• الحلقة التاسعة
  • 2021-04-04

يوسف ورؤيا الملك


مقدمة:
الدكتور مراد:
الحمد لله رب العالمين، أحمدك يا ربي حمد الشاكرين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه الغر الميامين.
أعزائي المشاهدين؛ أسعد الله مساءكم بهذه الليلة الطيبة المباركة، وفي برنامجكم: "رحلة الصديق"، اليوم حلقتنا بعنوان: "يوسف عليه السلام ورؤية الملك".
يسعدني اليوم أن أرحب بضيوفي الكرام، أخي الدكتور محمد الفاعوري عبر السكايب من جامعة العلوم الإسلامية أهلاً وسهلاً بك دكتورنا.

الدكتور محمد الفاعوري:
حياكم الله، حفظكم الله جميعاً، وبارك فيكم.

الدكتور مراد:
حياكم الله سيدي، ويسعدني أن أرحب بضيفي العزيز الدكتور بلال نور الدين أهلاً وسهلاً بك.

الدكتور بلال:
أهلاً بكم دكتور، حياكم الله.

الدكتور مراد:
مشاهدينا الكرام؛ اليوم هو يوم الفرح، يوم إطلاق سراح سيدنا يوسف من السجن، بدأت هذه المحطة برؤيا الملك، والتي كان تأويلها بمثابة فك الحرية لسيدنا يوسف، نسمع وإياكم آيات محطتنا لهذا اليوم، ثم نعود لضيوفنا الكرام.

وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
[ سورة يوسف ]

صدق الله العظيم.
جزى الله شيخنا الشيخ المهندس أحمد الحراسيس على هذه القراءة الطيبة، نعود إليكم أساتذتنا الكرام، دكتور محمد الفاعوري، طبعاً اليوم نحن سننتقل إلى آياتٍ بعد ذلك وهي:

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
[ سورة يوسف ]

إلى آخر الآية، المشهد الذي سنعيشه اليوم دكتورنا العزيز، انظروا إلى مجريات القدر، أقدار الله عز وجل، مجريات القدر جرت مع سيدنا يوسف عليه السلام، حتى رأى الملك هذا الحلم، مباشرة نقل الأمر إلى الملأ، إلى أشراف المدينة الذين يجلسون عنده، وقال لهم هذه الرؤيا التي رآها، أجمعوا أنها أضغاثُ أحلام، ليس لهم قدرة على تأويل الرؤية فلهذا:

قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
[ سورة يوسف ]

(أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ) هذا ما ذكروه، وما كانوا يعلمون أن هذه الرؤيا فيها أشياء كثيرة، هذا الحلم سيرتبط بمصير الدولة، والأمة، ومصير حتى المنطقة في المستقبل، كيف نقرأ رؤيا الملك بهذا السياق؟ دكتورنا دكتور محمد الفاعوري.

الرؤيا التي تسللت في منام العزيز منجاة ليوسف عليه السلام:
الدكتور محمد الفاعوري:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أولاً أنتهز هذا المقام مقام البشائر، سائلاً المولى عز وجل أن يديم النعمة التي نحن فيها من أمن وأمان واستقرار على بلادنا وعلى عامة بلاد المسلمين، وأن يجعل الغيوم التي تمر سحائب صيفٍ عن قريب إن شاء الله، وأن يبارك لنا في بلاد الشام وما حولها، إنه سبحانه سميع الدعاء.
الحقيقة هنا: (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) العجيب أن الرؤيا تكررت مرتين في المقام، الرؤيا في أول مقام وأمر يعقوب ولده بكتمان الأمر.

قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
[ سورة يوسف ]

منجاة يوسف عليه السلام بسبب الدعاء
والرؤيا هنا - ستختلف المسألة - ستعرض على يوسف، لن يراها يوسف، ستعرض عليه لتنتشر ويكون لها أثر، ولها موضع كبير، ما هذه الرؤيا التي تسللت في منام العزيز في فراشه في الليل حتى تكون منجاة ليوسف عليه السلام، لولا الدعاء الذي كان يعيشه في ظلمات ذلك المكان، هذا يذكرني بيونس عليه السلام، الذي كان من المسبحين، يذكرنا بنبينا صلى الله عليه وسلم الذي حماه الله تعالى ببيت عنكبوت، وبيض حمام كما جاء في السيرة وإن كان بعض أهل العلم ضعف تلك الرواية، لكننا في المغازي نتوسع كما هو معلوم.
ظنوا الــــــحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم عناية الله أغنت عن مضاعفة مــــــــــن الدروع وعن عالٍ من الأطم
{ البوصيري }
الخلاف في المبنى يدل على خلاف في المعنى
فهذا الخبر الذي يأتي من رؤيا الملك ليس بجديد على سنة الله تعالى مع أنبياء الحماية والرعاية، التي أرادها ربنا سبحانه وتعالى، الملك رأى رؤيا، هذه الرؤيا التي رآها بالمنام، يظهر طبعاً عند العلماء أن هنالك تطبيقاً، لأن الخلاف في المبنى يدل على خلاف في المعنى قطعاً، هو قال: (رُؤْيَايَ) هم (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ) فالظاهر أنه هو رأى رؤيا صادقة، لأن هذا المترجح عند أهل العلم، وإن كان عند العرب قديماً لم يكن ثمَّ فرق في الاستخدام، لكن استقر الأمر على أن الرؤيا تكون في الأمر الصالح، والحلم يكون للشيطان كما جاء في الحديث، (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ) يا دكتور مراد، أليس هذا كلام منهم يدل على أنهم جزموا في الأمر أي قطعوا به وقالوا: إن هذا كلام كله؟ أي كأنها تخرصات لا قيمة لها، ما دام قلتم: (أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ) تقولون بعد ذلك: (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) فإما أن تحددوا موقفكم لأنكم تجهلون بقولكم: لا أدري، ومن ترك لا أدري فقد أُصيبت مقاتله، وإما أن تقولوا أننا نعلم هذه الرؤيا، ونعلم أنها قطعاً من الشيطان، أو أنها رؤيا قد يكون لها تفسير في مستقبل الزمان، هذا الأدب القرآني الدقيق يظهر في بعض المقامات، الملائكة لما سألهم الله تعالى عن الأسماء قالوا:

قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
[ سورة البقرة ]

هذه المسألة واضحة وسهلة، الأنبياء يوم القيامة عندما يُطلب منهم الشفاعة من البشر كلهم يعتذر إلا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنا لها، أنا لها، فمعرفة الإنسان مقامه في هذا المقام جميل جداً، أن تعرف القدر الذي تنطلق منه بالكلام، فالرؤيا هنا لما (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) هنا سر دقيق جداً، هم الآن أثبتوا على أنفسهم الجهل، فأي واحد سيتكلم بعدهم لا يستطيعون إنكار ما يقول، أي لو أنهم الآن سكتوا، قالوا: سننظر، سنفكر، لكن الأمر لو تكلم يوسف ربما اعترضوا عليه، لكن لما أثبتوا أنهم لا يعلمون، هذا من سر الله عز وجل بأن يكون هنالك ساحة مليئة بالجهل، ليأتي يوسف العالم الذي الآن سيأتي بمنطق جميل يبهر الملك في سلطانه، ويبهره في مكانه فيستدعيه، أما الجمال الذي يأتي في هذه السورة في هذه المقامات، في هذه الآيات، فهو جمال أن الرؤيا ستكون هي السر الذي سيكون فيه نجاة ليوسف عليه السلام.

الدكتور مراد:
وهذا فيه دلالة أيضاً دكتورنا العزيز:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
[ سورة المجادلة ]

الآن الرفعة هذه جاءت أيضاً مع العلم؟

عناية الله الخاصة لأنبيائه:
الدكتور محمد الفاعوري:
يوجد أسرارٌ لا بد من تأملها
وهذا الذي قاله الغزالي دكتورنا في مفاتيح الغيب، أنا أحياناً والله يا دكتور مراد ودكتور بلال يلفتني اختيار العلماء لعناوين الكتب، يدل على أن هنالك جماليات رائعة، انظر: السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، أي الوابل، الصيب، انظر: مفاتيح الغيب، أي هناك أشياء تقول لك إن في الأشياء أسراراً لابد أن تتأمل فيها، وتتفكر في أحوالها.
إذا تذكرنا وتفكرنا ما قاله الغزالي في هذا المقام، مشكوراً دكتور مراد، ماذا قال؟ قال: العلم الذي كان ليوسف أنجاه من محن الدنيا، فكيف بالعلم لا ينجي من محن الآخرة؟ إذا محن الدنيا ينجيك منها، وتكون فيها أسباب الفتوحات، فيكف لا يكون له سر في مفاتيح الآخرة كما قال الرازي رحمه الله تعالى، هذا إذا دل على شيء يدل على ما ذكرت، أن هذا الرجل الذي كان في السجن أخباره ستتحرك كما كان حال النبي عليه الصلاة والسلام، الناس تسأل، الناس تقول: من هذا؟ فهذا الخبر تحرك من سجن مظلم إلى قصر منير، حتى يكون هذا الذي في السجن المظلم يقود هذا القصر بعد قليل.

الدكتور مراد:
وهذه أخبار الله عز وجل، كما أشرت دكتورنا هي للأنبياء حقيقةً عناية خاصة من الله عز وجل وتهيئة، أي لو جئنا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنت دائماً تقول: لا بد من ربط مع سيرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، قضية أبرهة الأشرم وعام الفيل هي خدمت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في المستقبل، كانت العرب موجودة في جزيرة العرب، وهناك عدة أماكن للعبادة، فلما جاءها الأشرم والله نصر هذه الكعبة المشرفة بيته أجمع العرب أن الكعبة المشرفة هي بيت الله، فاستثمر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الدعوة في دعوته للإسلام للوفود التي كانت تأتي إلى الحج.
جزاك الله خيراً دكتورنا دكتور محمد على لفتاتك الطيبة، أنتقل إلى أخي العزيز بلال.
لا، تفضل دكتور محمد.

الدكتور محمد الفاعوري:
لعله ضمن العناية، موسى سيكون في قارب أو بصندوق من خشب لينجو من الحديد، الأسوار التي عند الله ليست كالبشر، هذا ما نريد أن نفهم عندما نتكلم ونقرأ عن الآيات نعرف أن أقدار الله تعالى لا تستعجل باستعجال البشر، هنالك أمور وأقدار، كل شيء جعله الله تعالى على قدر، حتى قال بعض العلماء: ما من قطرة تنزل من السماء إلى الأرض إلا ومعها ملك يوصلها حيث أمره ربه.

إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
[ سورة القمر]


الدكتور مراد:
الأقدار مقدرة، والناحية العقدية مهمة جداً في هذا المجال ليدركها الإنسان، وهذا أمر بالعقيدة يرفع الإيمانيات عند الناس.
أخي الدكتور بلال؛ سمع الفتى، ذلك الفتى الذي كان مع سيدنا يوسف عليه السلام بالسجن، وأحبّ سيدنا يوسف، وإحسان سيدنا يوسف، وجاء إليه مباشرةً ، ادّكر.

وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
[ سورة يوسف ]

سيدنا يوسف لم يلجأ إلى مبدأ المقايضة
أي عصر الفكر، وأجهد الفكر حتى يعيد إلى الذاكرة، أين أنا رأيت هذه الرؤيا؟ أو أين أستذكر هذه الرؤيا؟ (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) مباشرةً لقط الأمر، أنا الآن سأنقلكم إلى من يعبر الرؤيا، هنا سيدنا يوسف يقوم بتأويل الرؤيا لصاحبه، ذلك صاحبه: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) في السجن، دون أي شروط مسبقة، هذا الكريم يوسف لم يضع شروطاً مسبقة على الرغم من أن يوسف عليه السلام كان سجيناً حتى الساعة، حتى هذه اللحظة لم يلجأ إلى مبدأ المقايضة، لن أقوم بالتأويل حتى أخرج من هذا السجن كأن يطلب حريته، لم يطلب هذا الشيء، ما تعليقك دكتور على هذا المشهد الرائع من سيدنا يوسف عليه السلام؟

الكريم لا يطلب على معروفه شيئاً:
الدكتور بلال:
أكرمكم الله دكتور، وشكراً لهذا السؤال الجميل جداً حقيقةً، والذي فيه تطبيقات عملية كثيرة في واقعنا، يوسف عليه السلام كما تفضلتم جاءه رسول الملك مرتين، لما جاءه يريد حاجةً بذلها دون أن يطلب شيئاً، ولما جاءه يريده بمكانةٍ توقف وطلب براءته، وهذا أتركه للدكتور محمد، لكن لما جاء يطلب حاجةً ما تردد يوسف، وكما تفضلتم هو الكريم ابن الكريم والكريم لا يطلب على معروفه شيئاً.

الدكتور مراد:
ولا يقايض.

الدكتور بلال:
ولا يقايض.

إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)
[ سورة الإنسان ]

المؤمن يعطي مما أعطاه الله تعالى
وهذا ينبغي أن يكون حال المؤمن في كل حياته، فمهما اشتدت عليه الظروف ومهما كان في ضيق، وفي فقر، وقد يكون في ظلم، فلا ينبغي أن يحيد عن مبدئه وهو مبدأ العطاء، لأن المؤمن يعطي مما أعطاه الله تعالى، ولا يبخل.
أخي الدكتور مراد؛ الله تعالى في كتابه الكريم يقول:

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
[ سورة القصص ]

كأنه هنالك إشارةً ضمنية أنك ينبغي أن تأخذ من الله تعالى - وهو المحسن جلّ جلاله - طريقة إحسانه، الله تعالى لما أحسن إلينا جلّ جلاله ابتدأنا بالإحسان، وأنت ينبغي أن تبتدئ الأخرين بالإحسان، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:

{ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ' ليس الواصلُ بالمكافئ، ولكن الواصلُ: مَنْ إِذا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا }

[أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي]

فالذي يُكافئ على فعل لا يعد واصلاً، وإن الذي يبتدئ الوصل رغم قطيعة رحمه فهو الواصل، الله تعالى ابتدأنا بالإحسان، والله تعالى كان خيره وإحسانه عميماً علينا، فينبغي أن تُحسن كما أحسن الله إليك، فيكون خيرك وإحسانك عميماً لا ضيقاً، والله تعالى لا يقتصر عطاؤه على فئةٍ دون فئة، الله تعالى لما قال:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
[ سورة البقرة ]

نحن نحسن كما أحسن الله إلينا
فالله تعالى لا يقتصر عطاؤه على فئة دون فئة، حتى الإنسان الذي أساء، أو الإنسان البعيد عن دينك تُحسن إليه، وتتودد إليه، لعلك تُقربه إلى الحق، ثم إن الله تعالى لم يطلب منا جزاءً على إحسانه، ابتدأنا بالإحسان، ولم يطلب منا جزاءً على هذا الإحسان، ولم يطلب مقايضةً حاشاهُ جلّ جلاله، فنحن نحسن كما أحسن الله إلينا نتعلم ذلك من يوسف، يوسف عليه السلام يعلمنا أنه لا ينبغي أن تُخرجك الظروف عن مبادئك وقيمك، هو في السجن في ظلم لكن الثابت أنه كريم، والكريم لا تُخرجه الظروف عن المبادئ، لذلك في الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم:

{ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: وجدنا في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَصِلْ مَنْ قَطعَكَ، وأحْسِنْ إِلى من أساءَ إِليكَ، وقُلِ الحقَّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ }

هنا أقول: يوسف عفا، ولو لم يعف لما جاءهم فوراً وأعطاهم، وهو الآن يعطيهم عطاء مهماً جداً، عطاء سيكون له ما بعده، وأكثر من ذلك أن يوسف عليه السلام- وهذا من آداب المسؤول - ما اكتفى بتأويل الرؤيا، وإنما زادهم شيئاً في ختامها قال:

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
[ سورة يوسف ]

وهذه لم ترد في الرؤيا، لكنها مما علمه الله تعالى، ومما يستنبط من فحوى الرؤيا فهو لم يقتصر.

الدكتور مراد:
وهنا يوجد نظرة دكتورنا أن ما بعد الشدة سيأتي الفرج، الظلمة هذه سبع سنوات سيأتيكم بعدها الفرج، هذه فيها ناحية كبيرة جداً أن بعد الشدة يأتي الفرج.

الدكتور بلال:
علمهم ذلك، وختم لهم بالشيء الجميل، أي حتى إذا ذهب إلى الملك وأخبره بالتأويل ينتهي التأويل (فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) يبقى الأمل في القلوب، فيوسف عليه السلام هنا يعلمنا أنه كريم فعلاً.

الدكتور مراد:
أنا أريد أن أنتقل مع الدكتور بلال إلى السؤال الآخر، ثم أنتقل إلى أخي الحبيب الدكتور محمد، حتى نستفيض معه في السؤال الذي بعد هذا، بعد إذنكم.
دكتور بلال؛ الآن نلاحظ أنه رجع ذلك الفتى إلى الملك ليخبره بالتأويل، وبهذا التأويل الجميل جداً، هنا أنا أريد أن أنتقل إلى مسألة جميلة جداً، هنا لم يجرؤ لصوص الفكر بغض النظر، الآن نتكلم عن ملكية فكرية لسيدنا يوسف عليه السلام، لم يجرؤ أحد أن يأخذ هذه الملكية الفكرية، الجميع ترجى أن هذه الرؤيا التي أوّلها وعبّرها هو يوسف عليه السلام، إذا عكسنا هذا المشهد على عملنا اليوم، وما يحصل من سرقة الفكر، وهذا نلاحظه كثيراً للأسف، سرقة الفكر والمعلومات، نسبتها إلى الغير، في حال غياب أمانة النقل وحفظ الحقوق الفكرية لأصحابها، هذا الناقل الذي ذهب يقول: هذا تأويل الأمر وانتهت المسألة، ما قال: أعطوني فرصة ليوم غد حتى أستذكر، إلى آخره، لكن نقل وصدق في هذا الأمر، ما قولك دكتور؟ وما توجيهك؟

غياب أمانة النقل وحفظ الحقوق الفكرية لأصحابها في وقتنا هذا:
الدكتور بلال:
جزاكم الله خيراً دكتور، حقيقةً هذه الإسقاطات مهمة جداً، النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من غش فليس منا }

هناك حديث:

{ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار }

[أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي]

من غشنا فليس منا
سابقاً كانت صور الغش بسيطة جداً، أي يضع الطعام الرديء في الأسفل والطعام الجيد على الوجه حتى يبيع طعامه، وهذا ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم لما أدخل يده في الطعام فوجد فيه بللاً فقال له: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس (من غشنا فليس منا).
بعد ذلك تطورت أساليب الغش، مثلاً صار يبيع بضاعة على أنها من المنشأ الفلاني وهي من منشأ آخر، هذا أسلوب، اليوم مع وسائل التواصل أصبحت وسائل الخداع والغش أكثر من أن تُعد أو تُحصى، أي انتحال للصفة، عندما ينشئ شخص صفحة على الفيسبوك، أو على التويتر، أو على أي وسيلة من وسائل التواصل ويكتب اسم فلان عليها وهو ليس فلاناً.

الدكتور مراد:
هذه سرقة دكتور.

الدكتور بلال:
سرقة، أنت تسرق اسمه، هذا الاسم اليوم له قيمة فكرية معروفة، سواء كان شخصية دينية، أو شخصية سياسية، أي شخصية، هذه سرقة بطريقة أو بأخرى، اليوم عندما تكتب منشوراً وتنسبه لعالم حتى تأتي باللايكات والإعجابات هذه سرقة، أو بالعكس تأتي بمنشور لشخص مهم وتضعه هذه سرقة فكرية، فينبغي أن تنسب الفضل لأصحابه، وأن تعيد الفكرة إلى صاحب الفكرة، هذا من الأمانة العلمية، اليوم في الرسائل الجامعية - وهذا أمر معروف - عندما تأخذ نصوصاً جاهزة، وتقوم على طريقة النسخ واللصق، وتضعها دون أن تنسبها لأصحابها، وتضع في الهامش أنها منقولة حرفياً، أو أن الفكرة كانت منقولة أن تقول: هذا كتاب فلان أو كذا، هذه سرقة فكرية من نوع آخر، اليوم التعليم أون لاين، اليوم بسبب ظروف كورونا التعليم أون لاين، عندما يأتي طالب في الامتحان ويقول لك: هذه المادة صعبة، فيُعطي الرابط لصديقه المتمكن من مادة اللغة الإنكليزية مثلاً، ويقول له: ادخل مكاني على الرابط وقدم مكاني هذا غش، وخداع، وسرقة، تسرق حق الطلاب، وتسرق حق الجامعة، وتسيء للجامعة التي تنتسب إليها، ينبغي أن نفهم الدين بهذا الشمول، الدين ليس فقط في المسجد أنك تعبد الله، وتصلي، وتصوم، الدين فيه حقوق للآخرين، فلا ينبغي أن تسرق حقوق الناس فكرياً، ولا أدبياً، ولا اجتماعياً.

الدكتور مراد:
شيخي دائماً يقول لي كلمة، قال: سبحان الله إذا نسبت القول إلى الرجل الذي أخذته منه سواء عالم، كما أشار قبل قليل الدكتور محمد، قال الغزالي، قال فلان، قال: الله يبارك لك في العلم الذي تأخذه، هذا فكرة مهمة جداً.
ننتقل إلى دكتورنا، دكتور محمد؛ الآن استمع الملك لما قاله ذلك الفتى، ونقل له مباشرة ردة فعل الملك كانت:

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
[ سورة يوسف ]

الآن أنا وجدت عالماً يستحق أن يكون في جانبي (ائْتُونِي بِهِ) الآن عندما طلب الملك بنفسه أن يأتوا بسيدنا يوسف (فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ)لم يستجب سيدنا يوسف إلى من وضع الشرط حتى يأتي، فما كان ليوسف إلا أن يمتنع عليه السلام، رفض قرار الملك وهذا الأمر ليس سهلاً أن ترفض قرار الملك الذي يطلبك، وتتوجه إلى مجلس جديد، مجلس الملك يفتح ملف القضية القديمة، اليوم نحن بالنسبة للمسألة أنه شيء القديم...

النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لكل البشر:
الدكتور محمد الفاعوري:
يوسف عليه السلام انطلق من صبره وجلده، إذا رجعنا للسيرة النبوية نلتفت أن هناك شخصية هاجرت جهراً، والنبي قد هاجر سراً، عمر رضي الله تعالى عنه، يقول العلماء: لماذا هاجر عمر جهراً والنبي سراً أهذا له مزية في مدح الشجاعة؟ وغيرهم قالوا: لا، النبي قدوة، النبي عليه الصلاة والسلام قدوة، فلو هاجر جهراً لشقّ على الناس، وأيضاً هذا لأن النبي يريد أن يعلم الناس لو دُعيت لأجبت، لأن هذه هي الطاقة البشرية الطبيعية، لكن تميز الأنبياء في بعض الجوانب يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُزكي نفسه في هذا المقام، بل يُظهر ما للأنبياء من صفات عالية جميلة، حتى ينظر الناس ويلتفتوا إليها التفاتة جميلة.

الدكتور مراد:
دكتورنا العزيز؛ مثلما يقول مشايخنا: التخلية والتحلية، سيدنا يوسف عليه السلام بدأ ينظف المسألة حتى يتمكن بعد ذلك، ويقدم ما يريده، تفضل دكتورنا.

ترتيب الأمور لسيدنا يوسف من قبل الله عز وجل ليظهر ما له من جماليات:
الدكتور محمد الفاعوري:
ثم سبحان الله! هذا شيء جميل جداً، الآيات التي يعرضها يوسف، عرضها من حيث التفسير النظري، بعد قليل سيكون هو في الجانب العملي.

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
[ سورة يوسف ]

كل هذا يدل على أن يوسف عليه السلام قد رتُبت الأمور له ترتيباً من عند ربنا عز وجل ليظهر ما له من جماليات، الدكتور بلال – حفظه الله - تكلم قبل قليل عن قضية الحقوق الفكرية، والمشاكل التي فيها، نحن عندنا اليوم المشاكل أكبر من هذا، أن تسأل شخصاً ليس له مجال، لم يقرأ في الحديث، في المسألة أي شيء، ويريد أن يجيب، يريد أن يجيب بأي طريقة، وتجده يدخل في كتب، ومؤلفات، ومصنفات، والله سمعت بعضهم يقول في تفسير سورة النصر، تخيل سورة النصر فيها تفسير القرطبي أو الطبري، ستكون في المجلد الثلاثين، أو الخامس والعشرين حسب الطبعة، أما يقول: في المجلد الأول فهذا يعطيك إشكالية كبيرة.
الخنفشار نبتة تنبت بالصحراء
مثل هذا الذي ما سُئل سؤالٌ إلا أجاب عنه، فأراد الطلاب أن يمتحنوه، قالوا: سنجمع له كلمات، جمعوا كلمة خنفشار، خنفشار ليس لها معنى، لا في الأرض ولا في السماء، هي كلمة استحدثت وجمعت جمعاً إذا صح التعبير بتركيب صيني، فقالوا: ما هو الخنفشار؟ قال: الخنفشار نبتة تنبت بالصحراء، إذا أكلت منه الإبل عقد لبنها، قال الشاعر:
لقد خلطت محبتكم فؤادي كما خلط الحليب الخنفشار
{ منقول }
أي هذا المشكلة اليوم في قضية التصنع، في قضية الدخول على الجانب الفكري، هذا غاب تماماً عن شخصية يوسف، ودلالة ذلك عفته، صونه لنفسه، صونه لكرامته أصالةً، أي أنا لن آتي إلا وساحتي نظيفة أمام الناس، أنا لن آتي وأتولى أمراً يتعلق بمصير أمة كاملة لأنه سيكون (عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ) إلا وقد مُحي عني كل ما يمكن أن يتحدث به الناس، لأن الناس يتحدثون، اليوم لا يمكن لإنسان أن يقع في خطأ، ولا بشائعات إلا وتجد الناس يتحدثون كأنهم رأوا بأعينهم.

الدكتور مراد:
وهذا مصيبة، دكتورنا؛ هذا ينبهنا إلى مسألة مهمة جداً، اليوم التصدر بموضوع الفتوى، وغير الفتوى، دائماً نقول: إن نصف عالم يكفر، ونصف طبيب يقتل، هذا مصيبة، دكتور هل تريد إضافة شيء فيما تبقى؟

على كل إنسان مراعاة الكلمات واللحظات والنظرات حتى يكون بوعي الأنبياء:
الدكتور محمد الفاعوري:
لا يمنع للإنسان أن يُبرئ عرضه، النبي عليه الصلاة والسلام يكون مع صفية، ويمشي في الليل، ويراه اثنان من الصحابة فيقول:

عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنَّ صَفِيَّةَ زَوجَ النبي صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنها - قالت : كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم معتكفاً، فأتيتُه أزُورُه لَيلاً فحدَّثتُهُ ثم قُمْتُ لأنْقَلِبَ، فقام معي ليقْلِبَني، وكان مَسكنُها في دارِ أسامَةَ بن زيدٍ، فمرَّ رجلان من الأنصار، فلمَّا رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ' على رِسْلِكُما، إنَّها صفيةُ بنتُ حُيَيّ ' فقالا: سُبْحان الله، فقال: إنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مَجْرَى الدمِ، وإني خشيتُ أن يَقْذِفَ في قلوبكما شراً، أو قال: شيئاً
[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود]

حتى لا يجوز للعالم، للداعية، لصاحب الحكمة أن يفتح مجالاً للناس تحت بوابات الظن، وعلى أنه في مرتبة اليقين، لابد له أن ينزل لهم ويفهم ما يمكن أن يفهم عنه، ويراعي الكلمات، واللحظات، والنظرات، حتى يكون بوعي الأنبياء الذين ساقهم الله تعالى على علم.

الدكتور مراد:

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
[ سورة الطلاق ]

فليبعد عن نفسه التهم، شكراً دكتورنا العزيز.
دكتور بلال؛ أعاد سيدنا يوسف إلى ذهن الملك شريط الأحداث القديمة وبدأ يتكلم، هنا نلاحظ ردة فعل الملك وهذه حكمة أيضاً من الملك أنه مباشرة استدعاه إلى مجلسه، مجلس الحكم استدعاه للتحقيق، أي مجلس القضاء الآن.

قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
[ سورة يوسف ]

إلى آخر الآيات، السؤال لماذا لم تستطع أحد من النسوة إنكار المشهد؟ لا أحد أنكره، هذا شيء فيه لفتة قوية، لماذا تبرعت امرأة العزيز التي كانت السبب أصلاً في سجن سيدنا يوسف تبرعت وأثبتت المشهد ولم تنكر شيئاً؟ ما دلالة (حَصْحَصَ الْحَقُّ)؟ ولم يبقَ معنا إلا أربع دقائق.

قصة يوسف تثبت أن الحق ناصع لا ينطفئ:
الدكتور بلال:
كل شيء ثابت وهادف هو حق
(حَصْحَصَ الْحَقُّ) اتضح بعد خفاء وبانت حصة الباطل من حصة الحق، الباطل له حصة، والحق له حصص، فدائماً هناك جولة للباطل، فعندما يحصص الحق تتضح حصة الحق الصافية، وهنا لا يملك أحد إلا أن يقف أمام الحق، لأن الحق من حق الشيء أي ثبت، وكل شيء ثابت وهادف فهو حق، وكل شيء زهوق زائل فهو باطل.

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
[ سورة الإسراء ]

الآن لما ظهر الحق جلياً واضحاً، ذهبت غشاوة الشهوة عن العيون، لأن الشهوة إذا غطت العيون يكذب الإنسان ويماري، لكن عندما يظهر الحق من جهة، ويظهر يوسف عليه السلام بهذا التأويل المحكم للرؤيا، وبهذا الكرم العظيم في إعطاء التأويل، ثم بهذا الحزم في الوقوف عند حقه وبراءته، لم يعد هناك مجال للإنكار، حتى إن النسوة (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) وتعلمون أن (من) تفيد الاستغراق ما بعدها نكرة، نفين عنه كل سوءٍ حتى أصغر شيء (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) وهذه (من) لها دلالتها في اللغة العربية، الآن لما (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ) ونزهن يوسف عن كل سوءٍ يمكن أن يكون في هذا الرجل، لم يبق أمام امرأة العزيز وقد رأت الحقيقة ناصعةً واضحةً، ورأت كرم يوسف، ورأت عزة يوسف إلا أن تعترف (أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ).

الدكتور مراد:
وله فتوى في السجن كما أشرت، أن نار الشهوة انتهت.

الدكتور بلال:
انتهت نار الشهوة، انطفأت، لأن غشاوة الشهوة تعمي العيون، لكن مع الحق، ومع الأزمان والأيام، تُطفأ الشهوة ويبقى الحق ناصعاً لا ينطفئ.

الدكتور مراد:
جميل! (مَا بَالُ النِّسْوَةِ) هذا أيضاً كرم من سيدنا يوسف، ما قال: ما بال زوجة العزيز، قال: (مَا بَالُ النِّسْوَةِ)، نقل مشهداً، حتى يبعد أي شيء قال: حققوا (مَا بَالُ النِّسْوَةِ).

الدكتور بلال:
وهذا أدب مع الله راق جداً.

الدكتور مراد:
الشباب أعطونا وقتاً، يبدو أن ربنا بارك لنا في هذه الدقائق الأربعة، والله بارك في سيدنا يوسف، هل من تعليق أخي الدكتور محمد؟

أهمية الإحسان:
الدكتور محمد الفاعوري:
أستاذ لما أحسن إليها بستر خبرها سارعت إلى كشف الحقيقة بما يتناسب مع براءته، هي كانت أيضاً محسنة في هذا المقام، أي وفت بما كان ينبغي أن توفيه، وأدت ما كان ينبغي أن تؤديه.

الدكتور مراد:
نستطيع أن نقول دكتور أيضاً: بذرة الخير والفطرة لا بد أن تكون عند الإنسان دائماً حتى لو كان هذا الذنب الذي ارتكبته كبيراً.

بذرة الخير والفطرة موجودة في كل إنسان:
الدكتور بلال:
تستيقظ الفطرة، وحتى في قوله: (مَا خَطْبُكُنَّ) الخطب أمر جلل عظيم، فالقيم هي القيم في كل زمان ومكان، فالملك يعتبر أن مراودة (يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) أمرٌ جلل يستحق التحقيق، قال: (مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) ما قال: ما الأمر؟ وإنما جعله خطباً وهو الأمر الجلل العظيم.

الدكتور مراد:
وهو اهتم أيضاً اهتماماً كبيراً جداً بالمسألة، عمل مجلساً وهذا شيء عظيم جداً، سيدنا يوسف هذا الرجل الذي أوّل هذه الرؤيا فيبدو أن عنده علماً، لابد أن آتي به، كما قالوا: يمكن أن هذا الملك هو خال زليخة هكذا يقولون دكتور محمد في روايات إسرائيلية، أي مع أنه قريب من المشهد وسمع به.

الدكتور محمد الفاعوري:
صحيح، نقول: سبحان الله! أحياناً الخال والعم بين الأنبياء وكذا، ليس هذا المقصود الذي نبحث عنه، بقدر ما نبحث عن المغازي العالية، دكتور مراد، تكلمت كلاماً جميل أنت والدكتور بلال، يوجد ملحظ ومشهد يغيب فيه قضية إثارة الشائعات، المشهد هنا جاء (إِذْ رَاوَدْتُنَّ) فقط القضية كأنها عن بعد، ولذلك سارعت امرأة العزيز لتثبت أن المسألة مراودة وليست أكثر من ذلك، فبرأت ساحتها أمام زوجها أيضاً، فمسألة الشائعات والدخول في التفصيلات غابت في هذه الآيات لأن المقصود أجمل مما يبحث عنه الناس في بعض الدقائق.

خاتمة وتوديع:
الدكتور مراد:
جميل! أيضاً كنت أنا والدكتور بلال، قبل أن نبدأ الحلقة أشرت إلى إشارة في ظل ما نعيشه من أحداث، وسماع للأحداث، وأشرت دكتور محمد أنه لا بد للإنسان أن يدعو الله دائماً أن يديم علينا أمننا وأماننا، فأشرت وقلت للدكتور بلال، سبحان الله لما سيدنا عقيل ذهب إلى الشام والتقى به سيدنا معاوية، وأغدق عليه من الطعام ومن الشراب، ثم قال له: يا عقيل كيف أنا وعلي؟ أراد أن يأخذ منه تصريحاً إعلامياً كبيراً في مجلس الشرفاء الموجودين، فقال له كلاماً ذكياً جداً، وفيه وعي، قال: يا معاوية أما طعامك فألذ، وأما الصلاة خلف علي فأتم، وأما الجلوس على التلة فأسلم، ما أجمل أن تجلس على التلة وتنظر المشهد، حتى لا توقع نفسك بأي ذنب.
دكتور محمد الفاعوري أشكرك جزيل الشكر على هذا اللقاء الطيب، وهذه الكلمات الطيبة، وأنت يا أخي الدكتور بلال جزاك الله عنا كل خير.

الدكتور بلال:
ونحن نشكرك على هذا الحوار النافع الرائع.

الدكتور مراد:
الله يرضى عنكم إن شاء الله.
علمني يوسف عليه السلام ألا أساوم على شرفي، ولا على سمعتي، وألا أقبل الهبة التي تنتقص منهما، علمني يوسف عليه السلام ألا أنتظر الفرج إلا من الله تعالى، وألا أرجع الفضل إلا لله تعالى أولاً وأخيراً وعلمني يوسف عليه السلام أنه مهما طال ليل الظلم فلا بد من طلوع النهار، ومهما أحكم الباطل تدبيره فإن تدبير الله لا يغلب، وأنه سبحانه وتعالى يتولى الصالحين.
اللهم احفظنا واحفظ بلاد المسلمين، واحفظ بلدنا آمناً مطمئناً، نلقاكم بإذن الله الأسبوع القادم في برنامجكم: "رحلة الصديق".
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته