرة والورقة تُسحب منه قال له: والله تذكرت أعطني إياها، قال له انتهى الوقت، والأسوأ منه والمضحك أكثر منه، خرج من الامتحان وأغلق الورقة، ويأخذ صفراً، خرج وفتح الكتاب ورأى الجواب قال هذا هو تذكرته، انتهى الوقت، فاتكم القطار، لم يبق هناك وقت، فالخيار مع الإيمان ليس أن يقبل أو أن يرفض الإنسان، لكن أن يقبل في الوقت المناسب أو لا يقبل، ما الذي حدث مع فرعون بالتحديد؟ فرعون لما انتقل من الغيب إلى الشهادة آمن، الإيمان غيب ليس شهادة، لما رأى ملائكة العذاب آمن، طبعاً كل الناس يؤمنون إذا رأوا ملائكة العذاب، لكن الإيمان أن تؤمن بالشيء قبل أن تصل إليه، هذا هو الغيب، أن تؤمن بالشيء قبل أن تصل إليه، قالوا: العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه، يعني أن تصل إليه بفكرك قبل أن تصل إليه بجسدك، أما إذا وصل الإنسان ورأى العذاب أمامه وقال آمنت، انتهى الوقت، فقط، الإيمان أن تؤمن بالوقت المناسب، فلذلك الوقت الذي مُنح للإنسان يقتضي أن يؤمن قبل أن يغرغر: |
{ إنَّ اللهَ يقبلُ توبةَ العبدِ مالم يُغَرْغِرْ }
(أخرجه الترمذي)
وما لم تطلع الشمس من مغربها، لأن عند طلوع الشمس من مغربها أيضاً صار عالم الشهادة، انتهى الوقت، انتهى الامتحان، رُنَّ الجرس، سُحِبت الأوراق. |
لأن الإنسان زمن أقسم الله له بالزمن:
فأحبابنا الكرام، ربنا جل جلاله لأن الإنسان زمن أقسم له بالزمن فقال: |
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
مضي الزمن يجعلك خاسراً
|
ثم استثنى من الخسارة مَن يحقق واحداً أو أكثر من أربعة أشياء، أو من يحققها مجتمعة طبعاً، ليس المقصود واحد لأن كل شيء يتبع بعضه، فهي: 1. أن يؤمن الإنسان في الوقت المناسب إيماناً يحمله على طاعة الله. 2. أن يعمل وفقاً لإيمانه ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾. 3. أن يدعو إلى الأشياء التي تعلمها فيتواصى مع الناس بالحق، هذا يجوز، هذا لا يجوز، أمر بالمعروف، نهي عن المنكر، مع أسرته، في بيته، في عمله، مع شركائه. 4. وأن يتواصى مع الناس بالصبر، ليصبر الإنسان على الإيمان، ويصبر على العمل، ويصبر على الدعوة إلى الله تعالى. |
فإذا حقق إيماناً وعملاً ودعوة وصبراً كان مستثمراً لوقته، وبالتالي نجا من الخسارة المحققة التي تصيب الإنسان عند مضي الزمن. |
إذاً لقاؤنا اليوم كان عن موضوع الزمن؛ لأنني تأثرت كثيراً بانقضاء الزمن في رمضان وما بعده، فعلاً الأزمان تنقضي بشكل عجيب، وتأثرت أيضاً أكثر بما نسمع كل يوم عن أقرباء وأصدقاء قد وافتهم المنية بعضهم يقول في عمر صغير الناس يموتون، نعم هذا واقع الحياة، نحن جئنا إلى الدنيا على هذا الشرط، أننا سنغادر، قال تعالى: |
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30)(سورة الزمر)
فنحن محكومون بالموت مع وقف التنفيذ، وقد قالوا: "الموت سهم وُجِّه إليك، وعمرك بقدْر وصول السهم إليك". |
انطلق السهم ويصل عندما ينتهي الأجل، لكن هو الموت أُطلق باتجاهنا، فالإنسان ينبغي أن يكون لما يستقبله أكثر استعداداً لما يستدبره، فالدنيا أصبحت وراءنا والآخرة أصبحت أمامنا، فينبغي أن نسعى لها سعيها. |
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19)(سورة الإسراء)