أركان النجاة الأربعة

  • تفسير سورة العصر
  • 2019-12-16

أركان النجاة الأربعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.


القسم بالله فقط لأن القسم بغير الله لا يجوز شرعاً :
أخواننا الكرام؛ سورةٌ في كتاب الله قال عنها الإمام الشافعي رحمه الله: "لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لكفتهم"، سورة واحدة، سطران في كتاب الله، قال: " لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لكفتهم"، ما هي هذه السورة؟ سورة العصر، قال تعالى:

وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
(سورة العصر: الآية 1-2-3)

لا يجوز أن نقسم إلا بالله
هذه سورة العصر، نبدأ بشرحها بما يفتح الله، أولاً: (وَالْعَصْرِ) هذه الواو واو القسم، أنا وأنت إن أردنا أن نقسم فلا يجوز لنا شرعاً أن نقسم إلا بالله، أنا وأنت لا يجوز أن نقسم إلا بالله، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ مَن كانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللَّهِ أوْ لِيَصْمُتْ }

(صحيح البخاري)

وفي حديثٍ أخرى:

{ من حلف بغير الله فقد أشرك }

(رواه أبو داود والترمذي)

لأن الحلف بغير الله هو تعظيم لغير الله، فكأنه أشرك الشيء الذي يحلف به مع الله، أشركه مع الله فعظمه فحلف به، فأنا وأنت لا يجوز أن نقسم إن أقسمنا إلا بالله.

الله تعالى يقسم ببعض مخلوقاته للفت نظرنا إلى عظيم هذا الشيء :
لكن الله تعالى له أن يقسم جلّ جلاله بما شاء، فيقسم أحياناً ببعض مخلوقاته يقول:

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ
(سورة الليل: الآية 1)

هذا قسم.

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا
(سورة الشمس: الآية 1)

لماذا يقسم الله بشيء من مخلوقاته
هذا قسم، فيقسم تعالى بما شاء من مخلوقاته، لماذا يقسم العظيم بشيء من مخلوقاته وهو الخالق جل جلاله؟ قال ليلفت نظرنا إلى عظمة المقسم به، فعندما يقسم بشيء كأنه يقول: يا عبادي انتبهوا إلى الليل فهو نعمةٌ قد تغفلون عنها (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ)، عندما يقول: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) انظروا إلى هذه الشمس واستدلوا من خلال عظمتها على عظمة خالقها، فالله تعالى إذا أقسم بشيء من مخلوقاته فما ذاك إلا ليلفت نظرنا إلى عظيم هذا الشيء المقسم به.

الإنسان بضعة أيام ومضي الزمن يستهلكه :
الزمن هو البعد الرابع للأشياء
هنا قال: (وَالْعَصْرِ) واو القسم، أقسم بالعصر، ما هو العصر؟ الدهر، الزمن، الأيام، الأسابيع، الشهور، الأعوام، (وَالْعَصْرِ) العصر يمضي، لماذا أقسم الله تعالى للإنسان بالعصر؟ بالزمن؟ لأنه زمن، لأنك أنت وأنا زمن، إذا عرفنا الإنسان تعريفاً، الزمن هو البعد الرابع للأشياء، اليوم بالعلوم الحديثة الزمن هو البعد الرابع للأشياء، عندنا طول وعرض وارتفاع أصبح مكعباً، إذا تحرك يشكل البعد الرابع يسمونه الزمن، الإنسان زمن لأنه هو طول وعرض وارتفاع ويتحرك، فهو في الحقيقة زمن، يقول الحسن البصري وهو من التابعين: إنما أنت يا بن آدم بضعة أيام إذا انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منك، فأنت عندما تمضي يمضي بعضك، الزمن يمضي وأنت تمضي مع الزمن، نحن التقينا الاثنين الماضي كنا جميعاً أبعد عن الموت من يوم الاثنين هذا، هذا واقع أي ليس تشاؤماً، هذه حقيقة كلنا اقتربنا، لماذا؟ لأن النهاية وقت محدد لن يتغير، فأنا جسم متحرك أسير نحو هدف ثابت:
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَوان ***
{ أحمد شوقي }
هذا واقع، فنحن أقسم الله لنا بالزمن لأننا زمن، الآن ما جواب القسم؟ (وَالْعَصْرِ) قسم، الجواب: (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) دائماً أخواننا الكرام عندما تأتي بقسم وجواب قسم في القرآن الكريم ابحث عن السر بين المقسم به وجواب القسم، هذا موضوع مهم جداً بعلوم القرآن، ربنا عز وجل كلامه مبين واضح، لكن يحتاج إلى تأمل، فدائماً هناك سر بين المقسم به وجواب القسم، مثلاً ربنا عز وجل قال:

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ
(سورة العاديات: الآية 1-2-3-4-5-6)

الإنسان في القرآن
حتى أوضح قبل أن أعود إلى العصر ربنا عز وجل قال: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) العاديات هي الخيل التي بسبب مسيرها وعدوها تصدر صوتاً يسمى الضبح، عند الإنسان يسمى اللهاث، الخيل تضبح من شدة عدوها (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) من شدة عدوها تصطك حوافرها بالحجارة فيخرج منها نار تقدح من شدة العدو، (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) صباحاً الأعداء يجدون الخيل أغارت عليهم، هجمت عليهم، أغارت عليهم صباحاً، (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) الغبار التي تثيره الخيول (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) نزلت الخيل بنصف الجمع وبدأت تدافع عن صاحبها، هي ليس لها علاقة، الخيل إذا فكرت بعقلها المعركة كلها هي ليس لها بها ناقة، ولا جمل، لكن هي دخلت إلى المعركة دفاعاً عن صاحبها (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) تتوسط الجموع وهو يحارب بها صاحبها، هذه صورة الخيل، انظر إلى وفاء الخيل لصاحبها، تعدو وتصدر الضبح، توري القدح، تغير في الصباح، تثير النقع، فتوهم الأعداء بأنه جيش وكذا، ثم تتوسط الجموع، هذا كله وفاء الخيل التي هي مخلوق من مخلوقات الله لصاحبها، انظر جواب القسم: (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قليل الوفاء، تعلم من الخيل، أي أيها الإنسان تعلم من الخيل، الخيل التي خلقها الله من أجلك عاشت من أجلك وفاءً لك، جاء جواب القسم: (إِنَّ الْإِنسَانَ) الإنسان غير المؤمن، المؤمن ليس كنوداً، على فكرة الإنسان في القرآن هو الإنسان قبل أن يؤمن، فأنا لي نظرة لا أعرف مدى صحتها لا أحب كلمة أنا إنساني، أحب أنا مؤمن، أنا رباني، إنساني للأسف هناك بعض الناس ينتسبون للإنسانية يرتكبون أفعالاً لا تقوم بها الحيوانات، فالإنسانية ليست صفة مهمة، الإيمانية الصفة المهمة، الربانية، (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) غير وفي، فجاءت المقابلة بين المقسم به وهو الخيل الوفية لصاحبها مع الإنسان غير المؤمن الذي يكون كنوداً، الكنود هو عكس الوفي، الذي ليس وفياً، هذه المقابلة بين القسم وجواب القسم، نعود إلى (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) لأن مضي الزمن يستهلكك فأنت خاسر، العصر يمضي وأنت تخسر، ماذا تخسر؟ تخسر الوقت الذي هو رأس مالك، ضيعت الوقت فيما لا ينفع، فأنت تخسر إذاً، أحد التابعين يقول: تعلمت معنى سورة العصر من بائع الثلج، قال: مررت به في السوق فإذا به يقول ويصيح: ارحموا من يذوب رأس ماله، قال: فقلت هذا معنى (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، بائع الثلج يذوب رأس ماله المسكين الحقوا بي، واشتروا، لأن رأس مالي يذوب، فالإنسان يذوب رأس ماله مع مضي الزمن، أنا رأس مالي الزمن.

الوقت أثمن من المال :
الآن: يوجد لدينا المال، ويوجد لدينا الوقت، الإنسان المال غال عليه، المال شقيق الروح، كلنا نحب المال:

وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ
(سورة العاديات: الآية 8)

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) قال: الخير هنا هو المال، والإنسان يفرح بما زيّن الله له في الدنيا، سيدنا عمر بن الخطاب لما قرأ قوله تعالى:

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
(سورة آل عمران: الآية 14)

الوقت أثمن من المال
(الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) أي اليوم السيارات الحديثة، (وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فماذا قال سيدنا عمر؟ قال: يا رب إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، أي أنت زينته لنا ففرحنا به، لكن انظروا إلى فهم عمر- متابعة الكلام- قال: اللهم إني أسألك أن أنفقه بحقه، فأنا سأفرح بالمال لكن أسألك ألا أنفقه إلا في الخير، هذا الفهم الحقيقي، فهنا لدينا الوقت، ولدينا المال، ما الأثمن بينهما؟ المال قلنا ثمين جداً، لكن الوقت أثمن من المال، والدليل أن الوقت أثمن من المال نسأل الله العافية والسلامة للجميع أحياناً إنسان يصاب بمرض، ومعه مبلغ بسيط لا يكفي، يقول له الطبيب: تحتاج إلى مبلغ أكبر، يقول له: أبيع بيتي وأسافر وأجري العمل الجراحي لأنه قد يزيد في عمري، في الوقت، بأخذ وقت، أدفع مالاً آخذ مقابله وقتاً، فلا يتردد في أن يقدم المال من أجل كسب الوقت، إذاً الوقت أثمن من المال، إذا رأيت إنساناً يتلف ماله بما تحكم عليه؟ بالجنون، وإذا شخص يجلس يلعب طاولة الزهر لطلوع الفجر!؟ هذا أكثر جنوناً من الأول، لأنه يتلف مادة الحياة التي هي الوقت الثمين، فهنا قال: (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) الإنسان خاسر لأن الزمن يستهلكه عندما يمضي، فأنا أخسر كل يوم، أي لو إنسان له عند الله ثمانون سنة، وسبعة أشهر، وأسبوعان، وأربعة أيام، وخمس ساعات، وثلاث دقائق، وأربع ثوان، هذه حصته من الدنيا، الله يختبره بهذا، فكلما مضى لحظة انقضى جزء من هذه الكمية المحددة له بعلم الله عز وجل، فهو يخسر، هذا (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ).

الإنسان خاسر إلا إن حقق أربع صفات :
أركان النجاة
الآن انظروا إلى التوكيد؛ ربنا عز وجل أحياناً يحكي العبارة مؤكدة لبيان أهمية الموضوع، كيف يكون التأكيد؟ الآن التأكيد باللغة العربية يأتي بعدة أمور، مثلاً القسم توكيد، أنا أقول لك: السماء صافيةٌ، جميل، والله إن السماء صافيةٌ، صار كلامي مؤكداً، فالقسم للتوكيد، الحالة الثانية: (إنَّ) للتوكيد، إذا قلت لك: الجو باردٌ، جملة عادية، إنَّ الجو باردٌ، صارت مؤكدة، الحالة الثالثة: يوجد عندنا في التوكيد شيء جميل باللغة العربية من باب المذاكرة، إذا قلت لك: الطالب يلعب أو يجتهد أو يجتهد الطالب، هذه جملة فعلية، فعل، هذه ليست مؤكدة، هذه بحد ذاتها إذا حولتها لجملة اسمية تصبح مؤكدة، الطّالبُ مجتهدٌ، أي الاجتهاد ملازم له دائماً، ليس فقط الآن يدرس قليلاً، لا، دائماً، هذا توكيد، الآن إذا قلت لك: إن الطالب لمجتهدٌ، وضعت اللام المزحلقة بالخبر، هذا توكيد، هنا أكّد الله تعالى بالمؤكدات الأربع مع بعضهم، (وَالْعَصْرِ) قسم، (إِنَّ) توكيد، (الْإِنسَانَ) جملة اسمية، (لَفِي خُسْرٍ) لام التوكيد، أي أكّد بأربعة مؤكدات، أن الإنسان خاسر، يا رب كيف أتلافى هذه الخسارة؟ كيف النجاة؟ قالوا: ما بعد إلا أركان النجاة، إن أردت أن تنجو من الخسارة المحققة فاقرأ بعد إلا، رحمة الله في إلا، وإلا كنا خسرنا جميعاً، هناك أناس لا يخسرون، من هم؟ هؤلاء يحققون أربع صفات: الأولى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، الثانية: (عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، الثالثة: (تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ)، الرابعة: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، نبدأ واحدة واحدة، هذه أركان النجاة، مهمة جداً.

الإيمان تصديقٌ وإقبال و الكفر تكذيبٌ وإعراض :
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)؛ الإيمان هو شيئان: تصديقٌ وإقبال، الكفر: تكذيبٌ وإعراض، ما معنى كفر؟ غطاء، نحن عندنا بالشام يقولون: كفر بطنا، كفر كذا، ماذا يعني كفر؟ من شدة انتشار الأشجار تغطت الأرض، فسموها كفر بطنا، شدة الغطاء النباتي، وبالإنجليزية (Cover) كفر نفسها، فالكفر هو الغطاء، شيء يغطي، فالكافر:

الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا
(سورة الكهف: الآية 101)

الإيمان تصديق وإقبال على الله
لم يستجيبوا للحق، فالإيمان هو التصديق والإقبال على الله، والإيمان يزيد وينقص، هذه عقيدة أهل السنة، الدليل:

وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا
(سورة الأنفال: الآية 2)

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ "- الثوب يبلى والإيمان يخلق- فَاسْأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ }

(صححه الألباني في صحيح الجامع)

وكان الصحابة يقولون: تعال بنا نؤمن بربنا ساعة، فهذا المجلس الكريم الطيب هو مجلس إيمان، يزيد في الإيمان، كلنا أنا وأنتم نزداد إيماناً بالمجالس الطيبة، وإذا أعرضنا فترة طويلة سافرنا لمكان، وانشغلنا، وانغمسنا بالحياة، يقول: والله قلبي جفّ أصلي وأصوم وكذا ولكني أشعر بضعف الإيمان، فالإيمان يقوى ويضعف، مهمة الإنسان دائماً أن يرعى إيمانه، أن يزيد في إيمانه، فالإيمان هو التصديق مع الإقبال على الله عز وجل، الإقبال مبني على هذه المجالس، مبني على قيام الليل، مبني على التفكر بخلق السماوات والأرض، مبني على صدقة تدفعها لا تعلم يمينك ما أنفقت شمالك، هذا كله يساعد بالإيمان، الإيمان مبني على الصحبة الصالحة، تشعر بإقبال أكثر على الله، كلما أكثرت من البر وأعمال الخير، سواءً العبادات التي نفعها لك، أو المعاملات التي نفعها متعد إلى الآخرين، فأنت بذلك تصعّد بإيمانك، تُصَعِّد الإيمان نحو الأعلى، فالإيمان هو علم، طلب علم، هو في الأساس الإيمان طلب علم، كلما علمت أكثر تصرفت بناءً على هذه المعلومات بشكل أكثر، فهذا الجانب الأول، دعونا نقول: هو الجانب العقدي أو الفكري أو الأيديولوجي، أو يسمونها بالأنظمة الداخلية المنطلقات النظرية، أي الجانب الفكري، هذا إيمان، لكن لأنّ الإسلام في الأصل لا يقبل إيماناً بلا حركة أو لا يجدي إيمانٌ بلا حركة، لا يجدي، لابد من أن يتبعه حركة، لذلك ربنا عز وجل قال: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) فوراً، وبكل الآيات (آمَنُوا وَعَمِلُوا) فالإيمان اعتقادٌ بالجنان – بالقلب- اعتقاد، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، فهناك عمل، فلما قال: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) انتقل فوراً إلى (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).

ارتباط العمل الصالح بالإيمان لأن الإيمان هو الأساس :
ما هو العمل الصالح؟
في المرة السابقة تكلمنا عن العمل الصالح قلنا: هو الذي يصلح للعرض على الله، أي عمل إذا كان يصلح للعرض على الله قم به، إذا وجدته لا يصلح لا تقم به، مرةً روى لنا شيخنا الدكتور راتب النابلسي قصةً أخذت منها عبرة، قال: كنت مسافراً إلى لبنان- بأيام شبابه سافر إلى لبنان- قال: فوالله وجدت بالحركة الراجعة، بالطرف الثاني، تعرفون الحدود طريق ذهاب وطريق إياب، هو ذاهب ولا يوجد تشديد، الطريق سالك، ولكن فهم أن في الطريق الراجع يوجد مشكلة كبيرة، وهناك تفتيش دقيق جداً، وهناك سياسة جديدة بالتعامل مع المهربات، وجمركة للبضائع، شاهد المنظر وخرج وتابع طريقه إلى لبنان، الآن أثناء وجوده في بيروت، وكانت الحاجات قليلة بسوريا وجد شيئاً ظريفاً، يتساءل: هل أشتري هذا الخلاط؟ أريد أن أشتريه ويفكر هل أستطيع العودة به أم لا؟ مشددون جداً عند طريق العودة إلى سوريا، قال: فتعلمت درساً، أنه إذا أردت أن أعمل عملاً أن أسأل نفسي هذا السؤال: هل يا ترى يمر عند الحساب أم لا يمر؟ فنحن ربنا عز وجل صور لنا يوم القيامة الآن موجود مسربة الأسئلة كلها:

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا
(سورة الزمر: الآية 73)

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا
(سورة الزمر: الآية 71)

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا)، (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) المشهد واضح، فالإنسان مهمته إذا أراد أن يعمل عملاً أن يقول: يا ترى هل أستطيع بهذا العمل أن أمر أم لن أستطيع المرور؟ فقط هذه هي المعادلة، إذا مرّ معك أحضره، إذا لم يمر فهو غير ضروري، لأنك ستدفع أكثر من سعره، سيكلفك أكثر من سعره وسيصادر.
الإيمان أول أركان النجاة
إذاً أخواننا الأحباب؛ الإيمان هو الجزء الأول من النجاة، أو الركن الأول وهو الأساسي، لأنه لا يترتب عمل صحيح من غير إيمان، لذلك قالوا: لو لم تكن العقيدة تنعكس سلوكاً لقلنا لك: اعتقد ما شئت، لكن دائماً العقيدة تنعكس سلوكاً، الآن أنت إذا كان غداً صباحاً الجو بارداً جداً، وذهبت لصلاة الفجر، وأنت عائد إلى البيت رأيت شخصاً يلبس ملابس خفيفة ويركض، هذا ماذا يرى؟ هذه عنده عقيدة مهمة جداً في موضوع الرياضة، هو لو لم يكن عنده عقيدة بموضوع الرياضة لما ركض، يتمنى مثلك أن يعود إلى البيت وينام، هو أيضاً يحب النوم، ولكن هو وصل ليقينيات متعلقة بأهمية الرياضة فأصبح يركض في البرد، ولكني أنا لا أفعلها، وأقول أنا معتقد بأهمية الرياضة ولكن يا ترى بقدر عقيدته؟ لا والله، لو بقدر عقيدته لركضت معه، ولكن أنا لم أصل إلى أهمية الرياضة مثلما هو وصل إليها، هو يرى أنه ينشط كثيراً، ونهاره أفضل عندما يلعب رياضة، ويأخذ من وقته للرياضة، أي عنده شيء، عنده منطلقات، فلذلك الإيمان هو الأساس لأن الناس يتحركون في الحياة بناءً على المعطيات التي في بالهم، الآن أنا وأنت إذا عرض علينا درهم من حرام لا نأخذه، ونقول: ليس لنا مصلحة، مبلغ مالي نقول له: لا، لماذا؟ لأنه أنا عندي رؤية، الرؤية تقول لي بأن هذا المال الحرام هو بئس في الدنيا والآخرة، يأتي غيري ويعده مغنماً، عنده رؤية ثانية، ما تمكّنت من ذاته رؤية بأن هذا المال حرام، هذا سيحرقني في الدنيا والآخرة، فأنت تتساءل كيف أترك هذا المبلغ العظيم مثلاً؟ إذا شخص بعيد عن الله يمكن أن يسأل: كيف أتاه مبلغ مئة ألف وركلهم بقدمه؟ هذا عنده عقيدة وعنده إيمان بأن هذا المال لا يجوز أن آخذه من حرام، انتهى، فنحن كلما صارت تصوراتنا صحيحة عن الإنسان والكون والحياة ينقلب سلوكنا بشكل صحيح بناءً عن التصورات الصحيحة، فلذلك ينبغي أن نعتقد اعتقاداً صحيحاً، هذا هو الجانب الأول، الإيماني، (آمَنُوا) أي صدّقوا، ربنا عز وجل في القرآن الكريم قال:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا
(سورة طه: الآية 142)

معيشة الضنك هي البعد عن الله
هل أنت مصدّق بهذا الأمر؟! لو رأيته يعيش ببرج أو بقصر هذا يعيش مَعِيشَةً ضَنكًا، معيشة الضنك هي البعد عن الله، هي البعد عن الحق، البعد عن القرآن، لو رأيته بمظهر مسرور جداً، لا تقل مثل الذين لمّا خرج عليهم قارون في زينته قالوا: (الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ) تصوّر، هم رأوا أنّ هذا مكسب عظيم، (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ) ماذا رأى هؤلاء وماذا رأى هؤلاء؟ الموضوع موضوع تصور، تصوّر صحيح، رأى هؤلاء أن النتيجة هي هلاك ونار، وأنّ هذا المظهر الأُبَّهة الذي يمشي به قارون مصيره إلى الهلاك:

فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ
(سورة القصص: الآية 79-80)

فأنت ترى بذور الهلاك في كل عمل سيئ، وترى بذور الصلاح في كل عمل صالح، فتتجه إلى الحق وتبتعد عن الباطل، هذه (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا).

الإسلام حركي و ليس سكونياً :
الغيمان يدفعنا للعمل الصالح
الآن ( آمَنُوا) كما قلنا (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي انتقل العمل إلى سلوك، أو انتقلت المنطلقات إلى سلوك، لا يوجد في الشرع أو في الدين إسلام سكوني، ما إن تستقر حقيقة الإيمان في قلبك حتى تعبر عن ذاتها بحركة، مستحيل، يجب أن تنهض بشيء، هذا وافد قومه ضمام عندما جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فوراً لما قال: آمَنْتُ بما جِئْتَ به، دخل إلى المسجد هذا ضمام بن ثعلبة والنبي صلى الله عليه وسلم جالسٌ بين أصحابه، فقال:أيُّكُمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم؟ هنا يوجد معنيان لطيفان في أيكم محمد، لو استطردنا قليلاً، الاسْتِطراد أدبياً مقبول إذا حافظنا على الخط الرئيسي، الجاحظ كان من أكثر الأدباء استطراداً يدخل بموضوع ويدخل بالثاني والثالث ويعود للأول، لا ينسى الأول، نحن بسورة العصر ينبغي أن نعود لكن قد نستطرد، الشيخ علي الطنطاوي كان يستطرد رحمه الله، الاسْتِطْرادِ أدبياً هو شيء جيد، بشرط أن يكون معتدلاً، وتخرج وترجع، فلما دخل قال: أيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ قالوا فيها شيئان؛ الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بين أصحابه كواحدٍ منهم، ليس له هيئة خاصة، ولا مجلس خاص، ولا أُبَّهة، كان يعيش واحداً بين الجميع، هيأه تفوقه ليعيش فوق الجميع فعاش واحداً بين الجميع، صلى الله عليه وسلم، فما عرفه، فقال: أيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ سمعت توجيهاً آخر لطيفاً من فترة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مازج أصحابه ومازجوه اختلطت روحه بروحهم فأصبحوا كأنهم شيء واحد، هم اصطبغوا بكماله صلى الله عليه وسلم، فأنت تدخل من الصحبة تجد الأخلاق والتواضع والسمت الحسن على وجه كل أصحابه، فتحير فقال: أيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ فقال أحد الصحابة: هذا الرَّجُلُ الأبْيَضُ المُتَّكِئُ، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد إنِّي سائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ في المَسْأَلَةِ، فلا تَجِدْ عَلَيَّ في نَفْسِكَ؟ من أولها أنا أريد أن أسأل، وأريد أن أزيدها قليلاً، وأنت لا تتضايق- هذا أعرابي جاء من البادية- فقالَ: سَلْ عَمَّا بَدا لكَ، بأبي هو وأمي، الصحابة ما أحد قام ليقول له: كيف تُحدث رسول الله هكذا؟ سَلْ عَمَّا بَدا لكَ، قل: ما تريد، قالَ: أنْشُدُكَ باللَّهِ، أسْأَلُكَ برَبِّكَ ورَبِّ مَن قَبْلَكَ، آللَّهُ أرْسَلَكَ إلى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ قال صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قال: أنْشُدُكَ باللَّهِ، آللَّهُ أمَرَكَ أنْ نُصَلِّيَ الصَّلَواتِ الخَمْسَ في اليَومِ واللَّيْلَةِ؟ قالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قالَ: أنْشُدُكَ باللَّهِ، آللَّهُ أمَرَكَ أنْ نَصُومَ هذا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قالَ: أنْشُدُكَ باللَّهِ، آللَّهُ أمَرَكَ أنْ تَأْخُذَ هذِه الصَّدَقَةَ مِن أغْنِيائِنا فَتَقْسِمَها علَى فُقَرائِنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فقال: فأني أَشْهَدُ أَنّ لَّا إِلَٰهَ إلا الله وأَشْهَدُ أن محمداً رسول الله، وأنا ضِمامُ بنُ ثَعْلَبَةَ، وأنا رَسولُ مَن ورائِي مِن قَوْمِي، هنا موطن الشاهد، فوراً، وأنا رَسولُ مَن ورائِي مِن قَوْمِي، أنا سأرجع إلى قومي، ماذا رأى ضمام؟ أي كم استغرق من الوقت؟ أربع دقائق أو خمس، خرج وقال له: آمَنْتُ بما جِئْتَ به، وأَشْهَدُ أَنّ لَّا إِلَٰهَ إلا الله، ماذا رأى؟ رأى أخلاقاً، رأى تواضعاً، رأى محبة، رأى صدقاً في القول، رأى إجابة، قال له: سَلْ عَمَّا بَدا لكَ، شدد في المسألة، قل ما تريد، ثم سمع منه الجواب، فرجع إلى قومه فقالَ: بئستِ اللَّاتُ والعُزَّى، فقالوا: صه يا ضِمامُ، اسكت، لا تتكلم، اتَّقِ الجنونَ، اتَّقِ البَرصَ والجُذامَ، هذه الآلهة تصنع بك ما تصنع، فقالَ: ويلَكُم إنَّهُما واللَّهِ لا يضرَّانِ ولا ينفعانِ أبداً، وقد جئتكم من عند محمد بما أمر به وبما نهى عنه، يقول راوي الحديث فوالله ما أمسى من حاضرته رجلٌ ولا امرأةٌ إلا مسلماً، فما سمِعنا بوافدِ قَومٍ كانَ خيراً من ضِمامِ بنِ ثعلبةَ، سموه وافد قومه، خير وافد في قومه، فهو لمّا آمن قال: وأنا رَسولُ مَن ورائِي مِن قَوْمِي، أريد أن أتحرك وأفعل شيئاً، أريد أن أنفق وأدفع، هذا هو العمل، الحركة، قال: وأنا رَسولُ مَن ورائِي مِن قَوْمِي، فوراً:

{ بعثَتْ بنو سعدِ بنِ بكرٍ ضِمامَ بنَ ثَعْلبةَ وافدًا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقدِمَ عليه، وأناخَ بعيرَه على بابِ المسجِدِ، ثم عقَلَه، ثم دخَل المسجِدَ، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جالسٌ في أصحابِه، وكان ضِمامٌ رجُلًا جَلْدًا، أشعَرَ، ذا غَديرَتَينِ، فأقبَلَ حتى وقَف على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أصحابِه، فقال: أيُّكم ابنُ عبدِ المُطَّلِبِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أنا ابنُ عبدِ المُطَّلِبِ، قال: محمدٌ؟ قال: نعَمْ، فقال: ابنَ عبدِ المُطَّلِبِ، إنِّي سائلُكَ ومُغلِّظٌ في المسألةِ، فلا تجِدَنَّ في نفسِكَ، قال: لا أجِدُ في نفسي، فسَلْ عمَّا بدا لكَ، قال: أنشُدُكَ اللهَ إلهَكَ، وإلهَ مَن كان قبلَكَ، وإلهَ مَن هو كائنٌ بعدَكَ، آللهُ بعثَكَ إلينا رسولًا؟ فقال: اللَّهُمَّ نعَمْ، قال: فأنشُدُكَ اللهَ إلهَكَ، وإلهَ مَن كان قبلَكَ، وإلهَ مَن هو كائنٌ بعدَكَ، آللهُ أمرَكَ أنْ تأمُرَنا أنْ نعبُدَه وحدَه، لا نشركُ به شيئًا، وأنْ نخلَعَ هذه الأندادَ التي كانت آباؤُنا يعبُدونَ معه؟ قال: اللَّهُمَّ نعَمْ، قال: فأنشُدُكَ اللهَ إلهَكَ، وإلهَ مَن كان قبلَكَ، وإلهَ مَن هو كائنٌ بعدَكَ، آللهُ أمَرَكَ أنْ نُصلِّيَ هذه الصلواتِ الخمسَ؟ قال: اللَّهُمَّ نعَمْ، قال: ثم جعَل يذكُرُ فرائضَ الإسلامِ فريضةً فريضةً: الزَّكاةَ، والصِّيامَ، والحَجَّ، وشرائعَ الإسلامِ كلَّها، يُناشِدُه عندَ كلِّ فريضةٍ كما يُناشِدُه في التي قبلَها، حتى إذا فرَغ قال: فإنِّي أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، وسأؤدِّي هذه الفرائضَ، وأجتنِبُ ما نَهَيْتَني عنه، ثم لا أزيدُ، ولا أنقُصُ، قال: ثم انصَرفَ راجعًا إلى بعيرِه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حينَ ولَّى: إنْ يصدُقْ ذو العَقيصَتَينِ يدخُلِ الجنَّةَ، قال: فأتى إلى بعيرِه، فأطلَقَ عِقالَه، ثم خرَجَ حتى قدِمَ على قومِه، فاجتَمَعوا إليه، فكان أولَ ما تكلَّمَ به أنْ قال: بِئسَتِ اللاتُ والعُزَّى، قالوا: مَهْ يا ضِمامُ، اتَّقِ البَرَصَ والجُذامَ، اتَّقِ الجنونَ، قال: وَيْلَكم، إنَّهما واللهِ لا يَضُرَّانِ، ولا يَنْفعانِ، إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد بعَثَ رسولًا، وأنزَلَ عليه كتابًا استَنْقَذَكم به مما كنتُم فيه، وإنِّي أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، إنِّي قد جِئتُكُم من عندِه بما أمَرَكم به، ونَهاكم عنه، قال: فواللهِ ما أمسَى من ذلك اليومِ وفي حاضِرِه رجُلٌ ولا امرأةٌ إلَّا مسلمًا. قال: يقولُ ابنُ عبَّاسٍ: فما سَمِعْنا بوافدِ قومٍ كان أفضَلَ من ضِمامِ بنِ ثَعْلبةَ }

(تخريج المسند)

فالعمل مرافق للإيمان، الإيمان يعبر عنه بالعمل فوراً، إيمان سكوني، إيمان يجلس الإنسان دون أن يتحرك، لا يوجد، لابد أن تتحرك، تدفع، تعطي، الحركة، العمل له اتجاهان: اتجاه عمودي واتجاه أفقي، الاتجاه العمودي هو الحركة نحو الخالق، والأفقي هو الحركة نحو المخلوق، ونوِّع بينهما، الحركة نحو الخالق، والحركة نحو المخلوق.

الحركة نوعان؛ حركة نحو الخالق و حركة نحو المخلوق :
الحركة نوعان
في القرآن الكريم عندنا قصة لسليمان وداود، داود عليه السلام انشغل بالعبادة، أي استغرق بالحركة نحو الخالق فجاءه الخصم فتسوّروا المحراب، (قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ)،( إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) فهو منشغل بذكر الله، يجد متعته في العلاقة مع الله، فقضى لهما دون أن ينتبه (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) فجاءه من عند الله (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) انتبه هناك حركة نحو الخالق، و حركة نحو المخلوق، أنت استغرقت بالعبادة والطاعة، ونسيت الحركة الثانية المهمة:

إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ۩
(سورة ص: الآية 22-23-24)

يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ
(سورة ص: الآية 26)

سليمان بالعكس تماماً:

فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ
(سورة ص: الآية 32)

إقامة الصلاة هي الحركة نحو الخالق
انشغل بمصالح الناس، ومعاونة الناس، فعاتبه ربه، ينبغي أن توازن بين حركتين، لك حركة نحو الخالق لا تقطعها هي الصلة بالله، ولك حركة نحو المخلوق هي الإحسان للناس، ومد يد العون لهم، ومساعدتهم أيضاً لا تغفلها، حركتان متساويتان متوازيتان فيعبّر القرآن الكريم عن هاتين الحركتين، دائماً بالقرآن نسمع (يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) إقامة الصلاة هي الحركة نحو الخالق، أي هي تعبير عن الحركة نحو الخالق، وإيتاء الزكاة هي الحركة نحو المخلوق:

فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ
(سورة الكوثر: الآية 2)

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) من أجل أن تطعم المخلوقات (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) عامودية (وَانْحَرْ) أفقية، فنحن عندنا حركتان في الحياة ينبغي أن يكونا متوازنتين، أي لا تطغى واحدة عن الأخرى، لا نستغرق بالعبادة وننسى معاونة الناس، معاونة الناس بأي شيء، بكلمة طيبة، بصدقة، بشيء، وينبغي أيضاً ألا نغفل عن الحركة نحو الخالق، بأنه أنا دائماً أساعد الناس، لا، أنت بحاجة جرعة لروحك، تحتاج قيام الليل، تحتاج صلاة الضحى، تحتاج أحياناً صيام نفل، تنمي إيمانك، فالحركتان متوازيتان، فهنا نقول: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) العمل الصالح حركتان، حركة نحو الخالق، وحركة نحو المخلوق.

التواصي بالحق :
التواصي بالحق
الثالثة: ثالث ركن من أركان النجاة، الأول: الإيمان، الثاني: العمل الصالح، الثالث: التواصي بالحق، التواصي فعل من أفعال المشاركة، ما معنى (تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ)؟ أي أنا أوصيك وأنت توصيني (وَتَوَاصَوْا) أي نتبادل الوصية، تذكرني بالله وأذكرك بالله، تذكرني بالخير وأذكرك بالخير، تحثني على الطاعة وأحثك على الطاعة، وهذا من التواصي بالحق، الدعوة إلى الله نوعان: دعوة فرض عين على كل مسلم، ودعوة فرض كفاية، فرض الكفاية يختص بها من أكرمه الله بالعلم الشرعي، أي فرّغ وقته ودرس علوم الشريعة، تصدر للمنبر، تصدر للدروس العلمية، وتصدر لوسائل الإعلام اليوم، وعلّم الناس دينهم، هذه لا يستطيعها كل إنسان، قال تعالى:

فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ
(سورة التوبة: الآية 122)

أنت داعيةً بأخلاقك وسلوكك
أي فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الجميع، إذا قصّر الجميع يأثم الجميع، هذا فرض الكفاية، أما الدعوة كفرض عين فهذه التي تشمل الجميع، لا يوجد إنسان إلا ينبغي أن يكون داعيةً إلى الله، كلنا دعاة، في الإسلام لا يوجد رجال دين، نحن مصطلح رجال الدين مصطلح دخل إلينا من ثقافات أخرى، في ديننا لا يوجد رجل دين، من الطرف التي صارت معي كان عندي معاملة، موجود في نص القرار الذي أصدرته الحكومة أنه يسمح لرجال الدين، فأنا أخذت ورقة من الأوقاف بأنني خطيب مسجد، فالموظف المسؤول قال لي: لا أستطيع، قلت له: لماذا؟ قال لي: لأنه غير مكتوب رجل دين، النص الخاص بالحكومة مكتوب به: لرجال الدين، وأنت خطيب مسجد، فرجعت إلى الأوقاف قلت لهم: أريد نصاً بأنني رجل دين، قالوا لي: أنت شيخ وتعلم أن بالإسلام ليس عندنا رجال دين، فقلت لهم: يجب أن تفهموا الحكومة بأنه ليس لديكم رجال دين، هم أصدروا القرار بأنني رجل دين، والموظف لا يرضى إلا أن يكون مكتوباً رجل دين، قالوا: والله لا يوجد مجال، مستحيل أن نكتب رجل دين لأنه بالإسلام لا يوجد مصطلح بأنه رجل دين، معهم حق، و ضعنا بين الاثنين - هذه القصة للمزاح فقط - فالقصد أنه لا يوجد بالإسلام فعلاً شيء اسمه رجل دين، كلنا رجال دين، كلنا نحمل همّ الدين، نحمل همّ الدعوة، لكن كما قلت: هناك بعض الناس تفرغوا، وهناك بعض الناس ينقل المعلومات لأهله، لبيته، لشريكه بالعمل، للموظفين الذين عنده، يمكن بأمانته، بصدقه يعمل دعوة إلى الله، يسمونها الدعوة الصامتة، وهي اليوم أبلغ من الدعوة الناطقة، لأن الناس اليوم كثير منهم كفروا بالكلمة، لأنهم لم يجدوا في سلوك قائلها مصداقاً لما يقول، أي يجدون الكلمة في واد والمتحدث في واد فأعرضوا عن الكلمة، فاليوم قد تكون أنت داعيةً إلى الله عز وجل بأخلاقك وسلوكك، يشاهدون تاجراً مؤمناً، لا يأكل مالاً حراماً، ولا يأكل حقوق عماله، فيحبون الإسلام من خلالك، فهذه (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) قد تكون بالعمل الطيب، وقد تكون بالقول، وهي بالنتيجة تواص بالحق، فقالوا: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) أوصيك وتوصيني، هذه الدعوة إلى الله عز وجل، قال تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد:

قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي
(سورة يوسف: الآية 108)

فكلنا متّبعون لرسول الله، فبالنتيجة كلنا ندعو إلى الله، لكن كل إنسان في المكان الذي أقامه الله فيه، فمنا من يدعو بكلامه وبخطبه، ومنا من يدعو بسلوكه، ومنا من يدعو بنصيحته، ومنا من يدعو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمعمله، بمتجره، بأي مكان، (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ).

التواصي بالصبر :
الآن الرابعة، ركن النجاة الأخير هو الصبر (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
أخواننا الكرام؛ الصبر نحتاجه في الأركان الثلاث الأولى، أي الإيمان يلزمه صبر، مجلس الإيمان يلزمه صبر، مجلس العلم يحتاج إلى الصبر:

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا
(سورة طه: الآية 132)

الصبر يشمل كل شيء
فالإيمان يحتاج صبراً، والعمل يحتاج صبراً، يمكن أن تعمل عملاً صالحاً فتجد جفاء من الناس، تحتاج إلى الصبر، ليس دائماً يأتي رد فعل الناس صحيحاً، تحتاج إلى الصبر، والدعوة إلى الله تحتاج صبراً، فالصبر يشمل كل شيء، يشمل كل حركة، الإيمان نصفان، نصفٌ صبر، ونصفٌ شكر، كيف؟ المؤمن، لو التشبيه كان بعيداً قليلاً كيف المنشار؟ المنشار يأكل بالذهاب و الإياب، المؤمن يرقى إلى الله بالحالين صابراً وشاكراً، أي قبل أن يتزوج الشاب يصبر على شهوة النساء، تزوج يشكر على نعمة المرأة، المال قلّ قليلاً والدخل ضعف يصبر على فقد المال، زادت الغلة يشكر، يا رب لك الحمد، لا يوجد ولد، تأخر قدوم الولد يصبر، ربنا عز وجل له حكمة، يأتي الولد فيشكر، فحال المؤمن مع الله هو حال الصابر أو الشاكر، ففي كلا الحالتين هو يأكل حسنات، أما غير المؤمن والعياذ بالله فساخط في الحالتين، إذا زوي عنه ما يحب ينزعج، ويزمجر، ويغضب، تأتيه النعم فيطغى فيها، ولا يؤدي حق الله فيها، فهو على الحالتين آثم، هنا جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم:

{ عَنْ أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَه }

(صحيح مسلم)

كان عمر رضي الله عنه يقول: "وجدنا ألذ عيشنا في الصبر"، أي يوم كنا صابرين، أيام الإسلام الأولى سيدنا أبو هريرة لا يجد ما يأكل، يمر أبو بكر فيسأله، قال: ما سألته إلا ليشبعني، لعل معه شيئاً، ثم يمر عمر فسألته عن آيةٍ في كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رآني فتبسم فعرف ما في وجهي، فقال: قم بنا، فأخذه وذهبوا لعند أبي أيوب الأنصاري، فلما كانوا في الصبر قال: وجدنا ألذ عيشنا في الصبر، ثم فتحت الدنيا، لكنه كان يجد عيشه ولذة عيشه في الصبر لأنه يشعر بقيمة الرضا عن الله عز وجل:

رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
(سورة التوبة: الآية 100)

عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّه كان يقول:

{ والله الذي لا إله إلا هو إِنْ كُنْتُ لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإِنْ كنت لأَشُدَّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدتُ يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه فمرَّ أبو بكر فسألته عن آية مِنْ كتاب الله ما سألته إلاّ ليشبعني فمرَّ ولم يفعل، ثم مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمرَّ ولم يفعل، ثم مرّ أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسَّم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ثم قال: (أبا هر) قلتُ: لبيك يا رسولَ اللهِ. قال: (الحق) ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأَذن لي فدخل فوجد لبناً في قدح فقال: (مِنْ أين هذا اللبن؟) قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: (أبا هر) قلت: لبيك يا رسولَ اللهِ، قال: (الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي)، قال: وأَهل الصُّفَّةِ أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مالٍ ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأَشركهم فيها، فساءني ذلك فقلتُ: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أَحقُّ أَنْ أُصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنتُ أَنا أعطيهم، وما عسى أَنْ يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد، فأتيتُهم فدعوتُهم، فأَقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت. قال: (أبا هر) قلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: (خذ فأعطهم) قال: فأخذتُ القدح فجعلتُ أُعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد عليّ القدح، فأُعطي الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرُدُّ عليّ القدح، حتى انتهيتُ إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد روى القوم كلُّهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إِليّ فتبسَّم فقال: (يا أبا هر) قلت: لبيك يا رسولَ اللهِ قال: (بقيتُ أَنا وأَنت) قلت: صدقْتَ يا رسولَ اللهِ، قال: (اقعد فاشرب) فقعدتُ فشربْتُ، فما زال يقول اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مسلكاً، قال: (فأرني) فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة }

(رواه البخاري)

الرضا عن الله
الشافعي كان يطوف حول الكعبة فسمع رجلاً يقول: يا رب هل أنت راضٍ عني؟ فقال له: يا هذا وهل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك؟ قال: سبحان الله من أنت؟ قال: أنا محمد بن إدريس، أنت راضٍ عن الله؟ (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) فالرضا عن الله يعني في الحالين صابراً أو شاكراً، أنا راضٍ عن الله، هذا الشعور الإيماني العالي، قال: وجدنا ألذ عشنا في الصبر، وكان عمر رضي الله عنه يقول: " لَوْ كَانَ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ بَعِيرَيْنِ، مَا بَالَيْتُ أَيُّهُمَا رَكِبْتُ" لأن المعادلة واحدة، المعادلة هي: صبر من الإنسان، ثواب من الله، جنة، نعمة من الله، شكر من الإنسان، ثواب، جنة، فالمحصلة واحدة، قد يبلغها الإنسان بصبره وقد يبلغها بشكره، وعندما نصل إلى الجنة تلغى كل هذه الأيام والوسائل، لذلك يغمس الكافر في النار غمسة فيقول: لم أر خيراً قط، ذهب الخير كله، والمؤمن يغمس غمسة في الجنة يقول: لم أر شراً قط.

{ يؤتَى يومَ القيامةِ بأنعَمِ أَهْلِ الدُّنيا منَ الكفَّارِ، فيُقالُ: اغمِسوهُ في النَّارِ غَمسةً، فيُغمَسُ فيها، ثمَّ يقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ نعيمٌ قطُّ؟ فيقولُ: لا، ما أصابَني نعيمٌ قطُّ، ويؤتَى بأشدِّ المؤمنينَ ضرًّا، وبلاءً، فيقالُ: اغمِسوهُ غمسةً في الجنَّةِ، فيُغمَسُ فيها غمسةً، فيقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ ضرٌّ قطُّ، أو بلاءٌ، فيقولُ: ما أصابَني قطُّ ضرٌّ، ولا بلاءٌ }

(صحيح ابن ماجة)

فالنتيجة تتحقق بالأمرين، لكن الإنسان من أدبه مع الله عز وجل لا يطلب إلا العافية، اللهم نسألك تمام العافية، لكن عافيتك أوسع لنا، لكن نوطن أنفسنا أن الحياة امتحان، فلو جاء فنحن صابرون إن شاء الله، لكن نسأل الله عز وجل العافية (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) الصبر يكون على طاعة الله، (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) يكون عن معصية الله، شهوة أمامك وتصبر عنها، ويكون على قضاء الله وقدره عندما يأتي القضاء والقدر.
إذاً أركان النجاة أربعة: إيمانٌ أو علمٌ، وعملٌ، ودعوةٌ، وصبرٌ
صبرٌ على طلب العلم، وعلى العمل بما علم، وعلى الدعوة إلى العلم، الصبر يشمل كل شيء.

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
(سورة العصر: الآية 3)

هذه سورة العصر قليلة الكلمات عظيمة المعاني، قال عنها الإمام الشافعي: "لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لكفتهم"
والحمد الله رب العالمين