الوقت بين الاستثمار والاستهلاك

  • محاضرة في الأردن
  • 2023-05-01
  • عمان
  • الأردن

الوقت بين الاستثمار والاستهلاك

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين، كل عام وأنتم بخير، وتقبل الله الطاعات وبعد:

الزمن يعمل في الإنسان:
أيها الإخوة الأحباب، عمر بن عبد العزيز وهو من التابعين، وهو أمير المؤمنين كان يقول: "الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما"
الليل والنهار يعملان فيك
"الليل والنهار يعملان فيك" هذا واضح؛ أي واحد منا بأي عمر كان بإمكانه أن يمسك صورة بيده لنفسه قبل عشرين أو ثلاثين سنة، ثم يتأملها سيجد عمل الليل والنهار فيه؛ شيباً في شعره، تجاعيد في وجهه، أحياناً انحناء في ظهره، تغير في لون جلده...إلخ. فالليل والنهار يعملان فيك، هذا أثر الليل والنهار، لأن الإنسان طول وعرض وحجم وارتفاع، فإذا تحرك شكّل زمناً، هذا الزمن عند الحركة يعمل في الإنسان، كل شيء يعمل فيه الزمن، لو وضعت التفاحة على هذه الطاولة وغبت زمناً، ثم رجعت تجد أثر عمل الليل والنهار فيها، تتغير، تتجعد، ثم تتعفن، هذا الوضع الطبيعي، الليل والنهار يعملان فيك قال: "فاعمل فيهما"، قابل بردّة فعل على عمل الليل والنهار فيك أن تعمل في الليل والنهار، عمل الإنسان في الليل والنهار يعني أن ينفق الوقت استثماراً، أن يستثمر الوقت، الوقت يمضي على الجميع، الآن هذه الساعة التي نحن فيها ستمضي على كل الناس في كل بقاع الأرض، في كل الدنيا ستمضي هذه الساعة، لكن هذه الساعة هناك من ينفقها استهلاكاً، وهناك من ينفقها استثماراً، عملك في الليل والنهار يعني أن تستثمرها لا أن تستهلكها، الوقت سيمضي سيمضي على الجميع، جاء شهر رمضان وفي الأول من رمضان باركنا للجميع بقدوم هذا الشهر، وهنّأنا الجميع بقدوم هذا الشهر، وكأنه لمح بالبصر جئنا لنهنّئ بعيد الفطر، الذي صام، وقام استثمر الوقت، الذي أمضى شهر رمضان في المعاصي أو في غير الطاعات استهلك الوقت، فقالوا: "الطاعة تمضي ويبقى ثوابها، والمعصية تمضي ويبقى عقابها"، لكن الكل يمضي عليه الوقت.

تعريف الإنسان:
الإنسان زمن
الحسن البصري رحمه الله هو من التابعين أيضاً يقول: " أيها الإنسان إنما أنت بضعة أيام، إذا انقضى منك يوم انقضى بضع منك"، يعني إذا أردت أن أعرف الإنسان تعريفاً جامعاً مانعاً، ممكن الطبيب أن يعرفه بأنه مجموعة أعضاء؛ قلب يعمل، دماغ يخطط، شرايين، أوردة، دورة دموية صغرى، دورة دموية كبرى، تعريف مادي، والماديون- ليس الأطباء- الماديون أكثر يقول لك كم فيه من ملح الحديد، بالنهاية يقول لك كم مسمار حديد ينتج من جسم الإنسان، يعتبرونك مادة، فكل شخص ممكن أن يعرف الإنسان بتعريف، ولكن أجمع تعريف، وأقصر تعريف أن نقول: فلان من الناس هو عبارة عن 75 سنة، وثلاثة أشهر، وأربعة أيام، وخمس ساعات، وثلاث دقائق، وأربع ثوانٍ، هذا هو التعريف الذي لا يختلف عليه اثنان؛ أن الإنسان زمن؛ لأنه لا يستطيع مخلوق في الأرض من الناس أن ينكر حدث الموت، لا يوجد إنسان يقول لك: الإنسان أبدي لا يموت، حتى الملحد الذي لا يؤمن بوجود الإله بزعمه سله هل ستموت؟ يقول لك: طبعاً، لا يستطيع أن ينكر.
لذلك التعريف الجامع المانع الذي لا يختلف عليه اثنان في الأرض أن الإنسان وقت (زمن) فإذا انقضى الزمن انقضى الإنسان، هو يمشي مع الزمن، لذلك قال الشاعر:
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني
{ أحمد شوقي }

اسثتمار الوقت لا استهلاكه:
الانتقال من المباح إلى الطاعة
فالليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، أي اعمل فيهما استثماراً، لا تعمل فيهما استهلاكاً، الاستهلاك بمعنى أن تمضي الساعة، كيف تمضي ساعة من الزمن من الساعة الثامنة للتاسعة ستمضي على جميع الناس في الأرض، هذه الساعة كيف تمضي؟ هناك من يمضيها في المعصية؛ إطلاق بصر في الحرام، والعياذ بالله أكثر من ذلك شرب خمر، والعياذ بالله زنى، والعياذ بالله عقوق والدين، في الكبائر أو في الصغائر مضت الساعة، هناك من يمضيها في المباحات دون أن يبتغي بها وجه الله؛ بالمسبح، بالجاكوزي...إلخ، أقول دون أن يبتغي وجه الله؛ أقصد المباح الذي ليس فيه معصية لكن بالنتيجة لا يُكتَب له به طاعة، هناك من يستثمر هذه الساعة، يستثمرها لا يعني لزاماً أنه فقط يصلي فيها، أو يحضر مجلس علم فيها، أو يصومها، أو يقرأ القرآن فيها، أو يدعو الله فيها على عِظَم هذه الأمور، لكن قد يستثمرها بنفس المباحات التي استهلكها غيره لكن بنية طيبة، فتصبح استثماراً؛ يعني الاثنان يلعبان كرة القدم، أحدهما يلعب كرة القدم يرتكب معصية، وآخر يلعب كرة القدم لا معصية ولا طاعة، وآخر يلعب كرة القدم طاعة، والثلاثة لعبوا؛ الأول حرام؛ كشف عورته، سب أصدقاءه، شتم وعلا صوته، فاتته الصلاة وهو يلعب، هذا حرام، الثاني؛ لعب كرة القدم، اللعبة نفسها، ما جاء بمحرم فيها، لكن ما خطر بباله أي شيء للطاعة يلعبها فقط دون أي نية، مباح، أيضاً استهلاك للوقت، لكن لا يوجد معاصٍ، أفضل من الأول بكثير، بل لا مجال للمقارنة بينهما، الثالث؛ يلعب كرة القدم، ولكن في نيته أن يتقوى على طاعة الله، في نيته أن يدخل السرور على أهل بيته، أخذ أولاده الشباب وأحب أن يجذبهم إلى الأسرة، ألا يخرجوا، ألا يحبوا الأشياء السيئة، أن يكسبهم إلى صفه، مجموعة إخوة مؤمنين ذهبوا في نزهة، لعبوا، سبحوا... إلخ فانتقلت من المباح إلى الطاعة، يعني إلى الاستثمار.
النية في الحالة الثانية والثالثة قلبت العمل من المباح إلى الطاعة، فإذاً استثمار الوقت لا يعني فقط- مع أن هذا مهم جداً- أن يُقضى في عبادة شعائرية "قراءة قرآن، ذكر" لكن يعني أنه إذا نزل إلى عمله أن يحول العمل إلى عبادة، بمعنى أنه يخرج صباحاً ويقول: يالله نويت النصح للمسلمين، ألا أغش مسلماً، ألا أُلجِئَه إلى حرام، أن أُنْظِر َالمعسر، أن أكسب مالاً لعيالي وأهل بيتي وأتصدق بها على الناس، فهو الآن نقل المباح إلى دائرة الطاعات.

استثمار الوقت ليس بالضرورة أن يكون بالعبادات الشعائرية:
إذاً العمل في الليل والنهار حتى نكافئ أو نرد فعلاً على عمل الليل والنهار فينا أن نستثمر الوقت، كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: والله ما ندمت على شيء ندمي على ساعة انقضى فيها أجلي ولم يزد فيها عملي"
يعني الساعة انقضت من أجله، نقص من عمره، لكن هو ما زاد في عمله شيئاً فيها، يعني الناتج صفر، هذا ابن مسعود ليس عنده ساعة فيها معصية، طبعاً ابن مسعود وغيره نحن لا نقول بعصمة أحد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم والأنبياء، لكن أعمالهم كلها كانت في الطاعات، لكن هذه الساعة لم يزد فيها في عمله فيندم، فكيف بإنسان يمضي ساعته في المعصية، أو يمضيها في اللغو، أو يمضيها في شيء لا يقدم ولا يؤخر، فكان أحد تلاميذ حماد ابن سلمة، وهو أيضاً من العلماء الأجلاء كان يقول: "حماد بن سلمة لو علم أن غداً أجله ما قدر أن يزيد في عمله"، كانوا يصفونه فيقولون: "لو علم أن غداً أجله ما زاد في عمله" نحن كلنا إذا علمنا أن غداً أجلنا وأنا على رأسكم نزيد جداً، نقضي اليوم مختلفاً تماماً، إذا شخص اليوم الأحد وقالوا له غداً آخر يوم فهو عنده الكثير من الأعمال المهمة ليقوم بها في هذا اليوم، حماد ابن سلمة وصل إلى قمة العمل، بمعنى أنه لو قيل له أن غداً أجلك لا يزيد شيئاً؛ لأن الذي يفعله بيومه العادي سيقوم به نفسه، طبعاً هذه الحالة خاصة جداً، وكانت مكررة على رأس أتباعه أنهم يقولون: "حماد بن سلمة لو علم أن غداً أجله ما قدر أن يزيد في عمله" لما يجدونه من اهتمامه في الوقت، متابعته في الطاعات، في القربات، في الأعمال الصالحة، في خدمة الناس...إلخ.
ما قلته بأن الوقت عندما يُستثمر ليس بالضرورة أن يكون في عبادة شعائرية فقط، يؤيده ما حصل مع ابن عباس رضي الله عنهما يوم كان معتكفاً في المسجد، فجاءه رجل فكلمه في حاجة له، يعني فلان قال له دين علي وأريد أن تكلمه لعله يُنظِرني (يمهلني) حتى أؤدي الدين، فقام ابن عباس من مُعتكَفه وخرج وقال له أحدهم: أنسيت يابن عباس أنك معتكف، قال: والله ما نسيت، أنا في الاعتكاف، ولكني سمعت صاحب هذا القبر والعهد به قريب، وبكى ابن عباس عندما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سمعت صاحب هذا القبر والعهد به قريب يقول: "لئن أمشي مع أخ لي في حاجة خير لي من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا".
فإذاً الفهم كان أن الاستثمار للوقت ليس بالضرورة أن يكون في الاعتكاف، أو في الصلاة أو في الصيام، وإنما في أي عمل يرضي الله تعالى، فأن تخفف عن إنسان فتكلم إنسان، تشفع شفاعة حسنة، لك دالة عليه وطلب منك أن تذهب وتتكلم معه، فذهبت وتكلمت معه هذا عمل طيب وصالح يرضي الله.

أعطى الله بحكمته لكل إنسان زمنه الكافي:
الحياة ليست منتهى الآمال
الآن هذا الإنسان الذي هو زمن كما قلنا، هو عبارة عن زمن، ولأن الزمن هو رأس ماله، أو قل الزمن وعاء عمله، ربنا عز وجل أعطى لكل إنسان زمناً، بعلمه وبحكمته هذا الزمن كافٍ لهذا الإنسان، ممكن إنسان أن يعيش ثلاثين سنة ويدخل الجنة، وإنسان يعيش والعياذ بالله 100 سنة ويدخل النار، فما يقول إنسان والله فلان أخذ زمناً أكثر مني، لا هذا بعلم الله، كما في الامتحان طالب يدخل من أول عشر دقائق يضمن العلامة الكاملة، وطالب آخر يأخذ الوقت كاملاً ساعتين وبعدها يخرج ويقول: نرسب اليوم في المادة، فالعبرة ليست كم جلست في الامتحان، العبرة ماذا أنجزت في الامتحان، ليست العبرة في الوقت الذي قضيته، بعض الناس اليوم عندما يعرفون أن هناك إنساناً مات في سن مبكر يقول: والله ما أخذ فرصته، يجوز هذا الأمر ناتج عن أن الإنسان بعمقه ودون أن يشعر يعتقد أن الحياة هي منتهى الآمال ومحط الرحال، فما أخذ فرصته يعني كان يريد أن يتزوج، ينجب أولاداً، يزوجهم، فنحن دون أن نشعر نقول: مسكين مات، وكأننا نقول أن الدنيا هي النهاية، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول:

{ اللهمَّ اقسِمْ لنا مِنْ خشيَتِكَ ما تحولُ بِهِ بينَنَا وبينَ معاصيكَ، ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنَا بِهِ جنتَكَ، ومِنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ علَيْنَا مصائِبَ الدُّنيا، اللهمَّ متِّعْنَا بأسماعِنا، وأبصارِنا، وقوَّتِنا ما أحْيَيْتَنا، واجعلْهُ الوارِثَ مِنَّا، واجعَلْ ثَأْرَنا عَلَى مَنْ ظلَمَنا، وانصرْنا عَلَى مَنْ عادَانا، ولا تَجْعَلِ مُصِيبَتَنا في دينِنِا، ولَا تَجْعَلْ الدنيا أكبرَ هَمِّنَا، ولَا مَبْلَغَ عِلْمِنا، ولَا تُسَلِّطْ عَلَيْنا مَنْ لَا يرْحَمُنا. }

(أخرجه الترمذي)

هذا الرجل إذا عاش ثلاثين أو أربعين أو سبعين العبرة على ماذا مات، فربنا بعلمه جل جلاله وبحكمته يقدر هذا العمر للإنسان، فقد يعمر طويلاً، وقد يعيش قصيراً، لكن أمام الآخرة السنة مثل المئة سنة، لأن كله صفر، السنة والمئة سنة أمام اللانهاية صفر، وهذا معروف في الرياضيات، يعرفه أهل الرياضيات أن أي رقم مهما كبر إذا وُضع بسطاً، أو لمخرج أو لمقام وهو اللانهاية (والتي هي ثمانية مسطحة) فيساوي الصفر في الرياضيات لأنه لا يوجد شيء يُوازى مع اللانهاية، فبالتالي مهما عاش الإنسان بالنتيجة من عاش سنة أو مئة سنة فهو صفر أمام ما أعده الله له سواء لمن أطاعه أو لمن عصاه، فبمحصلة الأمر لأن الإنسان زمن فقد منحه الله زمناً.

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
(سورة الأعراف)


فلسفة سعادة الفقد:
هذا الإيمان يجعل الإنسان يوقن أن أي إنسان مات مات في أجله، فمع الحزن على فراقه يرضى بقضاء الله تعالى ويوقن أنه مات في أجله، وأن الملتقى عند أرحم الراحمين.
سعادة الفقد تنبع من الإيمان
وهذا ما كنت أسميه يوماً سعادة الفقد، أمس كنت في عزاء لرجل أحسبه من الصالحين توفي رحمه الله، وقفت أمامه لأصلي عليه رحمه الله، فكان مما ذكرته أنني زرته في بيته، وكان أن امتحنه الله تعالى في فقد بصره في آخر حياته، وأحسبه صابراً محتسباً، فلما زرته في بيته حدثته عن سعادة الفقد، فقال: كيف سعادة الفقد؟ قلت له: الإنسان يفقد شيئاً، لكن سعادة الفقد تنبع من أنه يعلم ما أعده الله تعالى لمن فقد هذا الشيء، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: الحديث قدسي يقول الله تعالى: إذا أخذت من عبدي حبيبتيه –والحبيبتان هما العينان- فصبر فليس عندي ثواب إلا الجنة"

{ إذَا ابْتَلَيْتُ عَبدِي بحبيبتَيْهِ فَصبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجنَّةَ يُريدُ عينيْه }

(رواه البخاري)

الآن الإنسان الذي فقد حبيبتيه هذا فقد، ولكن الفقد له حزن بالتأكيد، هذا من طبيعة البشر، لا يوجد إنسان يموت له صديق فيفرح، يحزن، لا يوجد إنسان يموت له حبيب أو قريب ثم يفرح، هذا ينافي الطبيعة البشرية، النبي صلى الله عليه وسلم حزن عندما فقد ابنه، لكن هل مع حزن الفقد شيء يخفف من حزن الفقد نسميه حلاوة الفقد؟ نعم، حلاوة الفقد هي أن تنظر لما أعده الله تعالى بعد الموت، إلى ما أعده الله تعالى لمن فقد شيئاً من صحته، لمن ابتلاه الله ببعض ماله، أن ينظر للمستقبل فيخفف ذلك من آلامه.

الزمن ليس بتعداد أيامه، وإنما بما ننجز فيه:
فإذاً ربنا جل جلاله لأن الإنسان زمن أعطاه الزمن كمقوم من مقومات التكليف، حتى يكلفه يقول له: أنا أريد مدة، هذه المدة كافية لكي تؤمن بالله تعالى، أحياناً ساعة واحدة كافية، إذا إنسان أخلص لله تعالى بساعة واحدة كافية، لذلك ربنا عز وجل قال:

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2 ) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
(سورة القدر)

ليلة واحدة كافية، الألف شهر للتكثير وليس 83 سنة فقط يعني، هي للتكثير، هي خير من كل شيء، هي ليلة واحدة، لكن تعرف فيها على الله، وقدره حق قدره فأصبحت هذه الليلة خير من الدنيا وما فيها، فالزمن ليس بتعداد أيامه، وإنما بما ننجز فيه، يعني هناك تاجران بمحلين تماماً، نزل الأول إلى محله، والثاني إلى محله، الأول فتح ساعة وربح ألفاً، والثاني فتح عشر ساعات ربح ديناراً، أيهما أفضل؟ الذي فتح ساعة لأنه حقق الربح بساعة واحدة، فالعشر ساعات مع دينار لا قيمة لهم مقابل ساعة بألف، فالقيمة في الوقت هي ليست لتعداده، كم سنة عاش، ولكن لما أنجز في الوقت الذي منحه الله تعالى له.

خيار الإنسان مع الإيمان:
خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت
الأمر الآخر هذا الوقت نحن كثير من الأشياء في حياتنا خيارنا معها خيار قبول أو رفض، فأنا اليوم إذا جئت لك بسلعة، قلت لك هذا الهاتف مستعمل ثمنه كذا، فحصته فقلت لي لا، أرفض شراءه، لماذا؟ لأنك وجدت السعر مرتفعاً بالنسبة للمنتج، أو لأنك لا تملك هذا الثمن لتدفعه فرفضت، شاب يريد أن يتزوج فعرضت عليه فتاة، نظر إليها ما أراد أن يتزوجها، غير متعلمة، يريد امرأة متعلمة فرضاً فرفض، هي عُرض عليها شاب، أو خطبها شاب فوجدت أن دخله قليل، تريد شاباً دخله أعلى فرفضت، السفر عُرض عليك السفر، العوام عنا بالشام كانوا يقولون: الله لا يبارك بمشوار خطواته أكثر من لقماته" فوجد أن السفر متعب جداً والنتائج ضعيفة جداً، فرفض، فهذه خيارات قبول ورفض، هناك شيء واحد في الدنيا خيارك معه ليس أن تقبل أو أن ترفض، خيارك معه أن تقبل في الوقت المناسب، أو تقبل بعد مضي الوقت، الرفض غير موجود، هذا هو الإيمان، الإيمان الخيار معه ليس أن يقبل الإنسان أو أن يرفض، الخيار متى تقبل فقط، متى، القبول مُحتَّم، ما الدليل على ذلك؟ فرعون هو أكثر من في الأرض، ما تجرأ أحد على ما تجرأ عليه قال:

فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ(24)
(سورة النازعات)

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
(سورة القصص)

لما أدركه الغرق رأى ما آمن به الأنبياء كلهم، عند الغرغرة رأى الحقائق كلها، رأى كل شيء، قال:

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
(سورة يونس)

انتهى الوقت، فقط انتهى الوقت، مثل شخص في الامتحان مدة الامتحان ساعتان، في الثانية الأخيرة والورقة تُسحب منه قال له: والله تذكرت أعطني إياها، قال له انتهى الوقت، والأسوأ منه والمضحك أكثر منه، خرج من الامتحان وأغلق الورقة، ويأخذ صفراً، خرج وفتح الكتاب ورأى الجواب قال هذا هو تذكرته، انتهى الوقت، فاتكم القطار، لم يبق هناك وقت، فالخيار مع الإيمان ليس أن يقبل أو أن يرفض الإنسان، لكن أن يقبل في الوقت المناسب أو لا يقبل، ما الذي حدث مع فرعون بالتحديد؟ فرعون لما انتقل من الغيب إلى الشهادة آمن، الإيمان غيب ليس شهادة، لما رأى ملائكة العذاب آمن، طبعاً كل الناس يؤمنون إذا رأوا ملائكة العذاب، لكن الإيمان أن تؤمن بالشيء قبل أن تصل إليه، هذا هو الغيب، أن تؤمن بالشيء قبل أن تصل إليه، قالوا: العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه، يعني أن تصل إليه بفكرك قبل أن تصل إليه بجسدك، أما إذا وصل الإنسان ورأى العذاب أمامه وقال آمنت، انتهى الوقت، فقط، الإيمان أن تؤمن بالوقت المناسب، فلذلك الوقت الذي مُنح للإنسان يقتضي أن يؤمن قبل أن يغرغر:

{ إنَّ اللهَ يقبلُ توبةَ العبدِ مالم يُغَرْغِرْ }

(أخرجه الترمذي)

وما لم تطلع الشمس من مغربها، لأن عند طلوع الشمس من مغربها أيضاً صار عالم الشهادة، انتهى الوقت، انتهى الامتحان، رُنَّ الجرس، سُحِبت الأوراق.

لأن الإنسان زمن أقسم الله له بالزمن:
فأحبابنا الكرام، ربنا جل جلاله لأن الإنسان زمن أقسم له بالزمن فقال:

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

مضي الزمن يجعلك خاسراً
العصر ما هو؟ الزمن، وقت من أوقات الزمن، سواء قلنا لمن يقول: والعصر وقت العصر، لكن أنا أرجح أنه مطلق الزمن، العصر، على الحالتين هو زمن، فأقسم له بالزمن لأنه زمن، جواب القسم دائماً يرتبط مع المُقسَم به ﴿ وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ يعني مضي الزمن يجعلك خاسراً لأنك تفقد رأس مالك، لذلك كان بعض السلف يقول: لقد تعلمت معنى سورة العصر من بائع الثلج، كان يضع ألواح الثلج أمامه ويقول: "ارحموا من يذوب رأس ماله" أنا أعتقد أن هذا بائع الثلج درس تسويقاً أكثر من الذين درسوا في الجامعات، لأنه أحسن تسويق، يستعطف الناس بأن يشتروا الثلج قبل أن يذوب رأس ماله، ارحموا من يذوب رأس ماله، فقال: تعلمت سورة العصر من بائع الثلج ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ فأنا يذوب رأس مالي مع مضي الزمن، كلما مضى الزمن أكثر يذوب رأس مالي، فقال: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾.
ثم استثنى من الخسارة مَن يحقق واحداً أو أكثر من أربعة أشياء، أو من يحققها مجتمعة طبعاً، ليس المقصود واحد لأن كل شيء يتبع بعضه، فهي:
1. أن يؤمن الإنسان في الوقت المناسب إيماناً يحمله على طاعة الله.
2. أن يعمل وفقاً لإيمانه ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.
3. أن يدعو إلى الأشياء التي تعلمها فيتواصى مع الناس بالحق، هذا يجوز، هذا لا يجوز، أمر بالمعروف، نهي عن المنكر، مع أسرته، في بيته، في عمله، مع شركائه.
4. وأن يتواصى مع الناس بالصبر، ليصبر الإنسان على الإيمان، ويصبر على العمل، ويصبر على الدعوة إلى الله تعالى.
فإذا حقق إيماناً وعملاً ودعوة وصبراً كان مستثمراً لوقته، وبالتالي نجا من الخسارة المحققة التي تصيب الإنسان عند مضي الزمن.
إذاً لقاؤنا اليوم كان عن موضوع الزمن؛ لأنني تأثرت كثيراً بانقضاء الزمن في رمضان وما بعده، فعلاً الأزمان تنقضي بشكل عجيب، وتأثرت أيضاً أكثر بما نسمع كل يوم عن أقرباء وأصدقاء قد وافتهم المنية بعضهم يقول في عمر صغير الناس يموتون، نعم هذا واقع الحياة، نحن جئنا إلى الدنيا على هذا الشرط، أننا سنغادر، قال تعالى:

إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30)
(سورة الزمر)

فنحن محكومون بالموت مع وقف التنفيذ، وقد قالوا: "الموت سهم وُجِّه إليك، وعمرك بقدْر وصول السهم إليك".
انطلق السهم ويصل عندما ينتهي الأجل، لكن هو الموت أُطلق باتجاهنا، فالإنسان ينبغي أن يكون لما يستقبله أكثر استعداداً لما يستدبره، فالدنيا أصبحت وراءنا والآخرة أصبحت أمامنا، فينبغي أن نسعى لها سعيها.

وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19)
(سورة الإسراء)

والحمد لله رب العالمين