امرأة العزيز ومكر النسوة

  • الحلقة السابعة
  • 2021-03-21

امرأة العزيز ومكر النسوة


مقدمة:
الدكتور مراد:
الحمد لله رب العالمين، أحمدك يا رب حمد الشاكرين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، يا ربِّ صلِّ على النبي المصطفى ما قال ذو كرمٍ لضيفٍ مرحباً.
حياكم الله مشاهدي الكرام، وأسعد الله مساءكم في هذه الحلقة الطيبة المباركة، في برنامجكم: "رحلة الصديق"، رحلة الصديق نقف اليوم على محطةٍ مهمة من محطات حلقاتنا ألا وهي امرأة العزيز ومكر النسوة.
يسعدني في هذه الأمسية، وفي هذا اليوم الطيب المبارك أن نرحب بضيوفي الكرام بأخي الدكتور بلال نور الدين أهلاً وسهلاً بك دكتورنا.

الدكتور بلال:
حياكم الله دكتور، وبارك الله بكم، وأعلى قدركم.

الدكتور مراد:
وسيكون معنا عبر السكايب أيضاً أستاذنا الكبير؛ الأستاذ الدكتور آدم نوح القضاة عضو مجلس الإفتاء الأردني، وأيضاً الأستاذ في جامعة اليرموك في كلية الشريعة، بعد قليل يدخل معنا الدكتور آدم، لكن نسمع آيات محطتنا لهذا اليوم، ثم نعود معكم لاستضافة دكتورنا الدكتور آدم.

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
[ سورة يوسف ]

صدق الله العظيم.
أخواني؛ اليوم سنحاول في هذه المحطة من القصة أن نثير بعض التساؤلات حول الافتراءات التي وصلت إلى سيدنا يوسف وامرأة العزيز، من خلال هذه المحطة كيف تعامل سيدنا يوسف مع هذا المشهد؟ كيف تعاملت امرأة العزيز مع هذا المشهد؟ وكيف وصل سيدنا يوسف إلى السجن؟
نجدد الترحاب بضيفنا الأستاذ الدكتور آدم نوح القضاة؛ عضو مجلس الإفتاء الأردني وأيضاً الأستاذ في كلية الشريعة في جامعة اليرموك، أهلاً وسهلاً بك دكتورنا.

الدكتور آدم:
أهلاً وسهلاً بك أخي مراد، وحياكم الله.

الدكتور مراد:
حياكم الله سيدي؛ ونسعد بك، ونحن عندما نقول: الدكتور آدم نوح القضاة نستذكر شيخنا وعالمنا، وأستاذنا المربي، سماحة الشيخ نوح القضاة؛ الذي وضع بصمة في عالمنا الإسلامي، وفي أردننا، وتربى على يديه الكثير، ونحن نعتز ونفتخر أننا عملنا في معيته، وتربينا على يديه رحمه الله، آنسه الله، وأسأل الله يا دكتور أن يكون هذا العمل الطيب عملكم في صفيحة أعماله.

الدكتور آدم:
آمين، جزاك الله خيراً، وبارك فيك دكتور مراد؛ وأنت أهل الوفاء، من مدرسة كلها وفاء إن شاء الله.

الدكتور مراد:
أكرمك الله؛ دكتورنا نحن نعيش مع قصة سيدنا يوسف من البئر إلى العرش، وهذه القصة التي امتلأت حقيقةً - وهي أحسن القصص - بكثيرٍ من الجوانب التربوية، والاجتماعية، والاقتصادية، عالجت كثير من المسائل، ونحن اليوم نعيش مع محطة مهمة ألا وهي امرأة العزيز ومكر النسوة.
دكتورنا؛ لقد تمّ تسريب خبر المراودة التي حصلت في القصر، خرجت من السجان، من البواب، من الحارس، من الساقي، من الخادم، انتشر الخبر، وشاع الخبر عند مجموعة من النساء، نريد أن نطرح بعض التساؤلات دكتورنا؛ من أولئك النسوة اللاتي حضرن إلى مجلس امرأة العزيز؟ من أين خرج يوسف عليه السلام؟ كيف قطعنَّ أيديهنَّ؟ هل كان فعل التقطيع فعلاً إرادياً أم لا؟ وماذا كانت ردة فعل أزواج أولئك النسوة وأهلهنَّ عندما رأينا أيديهنَّ قد تقطعت؟ تفضل دكتورنا.

الامتحانات التي مرّ بها يوسف عليه السلام:
الدكتور آدم:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه والتابعين، وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أولاً: أشكر أخي الدكتور مراد الرفاعي على هذه الاستضافة، وأشكره على هذا التقديم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل مجلسنا هذا والأخوة المشاهدين مجلس علمٍ وخيرٍ وبركة تحفه الملائكة، وتتنزل فيه البركات، وتزداد فيه الحسنات، وأن يرزقنا جميعاً صلاح النية والذرية.

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
[ سورة فصلت ]

جمال القصة القرآنية
مثلما تفضلت أخي الدكتور مراد أن قصة يوسف عليه السلام هي قصة مليئة بالأحداث، وربنا سبحانه وتعالى أخبرنا في القصة عن قضايا تتعلق ليس فقط بشخوص بالأشخاص الذين كانوا في هذه القصة، وما كان يدور من ظاهر الأحداث، بل إن جمال القصة القرآنية أنه يخبرك عن الظاهر وعن الباطن، لأن الذي يخبر هو العليم الخبير، هو الله سبحانه وتعالى، فلا يكون الإخبار بمجرد أحداث متسلسلة، ولكن الحدث كيف كان وقعه على الشخوص؟ كيف كانوا يفكرون؟ كيف كانوا ينظرون إلى الأشياء؟ ما هو منظورهم إلى الأحداث التي كانت في تلك القصة؟
الجزء الذي نتوقف عنده في هذه الحلقة هو الامتحان الثالث لسيدنا يوسف عليه السلام، سيدنا يوسف عليه السلام لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعله من المخلصين من عباده:

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
[سورة يوسف ]

قضية الإخلاص أن يستخلص الله عبداً، هذه ليست قضية تأتي عبثاً، وإنما تأتي بعد جملة من الامتحانات يبلي فيها الإنسان بلاء حسناً، ويثبت فيها الإنسان أنه عبد حقيقي لله عز وجل، يرضى بقضائه، ويستجيب لأحكامه، هذه هي العبودية الحقيقية، أن ترضى بقضاء الله، وأن تستجيب لأحكام الله.
حتى نربط هذا المشهد الذي بين أيدينا اليوم بالمشاهد التي قبله، يوسف عليه السلام تعرض للاختبار الأول، أو الامتحان الأول، عندما كان في البئر، عندما نزل عليه الوحي وأخبره أنك ستخرج من هذا الاختبار، وستُنبئ إخوتك بما جرى منهم ولو بعد حين، في وقتٍ يختاره الله سبحانه وتعالى.
الاختبار الثاني كان الذي تعرض له يوسف عليه السلام في القصر على يد امرأة العزيز، تلك المرأة التي تجردت من القيم الإنسانية، وتجردت من الفطرة السليمة، لتعرض أمراً لا يليق أن يعرض على الأنبياء، ولا على الشرفاء، ولا يليق أصلاً من امرأة شريفة في موقع مثل موقع هذه المرأة أن تعرضه على أحد أي العبيد في قصرها، وهذه كانت المراودة الأولى، الاختبار الثالث هو هذا، هذا ما تمّ أمام النسوة، أمام - دعنا نسميه- الملأ، القرآن دائماً يعبر عن هؤلاء بأنهم الملأ، لكن نحن معتادون أن الملأ من الرجال، لكن هذه المرة الملأ كان من النسوة.

الدكتور مراد:
دكتور آدم، نريد أن نستأذنك في سماع الأذان، نحيي سنة النبي صلى الله عليه وسلم في سماع الأذان، ثم نعود إليك إن شاء الله، نسمع أذان العشاء ثم نعود إليكم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أسعد الله مساءك دكتور آدم.

الدكتور آدم:
حياكم الله سيدي، وأهلاً وسهلاً بكم جميعاً.

الدكتور مراد:
حياكم الله، انقطعنا بسبب الأذان حتى نحيي سنة النبي صلى الله عليه وسلم في السماع سيدي.

الدكتور آدم:
أكرمكم الله سيدي، وجزاكم كل خير، وساق لكم الأجر كما سقتموه لنا.

الدكتور مراد:
دكتورنا؛ كنا نتكلم عن تسريب الخبر، المراودة والنسوة، نريد أن نسمع منك؟

مكر امرأة العزيز وفعلها الشنيع مع يوسف عليه السلام:
الدكتور آدم:
الامتحان الأول هو امتحان البئر
نعم، بارك الله فيك، إذاً حتى نربط هذا المشهد الذي بين أيدينا من القصة بما قبله وبما بعده استعرضنا الامتحانات التي مرَّ بها يوسف عليه السلام، وكان الامتحان الأول هو البئر، وما كان فيه من امتحان شديد، أن يُلقى هذا الطفل الصغير على يدي إخوته ثم يباع بدراهم معدودة.
الامتحان الثاني كان ما حصل في القصر عندما أمتُحن يوسف عليه السلام في شرفه، وفي كرامته، وعُرض عليه هذا الأمر الخسيس فأذاه، واستعصم بالله عز وجل، وأبى أن ينقاد إلى هذا الفعل المرذول.
الفعل أو الامتحان الثالث هو هذا المشهد الذي بين أيدينا، الآن امرأة العزيز شعرت أنها قد كُسرت هيبتها واحترامها في المرة الأولى على يد يوسف عليه السلام، وأن الأمر بدأ يتفاعل خارج حدود القصر، عندما بدأ الخبر ينتشر في المدينة، وبدأت النساء تعيّر امرأة العزيز بفعلها الشنيع الذي هو في ذاته شنيع، وازداد شناعةً بكونها امرأة العزيز، وازداد أيضاً مرةً ثالثة هذا الموقف بئساً بكونها توجهت في هذا الأمر إلى غلام أجنبي يعمل في قصرها، ثلاثة أمور جعلت فعلها يوصف حتى على يد هؤلاء النسوة، مع أن البيئة كما تصورها الآيات القرآنية لم تكن بيئة أُناس يعبدون الله عز وجل، ولا يوحدونه، ومع ذلك وصفوا فعلها بأنه: (ضَلَالٍ مُبِينٍ).
طبعاً الامتحان الرابع الذي جاء بعد ذلك هو امتحان السجن، وهذا الذي سيكون فيما يأتي من وقفات في هذا البرنامج الطيب، دعنا نقارن بين الامتحان الثالث هذا الذي بين أيدينا والامتحان الذي قبله، سنجد أن هذا الامتحان كان أشد على يوسف عليه السلام، والسبب في ذلك أن امرأة العزيز في المرة الأولى عرضت هذا الأمر فيما بينها وبين يوسف.

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
[ سورة يوسف]

ما فعلته امرأة العزيز هو نوع من المكر المتبادل
المرة هذه لا، عرضت الأمر أمام جملة من النساء، وعلى مرأى، ومسمع، ومشهد منهن جميعاً، إذاً حجم الإصرار منها على هذا الفعل كان عجيباً وغريباً بدرجة كبيرة جداً، المرة الأولى دعته دعوةً، استعملت فيها الإغراء، المرة هذه لا، استعملت معه التهديد (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي هددته بالسجن، وهددته بالصغر، إذاً نحن أمام حالة عجيبة غريبة من هذه المرأة، وكيف أنها انساقت وراء هذا الأمر بطريقة عجيبة وغريبة، وبدأت تستعمل التهديد والوعيد، طبعاً النسوة حاضرات، وما فعلته امرأة العزيز في شأن النسوة الحقيقة هو كان نوع من المكر المتبادل، لأن الآية قبل ذلك تقول: (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) سمعت كيف هؤلاء النسوة بدأن يتكلمن في الخفاء، بدأن يتكلمن ضدها، كما يقال: أصبحت سمعتها تُلاك على الألسن، ولعل هذا الأمر قد يكون لحاجةٍ في نفوس هؤلاء النسوة، لسببٍ أو لآخر، فأرادت أن ترد عليهن بمكرٍ مشابه، وهذه السورة فيها مشاهد عديدة ومتعددة لهذا المكر الخفي، والتدبير الخفي الذي يمارسه للأسف بعض الناس في حياتهم، حتى أصبح كأنه منهج حياة.
ماذا فعلت؟ أعدت المجلس، وقدمت فيه صنوف الطعام، وآتت كل واحدة من هؤلاء النسوة سكيناً، وقالت ليوسف عليه السلام: اخرج، لعله خرج من غرفة إلى غرفة، من قاعة إلى قاعة، لا ندري، هذه التفاصيل لم يبينها القرآن الكريم، لأن العبرة بالأحداث التي تؤثر في القصة، والتي يؤخذ منها العبرة، فلما خرج (عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) لما رأين حسن يوسف عليه السلام، ومعلوم كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى يوسف في ليلة الإسراء:

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أُعطي يوسف شطر الحسن }

[أخرجه أبو يعلى ]

التقطيع هنا على الأرجح أنه الجرح
آتاه الله تعالى شطر الحسن (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) بمعنى أنهن انشغلن بالنظر إليه عن النظر إلى السكاكين، وإلى الطعام الذي بين أيديهن، فصارت السكاكين تجرح الأيدي وهنَّ لا يدرين، طبعاً التقطيع هنا على الأرجح من كلام المفسرين أنه الجرح، وليس القطع بمعنى القطع الكامل، فجرحنَّ (أَيْدِيَهُنَّ) مثلما يكون الإنسان يعمل في شيء ويسهو، أو ينشغل ذهنه وباله بأمرٍ معين، فتجده يؤذي نفسه وهو لا يدري، وعندما ينشغل الإنسان عن نفسه بغيره هذا دليل على أن الغير مهم جداً بالنسبة له.
طبعاً قد يقول قائل: إذاً النسوة معذورات، هل امرأة العزيز كانت معذورة في فعلها؟ ما دام يوسف عليه السلام بكل هذا الحسن، وكل هذا الجمال، إذاً هنَّ معذورات؟ وهل امرأة العزيز كانت معذورة في فعلها؟ الجواب: لا، الجواب ليس هكذا، الأمر لا يتعلق بيوسف عليه السلام، الأمر يتعلق بقلبٍ خاوٍ من محبة الله، عندما يكون القلب خاوياً من محبة الله عز وجل، هذا القلب مثل الكأس- كما يقول العلماء – لابد من أن يمتلئ بشيء، إن لم تملأه ماء سيمتلئ بالهواء، وهكذا هي هذه القلوب، لم تكن عامرة لا بالإيمان، ولا بذكر الله عز وجل، ولا بخشيته، ولا حتى باحترام النفس، أ لو كانت امرأة العزيز تحترم نفسها لما وقعت في مثل هذا ( ضَلَالٍ مُبِينٍ ) لما وقعت في مثل هذا الموقف الذي عُيرت به في مدينتها كاملةً، القلوب إن لم تمتلئ بمحبة الله عز وجل، فتمتلئ بمحبة أي شيء آخر.

الدكتور مراد:
جميل! أي هي دكتور القوة الشيطانية كما يقول الإمام الرازي: هناك قوى شيطانية، وقوى ملائكية، وقوى نباتية، وقوى حيوانية، هذه موجودة في كل إنسان فهي الآن استخدمت القوى الحيوانية الموجودة ألا وهي الشهوة في فعلها.
دكتورنا؛ لكن الفقرة الأخيرة ماذا تتوقع ردة فعل أزواجهنَّ عندما رأينَّ تقطيع أو الجرح الذي وقع بأيديهنَّ بسبب هذا الفعل حتى ننتقل إلى المحور الثاني؟

الدكتور آدم:
الحقيقة لم يرد في القرآن الكريم، ولا في المصادر المعروفة في حدود ما اطلعت عليه، لم يرد إجابة على هذا السؤال، ومادام أن المسألة هي مكر متبادل، وقلوب خالية من محبة الله عز وجل، وقيم منهارة، فمثل هؤلاء النسوة لا يصعب على الواحدة منهن أن تختلق أي عذرٍ أمام زوجها، أو أقاربها بمثل هذا الأمر.

الدكتور مراد:
دكتورنا العزيز؛ الآن نريد أن ننتقل إلى محورٍ آخر، ونحن اتفقنا مع ضيفنا الدكتور بلال العزيز أن ننهي مع الدكتور آدم، ثم ننتقل إلى الدكتور بلال بعد ذلك في المحاور الأخرى.
دكتور نحن أمام خبر من العيار الثقيل، أمام قضية شرف وخيانة كبرى، ماذا كانت ردة فعل المجتمع؟ الآن انتشر الأمر، وخرج موضوع المراودة إلى المدينة، وخرجت أيضاً القضية قضية النسوة اللاتي( قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) هل الخبر انطفئ وانتهى أمره ونحن نعلم أن الخبر السيئ سبحان الله ينتشر كما تنتشر النار في الهشيم ماذا تقول دكتور بهذا؟

أسباب انتشار مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام:
الدكتور آدم:
الخبر كان يحمل أكثر من سبب للانتشار
الحقيقة الخبر كان يحمل أكثر من سبب للانتشار، السبب الأول كما يقال دائماً هذه الطبقة من الناس يحب عامة الناس ويتشوقون دائماً إلى تناقل أخبارهم، على مستوى حياتنا اليومية نلاحظ كيف أن الناس يهتمون بأصحاب المناصب، وأصحاب الشهرة المادية، أو السياسية، ماذا فعل فلان؟ إلى أين ذهب؟ من أين أتى؟ هذه طبيعة في النفس البشرية أنها تتشوق دائماً إلى تناقل الأخبار التي تتعلق بهذه الشخصيات المهمة، هذه الشخصيات المؤثرة في حياة عامة الناس.
الأمر الآخر طبيعة الخبر نفسه، وخاصةً أن هذه المجتمعات التي تكون روح الإيمان فيها قد غابت، تحب أن تنشر الخبر السيئ أكثر من نشرها للخبر الحسن، نحن عندنا في شريعتنا، وفي ديننا تحذير من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، تحذير من أن ينقل الإنسان خبراً من غير أن يكون قد تحقق منه ، تحذير من أن ينقل الإنسان معلومة وهو غير متأكد منها، لكن المجتمعات التي خلت من الإيمان، وخلت من الالتزام الحقيقي لا يهمها كل هذا الأمر، فتجدها تنقل الأخبار بل وتزيد فيها، وتعطيها صبغة أخرى غير الصبغة التي وجدت فيها، كان المتوقع من امرأة العزيز أنها عندما انتشر هذا الخبر بين الناس، كان المتوقع أن تعمل بصورةٍ أو بأخرى على إغلاق الملف كما يقولون، أن تدعوهنَّ ثم بعد ذلك تنفي الأمر أمامهنَّ بطريقةٍ أو بأخرى، لكن وجدنا أن هذه المرأة قد تمادت في غيها، وأشهدت على نفسها لما قالت: (وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي ثبتت التهمة على نفسها، وثبتت براءة سيدنا يوسف عليه السلام، وطبعاً هذه - سبحان الله - كانت نقطة ضدها، ونقطة في صالح يوسف، لأن الله سبحانه وتعالى كان يهيئ له أمراً معيناً فيما بعد لما دعاه العزيز حتى يصبح وزيراً عنده - الملك - وقد أصبح ملكاً وقتها، لما دعاه لأن يصبح وزيراً أبى، أبى أن يتسلم الوزارة حتى تأتي النسوة ويشهدنَّ ببراءته كما سمعنها من لسان المرأة نفسها، كانت هذه منحة إلهية مع المحنة، دائماً مع المحنة هناك منحة، وهذا من لطف رب العالمين سبحانه وتعالى.

الدكتور مراد:
دكتور؛ أي الخبر لم ينطفئ، ولم ينتهِ أثره، وامرأة العزيز زادت الأمر، أي أثبتت الأمر على نفسها من جديد، وهذا يعني أمراً هو سُحب الحياء من وجهها في حينها.

الدكتور آدم:
نعم، لكن في المقابل سيدنا يوسف ازداد - سبحان الله - إصراراً وتمسكاً (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ).

الدكتور مراد:
دكتور آدم؛ محورنا الأخير حتى ننهي معك ونحن نستمتع بكلامك الطيب، سيدنا يوسف كان يتمتع بمكانة عظيمة وطيبة عند العزيز، مع علم العزيز ببراءته لكنه زجه بالسجن، أي هذا الفتى كان بريئاً مما نُسب إليه من التهم، لماذا زج العزيز سيدنا يوسف عليه السلام بالسجن مع أنه بريء؟

أسباب زج العزيز سيدنا يوسف بالسجن مع أنه بريء:
الدكتور آدم:
الجماهير في أغلبها لا يهمها إحقاق الحق
يا سيدي؛ هذا فعل المجتمعات التي لا تقيم للعدل وزناً، همهم أن يغلقوا الملفات بأي طريقة، يهمهم أن يُغلق الملف بأي طريقة، الآن كرامة هذه المرأة نزلت في الأرض مرتين، مرةً في السر، ومرةً في العلن، فلا يبعد أن تكون هي مثلاً ذهبت إلى زوجها وأخبرته بخلاف ما حصل منها، قالت له: أنا سمعتي أصبحت كذا وكذا، أصبح الكلام يدور حولي بهذه الطريقة، ونريد أن نغلق هذا الملف، اذهب بيوسف إلى السجن، ودعه في ذلك السجن حتى ينسى الناس الخبر، وينسوا أثره، وهي تعلم أن المجتمعات للأسف تنسى، هناك الكثير من قضايا الفساد الأخلاقي والاجتماعي تنتشر، والناس يتكلمون فيها، لكن بمجرد أن يغيب شخوصها عن الساحة تغيب، وكأن الناس ينتظرون الحلقة الأخرى، أي هاتوا لنا قصة ثانية، هذه القصة انتهت، هاتوا لنا قصة ثانية لنتسلى فيها، الجماهير في أغلبها متفرجة لا يهمها إحقاق الحق، ولا إزهاق الباطل، ولا يهمها أن يُعاقب المسيء، هي فقط يهمها أن تتلقى خبراً آخر من ذلك القصر حتى يتداولوه من جديد.

الدكتور مراد:
أي حتى لو وقع الظلم، الأمر ينهي الملف هذا بسجن يوسف عليه السلام حتى لو كان مظلوماً.

الدكتور آدم:
بالضبط، القضية ليس فيها لا إحقاق حق، ولا إبطال باطل، ولا معاقبة مسيء، القضية دعنا نغلق هذا الملف ونرى غيره.

الدكتور مراد:
دكتور آدم؛ وأنت في عروس الشمال في إربد نحييك، حياك الله، شكراً لك أستاذنا الدكتور آدم.

الدكتور آدم:
نسأل الله أن يرفع الغمة عن هذه الأمة، ونعود ونلتقي بك، وبضيفك العزيز وجهاً لوجه، تحياتي وسلامي لكما جميعاً، وللأخوة المشاهدين.

الدكتور بلال:
أكرمكم الله.

الدكتور مراد:
شكراً لك أستاذنا الدكتور آدم نوح القضاة؛ عضو مجلس الإفتاء الأردني، والمدرس في جامعة اليرموك، شكراً لك.
دكتورنا الدكتور بلال؛ وها نحن نعيش مع هذه اللفتات، وهذا المكر الذي قامت به زوجة العزيز، حتى تجد لنفسها مسوغات، دكتور بلال كيف نعكس هذا المشهد على واقعنا اليوم؟ موقف العفة الصامد والثابت أمام الشهوة الجانحة، وقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم:

{ عن أبي هريرة: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله. ورجل تصدق بصدقة أخفاها، لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه }

[ أخرجه مسلم وابن خزيمة]

من جهةٍ أخرى نلاحظ أن امرأة العزيز حاولت أن تلملم الموقف، وأن تضع لنفسها مسوغات حتى تخرج من هذا المأزق، مع أنها أثبتت لنفسها هذا الأمر، كيف لنا أن نتصرف إذا وقع في بيتٍ من بيوت المسلمين هذا الفعل؟ أسأل الله أن يبعده عنا، ويبعدنا عن هذه المواقف الصعبة، كيف لو وقع هذا الزنى؟ نستر أم نفضح؟ أمر مهم جداً، نعالج أم نقتل كما يفعل البعض؟ ما الموقف الشرعي تحديداً في هذه المواقف؟

التناقض بين التكليف والطبع ثمن الجنة:
الدكتور بلال:
جزاكم الله خيراً دكتور على هذه الأسئلة الطيبة.
بدايةً دكتور؛ ربنا عز وجل قال:

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)
[ سورة النازعات ]

وكأن سبب دخول الجنة - وأن تكون الجنة مأوانا إن شاء الله - (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى)، (خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ) قال:

إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
[ سورة المائدة ]

(وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) كل إنسان عنده هوى في نفسه، وقد قيل:
إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد لقيت هوانا
{ ابن المقفع }
فالهوى هوان، فالإنسان حينما يكبح جماح نفسه يرقى عند الله، هناك طبع، وهناك تكليف، الطبع يقتضي أن يطلق لنفسه العنان، أن يجلس مع أي امرأة تحل له أو لا تحل له، أن يملأ عينيه من الحرام، أن يصل كما وصلت امرأة العزيز إلى المراودة والعياذ بالله، وقد يصل إلى الفاحشة لأنها خطوات الشيطان، خطوة تتبع خطوة.

الدكتور مراد:
نظرةٌ فابتسامةٌ فموعدٌ فلقاء.

الدكتور بلال:
هذه طبيعة الهوى في النفس، التكليف أن يعاكس الإنسان طبعه، فإذا عاكس الإنسان طبعه ارتقى عند الله عز وجل (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه وآخرته.

تعفف المؤمن عن الحرام عندما ينظر بنور الله:
أخي الحبيب؛ يوسف ما الذي رآه حتى آثر السجن على أن يواقع المعصية - الفاحشة-؟
النظر بنور الله يعطيك استشرافاً للمستقبل
اليوم لو جئت بمئة شاب، لن أعطي إحصاءات، لكن لو جئت بمئة شاب وخيرتهم بين السجن والوقوع في معصية، كم شاب يقول: (إني أخاف الله)؟ الإنسان عندما يرى المآلات يقول: (إني أخاف الله) فالمآل هو شقاء في الدنيا، وعذاب في الآخرة، لكن عندما يعيش الإنسان لحظته فيرى المتعة الآنية، ويرى لذته الطارئة في هذه المعصية فيواقعها لأنه لم ينظر بنور الله، فالنظر بنور الله يعطيك استشرافاً للمستقبل، لا أحد يعلم الغيب، لكن بإعلام الله للمؤمن فكأنه ينظر إلى ما سيكون بعد حين، الآن معصية يقع بها، وبعد حين كآبة مدمرة وندامة وفي الآخرة عذاب شديد، فعندما ينظر المؤمن بالمآلات يتعفف عن الوقوع في الحرام، فيوسف عليه السلام رأى برهان ربه، وكما أسلفنا برهان ربه هنا واضح جداً، لأنه ذاك العلم الذي علمه الله إياه، فجعله يحجم عن المعصية في سبيل إرضاء الله.

الدكتور مراد:
جميل، نسقطها على واقعنا.

التربية الإيمانية والضوابط الشرعية التي يجب على رب كل أسرة أن يغرسها في أبنائه:
الدكتور بلال:
نسقطها على واقعنا الآن، الآن نسأل الله السلامة، كما قلت نسأل الله أن يحمي جميع بيوت المسلمين، لكن لو وقع شيء في بيوت المسلمين، نسأل الله السلامة من ذلك، وحصل مراودة، أو اشتمَّ - قوَّام البيت - وهو الرجل، كما في القرآن الكريم:

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ (34)
[ سورة النساء ]

ينبغي أن تكون يقظاً في بيتك
اشتم رائحة إشكال في البيت، وهنا ملمح لطيف جداً في قوله تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ)، (تَخَافُونَ) فكأن القرآن يوجه إلى أنك ينبغي أن تكون يقظاً في بيتك، توجه الولد قبل أن يقع، نحن يجب أن نحمي بيوتنا، لا أن ننتظر وقوع المصيبة ثم نقول: وقع الأمر، يسافر الرجل لأشهر طويلة ويترك زوجته وحدها، وليس هناك تربية إيمانية عميقة في البيت، وبناته وأبناؤه، ثم يعود.

الدكتور مراد:
مع أن هناك ضوابط شرعية تضبط هذه المسائل، السفر وغيره.

الدكتور بلال:
النبي صلى الله عليه وسلم قدوةٌ للبشر
بالضبط، أي يترك البيت هملاً دون شيء، ثم يقع الفأس بالرأس كما يقولون، فيقول: لِمَ حصل ذلك؟ حصل بسبب أنك لم تنضبط بضوابط الشرع في تعاملك مع زوجتك، في تعاملك مع أولادك، في تعاملك مع بناتك، فهذا أمر مهم: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ) نستر ولا نفضح، هذا بلا شك، النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قدوةٌ للبشر، زوجته أمنا عائشة الطاهرة المطهرة البريئة، لكن أراد الله أن يقع الكلام في هذا الموضوع في بيته، ليعلمنا ماذا يفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد قالت: لم أكن أعرف منه الود الذي كنت أعرفه.

{ عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن كُنتِ بريئة فسيُبَرِّئكِ اللّه }

[أخرجه البخاري]

هذا تعامل النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، فاليوم الذي يغضب ويثور لمشكلة في البيت، ويفضح الأمر، ويخرجه من الدائرة الضيقة، فرق كبير أخي دكتور مراد عندما نقول: نستر، لا نفهم أنه يرضى، الرضا شيء والستر شيء آخر، لا يوجد إنسان فيه ذرة من دين أو كرامة أو حياء يقبل بمشكلة في بيته من هذا النوع، أو من غيره، لكن عندما يلحظ وجود شيء ويقول: يجب أن يعالج في بداياته، فإن الرضا مرفوض، لكن الستر مطلوب، لأن الله تعالى هو الستير جل جلاله.

الدكتور مراد:
ولا نقتل ونتعامل بما فعل الشرع؟

الدكتور بلال:
نحن عندنا عاطفة، وعندنا عقل، بعض الرجال يحتكم إلى لغة العاطفة، والإسلام يأمرنا أن نحتكم إلى لغة العقل، والمنطق، والضوابط الشرعية، فبالعاطفة يفور وقد يفعل شيئاً ثم يندم عليه بقية عمره.

الدكتور مراد:
جميل، دكتور:

قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
[ سورة يوسف ]

الله الذي يحفظ البيوت، نحن بحاجة إلى تربية إيمانية في بيوتنا، والله هو الحافظ، عندما نتوجه إلى الله ونقول: يا الله استر علينا، الله يستر، الله عز وجل حافظ، الله عز وجل رحيم .
دكتورنا؛ الآن سيدنا يوسف زج في السجن، لم يستيقظ ضمير أحد من هؤلاء النسوة لتعترف ببراءة الفتى، الآن هي اعترفت أمام النسوة أنها ارتكبت هذا الحرام.
وهي اعترفت بالمراودة، ولا امرأة من النسوة اعترفت، هل ماتت ضمائر البشر عندما تعلق الأمر بيوسف عليه السلام، هذا الفتى الصغير؟ ما هو وجه الشبه في هذه الجزئية بين ما حصل ليوسف من قبل مع إخوته؟ أيضاً ظلموه، وكانوا أحد عشر، لم يخرج واحد بينهم، أي أقروا بالظلم الذي وقع على يوسف، لِمَ لم يستيقظ ضمير أحد من إخوته ليخبر والده المكلوم على فراق ولده بأن ابنه يوسف لم يمت وأنهم ألقوه في الجب فالتقطته بعض السيارة؟ ظلم مرتين، والظلم شديد جداً، وكما قال العلماء: الظلم مأخوذ من الظليم وهو ذكر النعام، الذكر يضع رأسه في التراب فيصبح كل شيء أسود بالنسبة له، الظلم عنيف ليس سهلاً، الظلم مؤلم على النفس، ظلموا سيدنا يوسف، ماذا تقول؟

وجه الشبه بين ما حصل ليوسف من قبل مع إخوته وما حصل له مع امرأة العزيز:
الدكتور بلال:
الطيور على أشكالها تقع
يا سيدي قالوا: الطيور على أشكالها تقع، فهؤلاء أخوة يوسف، والصويحبات امرأة العزيز لما دعتهنَّ إلى قصرها، هنَّ لسن من النساء العوام، هي دعت الصويحبات لها كما يتضح من سياق القصة، حتى قال العلماء: وقال نسوةٌ، لم يقول: قالت نسوةٌ، فذكَّر الفعل للإشارة إلى أنهن قليلات، التأنيث لجمع الكثرة، فقالوا: هذا إشارة إلى أنهنَّ لم يكنَّ كثيرات، فالطيور على أشكالها تقع، هم شركاء في الجريمة، هؤلاء صويحبات يوسف وأخوة يوسف من قبل شركاء في الجريمة، أخي العزيز؛ ربنا عز وجل في القرآن الكريم عندما قال:

فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
[ سورة الأعراف ]

وقال:

فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)
[ سورة الشمس ]

الذي عقرها رجل واحد، وقد ثبت ذلك في صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم:

{ عن عبد اللّه بن زمعة رضي الله عنه أنه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يخطُب - وذكَرَ النَّاقَةَ والذي عَقَرَهَا - فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: انبعثَ لها رجلٌ عزيزٌ عَارِمٌ مَنيعٌ في رهطهِ }

[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ]

هو رجل واحد الذي عقر الناقة، لكن ربنا عز وجل في القرآن قال: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) فعقروا الناقة، لأنهم رضوا عن الجريمة فهم شركاء فيها، لما رضوا وسكتوا عن الجريمة أصبحوا شركاء فيها، فكأنهم جميعاً اشتركوا في فعل نحر الناقة بخلاف أمر نبيهم عليه السلام.
الذي يرضى بالظلم هو شريك في هذا الظلم
أيضاً لما سيدنا عمر بن الخطاب في صنعاء اجتمع خمسةٌ أو سبعة وقتلوا رجلاً، وجيء بهم إلى عمر، قال: والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء جميعاً لقتلتهم، هم شركاء في الجريمة، الذي يسكت ويرضى بالظلم هو شريك بطريقة أو بأخرى في هذا الظلم.
سفيان الثوري جاءه رجل قال له: أنا أخيط الثوب لبعض الظلمة - أخيط الثوب للظالم- فهل أنا من أعوان الظلمة؟ قال: لا، أنت من الظلمة أنفسهم، أعوان الظلمة من يبيعك الإبرة والقماش، هذا العون، أما أنت مباشر للجريمة لأنك تجد الظلم ثم تعطي الظالم ثوباً ليلبسه في مجلس الظلم والعياذ بالله.
فهؤلاء أخوة يوسف لما سكتوا ورضوا، حتى أوسطهم وأحسنهم طريقةً خلده الله، لأنه كان أفضل منهم، لكن لم يكن موقفه شرعياً، الموقف الشرعي أن ينهاهم، وأن يمنعهم من هذا الظلم، لعله خاف على نفسه أو شيء من ذلك.
وهنا هؤلاء الصويحبات، أخي الدكتور مراد، هناك أمر مهم لما قال: (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) يشير المولى جلّ جلاله إلى أن فعلهن ذلك لم يكن انتصاراً للفضيلة كان مكراً والمكر ما معناه؟ أن تستر شيئاً خلف شيء، فهنَّ أظهرنَ أنهنَّ يردنَ الخير (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أظهرنَّ أنهنَّ يردنَ الانتصار للفضيلة، لكن في الحقيقة كنَّ يمكرنَ بها، أي يخفين شيئاً.

الدكتور مراد:
حتى سمعتها هي المرأة الثانية في القصر بعد امرأة الملك، هي المرأة الثانية وسمعتها عالية جداً، الآن يريدون أن ينزلوا السمعة إلى الحضيض.

الدكتور بلال:
بالضبط، كأنهنَّ ينتظرنها على شيء، فلما حصل منها، لذلك قال تعالى: (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ).

الدكتور مراد:
والمكر هو إخفاء الشيء بشيء.

الدكتور بلال:
هنَّ يسترنَ شيئاً، وليس صحيحاً أنهنَّ يردنَ الانتصار للفضيلة.

الدكتور مراد:
دكتور هذا ربط جيد، ولكن نحن نريد الآن أن نسأل سؤالاً، سيدنا يوسف نودعه الآن بدموع المكلوم، ودموع المقهور، ظلم سيدنا يوسف والآن ذهب إلى السجن، هذا الأمر ليس سهلاً، الآن هو ذهب إلى السجن، سؤالنا دكتور هل يعذر أحد في سكوته عن ظلم الناس، وعدم إحقاق الحق، ورد المظالم إلى أهلها ماذا تقول في هذا؟ لو سألتك عن أولئك الذين يسكتون عن ظلم الآخرين؟

الظلم ظلمات يوم القيامة ولا عذر لإنسان أن يسكت عن الظلم:
الدكتور بلال:
نحن عزاؤنا قبل أن أجيب عن السؤال، عزاؤنا ونحن نودع يوسف إلى السجن أنه (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) فهو أحب السجن على المعصية.
أخي الحبيب؛ لا عذر لإنسان أن يسكت عن الظلم.

{ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشُّحّ، فإن الشحّ أهلك من كان قبلِكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم }

[أخرجه مسلم ]

ربنا جلّ جلاله في الحديث القدسي:

{ عن أبي إدريس الخولاني رحمه الله: عن أبي ذَرّ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: - فيما روى عن الله تبارك وتعالى - أنه قال: ' يا عبادي إني حَرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّما، فلا تَظَالموا }

[ أخرجه مسلم والترمذي ]

لكن أريد أن أشير في الختام هناك ظلم خارجي، وهناك ظلم داخلي، الخارجي يقع علينا من أعدائنا وما أكثرهم، نسأل الله أن يزيل الغمة عن هذه الأمة، لكن كل منا الآن ليعد إلى نفسه، إن كنت قد حرمت أختاً من الميراث فأعد لها حصتها، إن كنت تسيء إلى قريبٍ لك فاطلب منه السماح، إن كنت أسأت إلى موكلك أيها المحامي فأعد له حقه، أيها المهندس ! أيها الطبيب ! كل في مكانه، لن يزيح الله عنا الظلم الخارجي حتى نزيح الظلم الذي بيننا، وعندما نزيح هذا الظلم إن شاء الله يتولى الله في عليائه إعانتنا على أن يذهب الظلم عنا.
والحمد لله رب العالمين