• محاضرة في الأردن
  • 2023-06-12
  • عمان
  • الأردن

من نفحات الحج

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، انفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين.

ما هي أشهر الحج:
أيها الإخوة الأحباب، بدأت نفحات الحج، والحج أشهر معلومات، وأشهر الحج المعلومات هي شوال، وذو القعدة وعشرٌ من ذي الحجة، وهذه الأشهر شرع الله تعالى فيها الإحرام بالحج؛ حتى إن الإمام الشافعي قال: لا يصح الإحرام إلا بهذه الأشهر، لقوله تعالى:

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
(سورة البقرة)

فيُحرِم الإنسام في الحج بدءاً من شوال، وحتى تأتي شعائر الحج، والشعائر فيها مشاعر، وكل شعيرة فيها شعور، ليس من شعيرة ليس فيها شعور، فالطواف طواف الحبيب حول حبيبه، والسعي سعي المشتاق إلى ربه، والرمي تبرئة للإنسان من الشرك والشيطان، وهكذا... فكل شعيرة معها شعور، ويعود الحجاج من هذه الرحلة بمشاعر مختلفة بناء على شعورهم في هذه الشعائر.

التمييز بين المصلحة الحقيقية والمتوهمة في العبادة:
العبادات معللة بمصالح الخلق
ثم إن العبادات التي شرعها الله تعالى لعباده كلها لها مقاصد، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "العبادات معللة بمصالح الخلق"، فما من عبادة شرعها الله تعالى إلا لمصلحة من مصالح الخلق، ولكن يجب أن نميز بين مصلحة حقيقية، ومصلحة متوهمة، قد يقول إنسان أنا مصلحتي في أن آكل الربا، مصلحتي في أن أقرض مئة فتعود مئة وعشرون، هي ليست مصلحة، هو سماها مصلحة، ولكن لما كانت النار ستحرقه، وبركة ماله ستُمحق، وماله سيهلك فهذه ليست مصلحة، لكن هو ظنها مصلحة، كالطفل تماماً يستيقظ صباحاً تضع له أمه الطعام الصحي، تقول له: اشرب حليب، كُلْ فاكهة، وهو يطلب مياه غازية، هو يرى مصلحته في المياه الغازية، ولكن هل هذه مصلحة للطفل وهو في عمر النمو أن يشرب المياه الغازية أم المصلحة في الحليب؟ هو يرى مصلحته، ولكن هذه مصلحة متوهمة، وكذلك حال الناس مع أوامر الله، فعندما يفهم بعض الناس أوامر الدين حداً لحريتهم يتوهمون المصلحة بخلافها، وعندما يفهم المؤمن أوامر الشرع ضماناً لسلامته فيفهم المصلحة الحقيقية، يعني إذا إنسان يسير بمركبته ومركبته عالية، ويعلم أن مركبته ارتفاعها ستة أمتار، والجسر جسر المشاة أمامه كُتب عليه، 5.5 يعني هذا خمسة أمتار ونصف أعلى شيء، فإذا كانت مركبتك ستة أمتار سترتطم بالجسر، فإذا توهم أن مصلحته أن يمر حتى لا يطيل الطريق على نفسه، فنظر يمنة ويسرة، فقال لا يوجد شرطة مرور إذاً أستطيع أن أمر ولا أحد يحاسبني، فمر فؤُذيت مركبته أو انقلبت وأصابه ما أصابه، فما الذي حصل؟ توهم مصلحته أو توهم أن واضع هذه اللوحة يريد أن يحد حريته، فغاب الرقيب فخالف فوقع في شر عمله، يأتي السائق العاقل يقول لك سواء الشرطي موجود أو غير موجود سأخرج فوراً من المسرب اليمين لأن القانون سيعاقبني بنفسه من غير شرطي، الجسر سيعاقبني.

أوامر الدين ضمان للسلامة لا حداً للحرية:
كذلك ينبغي أن تُفهم أوامر الدين؛ أنها ضمان للسلامة لا حداً للحرية، فعندما يخطئ الإنسان سيعاقبه خطؤه، عندما يطلق بصره في الحرام سيُحرم من الحلال، عندما يأكل الربا سيُحرم بركة المال في الدنيا، ثم سيعلن الله تعالى عليه حرباً، عندما يخوض في الأعراض سيخاض في عرضه ثم سيستحق عقوبة الله....إلخ.

العبادات معللة بمصالح الخلق:
فعندما نقول العبادات في الشرع معللة بمصالح الخلق نعني بأن كل عبادة لها مصلحة حقيقية، وليست مصلحة متوهمة، أما المصالح المتوهمة كل إنسان يتوهم مصلحته في شيء،
• فلما شرع الله الصلاة شرعها للمصلحة، وللحكمة، فقال:

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
(سورة العنكبوت)

• ولما شرع الزكاة شرعها للمصلحة فقال:

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
(سورة التوبة)

• ولما شرع الصيام شرعه للمصلحة فقال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)
(سورة البقرة)

ولما شرع الحج شرعه للمصلحة، قال تعالى:

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
(سورة المائدة)

فإذا ذهبت إلى الحج، أو إلى العمرة، ورجعت وقد علمت أن الله تعالى يعلم استقمت على أمره فاستحقيت الجنة، فكان حجك مصلحة لك في علمك بأن الله تعالى يعلم، فكل العبادات معللة بمصالح الخلق، والحج من هذه العبادات، له مصلحة عظيمة للخلق إن أتى به العبد وفق ما شرع الله.

الحج شعيرة عالمية إعلامية:
الحج شعيرة عالمية إعلامية
العبادات ليس لها سور خاصة باسمها، مع أن الصلاة هي عماد الدين، لكن ليس في القرآن سورة الصلاة، والصيام ذُكر فرضيته في سورة البقرة، لكنها سورة البقرة وليست سورة الصيام، والزكاة ذُكرت في آيات كثيرة، وذُكر الإنفاق، لكن لم تُفرد سورة، والحج لأنه شعيرة عالمية، إعلامية فيها جانب الإعلام:

وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
(سورة الحج)

فالأذان هو الإعلام، فلأنه إعلام وإيصال للناس، وللبشرية كافة، وكما نرى اليوم كل الناس على اختلاف مِلَلهم ونِحَلهم في هذا الموسم يعلمون بطريقة أو بأخرى أن المسلمين الآن في موسم الحج؛ لأن الله تعالى أراد لهذه العبادة أن تكون عبادة عالمية، فلذلك جعل لها سورة خاصة، ثم جاء الخطاب فيها بكلمة الناس، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾.

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
(سورة البقرة)

يخاطب المؤمنين، إلا أنه جل جلاله قال: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ إعلام للبشرية سواء من سيحج أو من لن يحج، وافتتح سورة الحج بقوله:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
(سورة الحج)

خطاب عالمي أيضاً.

وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(3)
(سورة التوبة)

فسورة الحج فيها هذا الخطاب العالمي الأُممي، وحجة الوداع فيها ذاك الخطاب العالمي الأممي:

{ فإنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ وأَعْرَاضَكُمْ علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا... }

(صحيح البخاري)

إلى آخر خطبة حجة الوداع التي يمكن أن نفرد لها حديثاً خاصاً في لقاء آخر إن شاء الله.

الحج عبادة بدنية مالية:
الحج أحبابنا الكرام عبادة بدنية، مالية، مشتركة،
الصلاة عبادة بدنية قولية لسانية، أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير، مختممة بالتسليم
الزكاة عبادة مالية
الزكاة عبادة مالية، ليس فيها جهد، فالإنسان ممكن اليوم أن يحول على الجوال زكاة ماله إلى جهة تثق بها وانتهى الأمر، فهي عبادة مالية الإنفاق، فالمال محبب وأمرت أن تنفقه فترقى إلى الله تعالى بإنفاقه.
والصيام عبادة بدنية، لا يوجد فيها إنفاق مال إلا صدقة الفطر في نهايته، ولكن صيام وقيام، فهي عبادة الجسد في النهار بمنعه عن الطعام، وجسد في الليل بحثه على القيام.
الحج جمع العبادة البدنية والمالية، ففيه جهد بدني؛ طواف وسعي وتلبية باللسان، وفيه دفع أموال؛ نفقة الحج ونفقة الأهل في غياب الحاج، ونفقة تكاليف السفر، وتكاليف إصدار الموافقات إلى غير ذلك، فجعله الله عبادة ينفق فيها المسلم ماله، وينفق فيها جسمه معاً في طاعة الله عز وجل، فخصه بهذه المزية.

السعادة فقط بالقرب من الله:
ثم إن مما يلفت النظر في الحج أن الله تعالى جعله في وادٍ غير ذي زرع، فالله تعالى واجب الوجود، وما سواه ممكن الوجود، ومعنى أنه واجب الوجود؛ أن وجوده قائم بذاته جل جلاله فلا يحتاج إلى شيء في شيء، أما نحن فممكنو الوجود، ما معنى ممكن الوجود؟ يعني كان يمكن أن نوجَد أو لا نوجَد

هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا(1)
(سورة الإنسان)

نعم، كلنا لم نكن شيئاً مذكوراً، فهذا ممكن أن نوجَد أو لا نوجَد، وهو ممكن الوجود بمعنى أنه إن وُجد فيمكن أن يوجد على الحال التي هو عليها، أو على حال غير الحال التي هو عليها.
فإنسان خُلق طويلاً، هل كان من الممكن أن يكون أقصر من ذلك؟ ممكن، خُلق أبيض البشرة، هل كان من الممكن أن يكون أسمر البشرة؟ طبعاً ممكن، فكل إنسان ممكن الوجود، كل المخلوقات ممكنة الوجود، لماذا قلت المقدمة؟ لأقول بعدها: كان من الممكن إذاً أن يجعل الله تعالى الحج في مكان آخر؛ السويد، غابات سويسرا، مكان جميل جداً، متسع جداً، الجو معتدل في جميع أشهر العام، الناس تتمتع بالخضرة، وبالماء العذب، وأيضاً يطوفون حول الكعبة ويسعون، كان من الممكن.
لكن الله تعالى أراد أن يكون في واد غير ذي زرع: لئلا يختلط السيّاح بالعبّاد.
أراد الله أن يكون الحج بواد غير ذي زرع
وأراد أن يكون بواد غير ذي زرع حتى إذا ذهب الإنسان إلى تلك الديار، وشعر بالسعادة، وملأ قلبه السكينة وشعر بالأمن، وشعر بالحفظ، وشعر بأنوار وتجليات الله تهبط على قلبه، حتى إذا شعر بذلك كله يعلم أن هذه السعادة لم تنبع من أشياء خارجية، لا يوجد شيء يَسُر، حتى أحياناً معاملة الناس هناك واختلاف بيئاتهم، وطريقة تعاملهم حتى هذه ليس فيها سرور، يعني أراد الله ألا يكون في هذا المكان سعادة تنبع من الخارج وتأتيك، فإذا شعرت بالسعادة علمت أنه لا مصدر لها إلا داخلك؛ ليوصل إليك ربنا جل جلاله رسالة مفادها أنني أسعدك في أي ظرف، وفي أي مكان إذا كنت معي، وأنني قادر أن أشقيك –حاشاكم الشقاء إن شاء الله- في أي ظرف وفي أي مكان كنت إذا كنت بعيداً عني، فهذه البلاد التي كان يمكن أن يكون الحج فيها وفيها ما فيها من الخضار والماء وغير ذلك بعضها من أعلى الدول في العالم بنسب للانتحار، إذاً لم تأتِ السعادة من الخارج، السعادة تنبع من الداخل، فأراد الله تعالى أن يرسل إلينا رسالة مفادها أن ما يأتيك من السعادة هو ما ينبع من داخلك حقاً، ولو كنت في أصعب الظروف، ومن هنا كان ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: "ماذا يفعل أعدائي بي؟ بستاني في صدري، إن أبعدوني فبعدي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقلتي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي؟"
إذاً السعادة سعادة القلب، سعادة الداخل، وليست سعادة الخارج، ليست مما يأتينا وإنما مما ينبع من داخلنا، فمهما حُجب عن الإنسان من مسببات ما يسمى السعادة، لأن المسببات هذه لا تشكل سعادة بالمعنى الحقيقي، وإنما تشكل لذائذ، لذات، فيستمتع الإنسان بطعام طيب، يستمتع بامرأة تروق له، يستمتع بمنصب في عدة سنوات يكون فيه الآمر الناهي، يستلذ به، لكن لا يحقق الرضا والسعادة والسكينة في النفس التي تحققها الصلة بالله تعالى، فأراد الله تعالى في الحج أن يكون ذلك النموذج الذي يُعلِمنا بهذه الحقيقة.

الحج موسم متكامل للحاج وغير الحاج:
ثم أيها الإخوة الأحباب؛ لأن الله تعالى يحب عباده جميعاً، ولأن الله تعالى لخلقه جميعاً فأراد جل جلاله أن تكون مناسبة الحج وموسم الحج ليس لفئة دون فئة، فمن رزقه الله حج البيت هؤلاء سفراء أوطانهم، لكن الذين بقوا في ديارهم لم يحرمهم الله تعالى من هذا الموسم، ولم يتركهم بلا شيء يفعلونه، فجعل الله تعالى الحج موسماً متكاملاً لمن ذهب، ولمن بقي، ففي يوم عرفة يفطر الحاج، ويعصي إن صام، ويصوم غير الحاج، ويتلذذ بترك طعامه، فيُسعد الله من في الحج بطعامه، ويسعد من في بلده بصومه، هذا في عبادة وذاك في عبادة، وفي أيام مِنى أيام أكل وشرب للحاج ولغير الحاج، ولكن المسلم في بلده في عيد، يتناغم مع الحاج وقد بدأ طواف الإفاضة، وبدأ بالرمي وكذا، فهو في عيده يصلي صلاة العيد، ويلتقي بأحبابه، ويتواصل معهم ويصل أرحامه، فتكون العبادة لمن في بلده، ولمن هو في حجه بشكل متكامل بينهما. هذا من رحمات الله تعالى.

الناس سواسية في الحج:
الحج عبادة يتجلى فيها مظهر المساواة
وجعل الأضحية لهذا الذي بقي في بلده، وكأن هذا الحاج قد ضحى بماله وضحّى بوقته، وضحّى بمكانته، يعني جعل الله الحج بلباس موحد، لا يوجد شخص أمير وآخر خفير، الجميع سيلبس المناشف البيضاء التي هي أشبه ما يكون بالكفن، إن كنت في أعلى منصب، أو في أدنى منصب، كله بلون واحد لا يوجد مخيط، ولا يوجد محيط، فأراد الله تعالى أن تكون هذه العبادة فيها مظهر المساواة بين الخلق بحيث يكون الجميع سواسية، وهذا ما جاء في حجة الوداع، والناس كأسنان المشط، كلكم لآدم وآدم من تراب.
فربنا جل جلاله لما جعل الحاج يضحي بهذه الأمور كلها من أجل أن يذهب إلى الله تعالى أيضاً قال للمسلم في بلده ضحِّ بأضحيتك:

لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ(37)
(سورة الحج)

فجعل له أضحية في بلده تشبه ما ضحّى به الحاج عندما ترك الأهل والخلان والأوطان وترك البلاد، فبهذا الأمر يتكامل العالم الإسلامي، بحيث يجد كل إنسان فرصته فيما شرعه الله له تعالى من عبادة، وقد يرقى مسلم في بلده بعبادته في تلك الأيام العشر ما لا يرقاه حاج قد ترك أهله ووطنه ولكنه لم يصل إلى إخلاص من بقي في بلده، فجعل سر العبادة في إخلاصها، وأبواب الخير مُفتّحة، والشيء بالشيء يذكر: لذلك قالوا لا يُعبد الله تعالى إلا بما شرّع الله.

الخيرة فيما اختاره الله:
الخيرة فيما اختاره الله
أحياناً الإنسان تستهويه عبادة معينة، تستهويه، يحبها، يريدها، وقد يحجبها الله تعالى عنه، لا يوجد هناك موافقة، لا يوجد ملاءة مالية هذا العام للحج، لا يوجد موافقة سلطان، وهو من الاستطاعة، وهناك أناس فأنا أعرف شخصاً لصيق المعرفة وهو فقير لا يملك من الدنيا شيئاً، لا يفكر بالحج أبداً، قام بمشروع بسيط فعلمت بهذا المشروع رابطة العالم الإسلامي، فبعثوا له فيزا للحج، فطار عقله كما يقال، يريد أن يذهب إلى الحج، وأتى بالجواز وهو عائد من شدة لهفته نسي الحقيبة وفيها الجواز بسيارة الأجرة، وبدأ يبحث عنها عشرة أيام من 1 ذي الحجة إلى 10، أول أيام العيد اتصل به السائق وقال له جوازك معي بالسيارة بعد أن ذهب يوم عرفة وذهب الحج، فالحج دعوة من الله عز وجل، فقد يحجب الله تعالى أحياناً عن الإنسان عبادة يحبها فيفتح له باباً من مكان آخر، هو قد لا يراه هذا الشيء العظيم، لكن قد يكون فيه من الثواب والأجر ما لا يحصّله في العبادة الأولى التي اختارها، فالخيرة فيما اختاره الله، لذلك قالوا: نعبد الله تعالى كما شرع الله تعالى لا كما نحب.

فضل أيام العشر من ذي الحجة:
فلما أبقانا في أوطاننا شرع لنا عبادات، ما تركنا بغير عبادات، وقد نصل بها إلى أعلى الدرجات، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم:

{ ما مِن أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللَّهِ من هذِهِ الأيَّامِ قالوا : يا رسولَ اللَّهِ ، ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ : ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ ، إلَّا رجلٌ خرجَ بنفسِهِ ومالِهِ ، فلم يَرجِعْ بشيءٍ مِن ذلِكَ. }

(صحيح الترمذي)

وهذه "من" لاستغراق أفراد النوع، تستغرق 354 يوماً في السنة الهجرية.
أيام عشر ذي الحجة أفضل أيام السنة
(ما مِن أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللَّهِ من هذِهِ الأيَّامِ (يعني أيام العشر) قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ، إلَّا رجلٌ خرجَ بنفسِهِ ومالِهِ، فلم يَرجِعْ بشيءٍ مِن ذلِكَ). فجعل الله تعالى هذه الأيام أيام العشر أفضل أيام السنة، حتى قال أهل العلم: "عشر رمضان الأخيرة لياليها هي أفضل الليالي، أما الأيام فهذه أفضل من أيام رمضان، عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر في رمضان"، لكن ليالي العشر في رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة، فهذه الأيام على الإطلاق.
(ما مِن أيَّامٍ) حتى أيام رمضان، هذه الأيام موسم عظيم من مواسم الطاعات، ويُشرع فيها أن يكثر الإنسان من العبادات، فكلها أعمال صالحة، وجعل فيها الإطلاق.
(ما مِن أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ) فالصلاة عمل صالح، والصيام عمل صالح، والصدقة عمل صالح، ومساعدة الناس عمل صالح، ونية الأضحية عمل صالح، وكل ما يجري في هذه الأيام مما يرضي الله تعالى فهو عمل صالح، وتربية الأولاد عمل صالح، ورعاية الزوجة عمل صالح، كل عمل يصلح للعرض على الله، ويسرك يوم القيامة أن تراه بين يديك فهو عمل صالح، بالمعنى العام للعمل الصالح، فجعل الله تعالى في هذه الأيام الأعمال الصالحة في أعلى مستوى.
(ما مِن أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللَّهِ من هذِهِ الأيَّامِ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ)، فهذه الأيام يُشفع فيها الصيام، هي عشر أيام، العاشر هو يوم النحر، وهذا يحرم صيامه، والتاسع هو يوم عرفة، وهذا صيامه سنة مؤكدة يكفر السنة الماضية والباقية، يكفر سنتين، ومن 1 إلى 8 يُشفع الصيام استحباباً من ضمن الأعمال الصالحة الكثيرة التي يمكن أن يقوم بها الإنسان، فممكن أن يصوم كلها، وممكن أن يصوم بعضها ويفطر بعضها فالأمر فيه سعة، ولكن يتأكد صيام التاسع، ويحرم صيام العاشر.

الاستعداد لأيام العشر من ذي الحجة:
هو أفضل أيام الدنيا عند الله يوم النحر، اليوم العاشر، آخر أيام العشر من ذي الحجة، هذه الأيام أيها الكرام على الأبواب، وينبغي للمؤمن أن يستعد لها كما يستعد لشهر رمضان، المسلمون ينتبهون إلى شهر رمضان ولله الحمد، يقول لك اقترب رمضان، وهذه الأيام اقتربت وهي خير الأيام عند الله، فينبغي للمؤمن أن يستعد لها بالتوبة، بالعمل الصالح، بالإنابة، بوضع برنامج، أن يضع الإنسان برنامجاً لنفسه أنه في هذا العشر عندي برنامج صدقة، عندي صلة أرحام، عندي صيام، عندي قيام ليل، عندي تفقد وخدمة للناس، أخدم بعض الناس، عندي صلاة الجماعة في المسجد، صلاة الفجر، يعني ما يستطيعه من هذه الطاعات، فأيام العشر كلها أيام بركة، وأيام خير، وهي من العبادات ...

هذه الأيام موسم عبادة للحجاج وغير الحاج:
العبادة سرها في الإخلاص
أنا أقول جبر الله خاطرنا بهذه الأيام، فالذين لم يُتح لهم لعل إن شاء الله ربنا يتيح لنا الحج، هذا مما يسرنا، لكن إن جبر الله خاطرنا إن بقينا في ديارنا أن لنا عبادة مخصوصة في هذه الأيام، فلسنا خارج النص كما يقال، وإنما لنا نصيب قد نرقى به مثل الحجاج أو أكثر، وكل بحسب إخلاصه، فالعبادة سرها في الإخلاص:

وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ(5)
(سورة البينة)

فليس الأمر فيمن أكثر من العبادة، وإنما الأمر فيمن أخلص في العبادة، فمع الإخلاص ينفع قليل العمل وكثيره، ومن غير إخلاص لا ينفع قليل العمل ولا كثيره، فأسأل الله تعالى أن يكتب لحجاج بيت الله الحرام السلامة، وأن يجعلنا معهم في الأجر والثواب، وأن يرزقنا في هذه الأيام الصيام والقيام وأن يرزقنا العمل الصالح إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.