كلمة الدكتور بلال نور الدين في سهرة إيمانية في عمان حول العدوان على غزة

  • 2023-10-13

كلمة الدكتور بلال نور الدين في سهرة إيمانية في عمان حول العدوان على غزة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين.
وبعد أيها الإخوة الأحباب، ففي حضور فضيلة شيخنا الدكتور أحمد نوفل حفظه الله، وشيخنا الدكتور محمد راتب النابلسي بارك الله لنا في عمريهما وحفظهما ما يكون لي أن أتكلم إلا أن شيخنا إذ قُدّم أشار إلي أن قم فقمت، فجزاه الله خيراً، وهذا شرف لي أن أتكلم باسمه.
أيها الكرام، لا حديث اليوم يمكن أن يُسمع إلا حديث فلسطين، ولا كلمة يمكن أن يكون لها أثر إلا كلمة أهل غزة، فهذا الحدث هو حديث الساعة، وهو واجب الوقت.

سنن الله تعالى ثابتة:
أيها الإخوة الكرام، لله تعالى سنن، وإن الله تعالى يقول في كتابه الكريم:

اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
(سورة فاطر)

سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا(77)
(سورة الإسراء)

والسُّنّة كما تعلمنا من أشياخنا هي ما يقابل القانون في العرف الحديث، بمعنى أنه شيء ثابت لا يتغير ولا يتبدل، والله تعالى له سنن، ومن سننه سنة التدافع بين الحق والباطل، فقد جعل الله الحياة مبنية على وجود خير وشر، وحق وباطل، والحق يتدافع مع الباطل، هذه سنة من سنن الله، هذا قدرنا، هذا أمر لا مفر منه، الحرب بين الحق والباطل حرب قديمة مستمرة إلى يوم القيامة.

الفرق بين الحق والباطل:
والحق: هو الشيء الثابت الهادف، بينما الباطل: هو الشيء العابث والزائل، قال تعالى:

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81)
(سورة الإسراء)

ولكن في عصورٍ ما، يزيد أهل الحق من تمسكهم بحقهم ودفاعهم عنه، وتضحيتهم دونه، فيظهر الحق ويعلو، وفي زمن آخر يتنازل أهل الحق عن حقهم فيغترّ أهل الباطل بباطلهم فيظهر للناس أن الباطل قد علا، والباطل زهوق لا يعلو، لكن السُّنّة قائمة، ومن رحمة الله بهذه الأمة أنه لا يترك للباطل مجالاً أن ينفرد بالساحة، ففي كل عصر، وفي كل مصر، تجد أهل الحق يعلو صوتهم، ولا ينفرد وقتٌ بالباطل؛ لأن الله رحيم بهذه الأمة، ومن هنا فقد قال صلى الله عليه وسلم:

{ لا تَزالُ طائفةٌ من أُمَّتي ظاهِرِينَ على الحقّ، لا يَضُرُّهم مَن خذلهم حتى يأتىَ أمرُ اللهِ، وهو كذلك. }

(صحيح الجامع)


لماذا لم يأتِ النصر؟
فلا يمكن أن ينفرد الباطل بالساحة، آيةٌ كريمة في كتاب الله تراودني منذ أيام، وتجيب على أسئلة تجول في بالي، فلو سأل سائل فقال: ألا يمكن أن ينتصر الله تعالى للضعفاء؟ ألا يمكن أن تنتهي المعركة بعد دقيقة بل بعد ثانية واحدة، فيُحِقّ الله الحق بكلماته وينجز وعده لعباده المستضعفين؟ الجواب: بلى؛ لأن الله تعالى قدرته مطلقة، وخياراته لا محدودة، نحن البشر قدراتنا محدودة، وخياراتنا محدودة جداً، فقد يريد الواحد منا شيئاً ولا يملك الإمكانات لتحقيقه، وقد يريد شيئاً ولا يجد خيارات أمامه لتحقيقه، أما الخالق جل جلاله فقد تعلقت قدرته بكل ممكن، وهو على كل شيء قدير، إذاً يمكن وبلحظة واحدة أن يغير الله الموازين كلها، قال تعالى:

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
(سورة محمد)


سنة التدافع بين الحق والباطل:
نقطة انتهى، إذاً لماذا يا رب؟ لماذا لا تنتصر منهم؟ لماذا لا تنتصر للمظلوم من الظالم؟ لماذا لا تنتقم لهؤلاء المظلومين؟ تابعوا الآية الكريمة ففي القرآن شفاء، قال: ﴿وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ﴾ إنها سُنّة التدافع، لا بد أن يُبتَلى أهل الحق بأهل الباطل، وأهل الباطل بأهل الحق، لا بد أن يُبتلى المستضعفون بالجبابرة، والجبابرة بالمستضعفين، وتشاهدون اليوم في هذه المعركة الأخيرة التي هي معركة كانت سابقاً معركة ألمٍ فحسب، لكنها اليوم معركة ألم ممزوج بالأمل، إنها جرعة منعشة من الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الرجال الصابرين، المرابطين، الثابتين على الحق، ترون كيف بلا الله بعضنا ببعض، ألا ترون إلى الخائنين؟ ألا ترون إلى المطبّعين؟ ألا ترون إلى المنافقين؟ ألا ترون إلى المُخذّلين؟ ظهروا على حقيقتهم، وفي الوقت نفسه ألا ترون إلى أصحاب الحق وهممهم المرتفعة؟ ألا ترون إلى الشهداء الذين اتخذهم الله تعالى من هذه الأمة؟ ألا ترون إلى قوة الأقوياء وعزة أهل العز؟ بلا الله بعضنا ببعض، ولو لم تكن هناك معركة لما ابتُلي ولمَا ظهر أحد على حقيقته، ﴿وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ﴾ فيأتي السؤال الثالث ويقفز إلى الذهن فوراً، ولكن يا رب الفاتورة غالية، والشهداء كُثر، والدماء سالت، تابعوا الآية يا عبادي:

وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
(سورة محمد)


أعظم هزيمة هزيمة الذات:
آية واحدة لقيام الساعة، ولكن لماذا يُصاب بعض المسلمين اليوم بأعظم هزيمة؟ أتظنون أن أعظم هزيمة هي هزيمة المعركة، أو هزيمة السياسة، أو الاقتصاد، أو الاجتماع، أو الأسرة؟ لا والله، أعظم الهزائم أن تُهزم الذات، أن تُهزم النفس؛ لأن المهزوم أمام نفسه لا يستطيع أن يواجه نملة في أرض المعركة، ما مشكلة المهزومين نفسياً؟ مشكلتهم أنهم ينظرون إلى الزمان والمكان نظرة ضيقة، لا يقرؤون التاريخ، فيصابون بالهزيمة.

صور من التاريخ:
أين التتار؟ أربعون يوماً لم تُقم صلاة في مسجد واحد من مساجد بغداد، كان التتري يقول للمسلم ابقَ مكانك لأذهب وأحضر سيفي لأقتلك فينتظره، إلى هذا الحد، وأين التتار اليوم؟ لقد غير الله الواقع وبدّل الحال.
الصليبيون هجموا على المسلمين، الصليبيون 91 عاماً لم تُقم صلاة في مسجدنا المبارك الأقصى.
القرمطي المجرم دخل إلى كعبة الله تعالى والمسلمون بملابس الإحرام، وقتلوا من قتلوا، وأخذ الحجر الأسود ورفعه من مكانه، ورفع رأسه إلى السماء يتحدى أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ وبقي الحجر الأسود عشرين سنة بعيداً عن الكعبة، ثم بدّل الله الواقع وغيّر الحال.
لئن عرف الله التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج

لا يكون الصبر إلا مع المعرفة:
إذاً أيها الكرام، لا ينبغي أن ننظر إلى الزمان والمكان نظرة ضيقة، ثمّ وهذا أمر مهم جداً، قالوا: لن تصبر حتى تعرف لماذا سيدنا موسى عليه السلام لم يصبر على العبد الصالح؟ الكلمة المفتاحية قالها العبد الصالح، قال له:

وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا(68)
(سورة الكهف)

إذا كنت لا تعرف فلن تصبر، الذي يعرف يصبر، لماذا يصبر أهلنا في غزة، وأهلنا في فلسطين؟ لأنهم يعرفون ما أعد الله للصابرين، لماذا يجزع من يجزع، ويرتعد من يرتعد، وينافق من ينافق؟ لأنهم لا يعرفون، لماذا رغم ألمنا نستشعر الأمل؟ لأننا نعلم أن من نُودّعهم اليوم ونشيّعهم قد ذهبوا إلى مكان أجمل من المكان الذي نعيش فيه، وهذا لا يلغي الألم، ولكنه يخففه ويجعله ممزوجاً بالحب؛ لأنهم ينتظرون موعود الله تعالى، وقد وصلوا إلى ما أرادوا "غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه" إذاً أيها الإخوة الأكارم، من أراد أن يصبر فعليه أن يعرف.
آخر ما أقوله مثال على هذا الموضوع قد استفدته من شيخنا فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، وكل ما قلته قد استفدته منه، لكن هذه على وجه الخصوص.
مثال: أبٌ وابنه ذهبا إلى طبيب الأسنان، الطفل صغير عمره ست سنوات، جلس على كرسي طبيب الأسنان فملأ العيادة صراخاً، وركل الطبيب بقدمه وشتمه، والطبيب يضحك، ثم ثبّته والده من أجل إزالة التسوس من فمه، وهو يشتم الطبيب، جاء دور الأب فجلس على الكرسي، وتحمّل الألم، وتشبّث بالكرسي، ثم شكر الطبيب، وأعطاه مبلغاً من المال، ما الفرق بين الصغير والكبير؟ الفرق أن الكبير يعرف، والصغير لا يعرف، فصبر الكبير، ولم يصبر الصغير، فلن تصبر حتى تعرف، فإذا عرفت صبرت، إذا عرفت حقيقة المعركة صبرت على لأوائها، إذا عرفت حقيقة الآخرة صبرت على الدنيا، إذا عرفت ما أعده الله للصابرين صبرت على ما في الدنيا من لأواء ومشقة.
أيها الكرام، أسأل الله أن يرزقنا الصبر والثبات، أسأل الله أن يثبت أقدام المجاهدين، أسأل الله أن يُزِلّ الخونة والمنافقين والمجرمين، وأن يعلي راية الإسلام خفّاقة، أن يرحم الشهداء، وأن يشفي الجرحى، وأن يكتبنا في أجر وثواب وسط ما نستطيع ونقدم، ولكل سهم مما يقدمه.
والحمد لله رب العالمين.