• تدبر القرآن الكريم
  • 2024-11-25

تأملات في سورة الكهف

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، عنوان لقائنا اليوم: تأملات في سورة الكهف.

رأس مال الإنسان دينه فهو نجاة الأبد أو خسارة الأبد:
أيُّها الإخوة الأكارم: اخترت هذه السورة سورة الكهف، لأنها سورة العصمة من الفِتن، ونحن في زمن الفِتن، واشتدَّت الفِتن، ولا أقصد بالفِتن هنا الشهوات الجلية فحسب، فهذه مع الأسف أصبحت أهون الفِتن على صعوبتها، فالنساء فتنة والمال فتنة، لكن من الفِتن العظيمة اليوم، تأخر النصر فتنة، تأخر التمكين في الأرض فتنة، ما يصيب المسلمين فتنة، ما يشتدّ به أذى أعدائهم عليهم، مع استضعافٍ لم يسبق له مثيل فتنة، التخاذل غير المسبوق في نصرة الضعفاء والأخذ بيدهم، والأخذ على يد من يظلمهم فتنة، فهذه الفِتن لا أُبالغ إذا قلت هي أشدُّ من الفِتن المعهودة التقليدية، كشهوة النساء وشهوة المال، على عِظم كل هذه الفِتن، فاشتداد الفِتن يوحي بالإنسان أو يذهب به إلى أنه بحاجةٍ إلى الكهف، الملجأ، الحصن الذي يحتمي به حتى لا يخسر دينه، لأنَّ الإنسان رأس ماله دينه، فهو نجاة الأبد أو خسارة الأبد، فإذا خسر دينه فقد خسر الدنيا والآخرة والعياذ بالله، أمّا إذا بقي ثابتاً رغم المِحن، ولقي الله صابراً، ثابتاً، راضياً بقضائه وقدره فقد فاز

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(20)
(سورة الحديد)

فمن هذا المنطلق لا بُدَّ من الكهف، هذا الكهف هو هذا المجلس الذي نأوي إليه أسبوعياً هو كهف، وغيره من مجالس العِلم والخير، الصديق الصالح الذي يصحبك في حِلك وترحالك، تبثه همومك، تحكي له عن بعض ما يراودك من شُبهاتٍ، من أشياءٍ، فيقوِّي عزيمتك كهف، بيتك كهفٌ تأوي إليه، فتدخل إلى بيتك بعدما سمعت من هنا ومن هنا، وتحليلات وتحليلات، فتأوي إلى أسرتك الصغيرة، فتقوم عليها هذا كهف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ بلِ ائتَمِروا بالمعروفِ، وتناهوا عنِ المنْكرِ حتَّى إذا رأيتَ شحًّا مطاعًا، وَهوًى متَّبعًا، ودنيا مؤثَرةً، وإعجابَ كلِّ ذي رأىٍ برأيِهِ فعليْكَ نفسَكَ، ودع عنْكَ العوامَّ، فإنَّ من ورائِكم أيَّامَ الصَّبرِ الصَّبرُ فيهنَّ مثلُ قَبضٍ على الجمرِ للعاملِ فيهم مثل أجرِ خمسينَ رجلًا يعملونَ مثلَ عملِهِ }

(الألباني السلسلة الضعيفة)

{ بَيْنا نحنُ حَوْلَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إذْ ذُكِرَتِ الفِتنةُ، أو ذُكِرَتْ عندَهُ الفِتنةُ، فقال: إذا رأيْتُمُ النَّاسَ قدْ مَرِجتْ عُهودُهم وخفَّتْ أمانتُهم، وكانوا هكذا، وشبَّك بيْنَ أصابعِهِ، فقُلْتُ: فكيف نفعَلُ عندَ ذلك؟ جعَلني اللهُ فِداكَ، فقال لي: الزَمْ بيتَكَ، واملِكْ عليكَ لسانَكَ، وخُذْ ما تعرِفُ، ودَعْ ما تُنكِرُ، وعليكَ بأمرِ الخاصَّةِ ، ودَعْ عنكَ أمرَ العامَّةِ. }

(أخرجه أبو داوود وابن ماجه وأحمد)


سورة الكهف هي الحماية من الفتن:
شُحَّاً مطاعاً المادية، اليوم المادية مُطاعة، اليوم الناس إلهَهُم المادة، قريش كان إلهَهُم الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ويعرف العاقلون أنها لا تضر ولا تنفع، المادية لا تضر ولا تنفع لكن على الشبكية تضر وتنفع، فالناس اليوم ينظرون إلى أنَّ المادية تفعل لهم أشياءً كثيرة، تحقق لهم الرفاه مثلاً، (إذا رأيتَ شحًّا مطاعًا، وَهوًى متَّبعًا) شهوة النساء، هوى النفس، المال والنساء هوىً مُتَّبعاً، اليوم يقال ستأتي فلانة لتُحيي الحفل الفلاني، فيحضُر الألوف، أو مئات الألوف، أو الملايين على مدى أيامٍ، من أجل النظر إليها، هذا واقع.
(وَهوًى متَّبعًا) الناس يتَّبِعون الأهواء اليوم لا يتَّبِعون الهدى (وإعجابَ كلِّ ذي رأىٍ برأيِهِ) كل واحدٍ الحقّ معه والباقي على ضلال، هذه الثلاثية لم يسبق أن تحقَّقت كما في هذا الزمن ( شحًّا مطاعًا، وَهوًى متَّبعًا، ودنيا مؤثَرةً، وإعجابَ كلِّ ذي رأىٍ برأيِهِ)، فإذاً لا بُدَّ أن تأوي إلى الكهف، فسورة الكهف هي الحماية من الفِتن، المكان الآمن، الملجأ الذي يحميك مما حولك، ولكل إنسانٍ كهفه، المسجد كهف، وقد يكون الكهف زمانياً، رمضان كهف، دورةٌ تدريبية كهف، والحج كهف، والعمرة كهف، فكل هذه كهوف.

مناسبة سورة الكهف مع سورة الإسراء:
أولاً: مناسبة سورة الكهف مع سورة الإسراء التي قبلها، سورة الإسراء افتُتِحت بالتسبيح، بينما افتُتِحت الكهف بالحمد، سورة الإسراء:

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(1)
(سورة الإسراء)

والكهف:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ(1)
(سورة الكهف)

ودائماً التسبيح يسبق الحمد.

{ كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ علَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ. }

(أخرجه البخاري ومسلم)

وفي سورة النصر قال تعالى:

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(3)
(سورة النصر)

فيأتي التسبيح ويأتي الحمد بعده، فسورة الإسراء افتُتِحت بالتسبيح، وسورة الكهف افتُتِحت بالحمد لله، في أواخر سورة الإسراء، آخر آية قال تعالى:

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ ۖ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا(111)
(سورة الإسراء)

فافتُتِحت الكهف بقوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ)، فاخُتتِمت الإسراء بالأمر بالحمد، وافتُتِحت الكهف بالحمد، وهذا أيضاً من اللطائف الجميلة، واختُتِمت الإسراء بقوله تعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) فجاء في بداية الكهف بقوله:

وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا(4)
(سورة الكهف)

التوحيد في نهاية الإسراء وبداية الكهف.
الإسراء معجزةٌ من المعجزات الحسيّة، والقرآن معجزةٌ مستمرةٌ إلى يوم القيامة من المعجزات العقلية، فجاءت الإسراء لبيان معجزةٍ من المعجزات والتسبيح عليها، وجاءت الكهف لبيان معجزةٍ أُخرى وحمد الله تعالى عليها، فهذه من المناسبات بين سورة الكهف وسورة الإسراء.

من فضائل سورة الكهف:
الأمر الثاني: كما قلنا الكهف هو الملجأ الذي يحتمي به المؤمن عند الفِتن، وفي هذا نصوص، من النصوص قوله صلى الله عليه وسلم:

{ من قرأَ سورةَ الكَهْفِ في يَومِ الجُمُعةِ سَطعَ له نورٌ من تحتِ قدَمهِ إلى عَنانِ السَّماءِ يُضيءُ بِهِ يومَ القِيامَةِ وغُفِرَ لَهُ ما بينَ الجُمعَتينِ. }

(أخرجه المنذري إسناده ضعيف)

إذاً سورة الكهف نورٌ يهدي في الطريق.
مما ورَدَ أيضاً:

{ مَن حَفِظَ عَشْرَ آياتٍ مِن أوَّلِ سُورَةِ الكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ. }

(صحيح مسلم)

وفي روايةٍ ثانية أو حديثٍ آخَر:

{ مَن قرأ العَشْرَ الأواخِرَ من سورةِ الكَهْفِ عُصِمَ من فتنةِ الدَّجَّالِ }

(أخرجه مسلم والنسائي وأحمد)

ونحن إذا نظرنا نظرةً متأنيةً، في العشر الأوائل والأواخر من سورة الكهف، وجدنا أنهما يحتويان الموضوعات نفسها، العشر الأوائل والختام الموضوعات نفسها، القرآن الكريم (الْحَمْدُ لِلَّهِ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ) وفي نهاية الكهف:

قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا(109)
(سورة الكهف)

(وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) نهايتها:

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(110)
(سورة الكهف)

فالقرآن في البداية والختام، التوحيد في البداية والختام، رسول الله صلى الله عليه وسلم في البداية:

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا(6)
(سورة الكهف)


سورة الكهف هي النور والعصمة من الدجَّال:
في الختام (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ) فالموضوعات متناسبة بين المبدأ والختام، فجاءت العشر الأوائل أو الأواخر عِصمةٌ من الفتنة، فتنة الدجَّال، هذا العصر عصر الدجاجلة، وبين يَدي الدجَّال دجاجلةً كُثر، يتجلى هذا الدجل بشكلٍ واسعٍ جداً، فكم ترى اليوم من الدجَّالين الذين يكذبون، لكن أحياناً يكذبون في المؤتمرات الصحفية، ويكذبون في المنتديات ووسائل الإعلام، ثم يأتي الدجَّال الأكبر، ليتوِّج هذه الحالة من الدجَل، التي أصبح الناس يُصدِّقون كل ناعقٍ، ويتَّبِعون كل دجَّالٍ، ويُعرضون عن كل صادقٍ أمين يريد لهم الخير.
فسورة الكهف هي النور والعِصمة من الدجَّال ويتكاملان، فمن عُصِم من الدجَّال كان له نورٌ يمشي به في الناس، ومن كان له نورٌ يمشي به في الناس عُصِم من الفِتن التي تنتشر، ولاسيما فتنة الدجَّال التي حذَّر منها النبي صلى الله عليه وسلم أبلغ تحذير.

الإنسان وحده يهلك وبالجماعة يقوى:
أيضاً إذا نظرنا في الكهف، وجدناه يشبه غارَين، غار حِراء وغار ثور، غار حِراء هو الغار الذي كان يأوي إليه النبي صلى الله عليه وسلم ليتعبَّد الله تعالى الليالي ذوات العدد، وكان يتفكَّر وينظر إلى حال قومه، ويأسى لحالهم، ويهرب بدينه منهم ومن أذاهم ومن بطشهم، كذلك كان الكهف ملجأً لهؤلاء الفتية الذين هربوا من أذى قومهم، ومن السلطان الجائر الذي تسلط عليهم.
غار ثور كان في طريق الهجرة، وكان فيه الصاحب أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، والفتية

نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى(13)
(سورة الكهف)

كان معهم أيضاً جمع، لتتخذ دائماً في طريقك إلى الله صُحبةً، ولو كانت صاحباً واحداً تُعينك على الطريق، فالإنسان وحده يهلَك وبالجماعة يقوى، هم هاجروا إلى الله، والنبي صلى الله عليه وسلم هاجر فدخل غار ثور في طريق هجرته، ومكث فيه ثلاث ليالٍ في طريقه إلى الله، فالغار والكهف أيضاً مسألةً تستحق النظر.
سورة الكهف نزلت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي سورةٌ مكيّة، ونزلت بعد اضطهاد المشركين للمسلمين، يعني في السنة الرابعة للبعثة، ربما في هذه الأوقات بعد ثلاث سنواتٍ من البعثة، اشتدَّ أذى المشركين، فجاءت هذه السورة وفيها تسليةٌ للنبي وأصحابه عمّا يلاقونه من الأذى، ودعوةٌ لهم للاحتماء بالله تعالى بكهفهم، أيام ما كانوا في دار الأرقم يجتمعون به، كان كالكهف بالنسبة لأصحاب رسول الله، يجتمعون به يتلون كتاب الله، يتدارسونه، يتعلمون سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

سبب نزول سورة الكهف:
أمّا سبب نزولها، فهو أنَّ قريشاً بعثت النضر وعقبة إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهم: نريد قولكم في أمر محمد، هل هو نبيٌ مرسل؟ أم هو متقوِّل؟ يعني يقول شيئاً ليس صحيحاً يتقوَّل:

وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44)
(سورة الحاقة)

فالتقوُّل هو أن تقول شيئاً لكنه ليس صحيحاً، أن تدعي شيئاً ليس صحيحاً

{ عن ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهمَا أنَّ مُشْرِكِي قريشٍ بعثوا النَّضْرَ بنَ الحارثِ، وعقْبَةَ بنَ أبي مُعَيْطٍ إلى أحبَارِ اليهودِ بالمدينةِ فقالوا لهُمْ: سَلُوهُمْ عن أَمْرِهِ وأَخْبِروهم خَبَرَهُ وصِفُوا لهم مَقَالَتَه، فإنهم أهلُ الكتابِ الأولِّ وعندَهُمْ علْمٌ ما ليسَ عندنَا من علمِ الأنبياءِ، فقَدِمَا المدينةَ فسألا أحبارَ اليهودِ عنهُ، وأخبرُوهم بمَا يقولُ، فقالوا لهُم: سَلُوهُ عن ثلاثٍ فإنْ أخْبَرَكُم بهنَّ فهوَ نبيٌّ مرسَلٌ، وإلا فهوَ رجلٌ مُتَقَوِّلٌ، سلُوهُ عن فِتْيَةٍ ذهبوا في الدهْرِ الأوَّلِ ما كانَ من أمرِهِم؟ فإنَّهُم كانَ لهمْ حديثٌ عجِيبٌ، وسلُوهُ عن رجلٍ طوَّافٍ طافَ مشارِقَ الأرضِ ومغارِبَها ما كان نَبَؤُهُ؟ وسلُوهُ عن الرُّوحِ ما هُوَ؟ فانْطَلَقَا فقَدِمَا مكةَ فقالا: يا معشَرَ قريشٍ قدْ جئْنَاكُم بفَصْلِ ما بينكم وبينَ محمدٍ، أمَرَنَا أحبارُ اليهودِ أنْ نسْأَلَهُ عن ثلاثٍ، فذكَرَ القصَّةَ، فجاءوا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فسأَلُوهُ عن ذلكَ فقالَ: غدًا أجِيبُكُم ولم يَسْتَثْنِ، فمَكَثَ خمسَ عشرَةَ ليلةً لا يُحْدِثُ اللهُ إليهِ في ذلكَ وحيًا، ولا يأتِيهِ جبريلُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، حتَّى أحْزَنَ ذلكَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وأَرْجَفَ بهِ أهلُ مكةَ، فقالُوا: وعَدَنَا أنْ يجيبَنَا غدًا وقدْ مَضَتْ خمسِ عشرةَ ليلةً ، أصبحْنَا منْها اليومَ لا يخبِرُنَا عمَّا سأَلنَاهُ عنهُ، فنزلَ عليهِ جبريلُ بسورةِ الكهفِ، فعَاتَبَهُ في أوَّلِهَا على حزْنِهِ عليهمْ ثمَّ أخبَرَهُ بخبَرِ أهلِ الكهفِ، وأخبَرَهُ عن الرجلِ الطوَّافِ، ونزلَ قولُهُ تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} الآية(85) سورة الإسراء }

(أخرجه الترمذي وأحمد والبيهقي )

يهود عندهم معلومات إمّا من كتابهم من التوراة، أو من إنبائهم بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سيأتي وعنده الغيب، فاسألوهم عن هذه الأمور التي يعلمونها جملةً، لكن يعلمون تفاصيلها، يعلمون أنَّ هناك نفرٌ من البشر لهم أمرٌ عجيب كانوا في الزمن الأول، فما شأنهم؟
(ولم يَسْتَثْنِ) يعني لم يقل إلا أن يشاء الله شيئاً، وإنما أخبركم غداً، والحقيقة أنَّه لمجرَّد أنه قال أُخبركم غداً فهو نبيٌ يوحى إليه، يعني لمجرَّد أنه أجَّل الجواب فهو نبي لأنه ينتظر وحياً، لأنه لو كان متقوُّلاً لقال من عنده ما عنده، لكن لمّا قال أُخبركم غداً، إذاً هو ينتظر الوحي من السماء، فبمجرَّد هذا القول ثبتت لهم نبوُّته وأُقيمت عليهم الحُجَّة.
ومع ذلك فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً وهذا له حكمة، الحكمة الأولى هي بيان أمرٌ مهم وتعليمٌ للأمة، وهو أن لا يعزم الإنسان على أمرٍ فيقول إني فاعلٌ ذلك غداً إلا أن يشاء الله، يعني نعوِّد لساننا أننا إذا قلنا غداً فنقول إن شاء الله، ونعوِّد أنفسنا مع أولادنا خصوصاً، أنَّ كلمة إن شاء الله ليست تلك الكلمة التي نريد أن نتهرب بها من فعل شيءٍ ما، لأنَّ الناس اعتادوا أنَّ إن شاء الله يعني لن أفعل، نعوُّدهم أننا إن قلنا إن شاء الله ففعلاً نحن عازمون، وإلا قل له لن أفعل، أو أنَّ الآن هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة لن أفعله، لكن إذا قلت له إن شاء الله ففعلاً إن لم يغلبنِ أمر أو يمنعني مانع فسأفعل، حتى يرى الطلاب والناس بعيونهم أنَّ هذا فعلاً واقع، عندما يقول إن شاء الله إذاً هو عازمٌ على الفعل، لكن قد يمنعه مانعٌ فيحول بينه فيؤجَّل الأمر أو يُلغى، فهذا جانب.
لكن الجانب الآخر هو أنَّ الله تعالى أراد أن يقول لهؤلاء، إن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يريد أن يخبركم بما عنده، لأخبركم خلال يوم أو يومين ولما وقع في هذا الحرَج، وإنما هو نبيٌّ مُرسل ينتظر الوحيَّ من الله تعالى، وهذا يشبه ما حصل في حادثة الإفك، يوم تأخر الوحي أربعين يوماً عن رسول الله في تبرئة السيدة عائشة رضي الله عنها، فظهر لمن له عقلٌ أو لُب، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول من عنده، إذ لو كان يقول من عنده لبرَّأ زوجته الطاهرة بعد دقائق، وأنهى هذه الحالة من الجدَل، ولكن الله عزَّ وجل أجَّلها من الحِكَم، والحِكَم كثيرة

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11)
(سورة النور)

من خيرية الحِكَم أنه ظهر للناس جميعاً، المُشكِّك منهم، أنَّ الوحيَّ من الله وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا أن يوحى إليه بالأمر، فأخبرهم بما كان من أمر هؤلاء وأجابهم عن أسئلتهم الثلاثة.

من لطائف سورة الكهف أنها سبب لتنزل السكينة وهي عصمة من الدجَّال:
من خصائص سورة الكهف أنَّ قراءتها سببٌ لتنزُّل السكينة، والقرآن كله كذلك، لكن وردت في السورة تحديداً عن البراء قال:

{ قَرَأَ رَجُلٌ الكَهْفَ وفي الدَّارِ الدَّابَّةُ، فَجَعَلَتْ تَنْفِرُ، فَسَلَّمَ، فَإِذَا ضَبَابَةٌ -أوْ سَحَابَةٌ- غَشِيَتْهُ، فَذَكَرَهُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ: اقْرَأْ فُلَانُ؛ فإنَّهَا السَّكِينَةُ نَزَلَتْ لِلْقُرْآنِ. أوْ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ. }

(صحيح البخاري)

فنزلت السكينة وهذا في القرآن كله، ولكن وردت في الكهف لطيفةٌ من اللطائف، وكما قلنا هو عصمةٌ من الدجَّال قراءة الكهف، يقول صلى الله عليه وسلم عن الدجَّال:

{ ذكر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدَّجَّالَ فقال إن يخرُجْ وأنا فيكم ! فأنا حجيجُه دونكم، وإن يخرُجْ ولست فيكم، فامرؤٌ حجيجُ نفسِه، واللهُ خليفتي على كلِّ مسلمٍ، فمن أدركه منكم فليقرَأْ عليه فواتحَ سورةِ الكهفِ، فإنَّها جِوارُكم من فتنتِه. قلنا: وما لُبثُه في الأرضِ؟ قال: أربعون يومًا: يومٌ كسنةٍ ويومٌ كشهرٍ، ويومٌ كجمعةٍ، وسائرُ أيَّامِه كأيَّامِكم فقلنا: يا رسولَ اللهِ: هذا اليومُ الَّذي كسَنةٍ أتكفينا فيه صلاةُ يومٍ وليلةٍ؟ قال: لا، اقدُروا له قدرَه، ثمَّ ينزِلُ عيسَى بنُ مريمَ، عند المنارةِ البيضاءِ شرقِيَّ دمشقَ فيُدرِكُه عند بابِ لُدٍّ فيقتُلُه. }

(صحيح مسلم)

لأنَّ سورة الكهف فواتحها وخاتمتها ثوابت، ثوابت العقيدة في الفاتحة والخاتمة، ومواجهة الفتن تحتاج إلى إيمان، إلى عقيدة، ما الذي يجعلك تواجه الفتنة؟ ثباتك على مبادئك وقيمك، ما الذي يجعل فلان يهتز عند الفتة، والثاني يقول لك أنا إيماني لا يتزعزع، لا يتعلق لا بالنصر ولا بالهزيمة، لا بالقوة ولا بالضعف، أنا مؤمن، عقيدته، ثباته، هذا الثبات يأتي من تمسكك بدينك، فهذه المبادئ موجودةٌ في مفتتح سورة الكهف وفي ختامها.
أيضاً الكهف من السور العتيقة، يعني من قديم ما حُفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصحابة، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:

{ عَنْ عبدِ اللَّهِ، قالَ: بَنِي إسْرَائِيلَ، والكَهْفُ، ومَرْيَمُ، وطه، والأنْبِيَاءُ: هُنَّ مِنَ العِتَاقِ الأُوَلِ، وهُنَّ مِن تِلَادِي }

(صحيح البخاري)

يعني من أول ما أخذته وتعلَّمته.
وليس فيها منسوخ، ليس في سورة الكهف أي آيةٍ منسوخة، لأن معظم ما فيها أخبار، والأخبار لا تُنسخ، الأمر قد يُنسخ، القبلة نُسخت كانت إلى اتجاه ثم إلى اتجاهٍ آخر، لكن الخبر لا يُنسخ لأنه:

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا(87)
(سورة النساء)

فليس هناك خبرٌ يُنسخ، فليس فيها منسوخ.

قصص سورة الكهف والعصمة من الفتن التي تصيب الإنسان:
الآن سورة الكهف، هذه كلها مقدِّمات، سورة الكهف هي مقدمة وخاتمة وأربع قصص وإشارات سريعة إلى قصتها، فهي قصص، المقدِّمة جاءت بالمعلومات النظرية، القصص جاءت بالتطبيقات العملية، الخاتمة تأكيدات على المعاني، بهذا الشكل، هذا الهيكل العام للسورة، القصص الأربعة التي تحدَّث عنها القرآن بتوسُّع، قصة أصحاب الكهف، وقصة صاحب الجنَّتين، وقصة موسى والعبد الصالح، وقصة ذي القرنين، وكلٌّ منها فيها عِصمةٌ من فتنةٍ من الفِتن التي تصيب الإنسان.

الفتنة الأولى فتنة السلطان:
قصة أصحاب الكهف فيها العِصمة من فتنة السلطان، عندما يكون هناك جهةٌ قوية تتحكم بك، وتمنعك من القيام بشؤون دينك وصلاتك وعبادتك لله تعالى، وتوحيدك له، تتحكم بك، يعني السلطان بغضِّ النظر سواءً السلطان الأكبر، أو سلطان مُعيَّن عليك في عملك، شيءٌ له سلطانٌ عليك، فأنت الآن في فتنةٍ أنك الآن تُمنع من أداء دينك فماذا تفعل؟ لا بُدَّ أن تنجو من هذه الفتنة لأن دينك أغلى

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا(16)
(سورة الكهف)

لا بُدّ من أن تأوي إلى الكهف.

الفتنة الثانية فتنة المال:
الفتنة الثانية هي فتنة المال، وهي من أعظم الفِتن، وهي فتنة صاحب الجنَّتين الذي قال:

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا(34)
(سورة الكهف)

والفتنة منها:

وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا(39)
(سورة الكهف)

أن تنسب الفضل إلى الله تعالى، وأن تعلم أنك مُستخلفٌ في هذا المال، وإلا يكون غرورك سبباً في إهلاك مالك، فهي فتنة وطريقة الخلاص.

الفتنة الثالثة فتنة العِلم:
والفتنة الثالثة هي فتنة العِلم، عندما يتعلَّم الإنسان يُفتَن بعلمه، يعني يظنُّ أنه أعلم أهل الأرض، أو أنه لا أحد يُجاريه في العِلم، مهما بلغت من العِلم

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ ۚ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ(76)
(سورة يوسف)

فهذا موسى عليه السلام نبيٌ من أنبياء الله تعالى، لكن الله قاده إلى رجلٍ آتاه من لدنه عِلماً

فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا(65)
(سورة الكهف)

فإذا به يتصرف بتصرفاتٍ غريبة، ثم يُبرِّرها له، وسببها العِلم الذي كان عند العبد الصالح، ولم يكن عند موسى، والعِلم أحياناً يكون عند الأدنى أكثر مما يكون عند الأعلى، فليس المهم أنني الأعلى أو أكثر شهادة، فعندي معلومة، لا، قد يكون عند طفلٍ معلومة ليست عندك، وهذا الهدهد:

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ(22)
(سورة النمل)

يقول لسليمان الذي ملَك الدنيا، يقول له: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) فقد يكون عند الأدنى من العِلم أو عند المفضول ما ليس عند الفاضل.
أيضاً الفتنة من وجهة نظر ثانية، قصة موسى والعبد الصالح، هي فتنة أنك لا تفهم شيئاً يجري في الكون، هذه فتنة، نحن اليوم أمام فتنةٍ عظيمة أننا لا نفهم لماذا يجري ذلك، سكة التصرفات الغير معلومة الحِكَم، حكمة الله في ذلك، فاليوم ننظر نحن عندنا فتنةٌ عظيمة، يعني النصر تأخر، الأطفال يقتلون، البيوت تُهدَّم، الممتلكات تُتلف، كما أُتلفت السفينة، الأطفال يُقتلون كما قُتِل الغلام

فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا(74)
(سورة الكهف)

تصرفات غير مفهومة كبناء الجدار لقومٍ لم يطعموهم ولم يضيفوهم

فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا(77)
(سورة الكهف)

فأنت أمام أحداثٍ تنظر إليها ولا تعرف ما هي حكمتها، إذاً أمام فتنة من الفِتن التي تحدثنا عنها في بداية اللقاء، فأيضاً هذه كيفية النجاة منها في الصبر

وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا(68)
(سورة الكهف)

ثم لمّا عَلِم صبر، إذاً أنت عندما تعلم الغيب، وتعلم أنَّ الله عزَّ وجل لا يتصرف إلا وفق الحكمة، ووفق علمه جلَّ جلاله، فتصبر على هذه الفِتن العظيمة.

الفتنة الرابعة فتنة التمكين:
القصة الرابعة هي قصة ذي القرنين، وهي فتنة التمكين، العكس الاستضعاف، إذا مُكِّنت في الأرض فعندك فتنةٌ أُخرى وهي فتنة الأسباب، الأسباب كلها بين يديك، يعني إنسان يقول لك هذا الموضوع يستحيل أن لا أنجح به، يعني إذا طالب درس ومُكِّن له في الدراسة، يقول لك أنا مستحيل أن لا أنجح غداً، كل أسباب النجاح بين يدي فهل ينسب الفضل إلى الله؟

قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا(95)
(سورة الكهف)

أن ينسب الفضل إلى نفسه، قارون نسب الفضل إلى نفسه، ذو القرنين نسب الفضل إلى الله.

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا(89)
(سورة الكهف)

أخذ بالأسباب لكنه يعلم أنَّ مسبب الأسباب هو الله، فإذاً هذه فتنةٌ تحتاج إلى درس، طبعاً أنا لا أُفصِّل هذه الأمور لعل نُفصِّلها في اللقاء القادم، لكن فقط أُعطي الملمح العام في سورة الكهف، الإشارتان كانت إشارة إلى بدء الخلق، وهي آدم وبداية خلقه وعلاقته مع إبليس اللعين، لأنَّ إبليس أيضاً يشارك في الفتنة، لأنه هو فتنةٌ لبني آدم، فجاءت الإشارة له سريعةً مقتضبة، وقصةٌ ثانية أيضاً جاءت الإشارة سريعةً متعلقةً بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا(28)
(سورة الكهف)

لأنَّ الفتنة هنا متعلقة بفتنة الجاه والشرف، اليوم مثلاً نكون جالسين، يدخل شخص ربما تكون ثيابه متواضعة لا يظهر عليه أثرٌ مُعيَّن، فربما لا ننتبه له، هذا خطأٌ كبير، ثم يدخل شخصٌ له مكانة في المجتمع ومعروف مَن هو، فيُقام له، ويُجلس في صدر البيت ويُضيِّف، نعم أنزلوا الناس منازلهم لا مانع، إذا كان إنسان له مكانة في قومه، أن يُنزل المكانة في كل مكان، لكن لا يعني ذلك أن يُهمَل الآخر، وخاصةً إذا كان الأمر على حساب الدين، أنت قد تكون في حسابات تجارية مختلفة، لكن عندما يكون الأمر متعلقاً بالدين، فأنت لا يُقبل منك وأنت رجُل دين إن صحَّ التعبير، أو عالم أو داعية، أن تُكرم أهل المال وتدع، فجاءت (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ ) ما علاقة ذلك بقوله تعالى في مطلع سورة الكهف:

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا(6)
(سورة الكهف)

أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا كان يجالس هؤلاء، لم يكن مجالسته لهم دنيا، وإن كان الله تعالى علَّمنا به فقال: (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) لكن النبي صلى الله عليه وسلم كانت مجالسته لهم رغبةً منه في هدايتهم، فيُعز دين الله تعالى بهم، فقال: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) فيكاد يُهلِك نفسه صلى الله عليه وسلم، ويُذهِب نفسه حسراتٍ عليهم لأنهم لم يؤمنوا، وحتى عندما عبسَ صلى الله عليه وسلم

عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ(1) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ(2)
(سورة عبس)


الإسلام يُبنى على القيَّم والمبادئ وليس على المصالح:
لأنه كان مع صناديد قريش يدعوهم إلى الهدى، وابن أم مكتوم أعمى لا يرى عبوسه، لكن الله تعالى عاتبه رغم ذلك، لأنَّ الإسلام يُبنى على القيَّم والمبادئ، وليس على المصالح، من هنا تعلَّم سيدنا عمر رضي الله عنه تلك المعادلة، كما في قصة جبلة بن الأيهم، الذي جاء مكة ليعتمر، وكان عمر وقتها في مكة، فجاء ليحج أو ليعتمر، ربما الحج كما تروي الرواية في البداية والنهاية، فجاء حاجّاً وإذا به يطوف بالبيت، وإذ برجُلٍ يطأ على طرف ثوبه فيُسقطه عنه، فأخذته العزة بالإثم، فأدار ظهره ولطمه لطمةً هشَّمت أنفه، فهو بدويٌ من فزارة، وجبلة بن الأيهم ملك الغساسنة.
فجاء به عمر رضي الله عنه، وقد صاغ الحادثة الشاعر السوري سليمان العيسى، صاغها على شكل مسرحية كانت تُمثَّل في سورية، قال له: أصحيحٌ ما ادعى هذا الفزاري الجريح؟ فقال جبلة: لست ممن ينكر شيّا، أنا أدَّبت الفتى، أدركت حقّي بيَدَيّا، قال ارضِ الفتى، لا بُدَّ من إرضاءه، ما زال ظفرك عالقاً بدمائه، أو يُهشمنَّ الآن أنفك، وتنال ما فعلته كفُّك، قال كيف ذاك يا أمير؟ هو سوقةٌ وأنا عرشٌ وتاج، كيف ترضى أن يخر النجم أرضاً، قال: "نزوات الجاهلية ورياح العُنجُهيّة قد دفنَّاها، أقمنا فوقها صرحاً جديداً، وتساوى الناس لدينا أحراراً وعبيداً، قال أنا مرتدٌّ إذا أكرهتني، قال عنق المُرتد بالسيف تُحز، عالمٌ نبنيه كل صدعٍ فيه بشبى السيف يداوى وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى"، فقال أمهلني حتى الصباح، فهرب في جنح الليل، عاد إلى مملكته وتنصَّر، ولمّا بعد حين أرسل عمر رضي الله عنه رسولاً إلى مملكة الغساسنة، قال له كيف وجدت صاحبك؟ فقال تنصَّر وشرب الخمرة، فبكى عمر رضي الله عنه، قال: وما سمعته يقول؟ قال كان يُنشِد فيقول:
ويا ليتني أرعى القِفار بمكةٍ ضـريـر الـقـوم ذاهـب الـسمع والبـصر ويا ليتني بالشام أدنا معيشةٍ وليتني رجعت إلى القول الذي قاله عمر
فقال ندم لكن بعد فوات الأوان، فقال عمر رضي الله عنه: باع آخرته بدنياه، ترك الآخرة وأخذ الدنيا.
قد يقول قائل، أما كان من المناسب أن يستجلبه عمر؟ لا، ما دام وصلت إلى الحاكم لا، ما دامت بينهما فليُصلحا بينهما، لكن ما دام وصلت إلى الحاكم، فالحاكم يأخذ الحق، فهذا البناء لا يبنى إلا بالعدل، (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ).
أيضاً آخر ما أُريد قوله في (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ) كما قلنا: باخعٌ نفسك أي مُهلكها (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء رحمةً للعالمين، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطبه ربه فقال:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ(107)
(سورة الأنبياء)

وقال:

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ(128)
(سورة التوبة)

فكانت رحمته تبدأ من الجمادات وتنتهي بأعدائه.

النبي صلى الله عليه وسلم كان مُعلِّماً رسالياً:
فحنَّ الجذع إليه صلى الله عليه وسلم، وبكى الجمل بين يديه، وكان رحيماً بأمته، ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه كان يُهلِك نفسه رغبةً في هداية الخلق، وكذلك ينبغي أن يكون الداعية الشفوف والأب الرحيم، والمعلِّم الرسالي، يُتعب نفسه في إيصال الحق إلى الناس، ودعوتهم إلى الله لعله يُنجِّيهم من عذاب الله، ولعله ينجو بهم من عذاب الله تعالى، عندنا أحياناً مُعلِّم رسالي وعندنا مُعلِّم صاحب راتب، يدخُل إلى الصف يُعطي الدرس ويخرج، يدخُل في الوقت المُقرر ويخرُج في الوقت المُقرر، لكن المُعلِّم الرسالي تقول له أحياناً: أُشفق عليك، لقد أتعبت نفسك، هدِّء من روعك، يقول لك: أُريد أن يفهم الجميع، فالنبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، كان مُعلِّماً رسالياً.

{ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَّ بمَجْلِسَيْنِ في مَسْجِدِهْ فقال: كِلَاهُمَا على خيرٍ، وأَحَدُهُما أَفْضَلُ من صاحِبِهِ؛ أَمَّا هؤلاءِ فيَدْعُونَ اللهَ ويَرْغَبُونَ إليه، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأَمَّا هؤلاءِ فيَتَعَلَّمُونَ الفِقْهَ أو العِلْمَ، ويُعَلِّمُونَ الجاهلَ، فهم أَفْضَلُ، وإنما بُعِثْتُ مُعَلِّمًا، ثم جلس فيهِم }

(الألباني هداية الرواة)

كان هدفه أن يصل الحق إلى الجميع، فمن هذا الباب كاد يُهلِك نفسه وهو يريد أن ينجو بأمته، وهو الذي يصف حاله مع أمته فيقول:

{ مثلي ومثلُكم كمثلِ رجلٍ أوقدَ نارًا، فجعل الفراشُ، والجنادِبُ يقعْنَ فيها، وهو يذُبُّهُنَّ عنها، وأنا آخُذُ بحُجْزِكُمْ عنِ النارِ، وأنتم تفْلِتونَ مِنْ يَدَيْ }

(أخرجه مسلم)

أي بالزنار، يعني لا تقتحموها وأنتم تقحَّمونها، تريدون أن تدخلوا فيها، فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء رحمةً للعالمين، وفي مطلع سورة الكهف (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) هذه محاور عامة في سورة الكهف، وإضاءةٌ سريعة من غير الدخول في تفصيلات السورة، لعلّنا في لقاءاتٍ أُخرى نُفصِّل، أقول ما تسمعون وأستغفر الله.
اللهم انصر إخواننا في غزَّة، وفرِّج عنهم فرجاً عاجلاً يا أرحم الراحمين، اللهم يا أكرم الأكرمين كن لهم عوناً ومعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً، أطعم جائعهم واكسُ عريانهم وارحم مُصابهم وأوِ غريبهم.
اللهم فرِّج عن أهلنا في فلسطين وفي لبنان وفي السودان، وفي كل مكانٍ يذكر فيه اسمك يا الله، إنك ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.