أهمية الاخلاق والقيم الإجتماعية للنهوض بالمجتمع

  • محاضرة في الأردن
  • 2023-07-29
  • عمان
  • الأردن

أهمية الاخلاق والقيم الإجتماعية للنهوض بالمجتمع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: فأشكر مدرسة كراون الأكاديمية لهذه الدعوة الطيبة التي إن دلت على شيء فعلى حسن ظنهم بي، وأسأل الله أن أكون عند حُسن ظنهم.


الدين هو الخُلق:
الدين المعاملة
أيتها الأخوات الكريمات، أيها الإخوة الأكارم، لما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته كان أبو ذر رضي الله عنه لايزال في قريته، فأرسل أخاه وقال له: اذهب إلى ذاك الوادي فإن هناك رجلاً يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، فانظر في حاله واسمع من قوله وعد إلي وأخبرني، الآن أخو أبي ذر رضي الله عنهما في مهمة وتكليف رسمي من أخيه لينظر في حال هذا الرجل ويعود إليه بما رآه، عاد أخو أبي ذر إلى أبي ذر رضي الله عنه، فقال له أربع كلمات لخّص بها ما رآه في هذه الرحلة، قال: "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق"، الحقيقة يلفتني جداً هذا التعريف، يعني غاب عنه أياماً، نظر في دعوة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، عاش معه، عاش مع أصحابه، دخل المسجد، خرج إلى الناس...إلخ، ليعود بأربع كلمات: "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق"، من هنا فقد كان الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله يقول: "الدين هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين" ومن هنا نقول دائماً وإن لم يكن حديثاً ولكن معناه صحيح: الدين المعاملة؛ لأن الناس لا تنظر إلى صلاة الرجل ولا إلى عبادته، ولكنها تنظر إلى أخلاقه.

العبادات في الأصل شُرِّعت لتحقيق الأخلاق:
وهنا لا أهوّن من شأن العبادات، وليس هذا من شأني، فالعبادات قد بني الإسلام عليها، ولكن في الأصل العبادات وُجِدت من أجل تحقيق الأخلاق، والدليل:

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ(45)
(سورة العنكبوت)

فالصلاة في الأصل مقصدها أن تنهى الإنسان عن الفحشاء في قوله، وعن المنكر في فعله، فالمصلي لا يكون كلامه فاحشاً، ولا يكون فعله منكراً، والصيام:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)
(سورة البقرة)

العبادات في الأصل شُرِعت لتحقيق الأخلاق
والتقوى تعني أن يتقي الإنسان ربه وعذاب ربه، فبالتالي يتأدب في تعامله مع خلق الله تعالى، فالعبادات في الأصل مشروعة لتهذيب الأخلاق، الصيام يهذّب الأخلاق، يُشعِر الإنسان بالآخرين، والمعدة إذا فرغت من طعامها وشرابها فإن الروح ترقى، وإن النفس تزيد في قوتها وبالتالي فأنت تتعامل بأخلاقك مع الآخرين.
إذاً: العبادات في الأصل شُرِعت لتحقيق الأخلاق، وهذا جعفر بن أبي طالب يوم ذهب مهاجراً إلى الحبشة مع مجموعة من الصحب الكرام رضوان ربي عليهم جميعاً، فسأله النجاشي وقال له: حدثني عن الإسلام، فماذا قال جعفر بن أبي طالب؟

{ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ. }

(رواه أحمد )

ما معنى ذلك؟ نعرف صدقه: يعني إن حدثك فهو صادق، وأمانته: إن عاملك فهو أمين، وعفافه: إن استثيرت شهوته فهو عفيف يعفّ عن المحارم، هذه أمهات الأخلاق يحددها جعفر رضي الله عنه، أمهات الأخلاق، صدق وأمانة وعفة، فمن استجمع الصدق والأمانة والعفة فقد أخذ برؤوس الأخلاق؛ إذا تكلم فهو صادق، إذا تعامل بالدرهم والدينار فهو أمين، لا يأكل قرشاً من حرام، إذا كان في موطن فيه شهوات تُثار فهو عفيف يعف عن المحارم فلا يأتي ما حرمه الله تعالى مما يشينه في الدنيا، ومما يوقعه بالعذاب في الآخرة، نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه، جاء النسب تاجاً على هذه الأخلاق الثلاثة الراقية.
هنا موطن الشاهد، قال: (وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ).
لخّص دعوة النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي بأنها دعوة أخلاقية، دعوة قِيَميّة، دعوة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من ظلمات الأخلاق السيئة، والقِيَم الدنيا إلى نور الأخلاق الحسنة والقيم الراقية.

أنواع العبادات:
أولاً- العبادات الشعائرية:
بل إن الإسلام يقرر أن العبادات نوعان اثنان؛ عبادة شعائرية، وعبادة تعاملية، ويقرر الإسلام أنك لا يمكن أن تقطف ثمار العبادة الشعائرية ما لم تأتِ بالعبادة التعاملية على الوجه الصحيح، والعبادة الشعائرية هي الصلاة وهي عماد الدين وقرة العين، وعين اليقين، الصلاة والصيام والزكاة والحج تلك هي العبادات الشعائرية.

ثانياً- العبادات التعاملية:
أما العبادات التعاملية فهي الأخلاق: الصدق، الأمانة، حسن الجوار، الكف عن المحارم والدماء، ترك الغيبة، ترك النميمة، الإصلاح بين الناس، ترك الإفساد في الأرض، هذه عبادات تعاملية.

قطف ثمار العبادات الشعائرية:
قطف ثمار العبادات يكون بحسن العبادة التعاملية
ويقرر الإسلام أنك إن أردت أن تقطف ثمار العبادات الشعائرية فعليك أن تحسن في العبادة التعاملية، فأنت عندما تدخل إلى المسجد لتصلي أنت في الحقيقة تدخل في المرة الأولى لتأخذ تعليمات الله تعالى لك، ثم تدخل بعد حين لتقطف الثمرة سكينة وهدوءاً، أما دينك فأين يراه الناس؟ لا يرونه في المسجد، وإنما يرونه في السوق، ويرونه في الحديقة، ويرونه في المتجر وفي المصنع وفي المعمل، هناك يرى الناس دينك، لا يرونه في المساجد فحسب، بل يرونه في الطرقات بينهم، في تعاملك معهم، لذلك الصلاة التي هي قرة الطاعات، وغرة الطاعات، وقرة العين لا تقطف ثمارها الحقيقية إلا إذا أحسنت العبادة التعاملية، ومن هنا يقول صلى الله عليه وسلم:

{ قال رجلٌ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن كَثرةِ صَلاتِها وصَدقَتِها وصيامِها، غيرَ أنَّها تُؤذي جيرانَها بِلِسانِها؟ قال: هيَ في النَّارِ. }

(رواه أحمد في مسنده)

ومن هنا امرأة تصلي وتصوم لكن:

{ دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، ولَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِن خَشَاشِ الأرْضِ }

(صحيح البخاري)

• إذاً: الصلاة على عظمتها لايمكن أن تجد سكينتها وقبولها وأن تقطف ثمارها إلا إذا صحت عبادتك التعاملية.
• وكذلك الصيام، فيقول صلى الله عليه وسلم:

{ رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر }

(سنن ابن ماجه.)

{ من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه. }

(صحيح البخاري)

وفي الحج، جاء في بعض الآثار:

{ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمدّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذّي بالحرام، فأنّى يُستجاب له؟ }

(صحيح مسلم )

{ مَنْ حَجَّ بمالٍ حرامٍ: فقال لَبَّيْك اللَّهُمَّ لَبَّيْك، قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ له :لا لَبَّيْك ولا سَعْدَيْك، وحَجُّك مردودٌ عليك. }

(الألباني بسند ضعيف)

قد جمعت المال من الحرام وجئت به والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً.
• وكذلك الزكاة، عندما ينفق الإنسان اثنين ونصف بالمئة وهي ربع العُشْر وهو في الحقيقة خارج عن منهج الله:

قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ ۖ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ(53)
(سورة التوبة)

لذلك هذه العبادات الشعائرية على عظمتها وعلى أهميتها لا يمكن للإنسان أن يحصد ثمارها وأن يقطف نتائجها إلا حينما يؤدي حق العباد عليه.

حقوق الله مبنية على المسامحة وحقوق العباد مبنية على المشاححة:
الإنسان إذا ذهب إلى الحج رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، إلا حقوق الناس فلا يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه كما يتوهم البعض، ربنا جل جلاله الصلحة بلمحة معه، لكن مع حقوق العباد:

{ يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إلَّا الدَّيْنَ. }

(صحيح مسلم)

استشهد في سبيل الله، بذل روحه لله، والنبي صلى الله عليه وسلم يوماً أراد أن يصلي على رجل قد مات فقال أعليه دين؟ قالوا نعم، قال: فصلوا على صاحبكم.

{ أُتيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بجِنازةٍ يُصلِّي عليها، فقال: عليه دَينٌ؟ قالوا: نعمْ؛ دِينارانِ، فقال: ترَكَ لهما وَفاءً؟ قالوا: لا، قال: فصَلُّوا على صاحبِكم، فقال أبو قَتادةَ: هما عليَّ يا رسولَ اللهِ، فصَلَّى عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. }

(تخريج المسند لشعيب)

ليؤكد أهمية الحقوق، أهمية الأخلاق مع الناس. (فقال: عليه دَينٌ؟ قالوا: نعمْ، قال: فصَلُّوا على صاحبِكم فقال أبو قَتادةَ: هما عليَّ يا رسولَ اللهِ، فصَلَّى عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ)، وفي اليوم الثاني سأله أديت الدين؟ قال: لا، في الثالث: أديت الدين؟ قال: لا، في الرابع أديت الدين؟ قال: نعم، قال الآن ابترد جلده، أصبح بارداً بعد أن كان حامياً ينتظر من يوفي عنه حق العباد.
حقوق العباد مبنية على المشاححة
لذلك حقوق العباد مبنية على المشاححة، بينما حقوق الله مبنية على المسامحة، فالإنسان إذا أخطأ مع عبد من عباد الله، ظلمه، أهانه، سبه، شتمه، فلابد أن يستسمح منه لأن الله تعالى لا يغفر الذنوب التي بينك وبين العباد إلا أن تؤديها أو يسامحك العباد بها.
لذلك كانت الأخلاق في الإسلام لها هذه القيمة العالية، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصحح بعض المفاهيم، فيسأل أصحابه:

{ أتدرون من المفلس؟ قالوا: المُفْلِس فينا من لا دِرهَمَ له ولا مَتَاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، -أدى كل العبادات الشعائرية- ويأتي وقد شَتَمَ هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسَفَكَ دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقْضَى ما عليه، أخذ من خطاياهم فَطُرِحتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار. }

(رواه مسلم)

إذاً لا ينفع الإنسان عبادة، ولا ينفعه قرب من مولاه وهو يسيء إلى عباد الله، فأصل الدعوة الإسلامية، بل أصل كل دين جاء من عند الله هو البناء الأخلاقي، وإرساء القيم، وجُعِل كل شيء في سبيل تحقيق هذه القيم، بل إن الله تعالى يلخص في قرآنه الكريم العلاقة التي ينبغي أن تكون في الدين، في معظم الآيات:

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون(55)
(سورة المائدة)

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ(43)
(سورة البقرة)

فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2)
(سورة الكوثر)

يعني علاقة مع الخالق بالصلة، وعلاقة مع المخلوق بالإحسان، الزكاة تعبير عن الإحسان للناس، والصلاة تعبير عن الصلة بالله، فهما حركتان؛ حركة عامودية نحو الخالق، وحركة أفقية نحو المخلوق، ولابد منهما معاً.

الناس يتعلمون بعيونهم، لا بآذانهم:
القدوة قبل الدعوة
الناس أيها الكرام يتعلمون بعيونهم، لا بآذانهم، ولاسيما الأطفال الصغار، فالناس لا يريدون منك خطبة عن الصدق، ولكن يريدون منك موقفاً في الصدق، الناس لا يريدون منك حديثاً عن الأخلاق، ولكن يريدون منك مواقف في الأخلاق، الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم، من هنا فقد قالوا: "القدوة قبل الدعوة"، ومن هنا فقد كان أهم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسوة:

لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(21)
(سورة الأحزاب)

فهو القدوة صلى الله عليه وسلم في التعامل والأخلاق.
ذكروا لي أن إماماً مسلماً في لندن عُيِّن في مسجد في ظاهر لندن، أي في الريف، فكان يركب كل اليوم الحافلة نفسها -والقصة قديمة- ليصل إلى مسجده الذي يؤمّ الناس به، سائق الحافلة تعود على منظره وهو يخرج كل يوم مرتدياً اللباس الذي ينم عن أنه شيخ كاللباس الذي ألبسه الآن، فكان يخرج كل يوم في هذه الحافلة، وسائق الحافلة غير ملتزم، وغير مسلم أصلاً، فينظر إليه فيعجبه سَمْته ولكن لا يعلم عنه شيئاً، وفي يوم من الأيام صعد إلى الحافلة وأعطى السائق الأجرة، فأعاد له ما تبقى له من الأجرة، أعطاه ورقة نقدية كبيرة فزاد له بعض المال فأرجعها له، ولما جلس في مقعده عد النقود التي أرجعها السائق له فإذا هي تزيد عما يستحقه عشرين بنساً، جلس في مقعده وبدأ يحدّث نفسه، فقال في داخله في البداية: أنا إمام مسجد، ولابد أن أعيد هذا المبلغ للسائق، لأنه مال حرام، ثم جاءه خاطر شيطاني أن ما حرمة هذا المال؟ عشرين بنساً فقط، وتلك شركة نقل كبيرة، وأنت محتاج لهذا المبلغ، فضعه في جيبك ولا تحدث به أحداً، انتهى الأمر، هذا مال عام خذه وانتهى الأمر، ولا عليك، ثم جعل بين خواطر الرحمن وخواطر الشيطان إلى أن جاء موقف نزوله وما شعر بنفسه إلا أن انتصرت خواطر الرحمن على خواطر الشيطان فأخرج من جيبه الزيادة، وقال للسائق: خذ هذه الزيادة فقد أعطيتني إياها خطأً، فابتسم السائق وقال له: ألست إمام هذا المسجد؟ فقال له: بلى، قال: وأنا قد حدثت نفسي قبل أيام أن آتي إليك لأتعبد الله عندك، ولكنني أردت قبل أن أفعل أن أمتحنك، فأعطيتك تلك الزيادة لأنظر في تعاملك، هل تعيدها أم تبقيها في جيبك؟ يقول الإمام: نزلت من الحافلة وكاد يُغشى علي، وأنا أتخيل موقفي لو لم أعد ذلك المبلغ، وقلت: يا رب كدت أبيع ديني كله بعشرين بنساً، كدت أبيع الإسلام كله بعشرين بنساً.
كم من إنسان يبيع دينه بخلق سيئ، كم من إنسان يبيع دينه بشتم وقذف وسب، كم من إنسان يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم، أنت إذا جلست مع إنسان أول ما يلفتك شكله، تنظر إلى شكله، فإذا التقيت بالآخر وسألك كيف فلان؟ تقول والله سمته حسن، ما تكلم ولا كلمة ولكن بالظاهر سمته حسن، فإذا تكلم نسيت شكله فوراً، والتفت إلى كلامه، وما عاد يهمك هندامه، وإنما يهمك ما يقوله، فإذا سألك إنسان كيف فلان؟ تقول منطقه عذب، كلامه جيد، أو تقول: كان لباسه حسناً ولكن لمّا تكلم ليته لم يتكلم، كان البعض من باب الطرفة يقولون: إما أن يلبس الإنسان كما يتكلم، أو أن يتكلم كما يلبس.
فإذا عاملك نسيت كلامه، فلا تهتم لما يقوله وإنما تهتم لما يفعله، فهذه مستويات ثلاث؛ الشكل أولاً، ثم الكلام ينسيك الشكل، ثم الفعل ينسيك الكلام.
والأخلاق هي المرتبة الثالثة التي يحكم الناس بها عليّ وعليك، فينظرون إلى أفعالنا لا إلى أقوالنا، وينظرون إلى سلوكنا لا إلى ما نتكلم به وربما لا نكون مطبقين له.

لماذا كفر الناس بالكلمة؟
لماذا كفر الناس بالكلمة؟ الكلمة جاء بها الأنبياء:

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ(24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(25)
(سورة إبراهيم)

لماذا اليوم الناس يكفرون بالكلمة؟ يقولون ذاك كلام؛ لأنهم ما وجدوا في الكلمة مصداقاً في سلوك قائلها، فالكلمة في وادٍ، والمتكلم في وادٍ، ويبدأ ذلك بدءاً من المستويات الدنيا إلى المستويات العليا، فعندما تأتي اليوم بعض الدول الكبيرة وتعد لحرب دولة مسلمة آلاف الصواريخ وآلاف الدبابات والمدرعات، ثم يخرج رئيسها ليقول لك: جئنا من أجل حريتكم، ماهذه الكلمة! وما هذه البجاحة في الكلام! وأنت جئت من أجل الدمار، ومن أجل النفط، ومن أجل تدمير البنية التحتية، وأنت تقول جئت من أجل حريتكم، وجئت لأنشر الديمقراطية في بلادكم.
وقس على ذلك إلى أدنى المستويات، فعندما تسمع اليوم من شخص كلاماً عن الصدق والأمانة، ثم لا تجد في سلوكه شيئاً من ذلك فيكفر الناس في الكلمة، لذلك مهمتنا اليوم أن نعزز دور الكلمة في قلوب الناس، نحن في مدرسة تربوية وهناك حسن تربوي جعله الله إن شاء الله منارة الأردن والعالم الإسلامي، مهمتنا أن نعزز دور الكلمة بأن نجعل في سلوك قائلها ما يوافقها، لا أن تكون الكلمة في وادٍ، وأن يكون المتكلم في وادٍ آخر.

لا بد أن تكون الكلمة مطابقة للفعل:
الفُضَيل بن عِياض وأنت تعرفون الفضيل فهو رجل من أئمة المسلمين، ومن التابعين الأجلاء، كان هذا الرجل يسرق القوافل، ويعطل القوافل في الليل، قاطع طريق، وفي يوم من الأيام أراد أن يسرق بيتاً فاعتلى جداراً فوجد رجلاً يقرأ القرآن، فقال: انتظروا حتى يفرغ من قراءته ثم أنزل إلى البيت وأسرقه، فانتظره وإذا بالرجل يقرأ:

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ(16)
(سورة الحديد)

الإنسان إذا قال فعل
فقال: بلى يا رب، قد آن، فنزل من فوره وذهب واغتسل ونزل للمسجد، فإذا بالإمام يقرأ في صلاة الفجر ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ فبكى وبكى وأصبح الفضيل إمام الحرمين في العبادة، والذي لفت نظره، والذي أعاده إلى الصواب كلمة واحدة، ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ لكن كلام الله تعالى عظيم، واليوم ممكن لأي كلمة أن تحول مسرى إنسان، كم من إنسان يقول لك كنت في وادٍ وسمعت كلمة من معلمي في المدرسة أثرت فيّ وبقيت معي إلى اليوم وحولت مسار حياتي من ظلمات إلى نور، من جهل إلى علم، وهي كلمة، فالكلمة لها دورها، بل إن الأنبياء جاؤوا بالكلمة، ماذا كان يملك الأنبياء؟ هل كانوا يملكون الصواريخ؟ هل كانوا يملكون الدروع المضادة؟ هل كانوا يملكون الحواسيب؟ هل كانوا يملكون الهواتف؟ كانوا لا يمللكون شيئاً من هذا، ولا كان عندهم فيس بوك ولا إنستغرام، كانوا يملكون الكلمة فقط، بوسائل نشر محدودة جداً، لكن هذه الكلمة نالت الوجود كله؛ لأن الإنسان كان إذا قال فعل، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3)
(سورة الصف)

المقت أعظم أنواع الكره والإثم، ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ فلا بد أن نعيد للكلمة دورها إن كانت الأخلاق موافقة لها، هذا الأعرابي الذي كان في الصحراء وعلى فرسه، واستنجد به شخص ليسقيه الماء فنزل وسقاه الماء، فإذا به يغدر به ويركب فرسه ويلقيه أرضاً، ويهرب بالفرس، فناداه الأعرابي بأعلى صوته: يا هذا قد وهبت لك الفرس فخذها، ولكن لا تخبر أحداً بما كان، فتضيع المروءة من الصحراء، وبضياعها يضيع أجمل ما فيها، قال تعالى:

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
(سورة الماعون)

كيف يمنع الإنسان الماعون؟ عندما تكون أخلاقه سيئة، فيقابل الحسنة بالسيئة، فهو بذلك يمنع الماعون؛ لأن الناس يتوقفون عن العطاء، سيقول: فلان وقفوا له على طريق المطار وكان مقطوعاً، فوقفوا له، وأثناء الطريق سرقوه وشهروا السلاح بوجهه، فلم يعد يثق الإنسان بالآخر، يقول لك: لعله قاطع طريق، وحقه ذلك، هؤلاء يمنعون الماعون أصحاب الأخلاق السيئة، فاثمهم ليس في أنهم فعلوا الإثم فقط، ولكن إثمهم ممتد لكل إنسان امتنع عن الخير وعن العطاء بسببهم، فاليوم تسمع كثيراً من يقول: "اتق شر من أحسنت إليه" والذي ينبغي أن يقال:

هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
(سورة الرحمن)

هذا ما قاله تعالى، ولكن ما يقوله الناس: اتق شر من أحسنت إليه، وتسمع كلاماً آخر لأديب أو فيلسوف يقول: أنت أخلاقي لأنك ضعيف، وأنت ضعيف لأنك أخلاقي، بئسما قلت، هذه كلمة تدمر أمة بأكملها، أنا أخلاقي لأنني قوي، وأنا قوي لأنني أخلاقي، فالأخلاق قوة، والأخلاق علم، والأخلاق رفعة، والأخلاق سمو في الدنيا وفي الآخرة.
إذاً أيتها الأخوات الكريمات، أيها الإخوة الأفاضل في هذا الجمع الطيب الكريم، وهو كله فضل وخير وعلم، ولكن أريد أن نذكر للآخرين أن نعزز الكلمة في النفوس، وأن نعزز الأخلاق في النفوس بحيث يعلم الناس إن قلت فعلت، وإن تكلمت جاء سلوكي مطابقاً لما أقوله تماماً، عندما نلغي هذه الهوّة بين الكلمة والسلوك نكون بذلك قد عززنا دور القيم والأخلاق في مجتمعاتنا.

مدح الله تعالى رسول الله بالخلق العظيم:
النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جمال الصورة، فقد أوتي يوسف شطر الحسن وأوتي محمد صلى الله عليه وسلم الحسن كله.
وأوتي بلاغة الكلمة، أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.
وأوتي القيادة الحكيمة فقد كان قائداً فذاً.
وأوتي الشجاعة، كنا إذا حمي الوطيس احتمينا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

{ كنا إذا احمر البأس، ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه. }

(رواه الترمذي والنسائي)

ولو عددت ما آتاه الله تعالى من الصفات التي انفرد بها، لانتهى المجلس وما انتهيت منها، ولما مدحه خالقه جل جلاله مدحه بالخلق فقط، فقال:

وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)
(سورة القلم)


الفرق بين ذو خلق" و "على خلق" :
على من العلو
ولو نظرنا في كلمة "على" وتأملنا لوجدنا فيها العجب العجاب، فالله تعالى ما قال: إنك لذو خلق قال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، على خلق: على من العلو، أي كنت متمكناً من الأخلاق، لم تكن في مكان وسط، وإنما كنت في الجبال العالية، لو أن جبلاً وتحته بحر والشاطئ زلق، ذو الخلق يقف في الوسط، وتأتيه موجة فتبتلعه، لكن من كان على خلق يقف في أعلى الجبل فلا تستطيع موجة ولا رياح أن تقتلعه فهو ثابت.
سأضرب مثلاً للتوضيح بين "ذو خلق" و "على خلق" أنت في البيت وعندك ضيافة محدودة، وجاءك من العقبة إلى عمان زائر، وأنت ينبغي أن تطعمه، هكذا يقول الدين، وهكذا تقول الأعراف والتقاليد والكرم الأردني، ينبغي أن تطعمه، لكن جاءك خاطر أولادي أحق بهذا الطعام الذي عندي، لو أطعمته لأولادي لكان خيراً منه، ثم ترددت قليلاً ثم ذهبت إلى الثلاجة، وأخرجت الطعام وقدمته لضيفك وأكرمته، أنت ذو خلق، لكن لو كنت على خلق لما فكرت ثانية واحدة في الموضوع، وإنما قمت من فورك إلى الثلاجة، وأحضرت أفضل ما عندك للضيف، وقلت الرزق على الله لا يمكن أن يخرج ضيفي من عندي دون عشاء.
فإذاً "على خلق" متمكن من الأخلاق، والنبي صلى الله عليه وسلم كان على خلق عظيم، وما قال "على خلق" فقط، بل قال ﴿لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وإذا وصف العظيم شيئاً بأنه عظيم فما عساه يكون؟ العظيم يقول لك: كان خلقه صلى الله عليه وسلم عظيماً.
أسأل االله تعالى أن يُخلّقنا بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرة ثانية أشكر لأكاديمية كراون الكريمة هذه الدعوة الطيبة المباركة، وأسأل الله لهذا الصرح دوام التقدم والنجاح والازدهار، وإن وجدتم فيما قلته ما كنتم تحسبون وتريدون فلله الحمد والشكر وحده، وإن لم تجدوا فحسبنا الله ونعم الوكيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والحمد لله رب العالمين.