• الحلقة الثانية عشر
  • 2021-07-04

على أعتاب الوداع


مقدمة:

الدكتور مراد:
الحمد لله رب العالمين، ونحمدك يا رب حمد الشاكرين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه الغر الميامين.
مشاهدي الكرام؛ أسعد الله مساءكم في هذه الليلة الطيبة، وفي برنامجكم: "رحلة الصديق"، اليوم عنوان حلقتنا لهذا اليوم: "على أعتاب الوداع"، وداع سيدنا يوسف عليه السلام نسمع الآيات ثم نعود إليكم:

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
[ سورة يوسف]

صدق الله العظيم.
حياكم الله من جديد، ونرحب بالأستاذ الفاضل الدكتور محمد الخوالدة، أستاذ التفسير وعلوم القرآن في جامعة جرش، وعميد كلية الشريعة سابقاً، أهلاً وسهلاً بك.

الدكتور محمد الخوالدة:
حياكم الله أستاذ مراد، وبالدكتور بلال حياكم الله.

الدكتور مراد:
نرحب بأخي بلال نور الدين أهلاً وسهلاً بك من جديد دكتور.

الدكتور بلال:
أكرمكم الله دكتور مراد، حياكم الله، وحيّا الله ضيفنا العزيز.

الدكتور مراد:
أكرمكم الله جميعاً.
اليوم نتكلم في الوداع، على أعتاب الوداع، وداع سيدنا يوسف، في الحلقة السابقة تكلمنا عن المشهد الأخير وهو مشهد لقاء سيدنا يوسف بوالده، وبأخوته، والمشهد الجميل القصة بدأت ببداية مؤلمة، وانتهت بلقاء الأحبة يوسف عليه السلام ووالده وأخوانه.
دكتور، ختمت آيات يوسف عليه السلام بالحديث عن الأمم السابقة، وعاقبة المكذبين، ما دلالة السياق في القصة؟ مع أن القصة - قصة سيدنا يوسف بدأت ببداية مؤلمة وانتهت بفرح، ولقاء الأحبة، والقصص في القرآن الكريم معظم الآيات جاءت تخويفاً للمشركين فكانت نهايات كل قصة نهاية مؤلمة، بخلاف قصة سيدنا يوسف كانت تنتهي بهلاك الأمم، تخويفاً لهم حتى يأتوا إلى دين الله عز وجل، ما دلالة هذه القصة وهذه الرؤيا دكتور؟

دلالة قصة سيدنا يوسف عليه السلام:
الدكتور محمد الخوالدة:
بارك الله بك، وجزاك خير جزاء على هذا البرنامج الطيب المبارك، الذي أسأل الله عز وجل أن يكون في ميزان حسناتكم عند الله عز وجل.
دكتورنا الحبيب؛ قصة يوسف، التأملات التي في هذه السورة، والوقفات مع هذه السورة كثيرة.
أسلوب الالتفات في القرآن الكريم
عندما جاءت الخاتمة المفرحة كما تفضلت في قصة يوسف، والحديث عن لقاء يوسف بأخوته، وتحققت الرؤيا، جاءت بعد ذلك النقلة، وهذا ما يسمى في القرآن الكريم: الالتفات، أسلوب الالتفات، أن ينقلك من حديث إلى حديث آخر، وكأنك تعيش هذا الحديث، أحياناً ينقلك من الحاضر إلى الغيب، وهذا من أساليب القرآن الكريم الرائعة، جاء الخطاب مباشرة ينتقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أن يا محمد!َ (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) هذه القاعدة التي جعلها القرآن لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألوه عن سورة يوسف سأله أهل الشرك فأعادها لهم بالتفصيل، هذا التفصيل الذي سألتموه أنتم على حلقات متواصلة تفصيل رائع جزاكم الله خيراً، ما زالت هذه القصة يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالتفصيل، لماذا؟ طمعاً في إسلامهم، لكن القوم ازدادوا عناداً، وازدادوا كفراً، فجاء القرآن الكريم: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) رداً على ما هم عليه، وهذا فيه تسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء تخويفهم بالعذاب، أنه سيغشى هؤلاء إن بقوا على كفرهم، جاءتهم الحجة النظرية، ما هي الحجة النظرية؟ هي ذكر قصة يوسف عليه السلام فخوفهم الله عز وجل بأن هنالك غاشية ستأتيهم، والسائل يسأل؟ لماذا ستأتي هذه الغاشية إلى هؤلاء المشركين؟ قال الله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) وهذا سمي في التفسير: استخدام الحروف (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) وهي تذكير بعاقبة الأمم السابقة، لماذا قال القرآن (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ولم يقل: أولم يسيروا في الأرض؟ وغالباً أولم يسيروا (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) هنا الفاء فاء السببية، حتى يأتي الجواب هذا الذي سيغشاهم من عذاب، لماذا؟ لأنهم لم يسيروا في الأرض، فجاءت الفاء السببية، ثم جاء الجواب بعدها (يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ) عاقبة الأمم التي قبلهم، فهنالك احتجاج نظري، ولم يأخذوا به وهي قصة يوسف، واحتجاج بصري وقلبي ولم يأخذوا به، وهو السير في عاقبة الأمم السابقة سيروا في الأرض، انظروا كيف دمر الله قوم لوط، انظروا كيف كانت عاقبة قوم نوح، انظروا هؤلاء القوم للأسف أعطاهم الله عز وجل الحجة النظرية، والحجة البصرية، ومع ذلك لم يأخذوا بها، والقرآن الكريم يقول: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) والنظرة هنا العلماء قالوا: إما نظر البصيرة وإما نظر البصر، فالإنسان ينبغي أن يكون عنده نظر بصيرة، ونظر بصر فينظروا ببصرهم وبصيرتهم، لكن هؤلاء بصيرتهم عمياء، سوداء، قاتمة، فأنى لها أن تستجيب لهذه العبر التي جاءت في هذه السور العظيمة، فقلبهم، وبصيرتهم عمياء، ونظرهم، لا ينظرون إلا لشهوات الدنيا، حتى إذا ما رأوا آية مروا عنها كراماً، لهذا الله عز وجل يقول: (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ) وهنا القرآن الكريم أكد أن العقل هو مكان التفكير الأساسي، لا خير في إنسان جاءه القرآن الكريم كاملاً، ولم يستخدم العقل فيه، العقل هو مناط التكليف، العقل هو الأساس الذي تبنى عليه الأحكام، العقل هو مكان العبرة، وهؤلاء القوم عقولهم مقفلة عن الحقيقة.

الدكتور مراد:
جميل!َ أي القرآن الكريم سرد لنا قصة سيدنا يوسف حتى يعتبروا فلم يعتبروا فجاء وانتقل إلى مشهد جميل كما أشرت دكتور إلى تخويف هؤلاء القوم، هل من تعليق دكتور بلال؟

انتفاع بعض الناس بالعبر وبعضهم بالتخويف:
الدكتور بلال:
جزاك الله خيراً، ما شاء الله الكلام لطيف جداً ورائع!َ
كما تفضل الدكتور بعض الناس ينتفعون بالعبر، وبعضهم لا ينتفعون، ينتفعون بالتخويف (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) لما أخذ بعض الناس بالعبر، وبالدروس، وبهذه النهاية الطيبة التي تقشعر لها الجلود، ننتقل إلى الصنف الثاني من الناس التي لا تنفع معهم إلا الآيات التي تخوفهم.

الدكتور مراد:
جميل!َ دكتور بلال؛ السؤال لك الآن: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) سبيلي؛ الذي هو الطريق، هذه الآية جاءت بعد سرد القصة، لها دلالة ولها فائدة، ماذا نفهم من ذلك؟ وكيف نخرج صفات الداعية الذي نحتاجه هذه الأيام من أحداث القصة؟

الدعوة إلى الله بالحجة والبرهان:
الدكتور بلال:
جزاكم الله خيراً، هذه الآية تحتاج إلى حلقة كاملة، لكن على بركة الله.
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) يوجد ملمحان فقط سأعلق عليهما في الآية قبل أن أتحدث عن صفات الداعية.
البصيرة هي الدليل والتعليل
البصيرة هي الدليل والتعليل، فإن لم تكن البصيرة كانت الدعوة عن جهل، فإن كانت الدعوة عن جهل وقعنا في فكر تميعي، وفكر تشددي، أما البصيرة فهي أن يكون الإنسان عندما يدعو إلى الله عز وجل يدعو بالدليل القرآني النصي، وبالتعليل الذي هو التعليل العقلي، فلما يكون الدليل والتعليل تكون البصيرة، البصيرة؛ هي الحجة، والبرهان، واليقين الذي لا يخالطه ريب، ولا يخالطه شك، هذه هي البصيرة.
الأمر الآخر، قال: (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) وكأن الآية تشير إلى أنك إن كنت متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكن على نهجه في الدعوة إلى الله، لأن الله تعالى يقول:

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
[ سورة آل عمران]

ألا تريد أن تكون متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هذا نهجه في الدعوة، إن دعوت إلى الله فادعُ إلى الله على بصيرة كما دعا يوسف على بصيرة، وكما دعا سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم على بصيرة.
وقد يقول قائل يسمعنا الآن: هل تقصد بالدعوة أن نقوم على المنابر وأن نتصدر الإعلام؟ لا يا أخي!َ ما كل إنسان يستطيع ذلك، وما كلف الله كل إنسان بذلك قال:

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
[ سورة آل عمران]

لكن بإمكانك ضمن دائرتين، دائرة معلوماتك ودائرة معارفك أن تدعو إلى الله، دائرة معارفك أسرتك الصغيرة، وربما عائلتك الكبيرة، وربما من يعملون معك في العمل، هذه دائرة معارفك، ودائرة معلوماتك، ما سمعته بخطبة الجمعة، أو في الأعلام، التقطت فائدة أو في أقل الأحوال يا أخي ادعُ الله بحالك لا بمقالك، فعندما يرى الناس منك إحساناً، وتواضعاً، وخيراً، فهذه دعوة صامتة، وهي أبلغ ربما في التأثير بالناس من الدعوة التي فيها كلام وشرح، فالناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم.

صفات الداعية:
أما صفات الداعية فنجمل بعض ما جاء في السورة وهي كثيرة، أولها: الإحسان المحور الأساسي، لأنه ورد أربع مرات:

وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
[ سورة يوسف]

أخوته قالوا: (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) وفي السجن قال: (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، والله جل جلاله قال:

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
[ سورة الأنعام]

الإحسان قبل البيان
فيوسف كان محسناً، الإحسان قبل البيان أيها الداعية، الإحسان قبل البيان، ولما قالوا: (إِنَّا نَرَاكَ) ما قالوا: إنا سمعنا عنك، ولكن عاينوه فرأوا بمشاهدتهم إحسانه، فالقدوة قبل الدعوة، والإحسان قبل البيان، هذه الميزة الأولى وهي الأساسية، الإحسان أن تحسن إلى الناس فعندما تحسن إليهم تجد منهم قبولاً، حتى أحسن عندما أدار مصر بهذه الإدارة فقدم للناس خدمات جليلة عظيمة فاستجابوا له، أما أن تدعوهم إلى الله وأنت في برجك العاجي البعيد عن همومهم ومعاشهم فإنهم ربما ينفرون منك.
ومن الصفات التي وردت في السورة للداعية أن الداعية ينبغي أن تكون الدعوة همه الأول، فيوسف كان في السجن، في ظلمات السجن، وفي ظلمات الظلم، وربما تكون ظلمات الظلم أكبر عنده من ظلمات السجن وهو مظلوم، ورغم ذلك دعا إلى الله عز وجل وهو في السجن فكانت الدعوة همه الأول، وهذا ما فعله سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم يوم كان مهاجراً من مكة إلى المدينة، والتقى ببريدة، ودعاه إلى الإسلام وأسلم، وهو مطارد، ومهدور دمه، وقد جعلت مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً.
ومن الصفات أيضاً استثمار الفرص، استثمر الفرصة، سجينان رأيا مناماً فجاءا إليه فاستثمر الفرصة فوراً، وعلمهم، والنبي صلى الله عليه وسلم سيد الدعاة لما رأى امرأة السبي تلزق ولدها وترضعه، يقول:

{ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قُدِمَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بِسَبْيٍ، فَإِذا امرأةٌ مِن السَّبْيِ تَسعى، قد تَحلب ثَديها تسقي إِذا وجدت صَبياً في السَّبي أَخَذَتْه، فألْزَقَتْه ببطنها فأرضعتْه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَتَرَونَ هذه المرأَةَ طارِحَة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: الله أرحَمُ بعباده من هذه المرأة بوَلَدِها }

[أخرجه البخاري ومسلم]

فاستثمر الفرصة فوراً وعلمهم أن رحمة الله عز وجل من رحمة الأم، فالداعية يستثمر الفرص.
أيضاً إن يسمح الوقت؛ كان يوسف عليه السلام، وكذلك ينبغي أن يكون الداعية ينسب النعمة إلى المنعم، فيعلق الناس بالله لا بشخصه، وهو نبي، قال:

وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
[ سورة يوسف ]

قال:

قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
[ سورة يوسف ]

ما كان ينسب الخير إلى نفسه عندما يوجه الناس إلى الله، الداعية ينبغي أن يكون همه لا أن يتعلق الناس بشخصه، بل أن يتعلقوا بالله تعالى، وأن يوصلهم إلى باب الله فليس همه مكاسب دنيوية، ولا شهرة، ولا سمعة، وإنما همه أن يصل الناس إلى الله عز وجل.

الدكتور مراد:
أي دائماً تحرير النية في هذا، تكون خالصة لله عز وجل، والإخلاص هو قبول الأعمال.

وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
[ سورة البينة ]


الدكتور بلال:
يوجد أيضاً الرفق واللين.

الدكتور مراد:
جميل، يمكن أن نأخذ منها قليلاً.

الدكتور بلال:
نعود إليها.

الدكتور مراد:
الرؤية أثبت من السماع
تعليق على مسائل أشرت إليها دكتورنا قبل أن ننتقل إلى أخي الدكتور محمد، أشرت إلى موضوع الداعية وأن يكون لديه التمكين حقيقة، خاصة في العلم، حتى قال بعض مشايخنا: نصف عالم يكفر، يقتل، ونصف طبيب يقتل، نصف طبيب غير متمكن ونصف عالم يكفر، ويوصل الناس إلى ما وصلنا إليه في مرحلة من المراحل، وحال الداعية كما أشرت دائماً الرؤية أثبت من السماع، أي أنت ترى بعينيك حتى لما دخل سليمان بالمقاتل على الخليفة المنصور قال له المنصور: عدني، قال: بما أعدك بما رأيت أم بما سمعت؟ قال: لا بما رأيت، لأن الرؤية أثبت، وهذا ينقلنا دكتور إلى موضوع الإشاعات اليوم، والكلام، والتشبث، كثير من الناس خطيب على باب المنبر غير متمكن، علمه خفيف، استمع إلى كلمة من أحدهم ثم قام وخطب وزاد عليها، هذا نحن لا نريده، نريد تحضيراً مسبقاً، رحم الله الشيخ نوح دائماً كان يشير لنا أن الداعية وخطيب الجمعة من الجميل أن يصوم يوم الخميس، حتى يعلق علاقته مع الله في تحرير النية، والأمر الثاني أن يطلب ممن جانبه ادعُ لي، حتى يخرج على المنبر، لأن منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته، فالداعية يجب أن يخلص عمله، يحسن في عمله، حتى يوفق، ويفتح عليه عندما يخرج إلى المنبر، أو يكون في أي مكان.
أريد أن أشير إلى مسألة مهمة جداً كانت أمام عيني، وأنا مدير لمكتب الشيخ نوح رحمه الله، مفتي القضاة في المملكة، حتى ننقل الصورة دائماً إلى الدعاة، الشيخ نوح رحمه الله جاءته امرأة مع والدها تريد أن تدخل لفتوى، هو مضطر أن يسمع منها، لأنه مفتي المملكة - الشيخ نوح - هذه المرأة كانت سافرة لا تلبس على رأسها شيئاً، الشيخ نوح كان يضع عباءات على باب دائرة الإفتاء وهذه من الميزات التي كانت موجودة حقيقةً، فلبست ودخلت، طبيعة الشيخ نوح لا ينظر إلى النساء، وهو يتكلم ورأسه أمامه، فلما خرجت هذه المرأة قالت أمامنا هذه البنت: أنا ما رأيت مثل هذا الرجل، هذا إنسان غير عادي، هذا الإنسان من السماء، رجعت في اليوم الثاني وإذ بها تلبس اللباس الشرعي الكامل، الشيخ نوح ما دعاها إلى شيء، لكن جلوس المفتي دعوة.
دكتور؛ هل من تعليق لهذه المسألة أم ننتقل لسؤال آخر؟

تطوير الداعية نفسه:
الدكتور محمد الخوالدة:
الحقيقة بارك الله فيكم الكلام رائع!َ أقول عندما يقول الله: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي) هذه اسم الإشارة تدعو إلى قرب الدعوة دائماً، وأنها ليست أمراً بعيداً عن الإنسان، والسبيل يستخدم للمذكر والمؤنث، والطريق، أركز على نقطة تفضلت بها (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) نقول لكل داعية لا يكون لديه بصيرة من علم، ومن قدوة، ومن اقتداء، أنت أيها الداعية يجب أن تطور نفسك، طور نفسك، هذه النقطة التي أريد أن أقولها، طور نفسك، وهذه هي البصيرة.

الدكتور مراد:
دكتور؛ (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا) اليوم الأمة تعيش في ظروف عصيبة، يتطاولون على الدين، قبل قليل كنا نتكلم عن الهجمة الشرسة على الدعاة وعلى الخطباء، كثير من بلادنا العربية والإسلامية في حرب واضحة على الدعاة، وحرب واضحة على العلماء، الشباب العربي اليوم يعيش في حالة إحباط واضحة شديدة ويأس، كيف يمكن أن نفهم الآية ضمن هذا المشهد الذي نعيشه هذه الأيام؟

الابتعاد عن اليأس والقنوط من رحمة الله لأن نصر الله آت لا محالة:
الدكتور محمد الخوالدة:
لا تيأس من روح الله
بارك الله فيك دكتورنا الحبيب، دكتور مراد؛ إذا كان الناس يعيشون الآن في ضنك وضيق فليقرؤوا هذه الآية، هذه الآية على كل مسلم أن يقرأها، وسيجد أنها نقطة ارتكاز يمكن له أن يرتكز عليها أمام هذه المحن الشديدة والكثيرة والشديدة التي أصبحت تترا، أي نراها بأعيننا في كل يوم، سبحان الله يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، في كل يوم نفاجأ، كل يوم الأمة الإسلامية في ضنك، والشباب في ضنك، ومع ذلك أقول: هذه الآية في سورة يوسف يحبها كثير من الناس، قفوا مع هذه الآية (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا) الإنسان قد يعيش مرحلة من اليأس، ولكن لا ييئس من روح الله، وهنا سؤال: هل الرسل يئسوا من روح الله حتى يقول الله عز وجل (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا)؟ لهذا العلماء قالوا هنا: ليس هنا اليأس بمعنى اليأس الحقيقي، لأنه لا يقنط:

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
[ سورة يوسف]

والهالكون، والكافرون، إنما دار في أنفسهم، هؤلاء الأنبياء بعد أن كانوا يدعون الناس، وأن نصر الله سيأتي لكن نصر الله تأخر، ولم يأتِ، فجاء في أنفس هؤلاء الأنبياء أن هؤلاء الذين آمنوا بهم قد يكذبونهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) وهنا القراءة صحيحة قد كذبوا، الآن قالوا: (كُذِبُوا) بمعنى أن القوم الذين أُرسلوا إليهم لما رأوا أن النصر تأخر قالوا: كذب الأنبياء و(قَدْ كُذِبُوا) وهي قراءة الجمهور، وقراءة عاصم التي نقرأ بها، بمعنى هؤلاء الذين آمنوا مع الأنبياء لما رأوا أن النصر قد تأخر دخل في أنفسهم شيء، ودخل ذلك حتى في أنفس الأنبياء.
حتى النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب ماذا قال؟

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
[ سورة البقرة ]

تأكد أن نصر الله قريب
هذا ليس شكاً من النبي في أن نصر الله لا يأتي، وليس شكاً في الأنبياء، وليس معنى اليأس هنا القنوط، وإنما هو الخوف من أن وعد الله قد تأخر، هذا الوعد قد يجعل بعض المؤمنين يضعف إيمانهم، ولهذا نقول لكل الناس من أهل الإيمان: يا مؤمن، يا عبد الله!َ إذا مررت بابتلاء، ومحنة، ومصيبة، فتذكر هذه الآية كيف جاء الجواب مباشرة، ما هو الجواب؟ ما قال الله عز وجل: فجاء نصرنا، وما قال: وجاء نصرنا، لا يوجد حرف فاء ولا حرف واو مباشرة (جَاءَهُمْ نَصْرُنَا) فإذا ما وصلت إلى مرحلة أنت تشك في نصر الله تأكد أن نصر الله قريب، وأن نصر الله آت.
والله عندما نقول الآن: المسجد الأقصى، والحديث عن المسجد الأقصى، وما يخطط له، وغير ذلك، لكن تجد الأردن الآن، وبعض الدول هي التي تحاول أن تنافح عن المسجد الأقصى، وأهل المقدس، والمرابطين هناك، إذا قلنا إن المسجد الأقصى بقي ثمانين عاماً بيد الصليبيين حتى ظن ضعاف الإيمان أن لا عودة للمسجد الأقصى إلا إذا أسلم حمار الخطاب كما يقولون، هنا وصلوا إلى مرحلة اليأس، ومع ذلك قيض الله للأمة صلاح الدين وأعاد الله المسجد الأقصى للمسلمين.
ونحن نقول في هذه المحن: كلما رأيت محنة تأكد أن هنالك منحة من الله عز وجل، فالمنح تأتي في هذه المحن، والله عز وجل يقول: (جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) مع أن النصر جاء، لكن مع ذلك أيضاً هناك عذاب لهؤلاء الذين هزموا بعد ما جاء نصر الله عز وجل.

الدكتور مراد:
جميل!َ المارد الداخلي في شبابنا سيظهر يوماً من الأيام، نحن لسنا بعيدين عن موقف أهل غزة قبل أسابيع الفرحة الكبرى التي دخلت في قلوبنا، شبابنا الذين هنا انتفضوا نفضة واحدة اليوم، وتكلمنا على المنبر وقلنا: شباب الببجي وغيرهم صحوا، وهذا يدل على أن فطرتهم سليمة، والشباب ينتفض بلحظة النصر، وبلحظة دخول المسجد الأقصى، والدليل على أن المواقف التي نراها، النصر الذي لمسناه قبل أيام، ومن قبل صلاح الدين وغيره الأمة على خير لكن إذا عادت إلى دينها، ما تعليقك دكتور بلال أيضاً؟

أعظم الهزائم:
الدكتور بلال:
من أعظم الهزائم أن يهزم المرء من الداخل
أكرمك الله؛ كما تفضلت دكتور، إن من أعظم الهزائم أن يهزم المرء من الداخل، هزائم عسكرية، واجتماعية، واقتصادية، وسياسية، لكن أعظم هزيمة أن تهزم الذات، أن يهزم الإنسان من داخله، ومن أعظم أسباب الهزيمة الداخلية النفسية النظرة الضيقة للزمان والمكان، فبعض المسلمين اليوم ينظرون نظرة ضيقة إلى الزمان والمكان، ويقولون: قد انتهينا، لا والله ما انتهينا، ونحن أمة قائمة، أقولها دائماً: لا أستغرب من تلك المكائد العظيمة التي تكاد ضد المسلمين، لأنها واقعة منذ فجر التاريخ، لكنني أستغرب وأتعجب من حفظ الله ورعايته لهذا الذي ما زال قائماً رغم تلك المؤامرات التي تحاك ضده.
الحجر الأسود انتزع، نزعه أبو طاهر القرمطي، ورفعه، وقال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ ثم أعاده الله تعالى.
المسجد الأقصى لم تقم فيه صلاة تسعين عاماً، ثم قيض الله تعالى من حرره، نحن الآن رغم كل مصائبنا ما وصلنا إلى ما وصل إليه المسجد الأقصى قبل ذلك، إلا أن الله تعالى قيض له من أعاده:
لئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج
{ منقول }

الدكتور مراد:
جميل!َ لا يوجد يأس.

الدكتور بلال:
لا يأس، ولا قنوط إن شاء الله.

الدكتور مراد:
يجب دائماً أن نربط نصرنا بالعقيدة، أي لن تعود الأقصى حتى نعود.

الدكتور بلال:
الكرة في ملعبنا.

الدكتور مراد:
سيدنا عمر كان يخاطب الجيش ويقول: عليكم بتقوى الله، فإننا لا ننتصر بكثرة عدد، ولا عدة، ولكن ننتصر بسيئات أعدائنا، فإذا تساوت السيئات غلب السلاح، يا شبابنا يا بناتنا، التزامنا اليوم بالأردن يؤثر على أخواننا الذين بالشام، يؤثر على أخواننا الذين في فلسطين، لأننا نحن أمة عقيدة، فلابد من أن نكون متماسكين، نعود إلى الله عز وجل، وهم إن شاء الله بخير، بإذنه تعالى.
دكتور بلال؛ (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) الدروس المستفادة في ختام هذه القصة، الدروس المستفادة، ماذا نستفيد من هذه القصة العظيمة؟

الدروس المستفادة من قصة يوسف عليه السلام:
الدكتور بلال:
كل شِدةٍ وراءها شَدةٌ إلى الله
والله دكتور الدروس كثيرة من قصة يوسف، وإن شاء الله نسمع أيضاً من الدكتور لكن درس التفاؤل الذي ذكرناه قبل قليل هو درس واضح جداً، لأن القصة علمتنا أن الغائب سيرجع إن شاء الله، وأن المريض سيشفى، وأن الكرب سيزول، وأن كل محنة وراءها منحة وأن كل شِدةٍ وراءها شَدةٌ إلى الله، وأن الله تعالى يعالجنا، لكنه لا يتخلى عنا، وأن هذه الأمة قد يكبو بها الجواد لكن المستقبل لها، والله تكفل في عليائه بحفظ دينه، فلا ينبغي أن نقلق على هذا الدين إنه دين الله، والله تعالى تولى حفظه، وقد ينصره بالرجل الفاجر، لكن ينبغي أن نقلق على أنفسنا هل سُمح لنا أن نكون جنوداً له نحميه وندافع عنه؟ تركنا هذه المهمة، استبدلنا الله والعياذ بالله، والقلق عندنا، أن نكون جنوداً لهذا الحق، ندافع عنه، ونحميه بأرواحنا، وبأنفسنا، وبأموالنا، وبكلمتنا، وكلٌ في مجاله.
فقصة يوسف قصة عجيبة في التفاؤل، لأنها تأخذك في جولة سريعة بتصوير فني عجيب في القرآن، وكأنك تراها، من المبدأ إلى الختام، ثم تجد أن قوله تعالى في ختامها:

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
[ سورة يوسف]

نسأل الله أن يجعلنا من القليل الذين يعلمون أن الله غالب على أمره.
أعظم عبرة في قصة سيدنا يوسف عليه السلام هي ما جاء في ختامها (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، إنما نراه بأعيننا من أشخاص يتحركون، ويمرحون، ويسرحون في مسرح الأحداث، لا ينبغي أن نغفل للحظة واحدة أن الكون له متصرف، مدبر، عظيم، حكيم، جلّ جلاله، يتحكم بشؤونه، وبمصيره، وأن هذا الذي نراه من الأشخاص ممن يعيثون في الأرض فساداً، أو يفعلون، أو يظنون أنهم قادرون على أن يفعلوا قال تعالى:

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
[ سورة الأنفال]

وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
[ سورة الأعراف]

فكل الطغاة في الأرض، وكل المجرمين، وكل من يعادي هذا الإسلام لكأنهم تماماً وحوش كاسرة مربوطة بحبال، لها أزمة محكمة بيد رجل حكيم، فإن شاء هذا الرجل الحكيم أرخى لها الحبل فنهشت هذا الإنسان، وإن شاء شدها فامتنعت عنه.

لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
[ سورة النحل]

ولا نشبه إلا من باب التعليم فقط (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) فكل من تراهم أمرهم بيد الله عز وجل، وكيده متين، والمتانة بالمناسبة في الفيزياء معروفة، المتانة مقاومة قوى الشد، فمهما حاول أن يفلت من الحبل لن ينقطع الحبل، فاعلم أن حياتك، ومماتك، وأمرك كله بيد الله عز وجل، فأحسن علاقتك به، وهو الذي يتولى صرف الأذى عنك، وجلب الخير لك، فسورة يوسف تعلمنا أن الأمر كله لله، وليس لك من الأمر شيء، لا أنا ولا أنت، والله تعالى يخاطب نبيه أحب الخلق إليه، يقول له:

لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
[ سورة آل عمران]

التوحيد نهاية العلم
التوحيد هو أعظم ما يتعلمه المرء في الحياة، إن أعظم علم يتعلمه الإنسان هو التوحيد، ولو أخذ دكتوراه في الفيزياء النووية، ولم يكن موحداً فوالله ما علم شيئاً، والله لو كان لا يقرأ ولا يكتب، وهذه معاذ الله أن تكون دعوة إلى الأمية، وإنما ندعو إلى العلم والتعلم ولكن جدتي وجدتك ربما لا تحسن القراءة والكتابة لكنها تخشى الله، وتعلم أن ليس في الكون إلا الله، وأن علاقتها مع الله، فوالله هي أعلم ممن لا يعلم هذه الحقيقة، قال تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)
[ سورة الأنبياء]

فالتوحيد نهاية العلم، والعبادة نهاية العمل، فمن تعلم التوحيد، وعبد الله حق عبادته فقد حقق دعوة الرسل جميعاً في الأرض وهي التوحيد والعبادة.

الدكتور مراد:
جميل!َ دروس كثيرة، دكتور محمد نسمع منك.

الدكتور محمد الخوالدة:
بارك الله فيك، دائماً أقول: من أعظم الدروس في قصة يوسف أن العبرة في النهايات وليست في البدايات، اسمح أن أوجه خطاباً من هذه العبر، أقول لكم: أنتم أيها الشباب يا من تشاهدوننا الآن، رأيتم يوسف عندما أغلقت، أو غلقت عليه الباب، ماذا قال؟ اجعلوا هذا شعاراً لكم، هذه العفة نقطة مهمة أيها الشباب:

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
[ سورة يوسف]

يجب أن نوجه شبابنا اليوم إلى أن يقول: أنا والله مبتلى يا دكتور، وعندي الفيس بوك، والواتس أب، أرأيت أن الصديق عليه الصلاة والسلام غُلقت عليه الأبواب مع امرأة من أجمل النساء وقال: (مَعَاذَ اللَّهِ) هذه عبرة.
الظلم عواقبه وخيمة
والعبرة الأخرى للظالم، نقول: أرأيت ما حدث مع أخوة يوسف، تذكروا أن الظلم عواقبه وخيمة، تنام عيناك والمظلوم منتبه، يدعو عليك وعين الله لم تنم.
ألقي يوسف في البئر ونجاه الله عز وجل، فيا مبتلى قل: الحمد لله، سينجيك الله عز وجل، ألقي أيضاً في السجن ونجاه الله عز وجل، وافتتن، ومع ذلك الله عز وجل فرج عنه، فأنت أيها المهموم، والمغموم، والمكروب، يا من تسمعني الآن، إذا كنت مريضاً، ومهموماً، ومغموماً، ومكروباً، ومبتلى تأكد إذا ما قرأت قصة يوسف أن سُبل الفرج عظيمة وكثيرة فاجعل ثقتك بالله عز وجل عالية.
أيضاً حتى نقول لأصحاب المناصب الذين يتولون الآن المناصب فيظن أنه بهذا المنصب أصبح يحكم رقاب الناس: يوسف عليه الصلاة والسلام عندما تولى المناصب تمنى أمنية ما هي أمنيته؟

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
[ سورة يوسف]

مهما بلغت من المناصب، مهما بلغت من العلم شأناً لا خير فيك إن لم تقل هذه الكلمة: اللهم (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) فتتقي الله عز وجل فيما وضعه الله تحت يديك.
أيضاً كتمان الأسرار، العلماء ذكروا كتمان الأسرار يقي الحسد عندما قال لهم:

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
[ سورة يوسف]

هنالك قاعدة فقهية استنتجها بعض العلماء من قصة يوسف أن القرينة يعمل بها عند الاشتباه، وهذه قاعدة أيضاً من العبر، قالوا: القرينة يعمل بها عند الاشتباه، قضية القميص، جاؤوا إلى القرينة، فإذا اشتبه الأمر على القاضي ينبغي له أن يعتمد على القرينة وهذا أيضاً فيه تروٍّ من وجه القضاة الذين يقضون بين الناس أن يتقوا الله عز وجل، لا يستعجل في فتواه فإنها أمانة أمام الله عز وجل.
قصة يوسف أنا حضرتها معك دكتور مراد، أنت والدكتور بلال وضيوفك وكانت عبرة في كل من حضر هذه القصة حقيقة سيجد أن في كل حلقة يقف أمام عبر كبيرة جداً، والقرآن الكريم بدأ بقص قصة يوسف فقال:

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
[ سورة يوسف]

ثم ختم في قوله: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) فلا خير لمن سمع قصة يوسف ولم يعتبر.

الدكتور مراد:
جزاك الله خيراً، قالوا: أهل العراق في مجالس العزاء يضعون سورة يوسف، قالوا: لأنه ما قرأ سورة يوسف إلا فالح، وهذه فيها إشارات كثيرة جداً، بدايات مؤلمة، لكن النهاية سعيدة، العبر كثيرة حتى عندما أشار الدكتور: (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) هي لفتات أن سيدنا يوسف ما تمنى الموت لنفسه، لكن هو وصل لمرحلة أعطيتني الملك، اجتمعت مع أهلي، الآن أنا في فرح.

الدكتور محمد الخوالدة:
حسن الخاتمة.

الدكتور مراد:
ما بعدها سيكون ماذا؟ الجنة، ما بعد ذلك أعظم الأمنيات.
سيدنا عمر بن عبد العزيز وهو على فراش الموت قال: كان يتمنى الموت، فلما دخلوا عليه، قال: لمَ تتمنَى الموت؟ قال: وصلت إلى مرحلة عالية أعطاني إياها الله عز وجل، حتى أن عمر بن عبد العزيز كان قبل خلافته إذا جاء بقميص جميل ناعم قال: ائتوا لي بأنعم منه، أجمل منه، عندما تولى الخلافة، قال: ائتوني بقميص خشن، عندما يأتوه، قال: بأخشن منه، استغربوا لهذا الحال سيدنا عمر بن عبد العزيز قال: الآن لأني وصلت إلى مرحلة الملك، بعدها يريد الجنة، فلهذا على الإنسان أن يعود نفسه.
أريد أن أعود لك دكتور بلال من جديد (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي) أخذت منك القليل وفيها عبر كثيرة، سنعود إليها حتى نكمل ما تبقى من الوقت.

تذكير بصفات الداعية إلى الله:
الدكتور بلال:
بارك الله فيك دكتور وأكرمك.
ينبغي أن تكون الدعوة هم الداعية الأول
نحن تحدثنا عن الإحسان، يوسف كان محسناً، وهذه من صفات الداعية الناجح فالإحسان قبل البيان، وكان قدوة، والقدوة قبل الدعوة، وتحدثنا أن الداعية ينبغي أن تكون الدعوة همه الأول، لا أن يضعها على هامش أعماله، وإنما يحمل همها، تحدثنا عن استثمار الفرص كما فعل يوسف في السجن، وتحدثنا عن نسبة النعمة إلى المنعم فالداعية يعلق الناس بالله تعالى لا بنفسه.

وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
[ سورة يوسف]

قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
[ سورة يوسف]

كما قال تعالى.
الصفة الخامسة في سورة يوسف للداعية: الرفق واللين، انظر كيف ترفق مع صاحبي السجن، قال:

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
[ سورة يوسف]

ثم كيف ترفق مع أخوته، فقال:

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
[ سورة يوسف

فنسب النزغ إلى الشيطان، لا إلى أخوته، رغم ما فعلوه به، وقال: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) وما قال: من الجب، مع أن الجب أخطر من السجن، لئلا يذكرهم بفعلتهم، فانظر إلى رفقه ولينه.
وفي سنة النبي المصطفى كثير من ذلك صلى الله عليه وسلم، أيضاً لما جاء إلى عمه أبي طالب، يقول:

{ عن المسيب بن حزن رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاةُ جاءه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال: أيْ عَمِّ، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاجُّ لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أتَرْغَبُ عن مِلَّةِ عبد المطلب؟ فلم يزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُها عليه، ويعودان لتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلّمهم أنا على مِلَّةِ عبد المطلب، وأبَى أن يقول: لا إله إلا الله، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: والله، لأسْتَغْفِرَنَّ لك، ما لم أنْهَ عنك }

[أخرجه البخاري ومسلم والنسائي ]

تشبه (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ)
(أيْ عَمِّ).
إلى هرقل وهو مشرك، يقول:

{ عن أبي داود أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كتب إِلى هرقل: من محمد رسول الله إِلى هِرَقْلَ عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى }

[أخرجه البخاري وأبو داود ]

أي يتلطف، هذا رفق ولين، يقول لمعاذ:

{ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ بِيَدِهِ، وقال: يا مُعَاذُ، واللهِ إِني لأُحِبُّكَ، فقال: أُوصيكَ يا مُعَاذُ، لا تَدَعَنَّ في كُلِّ صلاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللهمَّ أَعِنِّي على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسنِ عِبَادَتِكَ }

[أخرجه أبو داود والنسائي ]

قبل أن يأمره ((لا تَدَعَنَّ في كُلِّ صلاةٍ أَنْ تَقُولَ)) فهذا الرفق واللين، والتعامل مع المدعو يحببه بالإسلام، ويحببه بالداعية.
أيضاً من الصفات الجميلة جداً بالداعية في سورة يوسف عليه السلام الاعتماد على الإقناع العقلي، وهذا جزء من: (عَلَى بَصِيرَةٍ) نحن ديننا دين نصوص، ليس دين عقل، دين نص، لكن ما الذي يمنع أن نخاطب عقول الناس، فالله تعالى في القرآن، في عشرات، بل مئات آلاف الآيات يذكر:

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
[ سورة البقرة]

مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
[ سورة المائدة]

الاعتماد على الإقناع العقلي
فالله تعالى يعلمنا أن نعلم الناس أن يعقلوا الأحكام، وأن يفهموها، وهذا من البصيرة، لما قال لهم: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) إقناع عقلي، النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه الرجل وقال له: اِئذن لي بالزنا؟ مَن مِن الدعاة اليوم يقبل أن يدخل إليه شاب أرعن إلى المسجد، فيقول له: اِئذن لي بالزنا، ربما ينادي خادم المسجد ويقول له: أخرجه، يطلب إذناً، يا أخي، عفواً نسأل الله السلامة تزني!َ لكن أن تطلب إذناً أيضاً؟ ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم!َ ثم يخاطبه بعقله، يقول له: أترضاه لأمك؟ يقول: لا، فيجيبه: ولا الناس يرضونه لأمهاتهم، لعمتك؟ لخالتك؟ ثم يضرب على صدره ويقول: اللهم حصن فرجه، وطهر قلبه، فيخرج الشاب ويقول: دخلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شيء أحبّ إليّ من الزنا، وخرجت من عنده وما شيء أبغض عليّ من الزنا، كيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل إلى قلبه بهذه اللمسة الحانية من يده الشريفة لكن قبل ذلك دخل إلى عقله، عندما علمه أن الناس لا يرضون هذا الأمر كما أنك لا ترضاه لأهل بيتك، هذا أيضاً الإقناع العقلي.
وأخيراً كان عند يوسف التدرج، أي هل كان صاحبا السجن على التزام وخير؟ الواضح أنهما ليسا كذلك، وكان:

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
[ سورة يوسف]

أي يقوم بفعل ليس شرعياً في كل شريعة، لكن لما بدأ معه ما بدأ بالتوحيد، فاليوم أيها الداعية إن جاءك شاب ربما لباسه لا يعجبك، أو قصة شعره لا تعجبك، أو فيه شيء، ابدأ بالأساسيات، إذا علمته الأساسيات بعد ذلك تلطف معه في الأشياء الأخرى، ثم تبدأ بالجزئيات، فالكليات قبل الجزئيات، والأصول قبل الفروع، فهذا ما فعله يوسف عليه السلام أيضاً.

الدكتور مراد:
الله عز وجل يستخدمك ليمتحنك
دكتورنا؛ الجنة للداعية وللناس، الجنة ليست محصورة بالشيخ الملتحي، الله عز وجل وفقك لتكون داعية، والله يا سادة لي تجربة، وأنا دائماً أنقل التجارب حتى أقول لك: الله عز وجل يستخدمك ليمتحنك، إما أن تنجح في هذا الامتحان داعية أو غير داعية، أو تسقط في مرحلة من المراحل، وكثير سقط إلا من رحم الله.
كنت في يوم من الأيام في فلوريدا، اليوم كان جميلاً جداً، والله هذه الحالة دائماً أستذكرها، وذكرتها على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنت في فلوريدا في المركز الإسلامي كل يوم كان أحد المسلمين يأتي بطعام للجالية، ويفطرون جميعاً في المسجد، أي مشاهد طيبة تكون في المركز الإسلامي، في يوم جاء طفل عمره 12 عاماً قال لرئيس المركز: من سيحضر الطعام اليوم؟ من سيأتي بالطعام اليوم؟ قال له: لماذا؟ يسأله: لماذا تسأل هذا السؤال؟ من؟ أخبرني، قال له: فلان صاحب الصيدلية، قال له: أعتذر، يسأل عن أصل المال هل هو حلال أم حرام، عمره حوالي اثني عشر عاماً في بلد الكفر في أمريكا، أنا ذهلت، قلت: سبحان الله!َ أنا ذاهب إلى هناك حتى أخطب في الناس، وأدعو في الناس، الله عز وجل مكن دينه، كما أشرت دكتور قبل قليل الله مكن هذا الدين، لكنه يمتحن كل إنسان ماذا قدمت لدينك؟ فهناك سؤال غير الأسئلة التي يسألها الناس: ماذا قدمت لدينك؟ سيسألك الله عز وجل.

قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
[ سورة يوسف]

أيضاً هذه لفتة من دروس أن سيدنا يوسف سامح مسامحة كاملة، والتثريب يقول العلماء: هي المادة اللزجة التي تكون بين العظم واللحم، حتى هذه المادة أزيلت، أي كأنها أزيلت لا يوجد شيء عليهم، مسامحة كاملة كانت من سيدنا يوسف.
دكتور ماذا يوجد عندك؟ ماذا تقول؟

حاجة الدعوة إلى الله إلى الفقه:
الدكتور محمد الخوالدة:
الفقه المطلوب في الدعوة إلى الله
جميل!َ دعنا ننتهي، أبدأ من حيث انتهيت، قضية (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) حقيقة يوجد أناس يسامح لكنه يفتش، هذا ليس عنده (لَا تَثْرِيبَ) يذكر بالماضي، ينبش الخصومات من جديد، نقول له: أين (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ)؟ حتى في قضية الدعوة والله ندرس طلاباً كتاباً، وأنا كنت أدرسه بالجامعات، وأنتم درستموه، فقه الدعوة لعبد الكريم زيدان، من فقه الدعوة، كنا نقول لأنفسنا ونحن شباب صغار: هل الدعوة تحتاج إلى فقه؟ نعم والله، والله على الإنسان ألا يظن أن الفقه هو أحكام الصلاة، والصيام، وغيرها، إنما الدعوة إلى الله عز وجل تحتاج إلى فقه، ففقه الداعية يجعل شعاره هذه الآية: (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) الدعوة إلى الله عز وجل ليست سهلة، متى تختار الوقت المناسب، من هم القوم الذين ستتحدث معهم، أنا أتحدث مع فتاة عن حكم لبس الجلباب والحجاب، فتاة أخرى حاسرة تسألني عن الصلاة، أنا أحدثها عن الصلاة، أي اختيار الموضوع المناسب، في الوقت المناسب، للشخص المناسب، لا أختار، لا يجوز لي أن أتكلم مع إنسان لا يصلي، ولا يعرف الصلاة، ولا أحكام الصلاة، وأقول: يا أخي يجب أن تلبس ثوباً، وشماخاً، وعقالاً، ويجب أن يكون فوق الكعبين، وتحت الكعبين، إلى آخره، وأدخل معه بالفرعيات والخلافيات، وأجعل هذه الخلافيات هي أساس دعوتي، نحن الدعاة نعاني الآن من مشكلة أننا على المنابر، وأننا في المساجد أحياناً، وفي المحاضرات، والندوات، ركزنا على الفرعيات كثيراً، هذه الفرعيات، نحن الدين كله لُب، لكن هذه الفرعيات التي اختلف فيها من قبلنا، ووسعنا هذا الخلاف، نجعلها هي الأساس في الدعوة إلى الله عز وجل، إذا رأيت من الدكتور مراد خطأ واحداً في مسألة خلافية يرى هو تقصير اللحية، وأنا أرى تطويل اللحية قد أكفره على ذلك، وقد أقول: لا، الدكتور مراد لا يؤخذ منه، يا عمي الدكتور بلال يخطب الجمعة، وهو يلبس ربطة عنق، وربطة العنق لا تجوز، يأتيك أحدهم بهذا الفقه الغريب العجيب نقول: ضيق الأفق، يا أخي لماذا قال الله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ)؟ لماذا النبي صلى الله عليه وسلم علمنا هذه البصيرة كما ذكرتم بالأمثلة العظيمة؟ كان صلى الله عليه وسلم الصغير إذا رآه يضع يده، أنس يقول: صحبت النبي عشر سنوات، ما قال لي كلمة أف!َ ما قال لي لشيء فعلته لِمَ فعلته؟

خاتمة وتوديع:
الدكتور مراد:
أي ابدأ بالجنة، ولا تبدأ بالنار، ولا تبدأ بالتخويف، بالتحلية ثم بالتخلية.

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
[ سورة هود]

التوفيق لم يذكر بالقرآن إلا مرة واحدة
والله التوفيق بيد الله عز وجل، التوفيق لم يذكر بالقرآن إلا مرة واحدة لزهده، التوفيق عجيب جداً، نحن دائماً نقول للداعية: حتى الدعوة سبحان الله دكاترتنا الأفاضل وأنتم أهل التفسير، الدعوة إلى الله عز وجل كتبت بالتاء المربوطة، لها دلالة، عندما ترى فيها لطيفة من لطائف التفسير أن الدعوة إلى الطعام، والدعوة إلى الله كتبت بالتاء المربوطة لأن فيها لطفاً، ودعوة، واجتماعاً، أما دعوى المحاكم فقد كتبت بالتاء المقصورة لطول القضايا فيها.
دكتور بلال نور الدين نشكرك على هذه اللطائف، وعلى هذه الجمالية العالية التي تكلمت بها، والربط الجميل جزاك الله عنا كل خير.

الدكتور بلال:
من بعد أساتذتنا والله.

الدكتور مراد:
كما أشرت أن هذه الحلقة تحتاج إلى حلقات لكن نأخذ سبحان الله كل شيء فيها للفائدة.
دكتور محمد أستاذ التفسير وعلوم القرآن الكريم في جامعة جرش، وعميد كلية الشريعة أيضاً في جامعة جرش سابقاً، شكراً لك على هذه اللطائف الجميلة والطيبة، بارك الله فيك.

علمني سيدنا يوسف:
وصلنا إلى فقرة علمني سيدنا يوسف.
علمني يوسف عليه السلام أن النفس البشرية تحتاج من وقت إلى آخر إلى الترويح الذي يخفف عنها تعب الحياة وكدرها لتعود صافية نقية متجددة لجولة أخرى من جولات الحياة، ولذلك طلب الصحابة رضوان الله عليهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقص عليهم.
نلقاكم بإذن الله الأسبوع القادم في برنامجكم: "رحلة الصديق".
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته