التفضيل بين الناس
التفضيل بين الناس
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: |
بسم الله الرحمن الرحيم |
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين. |
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً وعملاً مُتقبَّلاً يا ربَّ العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القُربات. |
وبعد أيُّها الإخوة الأكارم: فإنَّ الله تعالى يقول في كتابه: |
انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا(21)(سورة الإسراء)
ليس كل تفضيلٍ في الدنيا يقتضي الأفضلية:
لو نظرنا في حال الناس في الدنيا لوجدنا التفضيل بينهم واضحاً، انظُر إلى شخصٍ لا يجد ما يكفيه من الطعام في يومه، وانظُر إلى آخر رصيده في المصرف بالملايين (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) انظُر إلى أُستاذٍ في مدرسةٍ ابتدائيةٍ في قريةٍ نائيةٍ من القُرى، وانظُر إلى بروفيسور في جامعةٍ راتبه بالآلاف. |
انظُر إلى مُمرضٍ يُعطي حقنةً في مركزٍ صحيٍ بعيد في منطقةٍ نائية، وإلى طبيبٍ يُعدّ الأول في مجاله، تحتاج إلى أشهُرٍ لتأخذ موعداً عنده، تفضيل، الناس ليسوا على مرتبةٍ واحدة، ادخل إلى دائرةٍ من الدوائر أو وزارةٍ من الوزارات، انظُر إلى الوزير في مكتبه، وإلى الحاجب عند الباب الذي راتبه مئتا دينار، لاستقبال الناس على الباب (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) يعني الله تعالى يأمرك أن تنظُر في التفضيل. |
بالمناسبة ما كل تفضيلٍ يقتضي الأفضلية، يعني الله تعالى فضَّل بعض الناس على بعضٍ، لا يعني أنَّ المُفضَّلين على الآخرين أفضل عند الله، لا، التفضيل لا يقتضي الأفضلية بالضرورة، بمعنى لو أنَّ أباً عنده ولدان، ولدٌ متفوقٌ جداً دائماً علاماته مئةً بالمئة، وعنده ولدٌ مُقصِّر يأخذ ثلاثين أو أربعين بالمئة، ففضَّل الكسول على المُجتهد فأتى له بمدرسٍ خاص يُدرِّسه في البيت، وأتى له بهديةٍ يُشجِّعه، وأعطاه وعداً بأنه إذا أتى بسبعين بالمئة وليس مئة بالمئة، فله مبلغٌ مالي، هذا فضَّله على الأول، لكن هل هذا يعني أنَّ الثاني أفضل عند الأب؟ لا ، بالتأكيد الأول أفضل عند الأب، لأنَّ الأول ما أحتاج إلى شيءٍ ومصاريف إضافية، وتفوَّق وحده، فليس كل تفضيلٍ يقتضي الأفضلية. |
أحياناً يمكن أن أُفضِّل شخصاً على آخر لأنه أفضل عندي، نعم، لكن ليس دائماً ليس بالضرورة كل تفضيل يقتضي الأفضلية، فالله تعالى قال: (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) فلئن فضَّل الله تعالى شخصاً بالمال على شخصٍ آخر قليل المال، فهذا لا يعني أنَّ من أخذ المال أفضل عند الله، ولا العكس. |
الأفضل عند الله هو الأكثر تقوى لله:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)(سورة الحجرات)
{ يا بني هاشِمٍ لا يأتيَنِّيَ النَّاسُ بأعمالِهم وتأتوني بأنسابِكُم }
(أخرجه أبو حجر العسقلاني)
{ مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه }
(أخرجه أبو داوود وابن حبان)
فالأفضل عند الله هو الأكثر تقوى لله، الأكثر إحساناً لعباد الله، والدليل حتى ربنا عزَّ وجل يُعطينا أمثلةً عملية، أعطى المال لمن يُحِب ولمن لا يُحِب، أعطاه لمن يُحِب سيدنا عبد الرحمن بن عوف، أعطاه المال وهو يُحبُّه، وأعطاه لقارون وهو لا يُحبُّه: |
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ(76)(سورة القصص)
(وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ) وليست الكنوز بل المفاتح (لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) يعجز عن حملها العُصبة من الناس، المفاتيح، اليوم لا يوجد مفاتيح لا يعجز عن حمل المفاتيح كله بطاقات، إذاً المال ليس مقياساً، لو كان مقياساً لأعطاه لمن يُحبُّه فقط، المُلك أعطاه لمن يُحبُّه ولمن لا يُحبُّه، أعطاه لفرعون وهو أكفر كُفَّار الأرض، وأعطاه أيضاً لذي القرنين: |
فَأَتْبَعَ سَبَبًا(85)(سورة الكهف)
وسعى في الإصلاح، وسعى في عمارة الأرض وفي الإعمار، فالله تعالى يُعطي المُلك لمن يُحِب ولمن لا يُحِب، يُعطي المال لمن يُحِب ولمن لا يُحِب، يُعطي المنصب لمن يُحِب ولمن لا يُحِب، يُعطي الأولاد والذُريَّة لمن يُحِب ولمن لا يُحِب، إذاً ليست مقياساً، فالله يُفضِّل بعض الناس على بعضٍ، في الرزق، في العطاء، في المال، في الصحة، سيدنا أيوب ربُّنا يُحبُّه، هو نبيٌ من أنبياء الله، لكنه حجَبَ عنه حيناً الصحة حجباً شديداً، مسَّه الضُر. |
إذاً ليس المال، ولا الصحة، ولا الرزق الوفير، ولا المكسَب، ولا المنصِب الدنيوي الزائل، كلها ليست مقاييس، قد تكون وقد لا تكون. |
(انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) انظر إلى الناس تجد تفضيل كبير جداً، هناك شخص اليوم لا يجد ويتمنى سقفاً يؤويه في غرفةٍ مترٍ بمتر، وهناك شخص يعيش في قصرٍ، تفضيل، هذا فُضِّل على هذا بشيءٍ، أي أُعطي شيئاً لم يُعطَه الثاني، لأنَّ المعنى المتبادل إلى الذهن فُضِّل يعني أفضل، لا، فُضِّل يعني أعطيته شيئاً لم تعطيه للثاني، فضّلتُ هذا على هذا، أعطيت هذا شيئاً لم أُعطه للثاني، وبالمناسبة أحياناً الفاضل والمفضول كلاهما يكون فاضلاً في شيء ومفضولاً في شيءٍ آخر، يعني ربُّنا عزَّ وجل قال: |
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا(34)(سورة النساء)
المرأة مُفضَّلة على الرجُل في شيء والرجُل مفضَّلٌ عليها في شيء، فكلٌّ منهما مُفضَّل في شيء ومُفضَّلٌ عليه في شيءٍ آخر، فالرجُل مُفضَّل في إنفاق ماله، وبإدارته للبيت، وبما أعطاه الله تعالى من القدرة على التحمُّل، والمشاق، والأعمال، وتحصيل الرزق، فهو مُفضَّل، والمرأة مُفضَّلةٌ عليه فيما أعطاها الله تعالى من القدرة على تربية الأولاد، والعاطفة، ولزومها للبيت، وأدائها لمهمتها، فكلٌّ منهما فُضِّل في شيء وفُضِّل عليه في شيءٍ آخر (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ). |
هذه الدرجات في الدنيا ما دامت لا تعني الأفضلية عند الله تعالى، قال: (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) يعني بالعاميَّة لم تروا شيئاً بعد (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) نظرت هذا ليس معه قرش وهذا معه مليون، هذا مُمرِّض ناشئ أجره ثلاثمئة دينار، وهذا طبيب في العملية الواحدة أجره عشرة آلاف دينار، هناك تفضيل، قال لك: لم ترى شيئاً بعد. |
التفضيل في الآخرة يقتضي الأفضلية حتماً:
(وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) هناك التفضيل الحقيقي،هناك في الآخرة التفضيل يقتضي الأفضلية حتماً، سترى شخصاً في النار في الدرك الأسفل من النار، المنافق، وسترى أشخاصاً: |
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا(69)(سورة النساء)
فانظر إلى الفرق! وضمن الجنَّة نفسها سترى شخصاً في الدرجة الدُنيا، يعني أخذ نجاح خمسين بالمئة، وستجد شخصاً في أعلى درجات الجنان، وما بين كل دَرجتَين من الجنَّة كما بين السماء والأرض، وكل درجةٍ أعلى من الدرجة التي قبلها، وأعلاها الفردوس الأعلى من الجنَّة (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) هناك التفضيل. |
فيا أحبابنا الكرام: الحقيقة أنَّ ما يجري اليوم في العالم، ونحن نشأنا ومضت السنون، وكل ما انتهت حربٌ دخلنا في حربٍ أُخرى، ودائماً نحن في حزنٍ على حال إخواننا، في بلدٍ إلى بلدٍ إلى بلد، وما زلنا في حُزنٍ مُستمرٍ على أهلنا في فلسطين، من نكبتهم المستمرة منذ أكثر من سبعين عاماً، فالنظر إلى ما يجري في الكون بعينٍ واحدة، وهي عين الشهادة أو عين الدُنيا، يعطي دائماً الصورة منقوصة، لذلك ربُّنا ما قال لك اترك الدنيا، قال لك: (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) لكن لا تنسى (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا). |
إذاً ليس التفضيل في الدنيا، هذا تفضيلٌ مؤقت يزول، فلو خيَّرتُ إنساناً عاقلاً بين أن أُعطيه الآن مئة تنتهي بعد سنواتٍ، أو أن أُعطيه ملياراً يبقى معه إلى أبد الآبدين، فالعاقل يختار المليار إلى أبد الآبدين، لا يختار المئة إلى أمدٍ مؤقَّت، لو قيل له مئة إلى أمدٍ بعيد وملياراً إلى أمدٍ بعيد لاختار المليار، فكيف إذا كانت المئة إلى أمدٍ قصيرٍ والمليار إلى أمدٍ لا ينتهي. |
الإيمان باليوم الآخر لا يعني أن نترك الدنيا:
(انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) يعني لا بُدَّ أن نُدخِل في حساباتنا دائماً حتى تستقيم نظرتنا، أن نُدخِل اليوم الآخر، لذلك في القرآن الكريم كثيراً ما تكرر قوله تعالى: يؤمنون بالله واليوم الآخر، لأنَّ الإيمان بالله يدفعك إلى طاعته، لكن الإيمان باليوم الآخر يُعيد لك التوازن، الآن الحمد لله في طاعة الله نسأل الله أن نكون في طاعته، لكن ما يجري حولنا أحياناً يُشعرك بالأسى، بالحزن، بالإحباط، أحياناً تقول انتهينا ما هذا الذي يجري؟ اليوم التصريحات كلها فجور من الصهاينة، أنه نحن نريد أن نُدخِل بعض المساعدات، لا يريدون أن يقولوا إنسانياً، نريد أن ندخلها حتى لا نُتَّهم بجرائم حرب بسيطة جداً ريثما نُنهي مهمتنا، يعني فجور في الإجرام والعياذ بالله غير مسبوق، فأنت عندما ترى تعالي أهل الباطل وانتفاشهم وتغطرسهم وكلامهم الذي يقول: |
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُون (15)(سورة فصلت)
كما قالت عادٌ قبل ذلك، وسنُهجِّر وسنفعل، والآن سننقلهم من الشمال إلى الجنوب، ثم التهجير، وأنت تشعر بالاستضعاف، تشعر بالتخاذل وبالهوان، أنا لا أقول نترك الدنيا معاذ الله، لكن إن لم نستحضر الآخرة بالشكل الأمثل والصحيح، عالم الغيب، ما أعدَّه الله لهؤلاء وما أعدَّه لهؤلاء، فالصورة منقوصة، قال تعالى: |
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)(سورة الروم)
الغفلة عن الآخرة مصيبة، في الاستحضار مصيبة، في كل لحظةٍ يجب أن تستحضر الآخرة، واستحضار الآخرة لا يعني ترك العمل في الدنيا، ولا يعني ترك نصرة المظلومين أنَّ الله ينصرهم، كما قالوا: |
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(47)(سورة يس)
ومثلها أن يكون متخاذل، أننصُر من لو يشاء الله نصره؟ هذا قول الشرك وقول البُعد عن الحق، لكن استحضار الآخرة دوماً يعني أن تعمل في الدنيا، وتنصُر وتتابع وأنت موقن بهذا اليوم الذي تُسوّى فيه الحسابات، وسينتقم الله فيه للمظلومين، وسينتقم من الظالمين، وسنرى بأُمِّ أعيننا مصارع هؤلاء في النار إن شاء الله، وما أعدَّه الله من رِفعةٍ لمن قضى في سبيله في الجنَّة. |
ما هو الغبن؟
لذلك أيُّها الكرام: عندنا في القرآن سورة اسمها سورة التغابن، والتغابن تبادل الغُبن، والغُبن يقول لك في البيع غُبن، أي غبنني، غبنني في البيع يعني السلعة ثمنها عشرة وباعني إيّاها بعشرين، استغل جهلي بالسوق، أو السلعة سعرها عشرة وباعها بعشرة، ولكن فيها عيبٌ غير ظاهر، أيضاً غبنني، فالغبن هو النقص، والغبن في البيع هو أن تُنقِص شيئاً سواءً من قِبَل البائع أو المُشتري، وقد يغبن المُشتري البائع فيستغل حاجته للبيع، يريد أن بيع بيته، عنده في اليوم الثاني سداد في المحكمة، فالبيت معروف ثمنه مئتي ألف فيغبنه فيه ويقول له أريد أن آخذه بمئة ألف، يستغل حاجته للبيع بفرق كبير في السعر، فالغبن موجود في البيع والشراء، وعندنا خيار في الفقه اسمه خيار الغبن، أي إذا تبيَّن أنَّ المُشتري غُبِن، أو البائع غُبِن، يعود أحدهما على الآخر بخَيارٍ فقهي له تفصيلات اسمه خَيار الغبن، كما هناك خَيار الشرط، وخَيار المجلس، وخَيار العيب، فهذا خَيار الغبن، أن يغبنك البائع أو أن تغبِن البائع، فالتغابن هو تبادل الغبن، يعني أنا أغبِن وهو يغبنني، كيف يكون يوم القيامة هو يوم التغابن كما قال تعالى: |
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(9)(سورة التغابن)
التغابن يوم القيامة عظيم جداً:
المغبونون كُثر يوم القيامة، الغبن في الدنيا مثلاً باع السلعة بمئة ليرة وهي لا تستحق ليرة، غُبنٌ كبير، يحزن الإنسان ساعتين ثم ينسى، أنا غُبنت وانتهى، ثم بعد حينٍ يتندر بها، كلنا غُبنَّا في الدنيا وانزعجنا فترة ثم بعد ذلك هانت المصيبة في أعيننا، ثم أصبحت نُكتةً نتندر بها، الغبن موجود، فكل إنسان يُغبَن، يُغبَن بزواجه، يُغبَن بماله، يُغبَن بمنصِبٍ مُعيَّن، لكن الغُبن في الدنيا زائل، والحزن عليه مؤقت، لكن الغُبن يوم القيامة عندما يكتشف الكافر أنه أعطى للدنيا حجماً أكبر من حجمها بكثير، جعلها منتهى آماله، ومحطَّ رحاله، وباع دينه من أجلها، وظلم الناس من أجل دُريهمات، وقاتل في الدنيا وتعِب من أجل منصِبٍ يُحصِّله، ثم لمّا حصَّله ظلم الناس من خلاله، ثم اكتشف يوم القيامة أنَّ الدنيا كلها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وأنه الآن بدأت الحياة، وتلك الحياة التي مضت لم تكن شيئاً، هذا غُبنٌ عظيم، غُبنٌ غير قابل للإصلاح، ليس فيه خَيار، ليس هناك خَيار الغُبن أنه نعود ونُصلِح، انتهت. |
حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ(100)(سورة المؤمنون)
عندما يأتي مَلَك الموت انتهى لا رجوع، فالتغابن يوم القيامة عظيم، حتى بين أهل الجنَّة في الجنَّة، عندما ينظر إنسان ويقول لك هذا فُضِّل عليَّ بأعلى الدرجات، كنت أستطيع أن أنفق، كان لدي مال ولم أُنفق، أمّا هو كان معه المال وأنفَق، كان يقوم الليل وكنت لا أقوم الليل، كان يبرُّ والديه وكنت أُقصِّر في ذلك، استحقَّ الجنَّة الطرفان، لكن فرقٌ كبير بين هذا وذاك، سأُشبهُها بمثَل: |
طلاب التوجيهي الآن مُقبلون إن شاء الله على امتحان التوجيهي، يوم التغابن للتقريب فقط هو يوم صدور النتائج، فلمّا تصدر المفاضلة فيكون فرق في علامةٍ واحدة، لو أنه أخذ هذه العلامة كان انتقل إلى الفرع الذي هو يطمح إليه في الجامعة، فيشعر بالغبن الشديد، والراسب الذي رجع ليُعيد السنة من جديد، أو عليه مواد كثيرة، وتأخَّر دخوله إلى الجامعة، ورأى أصحابه كلهم في الجامعة، مثلاً عملوا مجموعة على الواتس أب وهو ينظر ماذا يفعلون، ورأى أنَّ الجامعة جميلةٌ ومريحة أكثر من المدرسة، وهو عاد للوراء ليُعيد المواد التي قدَّمها، فيشعر بالغُبن، بالنقص عنده في مقابلهم، وهُم بين بعضهم يشعرون بالغُبن فيمَن حصَّل المرتبة الأعلى والمرتبة الثانية والثالثة، فالكل يشعر بالغُبن إلا الذي حصَّل الأول على المملكة، فهذا الوحيد الذي لا يشعر بالغُبن. |
فقضية التغابن هي شعورٌ بالنقص، أن يشعر الإنسان بأنه كان يمكن أن يفعل شيئاً لكنه لم يفعله، وشعور الندم صعب، شعور الندم يأكل القلب أكلاً، يعني أنا كان ممكن أن لا أستحق النار، لي مقعد في الجنَّة، ورد في بعض الأحاديث أنَّ: |
{ كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في جَنَازَةٍ، فأخَذَ شيئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ به الأرْضَ، فَقالَ: ما مِنكُم مِن أحَدٍ إلَّا وقدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، ومَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أفلا نَتَّكِلُ علَى كِتَابِنَا، ونَدَعُ العَمَلَ؟ قالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له، أمَّا مَن كانَ مِن أهْلِ السَّعَادَةِ فيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعَادَةِ، وأَمَّا مَن كانَ مِن أهْلِ الشَّقَاءِ فيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ الآيَةَ: {فَأَمَّا مَن أعْطَى واتَّقَى وصَدَّقَ بالحُسْنَى} }
(صحيح البخاري)
بمعنى أنَّ له مكانٌ موجودٌ هنا ومكانٌ موجودٌ هنا، فأنت تختار، فلمّا يذهب إلى النار والعياذ بالله، ينظر إلى مقعده في الجنَّة ويقول: كان لي مكان في الجنَّة تركته وذهبت إلى نار الجحيم والعياذ بالله، فلذلك سمّاه الله تعالى قال: (ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) التغابن في الدنيا مهما كان عظيماً، ومهما شعر الإنسان بالغبن، ومهما شعر بالنقص، ومهما شعر بالندَم، فكله إلى زوال، لكن يوم القيامة عندما تُنشَر الصحائف، وعندما يأخذ هذا كتابه بيمينه، وهذا كتابه بشماله، وعندما ينطلق هؤلاء إلى الجنَّة وهؤلاء إلى النار، قال: (ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) هناك الغُبن الحقيقي الذي يندم عليه الإنسان ندماً لا يعدله ندم، ولات ساعة مندمِ، انتهى الوقت، فرعون وهو أكفر كُفَّار الأرض، وهو الذي قال: |
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ(38)(سورة القصص)
وقبلها قال: |
فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ(24)(سورة النازعات)
بعد ذلك قال: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) بمعنى أنه حسب معلوماتي لا يوجد إلهٌ غيري، فتكبَّر والعياذ بالله، لمّا أدركه الغرق قال: |
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90)(سورة يونس)
قال الله له: |
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(91)(سورة يونس)
انتهى الوقت. |
الإنسان العاقل هو الذي يُعد العدة ليوم التغابن ولا يغفل عنه:
خيارُنا مع الإيمان يا كرام، خيار الناس مع الإيمان، خيار الناس مع التقوى، خيار الناس مع العمل الصالح، ليس خيار أن يقبل أو أن يرفض، الخيار أن تقبَل أو أن ترفُض موجود في الدنيا، بمعنى أنَّ إنساناً عُرِض عليه بيت ليشتريه ودخل فقال لك هذا البيت صغير، كسوته قديمة، رفض، هذا له أن يقبَل أو أن يرفُض. |
شابٌّ يريد أن يتزوج ذهب إلى فتاةٍ لم يجدها متعلمة فرفض، فتاة تقدَّم إليها شابٌّ نَظَرت إليه وجدَّته قليل ذات اليد، تريد أفضل منه فرفضت، فخيار قبول أو رفض، يقبَل أو يرفُض، لكن مع الإيمان الخيار ليس قبول أو رفض، القبول مُتحقِّق حتماً، لكن إمّا بالوقت المناسب أو بعد فوات الأوان، فرعون قَبِل الإيمان ولكن بعد فوات الأوان. |
إنسان جلس على طاولة الامتحان ولم يعرف أن يُجيب على أي سؤال، لمّا انتهى الوقت وسحبوا الورقة، قال: عرفت الإجابة تذكَّرت، قالوا له: لكن الوقت انتهى، فليست القضية أن تعرف أو لا تعرف، القضية أن تعرف الإجابة ولكن في الوقت المُحدَّد، وربُّنا جلَّ جلاله أعطانا هذا العمر لنتعرَّف إليه ونُطيعه ضمن الوقت المُحدَّد، عند الموت انتهى الوقت. |
فأحبابنا الكرام: العاقل والذكي إن صحَّ التعبير، والمتفوُّق والناجح والفالح هو الذي يُعد العدَّة لهذا اليوم، ليوم التغابن، والناس الحمقى هم الذين يعيشون لحظتهم ودنياهم ويقولون: |
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ(24)(سورة الجاثية)
لا ينظرون إلى ما بعد هذه الدنيا، ولا ينظرون إلى الآخرة، ولا ينظرون إلى جنَّةٍ أو نار. |
فأسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يؤمنون باليوم الآخر إيماناً حقيقياً وكأننا نراه: |
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ(6)(سورة التكاثر)
كأننا نرى الجنَّة والنار. |
{ أنَّهُ مرَّ بأبي بَكْرٍ وَهوَ يَبكي ، فقالَ : ما لَكَ يا حَنظلةُ ؟ قالَ : نافَقَ حنظلةُ يا أبا بَكْرٍ ، نَكونُ عندَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يذَكِّرُنا بالنَّارِ والجنَّةِ كأنَّا رأيَ عينٍ ، فإذا رجَعنا إلى الأزواجِ والضَّيعةُ نسينا كثيرًا قال فواللَّهِ إنَّا لكذلِكَ انطلِقْ بنا إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه و سلَّمَ فانطلقْنا فلما رآهُ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ قالَ : ما لَكَ يا حنظلةُ ؟ قالَ : نافقَ حنظلةُ يا رسولَ اللَّهِ ، نَكونُ عندَكَ تُذَكِّرُنا بالنَّارِ والجنَّةِ كأنَّا رأيَ عينٍ ، رجَعنا عافَسنا الأزواجَ والضَّيعةَ ونسينا كثيرًا ، قالَ : فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ : لَو تدومونَ على الحالِ الَّتي تقومونَ بِها من عندي لصافحَتكمُ الملائِكَةُ في مجالسِكُم ، وفي طرقِكُم ، وعلى فُرُشِكُم ، ولَكِن يا حنظلةُ ساعةً وساعةً ساعةً وساعةً . }
(أخرجه الترمذي ومسلم)
رأيَ العين الذي يكون يقيني مئةً بالمئة، اليوم الآخر وكأنه يقيني مئةً بالمئة، وكأنك تراه رأيَ عين، قادِم لا محالة، إيمانٌ باليوم الآخر، يستقيم الإنسان على منهج الله، يعد للمليون قبل أن يُفكِّر أن يظلم نملةً وليس إنساناً، يتوازن مع ما يراه من حوله من ظلمٍ وأسى وقتلٍ ودمار، يُصبح عنده توازن، فيشعُر بما لا يشعُر به الآخرون، ويرى ما لا يراه الآخرون، لأنه انتقل من عالم الشهادة إلى عالم الغيب. |
الدعاء:
اللهم انصُر أهلنا في غزَّة نصراً عاجلاً مؤزَّراً، اللهم يا ربّ أطعِم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مُصابهم، وآوِ غريبهم، واغفر لنا تقصيرنا بحقِّهم يا أرحم الراحمين. |
اللهم مُجري السحاب، مُنزِل الكتاب، هازِم الأحزاب، سريع الحساب، اهزِم الصهاينة المُعتدين ومن وقف معهم ومن أيَّدهم في سرٍّ أو علَن. |
اللهم إنهم يقولون: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، وقد غاب عنهم أنك أشدُّ منهم قوة، فكُن لهم يا ربّي بالمرصاد، وصُبَّ عليهم من عندك سوطاً من عذاب، إنك يا ربّي سريع الحساب، والحمد لله رب العالمين. |