• محاضرة في الأردن
  • 2023-08-14
  • عمان
  • الأردن

الوصايا العشر ..

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين، وبعد:
أيها الكرام عنوان لقائنا اليوم: الوصايا العشر، وهذه الوصايا في سورة الأنعام عشر وصايا متتالية في ثلاث آيات، وفي ختام كل آية يقول تعالى: "ذلكم وصاكم به"، فلذلك سماها العلماء الوصايا العشر، "ذلكم وصاكم به"، الوصايا العشر، هي عشر وصايا في كتاب الله، والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الترمذي:

{ مَن سرَّهُ أن ينظرَ إلى الصَّحيفةِ الَّتي عليها خاتَمُ محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فليقرَأْ هؤلاءِ الآياتِ. }

(ضعيف الترمذي)


الوصايا العشر:
الوصايا العشر وردت في سورة الأنعام
ووجّه أصحابه إلى هذه الآيات الكريمة، وقال: من أخذ بها وعمل بها فقد نجا، ومن تركها فإن أخذه الله بالدنيا أخذه بعقابه، وإن تركه إلى الآخرة إن شاء عذبه، وإن شاء عفا، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، هذه الوصايا العشر وردت في سورة الأنعام في الآيات 151، 152، 153، الآية الأولى منها:

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
(سورة الأنعام)

﴿قُلْ﴾ أي قل يا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا دائماً يكون في الأمور المهمة والتي تستدعي الانتباه:

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)
(سورة الإخلاص)

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
(سورة الفلق)

﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ فيأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس، لصحابته ولمن بعدهم ﴿تَعَالَوْا﴾ وفي الأصل تعالَ بمعنى أقبلْ، تعالَ إلي أي أقبل إلي، وتعالى من العلو، وفي الأصل قيل للإنسان أقبل لأنه يكون غالباً جالساً فلما يُقال له تعالَ يعلو، فيقف، فيأتي، فتعالَ فيها معنى أقبِل، وفيها معنى تعالوا؛ أي انتقلوا من حضيض التشريعات الأرضية إلى رفعة التشريعات السماوية، ﴿تَعَالَوْا﴾ يعني ارتفع من حضيض التشريعات الأرضية إلى رفعة التشريعات السماوية ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ فالغارق في بحور الشهوات، والغارق في القوانين الوضعية التي ليست من الدين لا يمكن أن يفهم هذه الوصايا، هذه الوصايا تحتاج إلى علوّ، علو ليس مكانيّاً، ولكن تحتاج إلى علوّ فكري، وإلى علو نفسي.

مفهوم الربوبية:
الربوبية من التربية
﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ وقال ﴿حَرَّمَ رَبُّكُمْ﴾ ؛ لأن هذه التحريمات من مفهوم الربوبية، فكما تعلمون الربوبية من التربية، والله تعالى رب، لأنه رب أنزل الماء، لأنه رب رزقنا، لأنه رب رزقنا الولد، لأنه رب خلق لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، لأنه رب أنبت الزرع، لكن هذه كلها تربية جسمية، مادية، لكن لأنه رب أيضاً فإنه يحرم ويحلل، يحل لك الطيبات، ويحرم عليك الخبائث، لأنه رب، تماماً مثل الأب قال لك: أنا ما قصرت مع ابني بشيء، كان يطلب القرش فأعطيه عشرة، هل ربيته على الصدق والأمانة، وعدم الإساءة للآخرين؟ لا والله، إذاً قصرت في تربيتك، أنت لست رب الأسرة كما ينبغي، ولله المثل الأعلى، الله تعالى رب فيحرم، الرب يحلل، الرب يقول لك افعل ولا تفعل، الأب الناجح يقول لابنه: هذا صح، وهذا خطأ، هذا يجوز، وهذا لا يجوز، ورب العالمين جل جلاله لأنه رب العالمين يربينا فيقول لك: هذا الخمر يُذهِب عقلك، يريدك الخسار في الدنيا والآخرة، الزنا طريق خاطئ، صوابه العلاقة الشرعية وفق منهج الله، الزواج، الغش حرام، التجارة حلال، هذا من الربوبية، لذلك قال: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ﴾ ما قال ما حرم الله، طبعاً الله هو الذي حرم، لكنه جاء بلفظ الرب إشعاراً بأن التحريم والتحليل من الربوبية لأنه رب جل جلاله.

الوصية الأولى: النهي عن الشرك:
النهي عن الشرك هو أمر بالتوحيد
أول وصية من الوصايا ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ النهي عن الشرك، والنهي عن الشرك هو أمر بالتوحيد، فالآن أي أمر سيأتينا في هذه الأوامر هو نهي عن ضده، وأي نهي سيأتينا هو أمر بضده، فلما قال: لا تشركوا يعني وحدوا، ولما قال: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ هذه ما حرمها بل أمر بها، يعني حرّم العقوق.
﴿أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ بمعنى أنك إذا قرأت النهي فاعلم أنك مأمور بضده، وإذا قرأت الأمر فاعلم أنك منهي عن ضده، ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ يعني العقوق ممنوع، لا تشرك يعني التوحيد مطلوب، فأجملها ﴿مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ لأن كل واحدة تتضمن شيئاً حرمه الله، فأولها ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ أول الأمر التوحيد، ورأس الأمر التوحيد، ولا ينفع شيء دون توحيد، أرأيت إلى أقوام يعملون الحسنات، ويكرمون اليتيم، ويعطون الإنسان حقوقه، لكنهم مشركون بالله، يأخذون أجورهم في الدنيا، لكن عند الله عز وجل لا ينفع عمل بغير توحيد، فلذلك بدأ بالشرك والنهي عنه، قال: ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ شيئاً نكرة، في اللغة العربية يوجد نكرة ومعرفة، أقول طالبٌ نكرة، الطالب معرفة، شيءٌ نكرة، الشيء معرفة، فلما جاءت النكرة في سياق النفي في اللغة العربية نقول إذا جاءت النكرة في سياق النفي فإنها تعم، قاعدة، يعني لم يأتِ أحد: يعني ولا أحد، يعني أحد تعم أي شخص، لا يعني أنه أتى شخص، لا، لم يأتِ أحد عموم ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ يعني مهما كان هذا الشيء يسيراً فقد حرم الله تعالى الإشراك به، هناك من يشرك حجراً، هناك من يشرك بالله صنماً، هناك من يشرك بالله تعالى ولداً، هناك من يشرك بالله تعالى مالاً، أي شيء تدعوه، تخافه، ترجوه، تعبده مع الله فهو شرك، سواء كان شركاً جلياً أكبر، يخرج من الملة والعياذ بالله، أو كان شركاً خفياً أصغر لا يخرج من الملة ولكن منهي عنه أيضاً.
فالشرك عام، ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ أي مهما كان الشيء يسيراً فإياك أن تشركه بالله، فمن أطاع مخلوقاً مع الله فقد أشركه، يعني إذا شريكك في العمل يريد أن يحضر بضاعة محرمة وأنت ما أردت أن تعاتبه في ذلك، أو تمنعه من ذلك حتى لا تخسر شراكته هذا نوع من الشرك، أنا لا أقول الشرك بمعنى الشرك الجلي (الكفر) لا، ولكن هذا نوع من الشرك، يدخل في كلمة ﴿شَيْئًا﴾ إذا شخص قالت له زوجته لا تدفع زكاة مالك، دعنا نجدد أثاث البيت، فجدد أثاث البيت وما دفع زكاة ماله، أشرك بالله شيئاً، وهو حب زوجته وإيثارها على رضا ربه، ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾.

الوصية الثانية: الإحسان إلى الوالدين:
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ إذاً ماذا حرم الله؟ العقوق؛ لأنه أمر بالإحسان، الباء: أحسن: يقال أحسن إليه، وأحسن به، يوسف قال:

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(100)
(سورة يوسف)

الأب والأم نحسن بهما
أحسن به أعمق وأدق من أحسن إليه، إذا شخص والده كبير في العمر، ويسكن في بيت مستقل، وكل يوم يرسل له السائق الخاص يقول له: اذهب إلى أبي واطرق الباب، وانظر ماذا يحتاج وأحضر له، وإذا مرض يرسل له أحسن طبيب في البلد، هذا يحسن إلى والده، لكنه لا يحسن به، الباء للإلصاق، يحسن به: يذهب هو بنفسه لتفقد أحوال أبيه، لا يرسل السائق، السائق للغريب، الأب والأم نحسن بهما، وليس إليهما. يعني تقوم بفعل الإحسان بنفسك، الباء للإلصاق؛ لأن الأب في العمر المتقدم والأم لا يحتاجان إلى مالك، يحتاجان إليك، يريدانك بجانبهم، لا يريدان السائق ولا الخادم، فينبغي أن تكون معهما، إذا استطعت كل يوم أن تزورهما ممتاز أو كل يومين، لكن ينبغي أن تتواصل معهما يومياً؛ لأنهما يريدان أن تحسن بهما لا إليهما فحسب، فلذلك قال ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ وثنَّ بهذه الوصية بعد الأمر بتوحيده للدلالة على أهميتها:

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(23)
(سورة الإسراء)

التوحيد، و﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ هذه الآية تشبه تلك، الإحسان للوالدين يأتي بعد توحيد الله تعالى، وعبادة الله تعالى.

الوصية الثالثة: إلا يقتل الإنسان ولده:
﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ﴾ المحرم الثالث والوصية الثالثة ألا يقتل الإنسان ولده ﴿مِّنْ إِمْلَاقٍ﴾ أي بسبب، هنا من بمعنى بسبب، سببية، ﴿مِّنْ إِمْلَاقٍ﴾ يعني بسبب الفقر، فكان العرب في الجاهلية بعضهم يئد البنات لئلا يعولها، لأن الشاب يستغني مبكراً عن والده، أما البنت يحتاج إلى إعانتها فترة طويلة، فكان يئد ابنته خشية الإنفاق عليها، فجاء الأمر ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ﴾ وهذا فيه إشارة ضمنية إلى الوأد الخفي الذي يكون في البطون، بمعنى أنه يقول يا شيخ أنا أريد أن أسقط الغلام، بلغ أربعين لا، ستين، لا، أربعة شهور، هكذا سمعت فتوى، خير؟ والله الحالة ضيقة يا شيخ، فهذا يدخل فيه ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ﴾ أي بسبب الفقر.
﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ الرزق على الله تعالى، ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ فأنت لا تأتي بالرزق للغلام، وإنما يأتي رزقه معه.

الوصية الرابعة: النهي عن قربان الفواحش:
النهي عن قربان الشيء أشد من النهي عن فعله
الوصية الرابعة ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ النهي عن قربان الشيء أشد من النهي عن فعله، فإذا قلت لإنسان لا تلمس التيار الكهربائي هذا نهي عن لمس التيار لئلا يصعقك، لكن إذا كان التيار الكهربائي له قوة جذب والمحول ضخم، فيُكتب عن بعد: "لا تقرب التيار الكهربائي" لأن له قوة جذب، فإذا دخلت في محيطه قد بأي شيء بسيط يجذبك إليه، لا تقرب النار، لا تقول لا تلمسها، طبعاً لا تلمسها، ولكن من باب أولى.
ومثله الاجتناب، قال تعالى: اجتنوا الخمر والميسر، الاجتناب يساوي عدم الاقتراب، لذلك البعض لما قرأ: الخمر، قال لا يوجد فيها تحريم، فيها أمر بالاجتناب، أمر تأديبي، طبعاً نقول له في السنة الأمر فيه لعن:

{ لعنَ اللهُ الخمرَ، وشاربَها، وساقيَها، وبائعَها، ومبتاعَها، وعاصرَها، ومُعْتصرَها، وحاملَها، والمحمولةَ إليهِ، وآكلَ ثمنِها. }

(السيوطي في الجامع الصغير)

فالأمر واضح، لكن حتى الآية، هذا أشد من التحريم، اجتنبه؛ يعني لا تكن شريكاً ولا حتى بالإعلان عنه، أو بحمله، أو أن تبيع العنب لمن يعصرها خمراً، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العنب إذا كان عندك بستان عنب، وتقول أنا بعته العنب، فأنت تعلم أنه يريد أن يأخذها ويعصرها خمراً، فلماذا بعته إياه؟ هذا اجتنبوا، لا تقربوا.

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا(32)

يعني لا تقم بالمصافحة، ولا بالخلوة، ولا تقل كلاماً خارج حدود الأدب يقود إلى الزنا، لا تقربوا.
وبالمناسبة كل الأشياء التي يكون فيها دوافع نفسية ورغبة من الإنسان إذا دققنا بالقرآن نجد لا تقرب:

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
(سورة الأنعام)

الفطرة هي التوحيد
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ﴾ أما الأشياء التي لا يكون فيها دوافع نفسية غالباً يأتي بها الأمر مباشراً ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ الشرك بالله ليس له قوة جذب، هو أصلاً خلاف الفطرة، الفطرة هي التوحيد، أما الزنا له قوة جذب، الفواحش لها قوة جذب، المال مال اليتيم له قوة جذب، ماله أمامك، ماله بين يديك، وهو غير قادر على أخذه ولا يعلم، وأنت دخلت بتجارة فيه، وقلت له خسر، قوة جذب مخيفة للمال والنساء، فلذلك يأتي معها ﴿وَلَا تَقْرَبُوا﴾ يعني انتبه فالموضوع حساس.
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ الفاحش من القول، والفاحش من الفعل هو الشيء الذي لا يستسيغه شرع ولا فطرة، فاحش، فهناك فواحش ظاهرة، وهناك فواحش باطنة، فأحياناً الزنا طبعاً سابقاً كان من الفواحش الباطنة، الخمر كان عندهم من الفواحش الظاهرة، اليوم في بعض المجتمعات انتقل الزنا للفواحش الظاهرة، ما عاد يُستحيا به والعياذ بالله، فقال: ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ فالفحش لا يعني أن الفاحشة ظاهرة، قد يتوهم الإنسان أنه بينه وبين نفسه يفعل ذلك، ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ يوجد ظاهر ويوجد باطن.

الوصية الخامسة: ألا يقتل الإنسان النفس التي حرم الله:
﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ الوصية الخامسة ألا يقتل الإنسان النفس التي حرم الله، والنفس التي حرمها الله هي كل نفس إلا ما كان في الحرب والمعركة بشروطه المعتبرة في الجهاد، فالنفس هي النفس المؤمنة المسلمة، ونفس غير مؤمنة فهي معصومة، فالقتل محرم ليس قتل النفس المسلمة فقط، قال: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ﴾ أيّ نفس خلقها الله يحرم قتلها إلا ما كان في حالات الجهاد والمعركة بشروطه المعتبرة شرعاً، هذا أمر آخر، وقال: ﴿الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ﴾ أي التي حرم الله قتلها ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ والحق هو ثلاثة، وضحها النبي صلى الله عليه وسلم:

{ لا يحلُّ دمُ امرىءٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ :النفسُ بالنفسِ، والثيبُ الزاني، والتاركُ لدينه المفارقُ للجماعةِ. }

(الألباني)

النفس بالنفس القصاص:

وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(179)
(سورة البقرة)

(والثيبُ الزاني، والتاركُ لدينه المفارقُ للجماعةِ) وكلها لها شروط شرعية معتبرة ليس الآن مجال بسطها، وأهم هذه الشروط أن هذه الثلاث أوكلها الإسلام للحاكم، لا للأفراد، فالقصاص وإقامة الحد على الزاني المحصن، وإقامة الحد على المرتد بعد استتابته، وتركه للجماعة، وحربه على الإسلام، كل هذا بشروطه المعتبرة، والحاكم هو الذي يقيم ذلك، هذا معنى ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾.
﴿ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ﴾ أول خمس وصايا هذه ختامها ﴿ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ هذه الأمور كان العرب في الجاهلية خاصة الشرك بالله لا يعقلونه، يعني لا يحاكمون الأمور، قلنا سابقاً العقل هو عملية يقوم بها الإنسان فيخرج بمخرجات معينة، فلما كانت عقولهم قاصرة عن هذا الفهم، أساؤوا في هذه الأمور الخمس فقال تعالى ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ توجه إلى أن العقل يقتضي أن توحد، والعقل الصحيح يقتضي أن تحسن بوالديك أو إلى والديك، والعقل الصحيح يقتضي ألا تقتل ابناً وهبك الله إياه، هذا خلاف العقل، والعقل الصحيح يقتضي ألا تقرب الفواحش لأنها تسيء إليك.

الوصية السادسة: حفظ مال اليتيم:
تثمير المال هو الذي هو أحسن
﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ شخص معه مال ابن أخيه جاءت صفقة رائجة، احتمال الربح فيها فوق 90% هذه ﴿إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، أدخل له المال، جعل له المئة مئة وعشرين، صار ينفق عليه من الريع، وحفظ له أصل المال هذه ﴿بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أما اتخذ مال اليتيم دريئة لماله، يوجد صفقة غير واضحة المعالم، أنا لم أفعل شيئاً تاجرت له بالمال فذهب، لماذا لم تضع مالك؟ لأنك تشعر أن الصفقة فيها مشكلة، فوضعت ماله، هذا استخدم مال اليتيم دريئة لماله، أو أنفق عليه من رأس المال لأنه لا يريد أن يتاجر ويتعب، فلما بلغ أشده المئة صاروا خمسين، قال له: أنفقنا نصف المال، لم يبق سوى نصفهم، هو لم يفعل شيئاً، أطعمه وشربه بهم، لكن هذا ليس ﴿بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ هذا فيه مضرة له، فتثمير المال هو الذي هو أحسن، وتقليله هو الأسوأ، فقال: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ فيُدفَع إليه ماله.

الوصية السابعة: الوفاء بالكيل والميزان:
﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ هذه الوصية السابعة، هناك أشياء تُكال كالحليب والسوائل، وأشياء توزن كالبقوليات، وكله يحتاج إلى وفاء يعني أن تعطيه الحق وافياً غير منقوص، الكيلو كيلو وليس 950 غ، ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ أي بالعدل.
﴿لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ يعني إذا استتفدت الجهد في وفاء الكيل والميزان ثم حصل خطأ غير مقصود فلا يكلفك الله تعالى به بعد استنفاد الجهد، وهذا من رحمة الله ﴿لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ وأي إنسان يقول لك والله الأمر صعب، يعني ترك الربا بهذا الزمن صعب ﴿لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ الله لا يكلفك شيء ليس بوسعك، يعني كأن العرب في الجاهلية كان كثير منهم يعرفون ذلك، فيرعون حق اليتيم، ويوفون الكيل والميزان، ويعيبون على من لم يوفِ الكيل والميزان، فكانوا لا يعرفون الغش، ويعدلون في القول، العربي معروف كلمته كلمة، ويوفّي بالعهود مع الناس، يقول لك أنا عاهدته فلا أغدر به، فقال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ الأمر يحتاج تذكر فقط، لأنكم تعرفونه، هناك ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ لأن الأمر خارج حدود المنطق، هنا ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ لأن الأمر يحتاج إلى تذكر فقط؛ لأن أخلاق العرب تعرف هذه الأمور.

الوصية الأخيرة: أن نتبع صراط الله المستقيم:
والوصية العاشرة: الآية الأولى خمس وصايا، والثانية أربع وصايا، والآية الثالثة الحاسمة وصية واحدة لكنها جامعة مانعة لكل ما سبق:

وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
(سورة الأنعام)

الحق واحد لا يتعدد
خطَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطاً، وخطّ عن يمينه وعن شماله خطوطاً، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ هذا من الوسائل التعليمية اليوم، وسيلة تعليمية، خطَّ خطوطاً، وخطَّ خطاً مستقيماً، الحق واحد لا يتعدد، المستقيم أقصر طريق بين نقطتين، الخطوط المتعرجة كثيرة وطويلة ومتشعبة، الطريق المستقيم واضح حق صريح، لا يحتاج إلى طول بحث ودرس، وإنما قد وضحه الله لك ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ أي تبعدكم عن سبيل الله تعالى ﴿ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ لأن هذه العاشرة هي الوصية الجامعة لكل ما سبق، وتأتي ما يحبه فتتقي ناره وترجو جنته، فقال: ﴿ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
إذاً: هذه وصايا عشر، الآية الأولى فيها خمس وصايا تحتاج إلى عقل، وتأمل، وتدبر، وتفكر، حتى تفهم حقيقتها، وعلى رأسها التوحيد، وبر الوالدين، والأربعة في الآية الثانية تحتاج إلى تذكر، فإنها من أخلاق العرب، وشيم العرب، وهي حفظ مال اليتيم، والوفاء بالكيل والميزان، والوفاء بالعهود، وقول الحق ولو كان مراً، والوصية الجامعة المانعة أن نتبع صراط الله تعالى المستقيم الذي هو صراط الجنة الموصل إلى مغفرة الله تعالى ورضوانه.
والحمد لله رب العالمين.