مقومات حمل الأمانة

  • محاضرة في الأردن
  • 2023-07-31
  • عمان
  • الأردن

مقومات حمل الأمانة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين.
حياكم الله إخواني الأعزاء، ومرحباً بالضيوف الأكارم، وأسأل الله تعالى أن يفتح علينا وعليكم فتوح العارفين.

الإنسان المخلوق المكرم والمكلف عند الله:
أيها الإخوة الأحباب، الله تعالى خلق الإنسان، وجعله المخلوق الأول عنده، والمُكرَّم، والمُكلَّف، قال تعالى:

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا(70)
(سورة الإسراء)

وكلفه بعبادته، فقال تعالى:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
(سورة الذاريات)

لمّا قَبِل حمل الأمانة كان عند الله تعالى المخلوق الأول رتبةً، لأن الله تعالى قال:

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
(سورة الأحزاب)

المهمة تكليف وتشريف
يشبه حاله في ذلك -ولله المثل الأعلى- أن أباً عنده خمسة أولاد، والأب قد أعطاه الله من جوده وكرمه الكثير، وهذا الأب قال لأبنائه يوماً: عندي مهمة، والمهمة فيها تكليف، وفيها تشريف، المهمة تكليف وتشريف، التكليف: تحتاج أن تدرس خمس سنوات في بلد آخر لتأتي بشهادة جامعية قوية تؤهّلك لتكون مواطناً جيداً، صاحب منصب ومال...إلخ. تكليف ثم تشريف، أُكلِّفُك بالمهمة، ثم يأتي التشريف، هذه المهمة، الابن الأول قال: يا أبي أنا أعتذر، لست على قدر هذه المهمة، فأنا أعرف نفسي بالكاد أتدبر أمور المدرسة، فإلى أين تريد أن ترسلني لأخذ شهادة جامعية! والثاني اعتذر قال: أنا أتمنى أن أعمل من الآن ولا أريد أن أكمل دراستي، فما رضيا بالتكليف، واحد آخر من الأبناء فقط قال: يا أبت أنا لها، أنا أقوم بالمهمة، أذهب وأسافر وأعود بالشهادة، وأرفع رأسك عالياً، وأُعيَّن بمنصب مرموق، وآخذ التشريف من قِبَلك، مال وجاه، لمّا قَبِل هذا الابن الآن أصبح أمامه خياران؛ إما رِفعة وعلوّ وسموّ، أو أن يعود أدنى من جميع هؤلاء، لأن أباه وضع له شرطاً؛ إما أن تدرس وترجع وتأخذ مكانة عليّة، أو تهمل فحينها أنا لست مسؤولاً عنك بشيء، ولن أعطيك شيئاً، فأصبح أمامه خياران؛ إما بالأعلى أو بالأدنى.
الإنسان لما قبل حمل الأمانة، ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾ أصبح أمام خيارين؛ إما أن يكون فوق الملائكة:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ(7)
(سورة البينة)

يعني خير ما برأ الله، أو -والعياذ بالله- أن يكون أدنى من أدنى مخلوق من مخلوقات الله، قال تعالى:

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
( سورة الفرقان)

أضل من الأنعام، فأصبح بين خيارين؛ نجاح وتفوق وعلو ومكانة، وخيار دنو دنو دنو إلى أسفل سافلين:

ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(6)
(سورة التين)


معنى "ظلموماً جهولاً":
هكذا أصبحت خياراتهم، لذلك ختم الله تعالى الآية فقال: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ أي لما قبل حمل الأمانة ولم يحملها ظلم نفسه، وجهل بحجم الأمانة، لما قال: أنا لها، وذهب وسافر إلى الغرب ليحضر الشهادة، فوجد الأجواء الجميلة والحدائق والنساء والمشروبات، فترك الدراسة وقضى السنوات الخمس في مُتَع نفسه، ثم عاد إلى بلده بلا شهادة فأصبح أدنى من جميع إخوته، تماماً هذا المثل يوضح الحقيقة.
ربنا عز وجل في القرآن يمدح المؤمنين
فالإنسان إذا قبِلَ حمل الأمانة فإنه ليس ظلوماً وليس جهولاً، ولكن لما قبل حملها وهو غير مؤهل لها فهو ظلوم جهول فعلاً ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ لأن الإنسان في القرآن عندما يُذكَر ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾ هو إنسان قبل أن يؤمن، الإنسان لما قبل شيئاً وهو غير قادر على حمله، هذا ظلوم جهول، لكن ربنا عز وجل في القرآن يمدح المؤمنين، يمدح الربانيين، يمدح الذين قبلوا الأمانة، ثم أصبحوا مستحقين لجنة عرضها السماوات والأرض، هذا ليس ظلوماً وليس جهولاً، بعض الناس تُشكِل عليهم، كيف يقول الله ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾؟ هل غلطنا بحمل الأمانة؟ لا، أخطأ مَن قبِل بحمل الأمانة وهو غير قادر على حملها، فقال أنا أحملها وهو غير قادر عليها، وهؤلاء مثلهم مثل مَن قال تعالى في قرآنه الكريم عنهم:

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
( سورة الجمعة )

حُمِّلوا التوراة أمانة ثم لم يحملوها أداء، قبلوا أن يحملوها أمانة، ثم أداءً لم يحملوها، الآن لمّا قبِل الإنسان حمل الأمانة يريد أن يأخذ ميزات، فهذا الابن الذي قال لوالده أنا يا أبت لها، قال له والده: كل شهر مصروفك يصل إليك، أقساط جامعتك مدفوعة، وإن احتجت أي شيء داعم لاختصاصك كالمجلات والدورات أي شيء، اتصل بي مباشرة، بيتك هناك مؤمَّن وسيارة، يعطيه مقومات؛ لأنه قبل حمل الأمانة، فلابد أن يأخذ ما يعينه على أداء الأمانة.

مقومات حمل الأمانة:
أولاً- تسخير الكون للإنسان:
الإنسان لما قبل حمل الأمانة أخذ أشياء لم تأخذها المخلوقات كلها؛ أول شيء أخذه أن كل ما في الأرض سُخِّر له، كل شيء، قال تعالى:

وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(13)
(سورة الجاثية)

كل المخلوقات مُسخَّرة لخدمة الإنسان
سخر له كل شيء، جعله المخلوق الأول، وكل المخلوقات مُسخَّرة لخدمته، فالإنسان إذا أراد أن يأكل يذبح الخروف ويأكله؛ لأن الخروف مُسخَّر له، وإذا أراد أن يجلس جلسة مريحة يحضر جذع شجرة ويصنع منه كرسياً ويجلس عليه، وإذا كان يريد أن يستظل يقعد بظل شجرة، وإذا أراد فاكهة يقطف ويأكل، وإذا أراد أن يستزيد يضع كاجو ومكسرات ولوز وفستق حلبي، فربنا عز وجل لمّا قبِل حمل الأمانة أعطاه كل شيء، قال له هذا الكون تحت تصرفك وتحت إرادتك، أنت تستخدمه ولا يستخدمك، هو من أجلك، وأنت لست من أجله، ولاشك أن المُسخَّر له أكرم من كل المسخرات، أنا الآن أجلس على الكرسي، فالكرسي مُسخَّر لخدمتي، فأنا أكرم عند الله أم الكرسي؟ المسخر له أكرم، فأنا أكرم من الكرسي، لكن ما المصيبة؟ المصيبة عندما يقوم الكرسي بمهمته فأجلس عليه، ولا أقوم أنا بمهمتي فأعبد الله، عندها يصبح الكرسي خيراً مني؛ لأنه قام بمهمته، عندما أذبح الخروف فآكله أنا أكرم عند الله من الخروف، لكن عندما أعصي الله تعالى ولا أعبد الله، هو نفّذ مهمته، أما أنا فلم أنفذ مهمتي، فأصبح الإنسان -والعياذ بالله- أدنى ممن سُخِّر له.
فالإنسان بين خيارين عظيمين، خطيرين؛ إما أن يكون فوق الملائكة، وإما أن يكون دون الحيوان وعذراً منكم أكرمكم الله جميعاً، لا خيار ثالث له، لذلك قال بعض الأدباء: "الإنسان يعلو ويعلو ولا ترى علوّه حتى يصبح فوق الجميع، ويتضاءل ويتضاءل ولا ترى تضاؤله حتى يتعاظم عليه كل حقير"، الإنسان ليس لديه خيارات أن يكون بعدة مراتب؛ إما أن يكون في الأعلى أو أن يكون في الأدنى، المؤمن ارتقى عند الله، والذي لم يؤمن بالله تعالى نزل إلى أسفل السافلين﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.

الكون مسخر تسخير تشريف وتعريف:
فهذا الكون بكل ما فيه مسخر للإنسان تسخيرين؛ تسخير تعريف، وتسخير تشريف، كل الناس بطريقة أو بأخرى فهموا تسخير التشريف؛ يعني هو يرى نفسه أنه مهم جداً، وربنا عز وجل أعطاه كل شيء، شرّفه بذلك، مثل الزوج تماماً الذي فهم:

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
(سورة البقرة)

القوامة فيها تكليف وليس فقط تشريف
بمعنى أنه يجلس في البيت والكل يخدمه، فهمٌ سقيم، فدرجة القوامة فيها تكليف وليس فقط تشريف، صحيح الله كرّم الرجل، بالبيت له قيادة ولكن درجة التكليف قبل درجة التشريف؛ فيجب أن تخرج وتعمل وتؤمن المصروف، وتهتم بأولادك وترعى زوجتك وتنتبه عليها، وتطعمها مما تأكل، وتلبسها مما تلبس، وتربي الأولاد، فهي درجة تكليف، بينما هو فهمها تشريف، وضع كرسي في البيت وقال لهم أنا قوّام البيت، ويريد من الجميع أن يخدمه، غير صحيح، ليست كذلك درجة القوامة.
نفس الشيء الإنسان عندما فهم درجة التشريف بشكل عام أنه أحسن مخلوق بالكون، ويريد كل شيء لخدمته، من هنا ظهرت نزعة المادية فالكون مواد كلها، وأنا أريد أن أتعجّل لآخذ أكبر قدر ممكن من الكون، أي خذ ما تستطيع من هذا الكون بما فيه، هكذا فهمَ درجة التشريف، لا.
الكون مسخر للإنسان تسخير تعريف وتشريف، النبي صلى الله عليه وسلم نظر مرة إلى الهلال، فقال:

{ هِلالُ رُشْدٍ وخيرٍ }

(سنن الترمذي)

خير: تشريف، ورشد: تعريف، أي هناك إنسان من الناس دخله كبير، عنده ماشاء الله دخل، ففي بيته دائماً عشر أنواع من العسل، هذا حمضيات، وهذا سدر، وهذا مرّير ...إلخ، يعيش مع العسل، هذا فهم التشريف أن العسل له، فيأكل منه وأموره تمام، لكن ما خطر بباله ولا مرة لا أن يشكر الله على نعمة العسل، ولا أن يعظّم ربنا عز وجل من خلال العسل.
شخص آخر دخله محدود ولا يفكر بحياته أن يشتري عسلاً، لأنه دخله لا يسمح له سوى بالأساسيات، والعسل من الكماليات، فما اشترى عسلاً طيلة حياته، ولكنه حضر فيلماً على الشاشة عن النحل، وكيف خلقها الله أعظم خلق، وكيف تبني بيوتها على شكل سداسي، وبالمناسبة النحل يختار لبناء البيت شكلاً سداسياً، الخلية يجب ألا يُترَك بينها فراغات بينيّة عند بنائها، فلو كان العسل يُبنى بالدوائر؛ فدائرة مع دائرة مع دائرة ستشكل فراغات بالنصف، هذه الفراغات هدر للبناء، ومكان لتجمع الأوساخ، فغلط الدائرة لا تصلح مثلاً، الأشكال التي تصلح: المثلث والمربع والمسدس، هذه الأشكال لا تترك فراغات بينية، لكن المسدس أفضل شيء؛ لأن استخراج العسل سهل من زواياه، وأفضل من المثلث؛ لأن الأضلاع قصيرة، فالمتانة أقوى، لا يتعرض للكسر:

وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(68)
(سورة النحل)

تسخير التعريف يوصلنا لربنا عز وجل
فهذا الشخص الذي لم يشترِ عسلاً بحياته شاهداً هذا الفيلم، وشاهد النحل كيف يجوب على الأزهار، وكيف يدلون بعضهم على مكان الزهر ويحددون من خلال الرقص الذي يرقصونه –أنا شاهدت الفيلم لذلك أتكلم- من شدتها تعرف النحلات الباقيات كميات العسل الموجودة كي يحضروا أنفسهم، ومن خلال اتجاه الرقصة يعرفون إلى أين، ومن خلال طولها يعرفون المسافة فيدلهم ويخرجون سوية كلهم، شاهد هذا الفيلم فتأثر ودمعت عينه من خشية الله وقال: سبحان الخالق العظيم، ياترى الأول الذي يملك عشر أنواع من العسل انتفع بالعسل أكثر أم الثاني؟ الثاني؛ لأنه أخذ تسخير التعريف، فوصل لربنا عز وجل، فالعسل فانٍ، أما معرفة الله باقية، فهو استفاد أكثر من الأول الذي أكل عسلاً وأكل عسلاً، وما خطر بباله أن يقول سبحانك يارب، الحمد لله على هذه النعمة العظيمة!
فالكون لما سُخِّر للإنسان سُخِّر تعريفاً وتشريفاً، تكريماً، الإنسان ردّ فعله على تسخير التعريف أن يؤمن، وعلى تسخير التشريف أن يشكر، فإذا آمن وشكر، حقق الهدف من وجوده، وقال تعالى:

مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
(سورة النساء)

لماذا يعذب الله إنساناً شكر على نعمة التكريم، وآمن يعني تعرّف إلى الله من خلال الكون، انتهى.
الإنسان يؤمن بالله من خلال الكون
تماماً مثل طالب نجح وأخذ 100 % لماذا سيعاقبه أبوه؟ علاماته تامة، لماذا العقاب؟ انتهى، الذي تريده حصل يا أبي، ونحن يوم القيامة عندما نقف بين يدي الله قال ﴿مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ﴾ الله ينفعه عذابنا؟ حاشاه جل جلاله، الله غني عن عباده، ولكن يجب أن يكون شاكراً مؤمناً؛ أي تعامل مع الكون على أنه مؤمن بالله من خلال الكون، ينظر إلى الشجرة فيقول سبحان من خلقها ويستظل بظلها، فيقول: يا رب لك الحمد على هذه النعمة، انتهى، شكر وآمن انتهى العذاب ﴿مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ﴾.
يُروى عن بعض السلف، تُروى عن سيدنا عمر بن الخطاب والله أعلم، أنه أمسك تفاحة فقال: أكلتها فنيت، أطعمتُها بقيت، فأطعمَها.
انظروا إلى الفهم أكلتها ذهبت، أطعمتها بقيت، فقام وأطعمها للفقير حتى تبقى، هذا فهم. كثير من الناس اليوم مبدؤهم: أكلتها بقيت، أطعمتها ذهبت، مبدؤهم إذا أكلتها بقيت لأنني انتفعت منها، بينما إن أطعمتها راحت عليّ، فكيف الموازنة؟ النبي صلى الله عليه وسلم كما تعلمون جميعاً كان يوزع شاة، فقالت له عائشة: -تنبهه بلطف-، يارسول الله لم يبقَ إلا كتفها، يعني لم يتبقَ لنا شيء، فقال: يا عائشة بقيت كلها إلا كتفها

{ عن عائشة رضي الله عنها: أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: بقي كلها غير كتفها }

(سنن الترمذي)

انظر الموازنة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يربي النفوس، بقيت كلها إلا كتفها، لأننا سنأكل الكتف، فهو سيذهب.
طبعاً المؤمن حتى الذي يأكله يبقى؛ لأنه يشكر الله عليه، لكن بالمفهوم العام الذي بقي عنا هو الذي سيفنى، لأن النبي عليه صلى الله عليه وسلم يقول:

{ يَقُولُ ابنُ آدَم: مَالي! مَالي! وَهَل لَكَ يَا ابْنَ آدمَ مِنْ مالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ }

(رواه مسلم)

(يَقُولُ ابنُ آدَم: مَالي! مَالي) كله لي، هذا الرصيد بالبنك ليس لك، لأنه للورثة، طبعاً هذا لا يمنع أن يبني الإنسان مستقبله ومستقبل أولاده، وأن يخطط، فهذا كله متاح لكن لا يغفل عن أن يبقي شيئاً له عند الله تعالى ذُخراً ليوم القيامة.
إذاً أحبابنا الكرام، ربنا عز وجل خلق الإنسان، وكلّفه بحمل الأمانة، أعطاه ما يعينه عليها، وأعظم ما أعطاه مما يعينه على حمل الأمانة هذا الكون الذي سخره له بكل ما فيه.

ثانياً- العقل:
وأعطاه أيضاً ملَكَة يسميها "العقل"، أي الفهم، المعالجة، يستطيع أن يتأمل، الكون موجود، القطة الآن إذا جلست هنا ترى الشجرة، ونحن نراها، ولكن القطة ليس لديها طريقها لعمل مدخلات وتعالج وتخرج مخرجات، تسبح بحمد الله فطرة وانتهى الأمر، أما نحن ندخل مدخلات، سبحان الخالق العظيم! ما هذا الجذع! ما هذا الورق الأخضر! كيف خلقها الله عز وجل! الله! نعظم الله من خلالها، فلدينا طريقة لنعالج الصور، فنُدخِل ونعالج ونخرج مُخرَجات، بينما القطة وكل المخلوقات الأخرى ليس لديها هذا الأمر، فالعقل نعمة من الله عز وجل، وهبنا إياه لنستخدمه في فهم النصوص وفهم الكون، ونعمر الأرض به، هذا معطى آخر.

ثالثاً- الفطرة:
من المعطيات المهمة التي أعطاها ربنا عز وجل للإنسان: الفطرة

{ كُلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه. }

(صحيح ابن حبان)

هذا معطى مهم جداً، أن ربنا عز وجل يقول لك ابتداء ستكون ممن يحب الخير، فإذا زكّيت نفسك وحملتها على طاعة الله فأنت توافق فطرتك، تريح نفسك، (كُلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه) أما نحن على الفطرة:

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(30)
(سورة الروم)

هذه الفطرة، طبعاً الفطرة شيء، والصبغة شيء آخر، الفطرة أن يحب الإنسان الخير، الصبغة أن يكون خيّراً

صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ(138)
(سورة البقرة)

الصبغة أن تلتزم بما فطرك الله تعالى عليه.

رابعاً- المنهج:
ومما وهبه الله تعالى للإنسان هو المنهج، وهذا أهم شيء، أعطاه المنهج أي الكتاب والسنة في ديننا، القرآن الكريم والسنة هما المنهج الذي وُهِبناه، ما إن تمسكنا به فلن نضل أبداً.

خامساً- حرية الاختيار:
الإجبار لا يبني قيمة للعمل
ومما وهبه الله تعالى للإنسان أيضاً حرية الاختيار، جعله مختاراً حتى يكون لعمله قيمة، الإجبار لا يبني قيمة للعمل أبداً، ضربت لكم مرة مثلاً أن هناك أستاذ عنده طالب في الصف، وهذا الطالب علم الأستاذ أن أباه لديه محل لبيع الزهور الطبيعية، فالأستاذ أخطأ طبعاً ما ينبغي لمدرس أن يكون هكذا، لكن الأستاذ وصولي، قال له: أنت أبوك عنده محل زهور، لكن لم نرَ شيئاً، أحضِر لنا باقة ورد، فالابن ذهب لأبيه وقال له: الأستاذ طلب مني أن أحضر بعض الورود من المحل، فتفاجأ الأب بهذا الطلب واختار له بعض الزهور الذابلة حتى لا يتكلف كثيراً، ووضعهم بباقة وأعطاهم لابنه، وقال له: خذهم للأستاذ كي لا يرسبك نهاية العام، أخذ الورود ووضعهم، الطالب جلس وهو عابس الوجه، لأنه أجبره أن يحضر الورد، والأستاذ رآه وعرف أنه أحضرهم رغماً عنه، فلا الأب كان سعيداً، ولا الطالب، ولا الأستاذ لأن القصة كلها بالإجبار، أما هناك أستاذ لمادة أخرى متألق جداً، وجيد جداً، فأحبه الابن جداً وقال لأبيه أن عندنا أستاذ رائع ونفهم عليه جيداً، ما رأيك أن أحضر له باقة من الورد؟ فقال له الأب: على العين والرأس، وانتقى له أجمل الورود، فسُرّ الأستاذ بهذه الهدية لأنه شعر بأن الطالب شعر أن الأستاذ لا يقصر فأحضر وروداً للصف، والطالب مسرور جداً وطيلة الوقت ينظر إلى الورود وسعد لأنه قدم شيئاً لمعلمه، والأب سرّ كثيراً لابنه.
نسعد بالله تعالى لأننا مختارون
ما سبب السرور بالمثال الثاني؟ الاختيار، أتى مختاراً، لماذا نسعد بالله تعالى؟ لأننا مختارون، بإمكاننا أن لا نفعل ونفعل، لماذ تذهب إلى التراويح وتسعد؟ لأن بإمكانك ألا تذهب، أما لو كان الذهاب قسراً لذهبت ولكن لا تُسَر، لماذا تذهب إلى العمرة وتقول أنا أسعد إنسان؟ لأنه بإمكانك أن تظل ببلدك، وتشتري بقيمة ذهابك إلى العمرة طعاماً وشراباً، ولا تذهب إلى العمرة، فدفعتهم وذهبت وسُررت، لماذا تقف بين يدي الله عز وجل في الليل وتبكي؟ لأنك تقوم بهذا من نفسك دون أن يجبرك أحد على ذلك، لذلك:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
(سورة البقرة )

لو كان هناك إكراه لما كان هناك سعادة ولا سرور، لأنه شيء أنت مجبر عليه، فترك لك حرية الاختيار حتى تسعد باختيارك، حتى تكون راقياً عند الله باختيارك.
إذاً: أعطاك كوناً، وهذا الكون بكل ما فيه يقول، بكل لحظة: الله موجود، الله واحد، الله كامل، كل شيء في الوجود يقول: الله موجود وواحد وكامل.
وأعطاك عقلاً تستطيع به معالجة الأمور واستخراج المخرجَات الصحيحة، وأعطاك فطرة تدلك على خطئك ذاتياً، كيف؟ يعني لو تخيلنا هذا فتى الأدغال ماوكلي، يعيش بالغابات، ولد بالغابة ولا يعرف شيئاً، أصل القصة لابن طفيل الأندلسي حي بن يقظان، ولكن أخذوها منه وحاكوها لنعتقد أنهم من اخترعها، ولكن أصل القصة قصة روبنسون كروزو المشهورة، وأصل القصة الأساسي للأديب الأندلسي ابن طفيل الذي تخيل أن هناك إنسان وُلد في الغابة وسماه حي بن يقظان، وبدأ يكتشف أسرار الحياة وحده من دون أن يتأثر بأي شيء خارجي، وبعدها الغرب أخذوا القصة وألفوها وصرنا نفتخر بقصتهم، ونسينا أننا من ألفها بالأصل، فهذا ماوكلي عاش بالأدغال، فلا يعلم شيئاً عن بر الوالدين ولا بر الأم ولا أي شيء، ولدت به أمه بالغابة ويعيش معها، فماوكلي أحضر فروج وأكله لوحده دون أن يطعم أمه مع أن أمه جائعة، من الداخل يأتيه خاطر يقول له: كيف فعلت ذلك؟ أمك التي تهتم بك، هذا صوت داخلي فهو لم يتلقَ التعليم، ولم يذهب إلى أي مدرسة ولم يسمع ولا آية، ولكن تعذبه فطرته، ما يسمى حالياً ضميره، يتضايق، ينزعج من نفسه؛ كيف أكلت لوحدي وأخبئ الطعام عن أمي التي ربتني وتعبت علي؟ هذا الذي يسمونه عذاب الضمير، الضمير الحي الآن اسمه بديننا الفطرة، فطرة الله، ممكن أن تقول لي أن هناك أناس فطرتهم لا تعذبهم، والعياذ بالله هؤلاء:

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ(44)
(سورة الأنعام)

هذا مصيبة، الذي صار يظلم ويقتل ويقول لك أنام مرتاحاً، بالعكس إذا كل يوم لم أظلم عشرة أشخاص لا أنام، هذا والعياذ بالله يسميه علماء العقيدة طُمِست فطرته، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، هذا الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم:

{ تُعرَضُ الفِتَنُ على القُلوبِ عَرْضَ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنْكَرَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ بيضاءُ، حتى يصِيرَ القلبُ أبيضَ مثلَ الصَّفا، لا تَضُرُّه فِتنةٌ ما دامَتِ السمواتُ والأرضُ، والآخَرُ أسودَ مُربَدًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هَواه. }

(صحيح الجامع)

كيف الحصيرة أعواد أعواد، (تُعرَضُ الفِتَنُ على القُلوبِ عَرْضَ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ سَوداءُ) نقطة صغيرة سوداء، كلما دخّل فتنة نكتة سوداء (وأيُّ قلبٍ أنْكَرَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ بيضاءُ) نور بقلبه (حتى يصِيرَ القلبُ أبيضَ مثلَ الصَّفا، لا تَضُرُّه فِتنةٌ) على الفطرة (والآخَرُ أسودَ) كله أسود هذا الذي انطمست فطرته (مُربَدًّا كالكُوزِ) الكأس (مُجَخِّيًا) مقلوباً، لم يعد يدخل شيء عليه (كالكُوزِ مُجَخِّيًا) يعني كالكوز مقلوباً، لم يعد يدخله أي شيء من الخير أبداً، (والثاني أبيضَ مثلَ الصَّفا، لا تَضُرُّه فِتنةٌ ما دامَتِ السمواتُ والأرضُ) صار قلبه أبيض أبيض، وما عادت الفتن تدخل إلى قلبه، هذه الفطرة السليمة وهذه الفطرة السيئة.
أما الإنسان بشكل طبيعي فطرته سليمة كائناً من كان، إذا أخطأ يشعر من الداخل أنه أخطأ، وهذا مقوم عظيم من المقومات التي أعطاها الله تعالى للإنسان، فهُم: كون وعقل وفطرة وشرع وحرية اختيار من أجل أن يكون عمله راقياً عند الله، وله مكانة كبيرة عند الله.
والحمد لله رب العالمين.