الهجرة دروس وعبر

  • محاضرة في الأردن
  • 2023-07-17
  • عمان
  • الأردن

الهجرة دروس وعبر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.


اختيار الهجرة بداية التاريخ الإسلامي:
اختيرت الهجرة لتكون مبدأ للتاريخ الإسلامي
أيها الإخوة الأحباب، هناك موضوعات ومناسبات، والمناسبة الحاضرة في هذا الأسبوع هي مناسبة هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ أن الهجرة قد اختيرت من قبل جمع من الصحابة على رأسهم عمر رضي الله عنه في خلافته لتكون مبدأ للتاريخ الإسلامي، بحيث يؤرخ المسلمون اليوم بالهجرة، فيقال اليوم قد مضى 1444 سنة أو عاماً على هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم، والحقيقة أن هذا كان من فقه المسلمين، ومن فقه عمر رضي الله عنه أنه اختار الهجرة، فقد رُوي أنه لما اجتمع الصحابة الكرام جعل كلٌّ منهم يقترح اقتراحاً للتاريخ الإسلامي، ففي تاريخنا مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، في تاريخنا مولده صلى الله عليه وسلم، في تاريخنا ذكرى الإسراء والمعراج، وغير ذلك من المناسبات التي يمكن أن يُؤرَّخ بها.

أسباب اختيار سيدنا عمر رضي الله عنه الهجرة بداية للتاريخ الإسلامي:
أولاً- الهجرة هي بداية بناء الأمة الإسلامية:
لكن عمر رضي الله عنه اختار الهجرة ووافقه الصحابة على ذلك، لماذا؟ لأن الهجرة كانت في الحقيقة هي بداية بناء الأمة المسلمة، المسلمون في مكة كانوا يُسامون سوء العذاب، وكان المشركون يتفننون في إيذائهم، وفي ذلك الوقت كان القرآن الكريم يخاطبهم:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا(77)
(سورة النساء)


في مكة مرحلة الاستضعاف:
يمر النبي صلى الله عليه وسلم ببلال الحبشي وهو يقول: "أحدٌ أحدٌ"، ويمر بعمار بن ياسر فيقول: "صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة"، المسلمون كانوا في مرحلة استضعاف شديدة جداً بحيث لا يقوى أحدهم على رفع الظلم عن أخيه، انتقلت الأمة بالهجرة من هذه المرحلة مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة بداية التمكين والاستخلاف، من الاستضعاف إلى الاستخلاف.
وبعد الهجرة بثلاث سنوات:

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39)
(سورة الحج)


في المدينة مرحلة الاستخلاف:
بدأت المرحلة المختلفة، وهي مرحلة الجهاد، جهاد الطلب وليس جهاد المدافعة فقط، يعني نشر الخير والحق والعدل في الإنسانية.
تكامل الإيمان والعمل
المسلمون اليوم بحاجة إلى هذا الفقه، فقه ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ وفقه أُذِنَ متى يكون الفقه ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ ومتى يكون الفقه ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ وضع هذا موضع ذاك، أو وضع ذاك موضع هذا أوردَ الأمة مشكلات لاحصر لها؛ لأن الحركة دائماً، فالإنسان حركة وبطبعه يتحرك، وما إن يعتقد بعقيدة وتثبت وترسخ في ذهنه حتى يُفترَض أن يتحرك وفق قناعاته، لذلك في القرآن الكريم: الذين آمنوا وعملوا الصالحات تكررت عشرات المرات، يعني إيمان وعمل، فالإيمان إذا كان مجرد أفكار في الرؤوس في الحقيقة لا يجدي نفعاً، وليس له أثر في حياة الناس، إن كنت تعتقد أن الرياضة مفيدة وأنت لا تمارس الرياضة، فالاعتقاد لم يعد له قيمة عملية، إذا كان الشخص يعتقد أن الدخان قاتل وهو يدخن، القيمة العملية للاعتقاد ليس لها أي قيمة في حال لم تنقلب إلى سلوك، لذلك يقولون: المنطلقات النظرية، والتطبيقات العملية، المنطلقات النظرية: آمنوا، والتطبيقات العملية: وعملوا؛ أي عملوا بمقتضى إيمانهم.
فالإنسان بطبيعته حركي، إذا آمن بالفكرة حقيقة يتحرك لتنفيذها، أو يتحرك للدفاع عنها، يتحرك إما للدفاع عنها، أو يتحرك لتنفيذها، في مرحلة معينة كان الفقه ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ مرحلة الاستضعاف، أي حركة في هذا الوقت وأنت مُستضعف النتائج كارثية أكثر من الواقع الموجود، فالآن غير مطلوب منكم حركات عشوائية تؤدي إلى دمار، فالعدو قوي جداً، والأسلحة بيده وحده، والقوة بيده وحده، وأنت ضعيف، يقول العوام: العين لا تقاوم المخرز، ممكن البعض أن يعتبر هذا الكلام انهزامي، أن يصدر من داعية يقول: نقدر أن نتحرك دائماً، لا، الحركة غير مطلوبة دائماً، هناك مرحلة ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ لثلاثة عشر سنة، ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ أنت الآن غير قادر على فعل شيء، لأن دائماً إقامة الأمة قبل إقامة الحركة والفعل والجهاد، لما استقر الأمر في المدينة وأقيمت دولة الإسلام ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾.

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
(سورة الحج)

فالهجرة كانت هي المرحلة الفاصلة بين ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ وبين ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾ فمكة والمدينة تمثّلان حالة الاستضعاف، وحالة الاستخلاف، فكان من فقه عمر رضي الله عنه أنه قال: نبدأ التاريخ بالهجرة.

ثانياً- الهجرة كانت رحلة وفق القوانين الإلهية:
الإسراء والمعراج معجزة
الأمر الآخر أن الهجرة كانت رحلة وفق القوانين الإلهية، يعني نحن متعبَّدون بها، الهجرة رحلة منهج، الإسراء والمعراج على سبيل المثال رحلة معجزة، نحن اليوم غير مطلوب منا، ولا مُتعبَّدون بالإسراء والمعراج، فغير مطلوب منا أن ننفذ رحلة الإسراء والمعراج، فأساساً نحن غير قادرين على ذلك، فلو كُلِّفنا بها لكان تكليفاً بغير المستطاع، ولما استطعنا تنفيذه والله تعالى:

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (258)
(سورة البقرة)

الإسراء والمعراج معجزة، فنحن غير قادرين فضلاً على أننا غير مكلفين بتنفيذها، الهجرة كان من الممكن أن تكون تشبه الإسراء والمعراج تماماً، وما ذلك على الله بعزيز، فكان من الممكن أن يأتي البراق إلى مكة، ويأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صاحبه ويضعه فوراً في المدينة، وانتهى الأمر، ليست بحاجة إلى 14 يوماً مشياً وركوباً ومكوثاً في غار ثور ثلاثة أيام حتى يخف الطلب، والنزول من الساحل إلى الجنوب حتى يضلل المشركين، ويبعدهم عن التصور أنه خرج إلى المدينة، اتخاذ دليل حتى يدله على الطريق، من يمحو الآثار، ومن ياتي بالطعام "السيدة أسماء" من يخلفه في فراشه "علي بن أبي طالب" قبل ذلك الترتيبات السرية التامة، يا أبا بكر الصحبة، في جوّ سري تام، جاء في وقت لم يكن يأتي به من الباب الخلفي، فكل الترتيبات التي كانت، وحتى قبل ذلك بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية، وسفير الإسلام مصعب بن عمير، الترتيبات كانت كلها وفق منهج، فالهجرة نحن مُتعبَّدون بها، فإذا قلت لإنسان ما الفائدة من الهجرة يذكر عدة بنود، وإذا قلت ما ينبغي أن يكون موقفك من الإسراء والمعراج؟ يقول لي: التصديق، أؤمن بهذه المعجزة، وإذا كذبت بها فهذه مشكلة لأن الله تعالى أخبرني بها، فأنا أومن بأن الإسراء والمعراج حصلت، لكن هل أنا مكلف بهذه الرحلة؟ لا، أما الهجرة نحن مكلفون بها كل يوم، نحن مكلفون بما يشبهها، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم:

{ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه. }

(صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو)

فهناك مردود للهجرة، يقول:

{ لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية. وإذا اسْتُنْفِرْتُم فَانْفِرُوا. }

(متفق عليه)

لا يوجد هجرة بمعنى الانتقال من مكة إلى المدينة، ولكن أي مدينتين تشبهان في واقعهما مكة والمدينة فيمكن أن أهاجر، فممكن إنسان يهاجر بدينه من بلد لا يستطيع أن يعبد الله به إلى بلد يستطيع أن يقيم شرع الله به، ممكن إنسان أن يهاجر في بلد هو مُستضعَف به، ليس استضعاف أن هناك من يمنعه من إقامة الصلاة، ولكن استضعاف شهوات مستعرة إلى درجة لا يستطيع أن يصمد أمامها.

أنواع الاستضعاف:
فالاستضعاف نوعان بالمناسبة:

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(97)
(سورة النساء)

• الاستضعاف ليس فقط أن يكون الإنسان يسوم الآخر العذاب، يقول له لا تصلي، يمنعه من الصلاة، ويمنع المرأة من الحجاب، هذا نوع من أنواع الاستضعاف.
• وهناك استضعاف آخر؛ أن أجد نفسي ضعيفاً في مجتمع فيه موبقات، أسهر سهرة أسبوعية مع شباب، أقول لك: عندما أجلس مع هؤلاء الشباب الخمس أجد نفسي مدفوعاً إلى المعصية، لا أستطيع يا أخي، طبيعة مجلسهم هكذا، يتكلمون على الناس، وبعدها يتكلمون بالعورات، وبعدها يضعون على الشاشة شيئاً لا يرضي الله عز وجل وأنا أجد نفسي معهم يا أخي، فهذا يعني أنك مستضعف، لماذا لم تهاجر إلى مكان لا تكون فيه مستضعفاً؟ تكون فيه قوياً بإخوانك، تقيم شرع الله عز وجل فيه.
فالاستضعاف بهذا المعنى، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) نية عمل صالح، نية إعمار الأرض، نية خير، نية عدل...إلخ من هذه الأمور.

الأمور المهمة التي ظهرت في الهجرة:
فالهجرة لم تكن رحلة فوق الأسباب، رحلة ضمن الأسباب الأرضية، ظهر فيها أمران اثنان مهمان جداً يرافقان المؤمن في كل لحظة من لحظات حياته، وهي من أهم دروس الهجرة،

الأمر الأول- طريقة التعامل مع الأسباب:
الهجرة رحلة ضمن الأسباب الأرضية
الأمر الأول: هو طريقة التعامل مع الأسباب، بحيث إن النبي صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا قبل قليل أخذ بكل الأسباب الممكنة، ولا أبالغ إذا قلت: في عصره لم يكن هناك أي شيء لم يتخذه صلى الله عليه وسلم، فلا ممكن أن نتخيل أن نضيف سبباً جديداً ممكن أن يفعل شيئاً جديداً، بعصرنا هناك وسائل جديدة للأخذ بالأسباب، أما بعصره صلى الله عليه وسلم لا يوجد شيء آخر، حتى باللحظة الأخيرة بدل أن يتجه باتجاه المدينة مشى في عكس الطريق، ومكث في غار ثور، فلا يوجد أخذ أسباب أكثر من هذا.
لكن لماذا لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله ولن يضيعني الله، والأمر كذلك، فيعني مستحيل، سأصل إلى المدينة، وأنا موعود بالوصول إلى المدينة فلا داعي للأسباب، كان النبي صلى الله عليه وسلم هنا يعلمنا، فالهحرة درس، الهجرة تعليم لنا بأن نتخذ الأسباب، فاتخذ الأسباب بأروع ما يكون من اتخاذ للأسباب، لكن الله تعالى شاء أن يصلوا إليه، أيضاً كان من الممكن ألا يصلوا مادام الأسباب اتُخِذت بأعلى مستوى إذاً لا يصلون إليه، انتهى الأمر، فهم مثلاً لا ينزلون ويذهبون بعكس الاتجاه، وهو بغار ثور، ويعودون ويخرج من الغار وانتهى، لا، بعد كل هذه الأسباب أراد الله أن يصلوا إلى الغار الذي هو فيه، وأن يقفوا عليه، وأن يقول أبو بكر:

{ يا رسول الله، لَو أنَّ أحَدَهم نظر تحت قدَمَيه لأَبصَرَنا، فقال: مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكرٍ بِاثنَينِ الله ثَالِثُهُمَا. }

(متفق عليه.)

وفي رواية: لقد رأونا يا رسول الله، رأونا وانتهى الأمر.
هنا ظهر صدق توكله على الله، ليعلمنا الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان معتمداً على الأسباب أبداً، كان يتخذها تعبُّداً، لكنه لا يعتمد عليها؛ لأن الاعتماد عليها شرك، من يعتمد على الأسباب يشرك بالله تعالى، الطالب الذي يقول أنا أنجح اليوم بالتأكيد لأنني درست، قد ينجح لكن هذا شرك، ممكن أن ينجح، ربنا عز وجل جعل الحياة مرتبطة الأسباب بالنتائج، حتى لا نخلط بين الأمور، أحياناً يأتيني طالب في التوجيهي وفق الله جميع الطلاب، ويأتي طالب شهادة ثانوية يقول لك: والله أنا دائماً بالمسجد وأصلي الفجر وما توفقت، وصديقي لا يصلي، وتوفق بالامتحان، لماذا؟ لأن ربنا عز وجل ربط الحياة أسباب بنتائج، فصديقك درس جيداً وهو متفوق وبذل جهوداً فأخذ النتيجة، وربنا عز وجل أحياناً يؤدب، فإذا شخص له كرامة عند ربنا عز وجل ومطلوب لرحمة الله يؤدبه، يقول له رغم أنك أخذت بكل الأسباب ترسب في النهاية، يقول لا أعرف ما الذي حصل معي في الامتحان، هذا تأديب من الله، فهذا الإنسان ضمن العناية المشددة، لكن بالعموم ربنا عز وجل قال:

كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا(20)
(سورة الإسراء)

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ(145)
(سورة آل عمران)


الأمر الثاني- الاتكال المطلق على رب العالمين:
الأسباب مرتبطة بالنتائج
فربنا عز وجل جعل الأسباب مرتبطة بالنتائج لتعمر الحياة، وإلا لو الأسباب غير مرتبطة بالنتائج إذاً ممكن أن يتحقق السبب ولا تأتي النتيجة بحالات كثيرة فتفقد الناس الثقة بنفسها، فيقول لك الذي يدرس كالذي لا يدرس، لا نعرف من سينجح، الذي يذهب إلى الطبيب كالذي لا يذهب، لا، ربنا عز وجل رتب الأمور، فهناك سبب ونتيجة ولكن إياك أن تتوهم أن السبب هو الذي يخلق النتيجة، الذي يخلق النتيجة عند وجود السبب هو الله، فالنبي صلى الله عليه وسلم في لحظة كل هذه الأسباب، لو أن المشركين لم يصلوا إليه لما استطعنا أن نعرف توكله، فهو متوكل حتماً، لكن نحن المسلمين كيف ندرك أنه كان متوكلاً لو لم يصلوا إليه؟ كان من الممكن أن يقول لك أحدهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات كانت أموره كلها بخير، لا، أراد أن يصلوا إليه حتى يظهر لنا توكله المطلق؛ وهم يقفون أمام الغار، والإسلام كله مهدد نكون أو لا نكون خلال جزء من الثانية وهو يقول:

إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

(مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكرٍ بِاثنَينِ الله ثَالِثُهُمَا) ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾.
فالهجرة رحلة أسباب، رحلة توكل على رب الأرباب، جمعت هذين الأمرين اللذين هما متكاملَين تماماً، لابد من هذه ولابد من هذه، ولا يتم إيمان المرء بأخذه بالأسباب دون توكله على الله، ولا يتم إيمانه بادّعائه التوكل وهو لم يتخذ الأسباب، وأقول بادعائه؛ لأن الذي لم يأخذ بالأسباب هو حقيقة غير متوكل على الله، لأن الله هو الذي أمره أن يأخذ بالأسباب، فهو يعصي الله ويقول: أنا متوكل على الله، كيف؟ أنت غير متوكل لأنك عاصٍ لله في تركك الأسباب.
فالهجرة النبوية بهذا المعنى كانت درساً عظيماً إلى يوم القيامة، الآن النبي صلى الله عليه وسلم أراد الله أن يصل إلى المدينة، وأراد الله تعالى أن يقيم هذه الدولة الإسلامية التي لا نزال ننعم بخيراتها إلى يومنا هذا، ونعيش في ظلالها، معتزّين بانتمائنا لهذه الأمة التي بناها النبي صلى الله عليه وسلم.

الأمور التي قام بها النبي عليه الصلاة والسلام عندما وصل إلى المدينة:
ما الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، أول ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور كانت هي عماد المجتمع المسلم الجديد.
1. الأمر الأول: هو بناء المسجد، أول شيء فعله النبي صلى الله عليه وسلم أنه بنى المسجد.
2. الأمر الثاني: أنه آخى بين المهاجرين والأنصار.
3. الأمر الثالث: أنه وضع الدستور، الوثيقة التي تنظم حياة الناس في المدينة.

أولاً- بناء المسجد:
حُسن الصلة بالله عز وجل
النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا بذلك أن أول ما تفعله لبناء أي مجتمع صغير أو كبير، أول شيء حُسن الصلة بالله عز وجل، المسجد يمثل حُسن الصلة بالله تعالى، طبعاً المسجد في صدر الإسلام لم يكن للصلاة فقط، كان يجتمع فيه المسلمون للتشاور، وتُعقد فيه الألوية، تُعلن فيه الحرب، يعلن فيه السِّلْم، يجتمع فيه الناس، مكان مقدس لكن قدسيته لا تمنع كما يظن البعض اليوم أن قدسية المسجد تمنع أن يكون فيه شيء غير الصلاة، لا، المسجد مكان مادام ضمن المنهج فممكن أن يكون فيه أشياء كثيرة ومهمة جداً بعد قيمة الصلاة العظيمة، لكن الهدف الرئيسي من المسجد هو حسن الصلة بالله تعالى، فأول ما ينبغي لبناء المجتمع أن تكون صلته بالله تعالى قوية.

ثانياً- المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
المؤاخاة نظام تكافلي
بعد ذلك أن تكون الصلات بين الموجودين في المجتمع المسلم متماسكة، هذه هي المؤاخاة، المؤاخاة نظام تكافلي، يعني حُسن علاقة بالله في المسجد، حسن علاقة مع الناس هو التآخي، والحقيقة أن المؤاخاة التي تمت في المدينة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها يُضرب بها أروع الأمثلة في المؤاخاة، فنقرأ عن المهاجرين والأنصار أشياء يكاد العقل لا يصدقها، يعني كيف استطاعت النفوس أن ترقى هذا الرقي وتستعلي على الدنيا بهذا الاستعلاء في وقت قصير، طبعاً لاشك أن وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، وقدسية رسول الله صلى الله عليه وسلم وبركة رسول الله كان لها أثر كبير، لكن أيضاً التوجيه الإسلامي الذي تشبّع بالنفوس مباشرة، وجعل الشخص ينطلق فيقول له هذا عندي بستانان خذ أحدهما، عندي أموال فقاسمني نصفاً لك ونصفاً لي، انظر أحبهما إليك، أي خذ أنت الأفضل وأنا آخذ الثاني، هذا الأمر يدل على أن المجتمع كان متكافلاً جداً، فبدأ بالتكافل، هذه نظرة الأنصاري الذي ينصر أخاه القادم من الهجرة، بالمقابل النظرة الثانية من الطرف الآخر، كان هناك موقف آخر من المهاجرين يقول له: بارك الله لك في أهلك ومالك ولكن دلني على السوق، أنا جئت إلى هذه البلاد أريد أن أكون بذرة، أريد أن أثمر، أريد أن أفعل شيئاً، لم آتي لأكون عالة على أحد، فدائماً الموقف التكافلي من الطرفين؛ طرف يقدم والآخر يستعفف ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، بهذه الطريقة وتلك المؤاخاة يُبنى المجتمع.

ثالثاً- كتابة الوثيقة:
الوثيقة تنظم الحقوق والواجبات
الأمر الثالث وثيقة المدينة، إذا كان هناك حسن صلة بالله تعالى، وهناك حسن صلة بين الناس، فلسنا بحاجة للقانون؟ لا، نحن بحاجة للقانون، نحن بحاجة لوضع البنود، حتى في البيت، حتى في الأسرة، في العائلة يجب أن يكون هناك قانون أي هناك حقوق وواجبات، فوثيقة المدينة هي تلك الوثيقة التي قربت الحقوق والواجبات، والحقيقة التي لا ينتبه لها الكثيرون أن وثيقة المدينة لم تُكتب من قِبَل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، ثم قال للجميع تعالوا وامضوا عليها، وثيقة المدينة وُضعت بإقرار جميع الأطراف عليها حتى اليهود، الرسول صلى الله عليه وسلم من اللحظة الأولى أدرك أنه في مجتمع متعدد الأطياف، فلا بد من وضع وثيقة تنظم الحقوق والواجبات، ماذا لليهود وماذا عليهم، ماذا للأنصار وماذا للمهاجرين، ماذا للوثنيين وماذا عليهم، اليوم يتكلمون عن دولة المواطنة، وثيقة المدينة هي أول دستور في المواطنة في العالم بهذه القوة، يُدرَّس، "حربهم واحدة وسِلْمهم واحدة، أهل يثرب أمة واحدة، للمسلمين حقوقهم ولغيرهم حقوقهم"، وبالمقابل أيضاً كانت بالتشاور مع الآخرين وُضع الرئيس الأعلى للدولة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث هو يفصل بين الخصومات، وهم قد رضوا به حكماً عدلاً، جميع الموجودين، ولكن أيضاً في المقابل ليس كما تُصوَّر وثيقة المدينة بمعنى أنها دولة مواطنة بمعنى أنه لم يكن فيها قانون صارم وقوة للمسلمين، لا، أبداً، القوة لشريعة الله عز وجل، لكن لا يُلزَم بها أحدٌ قسراً غير مسلم، فهؤلاء المُنْضَوون تحت الدولة المسلمة لهم حقوقهم، وعليهم واجباتهم، ولهم عبادتهم، ولهم حرياتهم فيما هم فيه، لكن الصِّبغة العامة هي صِبغة الإسلام الذي ينبغي أن يسود في الأمة الجديدة.
فهذه الأمور الثلاثة متكاملة تشير إلى حقيقة مهمة جداً وهي أننا في أي مجتمع بحاجة إلى بناء صلة حقيقية بالله تعالى، دور المسجد أولاً، بناء تكافل اجتماعي وتآخي، فلا يصح أن يكون إنسان جائع والآخر شبعان، أمة يكون فيها شبعى متخومون وجياع طاوون على بطونهم لا يجدون ما يأكلون هذه أمة لا يمكن أن تنتصر أصلاً، فهي مهزومة من الداخل، عندها مشكلة داخلية، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ ابغُونِي الضُعَفَاء؛ فَإِنَّما تُنصَرُون وتُرزَقُون بِضُعَفَائِكُم. }

(النسائي والترمذي وأبو داوود وأحمد)

المجتمع يقوى عندما يعتني بضعفائه
فأنا اليوم إذا صار معي مشكلة في الرزق، أذهب وأبحث عن شخص فقير عنده مشكلة وأطعمه يرزقني الله بحسنته، أو إذا شعرت بالضعف لأن أحدهم يقهرني اذهب وابحث عن الضعفاء وقوّهم يقويك الله، بالعرف الديني أو بالنظرة الدينية الموضوع من عند الله، لكن حتى بالعرف الاجتماعي الاقتصادي عندما تعتني الأمة بضعفائها تقوى بشكل طبيعي، المجتمع يقوى عندما يعتني بضعفائه لأن الجبهة الداخلية متماسمة، اختراقها صعب، أما عندما يكون الضعيف لا يجد ما يأكل، والآخر مُتخَم، فالأمة أصبحت مفككة، يقول لك عن من سأدافع؟ لماذا أقف وأدافع؟ عمن تريدون أن أدافع؟ عن الأغنياء تقول له عن الضعيف والفقير وتشد همته وتذكره بالوطن وحماية الوطن وحماية المقدسات وهو جائع، يقول لك دع المسؤول يقاتل والذي يملك مالاً فليقاتل لا أنا، فإذا لم يعتنِ المجتمع بالضعفاء سيضعف بشكل طبيعي.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أقام المسجد أولاً، والتكافل الاجتماعي ثانياً، والدستور الذي هو القانون الذي ينظم حياة الناس ثالثاً، دستور عصري، دستور المدينة دستور عصري وافتتاحيته افتتاحية خالدة؛ "أهل يثرب أمة واحدة" هذه المواطنة، نحن كلنا أمة واحدة، ما قال المسلمون في يثرب أمة واحدة، لا، أهل يثرب، فيهم الوثنيون وفيهم اليهود وفيهم أهل الكتاب وفيهم وفيهم، بالمقابل عندما خانوا العهد ونقضوا الوثيقة ونقضوا غيرها أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه ليست وثيقة ضعف، هذه وثيقة لمن يؤمن حقيقة بأهميتها، أما الخيانة مرفوضة رفضاً قاطعاً، بعض الناس يستغلون وثيقة المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع الكل، طبعاً مع الجميع عندما يلتزمون بمبادئ الأمة، لكن عندما يكون هناك خيانة ونقض للعهود ونكث للمواثيق كان أول من قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحزم موجود، والوثيقة موجودة، فمن يلتزم بها على العين والرأس ومن لا يلتزم لابد من إقامة العدل بين الناس.
بهذه الطريقة يمكن أن نفهم أن الهجرة فعلاً كانت حدثاً تاريخياً مهماً جداً غيّر مجرى التاريخ الإسلامي بل التاريخ البشري، وأوجد للأمة الإسلامية كِياناً لايزال موجوداً حتى اليوم على كل ضعفنا في المئة سنة الأخيرة للأسف الشديد، لكن ما نزال قائمين وموجودين، ونستذكر هذه الهجرة ونؤرخ بها لأنها فعلاً كانت الحدث الأبرز في تاريخ الدعوة الإسلامية، وكل عام وأنتم بخير.
والحمد لله رب العالمين.