محامِد الخلق كلهم

  • محاضرة في الأردن
  • 2023-06-05
  • عمان
  • الأردن

محامِد الخلق كلهم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللّهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا عِلماً وعملاً مُتقبّلاً يا أرحم الراحمين، اللّهم أخرجنا من ظُلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وُحول الشهوات إلى جنات القُربات وبعد:
أيها الإخوة الكرام يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

{ من قال إذا أوى إلى فراشِه : الحمدُ لله الذي كفَاني وآواني، الحمدُ لله الذي أطعمَني وسقاني ، الحمدُ لله الذي منَّ عليَّ وأفضّلَ، اللهمَّ إني أسألُك بعزَّتِك أن تُنَجِّيَني من النارِ، فقد حمِدَ اللهَ بجميعِ محامدِ الخَلْقِ كلِّهم }

(أخرجه ابن السني والحاكم والبيهقي)


الحمد حالة نفسية تعتري المؤمن لعظيم فضل الله عليه:
الحمد هو حالة نفسيّة تعتري المؤمن
الذي لفت نظري في هذا الحديث وأظنّه قد لفت أنظاركم هو ختام الحديث، عندما يقول صلى الله عليه وسلم: (فقد حمِدَ اللهَ بجميعِ محامدِ الخَلْقِ كلِّهم) يعني كل الخلق وكل المحامِد في هذه الكلمات عندما يأوي الإنسان إلى فراشه، طبعاً الكلمات كلمات حمد، والحمد هو حالة نفسيّة ابتداءً تعتري المؤمن، والحمد ليس إلا للمؤمنين، الناس يشكرون لبعضهم، يمدحون بعضهم، لكن الحمد خصيصة للمؤمن، يعني عندنا حمد، وعندنا مدح، وعندنا شُكر، الشُكر يكون للأفعال، يعني إذا إنسان قدّم لك هديةً تقول له: شكراً لك، يعني نالك منه خير، إذا كنت جالساً وقدَّم لك أريكةً تتكئ عليها تقول له: شكراً لك، يعني يصنع معك معروفاً فتشكر له، ويقول صلى الله عليه وسلم:

{ لا يَشْكُرُ اللهَ مَن لا يَشْكُرُ الناسَ. }

(أخرجه أبي داوود والترمذي)

من لا يشكُر الناس على معروفهم لا يشكُر الله لأنَّ هؤلاء عباد الله، والمؤمن إذا تعوّد الشُكر فإنه يشكُر للناس مع شُكره لله تعالى، فشُكر الناس مطلوب، فالشُكر يكون على شيءٍ نالك من المشكور له، هذا الشُكر في اللغة، والمدح تمدحه على صفةٍ فيها يستحق المدح عليها ولو لم ينلك منه شيءٌ، فتقول: فلان كريم تمدحه، هل أعطالك شيئاً؟ لا والله لم ألتقي به في حياتي لكن معروف بكرمه، فتمدحه على صفةٍ فيه وإن لم ينلك من هذه الصفة خير، لكن يكفي أنها موجودة فيه، هذا مدح الأول شُكر، الحمد لله تعالى هو مجموع الشُكر مع المدح، فالحمد هو حمدٌ لله تعالى لأنه الواحد، لأنه الأحد، لِما فيه من الصفات لأنه الكريم، لأنه الجواد، لأنه الشافي، لأنه المُعطي، حمدٌ له لِما فيه من الصفات، ثم هو شكرٌ له لِما أولاك من نِعَمه العظيمة، فالحمد هو جمعٌ للمدح مع الشُكر كما قال أهل اللغة، والحمد يعني في العُرف لا يكون إلا للمؤمنين وكأنها كلمة اختصت بها شريعة الله تعالى أن نقول الحمد لله:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2) ٱلرحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ (3)
(سورة الفاتحة)


الله جلَّ جلاله رحمن في ذاته رحيم في أفعاله:
الرحمن صفة ذاته والرحيم صفة أفعاله
حتى الرحمن الرحيم تؤكد هذا المعنى الذي قلناه، أنّ المدح والشُكر يساوي الحمد، لأن الرحمن صفة ذاته، والرحيم صفة أفعاله، فهو رحمن في ذاته، رحيمٌ في أفعاله، فأنت تحمده على أنه رحمن وعلى أنه رحيم، رحيم على ما جاءك من رحمته ورحمن لأنه في ذاته رحمن، لذلك لم يُسمّى أحد باسم الرحمن، ولا يجوز أن يُسمّى إنسان باسم الرحمن، وإنما أفضل الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، فنحن عبيد الرحمن، لكن قد يُقال لإنسان فلان رحيم، عنده رحمة اشتقّها من رحمة الله تعالى، لكن الرحمن اسم الله تعالى وما تسمَّى بالرحمن إلا مُسيلمة الكذاب، فسمّى نفسه رحمن اليمامة فأذاقه الله الخزيَّ والندامة إلى يوم القيامة، ما أحد تجرأ أن يُسمّي نفسه الرحمن، فالرحمن اسم ذات يُمدح الله عليها، والرحيم اسم فعل يُشكر الله عليه، ويُحمد الله على أنه رحمن رحيم، وعلى أنَّه ربُّ العالمين، ولذلك الرحمن تقتضي رحمته أن يسوق أحياناً لعبده الشدائد، وهذه في ظاهرها للناس ليست رحمة، فإذا رأيت إنسان على سرير الشفاء، على سرير المشفى وحاله صعبة ووضعت له الأجهزة، قد لا تنظر أو لا يستطيع كل الناس أن ينظروا إلى هذا الوضع على أنَّه رحمة، يقول مُعذّب، مُبتلى، الله يُعينه، وضعه صعب، لا ينظروا على أنها رحمة، لكن الرحمن تقتضي رحمته أحياناً أن يسوق لعباده بعض المصائب، والدليل قال تعالى على لسان إبراهيم يُخاطب أباه، قال:

يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
(سورة مريم)

عذابٌ من الرحمن فالرحمن يُعذِّب، لذلك قال الشاعر:
فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازمًا فليقسُ أحيانًا على منْ يرحمُ
{ عبد الحميد جودت السحار }
فالرحمن اسم ذات والرحيم اسم فعل، فالحمد هو مجموع المدح والشُكر، والحمد يبدأ بحالة نفسية يشعر بها المؤمن في داخله، لعظيم فضل الله تعالى عليه، يقول لك: أنا مُمّتن في داخلي رُبّما هو لا ينطق بكلمة لكن من أعماقه يتفكّر في آلاء الله في أيام الله فيحمد الله على ما هو فيه من نعمة، وقد تفيض عينه عندما يتذكّر نعمة الله عليه، والحمد قد ينتقل من حالة القلب إلى حالة اللسان فيقول: الحمد لله، بعد الصلوات ثلاثة وثلاثين مرة الحمد لله، قبل النوم ثلاثة وثلاثين مرة الحمد لله.

{ كَلِمَتانِ خَفِيفَتانِ علَى اللِّسانِ، ثَقِيلَتانِ في المِيزانِ، حَبِيبَتانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحانَ اللَّهِ العَظِيمِ، سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ. }

(صحيح البخاري)


الحمد أن تُسخِّر نِعَم الله عليك في طاعته:
فالحمد ينتقل إلى اللسان يمتلئ به القلب فينتقل إلى اللسان، ثم ينتقل إلى الجوارح شُكراً قال تعالى:

يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
(سورة سبأ)

نُسخير النعم في طاعة الله تعالى
يعني اجعلوا عملكم شُكراً لله تعالى، يعني أن نُسخّر النعم التي أنعم الله تعالى بها علينا في طاعة الله تعالى، وأول النِعَم هي الجوارح، أعطاني العين أنظر بها إلى الحلال، أعطاني الأُذن أسمع بها ما يُرضي الله، أعطاني اللسان أتكلم به دعوةً إليه وإصلاحاً بين الناس ومسامرةً في الخير وفي المُباح، ولا أتكلم به ما يُسخط الله تعالى، أعطاني اليد أُحركها في مرضاة الله، أعطاني القَدم أمشي بها إلى مجالس العِلم، إلى المساجد، إلى الخيرات، إلى نزهةٍ مع الأهل، إلى كل مُباحٍ يُرضي الله تعالى ولا أتوجه بها إلى معصية، إذاً الآن أنا أعمل شُكراً، يعني أُعمِل جوارحي في شُكر الله تعالى، يعني أُكافئ النِعَم التي أنعمَّ الله تعالى عليَّ بها في تسخيرها لخدمة خلق الله تعالى، أعطاني مالاً أُنفقه في طاعة الله، أعطاني جاهاً أتخذه وسيلةً للإصلاح بين الناس، للشفاعة لإنسان مظلوم، أعطاني قوةً أُسخّرها للحقّ، كل ما وهبني الله تعالى إياه أجعله في شُكر الله تعالى، (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) وهنا عقّبّ الله تعالى فقال: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)، والشكور اسم مبالغة على وزن فعول، والمُبالغة تُفيد شيئين، أنا عندما أقول فلان شاكر يعني يشكُر نعمة الله عليه، عندما أقول فلان شكور أي كثير الشُكر لله، كثير الشُكر لكل نعمةٍ من نِعَم الله، يُكثِر الشُكر دائماً وكل نعمةٍ عنده تعظُم مهما دقّت، فيشكُر الله عليها، هذا معنى المُبالغة مُبالغة اسم الفاعل، شكور كثير الشُكر تعظُم عنده النِعم مهما دقّت، (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)، يعني الذي يداوم على شُكر الله تعالى، الذي يُكثِر من شُكر الله، الذي يجعل أعماله دائماً في شُكر الله وفق منهج الله قليل، (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) وفي المقابل مزالق الشيطان قال:

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
(سورة الأعراف)

ليس شكورين، شاكرين يعني حتى الشُكر القليل لا يفعلونه، (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)، (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).
الشيطان لمّا ذكر الله تعالى مداخله على الإنسان، الشيطان يتكلم يُبين لك، اليوم هناك من شياطين الإنس مَن لا يُبين لك خطته في عداوتك، يُحيّرك كيف يُعاديك، أما شيطان الجن إبليس وضع الخطة قال لك أنا هكذا خطتي معك وهكذا سأفعل: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) يعني نتيجة العمل الذي سأعمله "عمل الشيطان"، نتيجة كل العمل الذي سأعمله هو أن أصِل إلى مرحلة أن أُحوّل الناس وأصِرفهم عن شكر الله تعالى فقط، فكل من يترك الشُكر إنما هو في الحقيقة يُنفِّذ خطة الشيطان، من يترك الشُكر لله هو في الحقيقة يُنفذ خطة عدوه الأول:

قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5)
(سورة يوسف)

يُنفّذ خطة الشيطان، وكل من يُكثر الشُكر لله تعالى فهو يؤدي حقّ الرحمن.

النوم هو الموت الأصغر:
فأحبابنا الكرام هنا في هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: من قال إذا أوى إلى فراشه، موضوع اللحظات الأخيرة قبل النوم، تُشبه إلى حدّ، لنستشعر هذا الأمر تُشبه إلى حدّ كبير اللحظات الأخيرة قبل فراق الدنيا، لأنَّ النوم هو الموت الأصغر.

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
(سورة الزمر)

فالله يتوفى الأنفس، والدليل أنَّنا نتذكر فيه الموت لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث:

{ إذا أوَى أحَدُكُمْ إلى فِراشِهِ، فَلْيَنْفُضْ فِراشَهُ بداخِلَةِ إزارِهِ؛ فإنَّه لا يَدْرِي ما خَلَفَهُ عليه، ثُمَّ يقولُ: باسْمِكَ رَبِّ، وضَعْتُ جَنْبِي، وبِكَ أرْفَعُهُ، إنْ أمْسَكْتَ نَفْسِي فارْحَمْها، وإنْ أرْسَلْتَها فاحْفَظْها بما تَحْفَظُ به عِبادَكَ الصَّالِحِينَ. }

(صحيح البخاري)

النوم موت
يعني عندما يأوي إلى فراشه يضع في ذهنه أنّه من المُمكن أن لا يستيقظ، موجودة هذه الحالة، (إنْ أمْسَكْتَ نَفْسِي فارْحَمْها) فعندما يأوي الإنسان إلى فراشه كأنَّه في هذه اللحظات يستذكِر رحلة الآخرة، لذلك كثيراً ما يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم على أن تكون اللحظات التي يقضيها المؤمن قبل أن يَغمض جفنه وينام أن تكون في ذكر الله تعالى، فأحاديث كثيرة في الأذكار الواردة قراءة آية الكرسي المُعوذات، الأدعية باسمك اللهم أحيا وباسمك أموت، النوم موت، اللهم ألجأت ظهري إليك وأسلمت نفسي إليك، لا منجى ولا ملجأ مِنك إلا إليك، التسبيحات، التحميدات، التكبيرات، كل ما وَرَد، حتى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا ذكر آخر آيتين من سورة البقرة قال: واجعلهما آخر ما تقول، يعني بعد ما تقرأ:

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
(سورة البقرة)

قال: اجعلهما آخر ما تقول.

أعظم نِعَم الله بعد الإيمان والهداية نعمة الصحة والكفايّة:
اليوم علماء النفس يتحدثوا أنَّ الإنسان في نومه يرى ما بات عليه، يعني إذا كان يدرس رياضيات فإنّه يحُلّ كل الليل مسائل في الرياضيات، فالإنسان في نومه غالباً ما يرى ما ختم يومه به، ما نام عليه.
أعظم نعم الله هي نعمة الصحة والكفايّة
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول اجعلهما آخر ما تقول، (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ) إلى آخر الآيات إلى آخر سورة البقرة، فهذه اللحظات لحظات ما قبل النوم هي اللحظات فيها هذا المعنى، وفيها هذا الاستشعار، لذلك يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم عليها وعلى الأدعية فيها، فهُنا يوجّهُنا النبي صلى الله عليه وسلم يعني إلى دعاء غير مألوف في دنيا الناس كثيراً، تعودّنا على أدعية النوم لكن هذا غير محفوظ كثيراً مع أنه بسيط جداً، قال: (الحمدُ لله الذي كفَاني وآواني) لذلك أعظم نعم الله على الإنسان بعد نعمة الإيمان والهداية هي نعمة الصحة والكفايّة، الكفايّة لا تعني أنّه فقير ولا تعني أنّه غنيّ، الكفايّة تعني أنه عنده ما يكفيه، يعني الإنسان لمجرد أنه وجد كفايته فهو أغنى الناس، لأن كل ما زاد عن ذلك هو فضلٌ من الله ونعمة وخير، يُنفق منه، يتصدّق به، يُعطيه لأهله، يزداد به قرباً من الله، "نعم المال أصون به عرضي وأتقرّب به إلى ربي"، على العين والرأس نحن نطالب دائماً المؤمن أن يكون قوياً، ومن القوة قوة المال، فإن كان يستطيع أن يكون قوياً بماله فعلى الرحب والسّعة، وإن كان يستطيع أن يكون قوياً بمنصبه فعلى الرحب والسّعة، وإن كان يستطيع أن يكون قوياً بعِلمه فعلى الرحب والسّعة، فالقوّة متنوعة ونحن نطلب القوّة، قوّة المال وغيرها، لكن الكفايّة هي أعظم نعمة من الله، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم:

{ من أصبحَ منكُم آمِنًا في سِربِه مُعافًى في جسَدِه عندَه قوتُ يومِه فَكأنَّما حيزت لهُ الدُّنيا }

(أخرجه الترمذي وابن ماجه)

السرب هو سرب الطيور، الطيور عندما تتحرك، تتحرك أسراب، فشبّه الإنسان في جماعته بسرب الطيور، (من أصبحَ منكُم آمِنًا في سِربِه مُعافًى في جسَدِه عندَه قوتُ يومِه فَكأنَّما حيزت لهُ الدُّنيا) يعني مَلك الدنيا بحذافيرها ما نقصه شيء منها، مادام أكل وشرب وإذا أحتاج دواء موجود معه ثمنه، وإذا ابنه في المدرسة ويريد مصروفاً أعطاه، يعني أموره لا يوجد أفضل من ذلك، فكأنما حيزت له الدنيا.
فيقول صلى الله عليه وسلم: (من قال إذا أوى إلى فراشِه: الحمدُ لله الذي كفَاني وآواني) وأيضاً من النِعم التي يستشعرها الإنسان قبل نومه، وموطنها قبل النوم أن تضع رأسك على وسادة، يعني لك فِراشٌ تأوي إليه، هناك أُناس لا يجدون مأوى، المأوى نعمة عظيمة من نِعَم الله تعالى، سواءً كان البيت صغيراً أم كبيراً، مُلّكاً أم مُستأجراً، عالياً أم أرضّياً، مهما يكن، مكسوَّاً كُسوة فاخرة أم كُسوة بسيطة جداً، مادام أنَّك تأوي إلى مكان تُغلِق عليك الباب وتنام مطّمئناً، فهذه من النِعَم التي يستشعرها المؤمن في كل لحظة ويزداد استشعاره لها عندما يأوي إلى فراشه.
حدثني أحد الإخوة الكرام أنه يوماً من الأيام اضطر إلى سفر إلى مدينة أُخرى، وقضى بها نهاره كله ولم يستطع العودة إلى مدينته وكان موسم أعياد أو كذا، وبدأت جولته على فندق ينام فيه من الثامنة ليلاً إلى الواحدة، وما استطاع أن يجد غرفةً تؤويه، وهو يدور في سيارته إلى أن استقبله أحد الفنادق، هو في البداية بدأ يبحث عن خمسة نجوم، هو مُرفّه، ويُحبّ الفنادق الخمسة نجوم، بعد ساعة نزلت القضية إلى أربع نجوم، وبعد ساعتين إلى ثلاثة ثم نجمتان، وبعد ذلك نجمة واحدة وبعد ذلك بلا نجوم فقط مكان يؤويه! يعني أي بيت أي شيء، ثم استقبله فندق ولكن لا يوجد به غرف لكن في بهو الفندق في الأسفل أحضر له فِراش وقال له: ضع رأسك ونام، نظر إلى الفراش وجده مُتّسخ، عنده مِنشفة وضعها فوق الوسادة هو مُتعود على النوم الوثير، وضع رأسه، وقال لي: أول مرة أقول الحمد لله الذي كفاني وآواني وكم من الناس من لا مأوى له فاستشعرها وأبكي، يعني أنا وجدت مأوى أخيراً، وكل المأوى عبارة عن فِراش ووسادة.
فإذا نام الإنسان في بيته فقال: الحمد لله الذي كفاني وآواني، فهذه من أعظم نِعَم الله تعالى عليه.

العافية نعمة تجعل الطعام والشراب طيباً:
العافية نعمة تجعل الطعام والشراب طيباً
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (الحمدُ لله الذي أطعمَني وسقاني)، نعمة الطعام ونعمة الشراب، نعمة الطعام والشراب أولاً موجودة وثانياً الصحة موجودة، قال له: طعامك طيب، قال له: طيّبته العافية، إذا إنسان فيه عافية وأكل أبسط الطعام يجده ألذ طعام، و إذا كان فيه مرض لو تضع أمامه أجود أنواع الأطعمة يقول لك: لا أستطيع أن أشمَّ ريحه، فالعافية نعمة تجعل الطعام والشراب طيباً، فمِن نِعَم الله تعالى على الإنسان نعمة الطعام والشراب ونعمة العافية التي تجعل الطعام طيباً والشراب طيباً.
(الحمدُ لله الذي منَّ عليَّ وأفضلَ) المنّ هو العطاء.

يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(17)
(سورة الحجرات)

الصحابة الكرام كانوا يقولون، الأنصار قالوا: المنُّ لله ولرسوله، الإنسان ليس له منٌّ على الله تعالى حاشاه، الله يمنَّ عليه عبدٌ من عباده، فهو أنعمَّ علينا بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ونعمة الهُدى والرشاد، نِعَم الله تعالى علينا لا تُعدُّ ولا تُحصى، فيتذكر الإنسان هذه النِعَم عند نومه فيقول: (الحمدُ لله الذي منَّ عليَّ وأفضلَ) أعطاني، والعطاء من الله تعالى أحبابنا الكرام والمنّ من الله منّ بلا مُقابل، أحياناً أنت تمنُّ على إنسان ولكن بمقابل، تُعطيه وتريد منه شيئاً أما المنّ من الله تعالى فهو منٌّ بلا مقابل قال تعالى:

هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
(سورة الرحمن)

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
(سورة القصص)


العزيز هو الذي يحتاجه كل شيء في كل شيء ولا يحتاج شيء:
قال أهل التفسير: يعني أحسّن إحساناً يُشبه إحسان الله إليك، فالله تعالى يُحسن إلينا ابتداءً من غير أن نطلب منه، وينبغي أن يكون إحسانك للناس من غير أن تُلجِئهم إلى الطلب، وإنما تبادئهم بالإحسان (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ).
التوسل إلى الله بشيءٍ من أسمائه أو صفاته جائز
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهمَّ إني أسألُك بعزَّتِك أن تُنَجِّيَني من النارِ) يعني يتوسّل بعزّة الله تعالى أن يُنجّيه من النار، والتوسل إلى الله تعالى بشيءٍ من أسمائه أو صفاته جائزٌ مشروع لا خلاف فيه، كأن يقول الإنسان: يا غفور اغفر لي، أسألك بفضلك أن تتفضل عليّ، أسألك بقوتك أن تنتقم لي، أسألك بجبروتك أن تُهلك عدوي، فيتوسل إلى الله تعالى بشيءٍ من أسماء الله تعالى أو صفاته، فهنا يتوسل إلى الله تعالى بعزته، فهو العزيز جلَّ جلاله، والعزيز هو الذي يحتاجه كل شيءٍ في كل شيءٍ ولا يحتاج شيئاً في شيء جلَّ جلاله، فالعزيز لا يحتاجنا، عزيز مصر كما في القرآن الكريم كان الناس يحتاجونه يأتون إليه ليُعطيهم، لكن هو ما سأل أحد يوماً، عزيز مصر كل المال عنده، فهو عزيز لكن عزيز مصر فقط، أما العزيز جلَّ جلاله، هو الذي لا مثيل له، هو الصمد الذي تصمد إليه المخلوقات كلها فتحتاجه في كل شيء، نحتاجه من أجل ضيق لمعة الشريان التاجي، فإذا تضيَّق أكثر بقليل تكوّنت جلطة في طريق الدم، خثرة قد تودي بحياة الإنسان أو تودي به إلى مرضٍ وبيل لا طاقة له به، نحتاجه في شُربة ماء نشربها، ثم نحتاجه في إخراج هذه الشُربة التي شربناها، نحتاجه في شُربها وفي إخراجها، لمّا سُئل هارون الرشيد ملكك هذا ما الذي يُساويه؟ إذا مُنع عنك الماء بم تشتريه؟ قال: بنصف مُلكي، قال: فإذا مُنع عنك إخراجه؟ قال: بنصف ملكي الآخر، فتوسل إليه بعزته جلّ جلاله أن يُنجّينا من النار وختم دعائه صلى الله عليه وسلم (أن تُنَجِّيَني من النارِ)، يعني هذا تذكّر لعالم الغيب لِما بعد الموت.

الله قهر عباده بالموت وقهرهم بالنوم:
كما قلنا النوم في بعض معانيه موت، هو الموت الأصغر أو وفاة (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ) أن تصبح عند الله عز وجل والدليل أنك لا تملك نفسك ليلاً، في النهار تظنّ أنك تملكها، تظنّ والمُلك لله ليلاً ونهاراً، لكن تظن أنك إذا أردت أن تذهب تذهب، أما في الليل نفسك تأخذك إلى مكة أو إلى واشنطن والناس يركضون وراءك وأنت تهرب لا تعرف إلى أين تأخذك نفسك، فالله توفى النفس وصارت عنده، يتحكم فيها جلّ جلاله من غير أي إرادة منك في الليل، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ إذا اسْتَيْقَظَ أحَدُكُمْ مِن نَوْمِهِ، فلا يَغْمِسْ يَدَهُ في الإناءِ حتَّى يَغْسِلَها ثَلاثًا؛ فإنَّه لا يَدْرِي أيْنَ باتَتْ يَدُهُ. }

(صحيح مسلم)

يعني لا يعرف الإنسان في الليل ليس عنده أي تصرُف، سُلبت منه إرادة التصرف، وربنا عز وجل هو القاهر فقهره بالموت وقهره بالنوم، فعندما ينام يقول لك: النوم سلطان، لم أشعر بشيء، فيتذكر الإنسان ذلك فيسأل الله تعالى أن يُنجيه من نار جهنم، قال: فمن قال ذلك(فقد حمِدَ اللهَ بجميعِ محامدِ الخَلْقِ كلِّهم) يعني استوفى الحمد لله تعالى هذا الذي يريده الله، ربنا عز وجل لا يطلب منا الكثير كلمة الحمد والشكر.

{ إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا. }

(صحيح مسلم)

يرضى عنه بذلك، فقط أن يقول الحمد لله.

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
(سورة إبراهيم)

( الحمدُ لله الذي كفَاني وآواني، الحمدُ لله الذي أطعمَني وسقاني، الحمدُ لله الذي منَّ عليَّ وأفضلَ، اللهمَّ إني أسألُك بعزَّتِك أن تُنَجِّيَني من النارِ، فقد حمِدَ اللهَ بجميعِ محامدِ الخَلْقِ كلِّهم) والحمد لله رب العالمين.