التآمر على يوسف عليه السلام

  • الدرس الثالث: شرح الآيات 7–12
  • 2020-08-09

التآمر على يوسف عليه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد؛ مع اللقاء الثالث من لقاءات سورة يوسف، ومع الآية السابعة وهي قوله تعالى:

لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ
(سورة يوسف: الآية 7)

في اللقاء الماضي انتهينا من مقدمات السورة، السورة لها مقدمتان؛ المقدمة الأولى مقدمة عامة تحدثت عن (الْكِتَابِ الْمُبِينِ) وعن أحسن القصص في هذا (الْكِتَابِ الْمُبِينِ)، والمقدمة الثانية كانت رؤيا رآها يوسف عليه السلام، وهذا من براعة الاستهلال، حيث تكلم ربنا عز وجل عن رؤيا رآها يوسف ووجَّهَهُ أبوه يعقوب عليهما السلام ألا يقصَّ تلك الرؤيا على إخوته، الآن أُسدل الستار عن هذه الرؤيا بشكل كامل وسيُعاد الحديث عنها في نهاية القصة عندما يقول تعالى:

وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا
(سورة يوسف: الآية 100)

فالقصة ابتدأت برؤيا وانتهت بتحقق تلك الرؤيا، وهذا من براعة الاستهلال، الآن انتهت المقدمات، وشرع البيان الحكيم في قصة يوسف من أولها، وجاء بكلام يستنفر الهمم ويدعو الإنسان إلى التمعن في هذه القصة واستخلاص عبرها ودروسها.

تحديد الشريحة المستهدفة وهم السائلون
قال تعالى: (لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ) قصة يوسف التي سيتم الحديث عنها الآن فيها آيات، أي دروس وعبر، سيكون في هذه القصة عِظات، لمن؟ (لِّلسَّائِلِينَ)، وهذه إشارة لطيفة من المولى سبحانه وتعالى إلى أن الذي يسأل هو الذي ينتفع، السائلون جمع سائل، والسائل هو الذي يسأل عن أمرٍ ما، قال تعالى:

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ
(سورة المعارج: الآية 1)

واستفتح سورة النبأ بقوله تعالى:

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ
(سورة النبأ: الآية 1-2)

السؤال مفتاح العلم
فالسؤال مفتاح العلم، والذي لا يسأل لا يتعلم، فمن سيجد عبراً في قصة يوسف؟ إنهم السائلون فقط، أما الذين لا تعنيهم العبر والدروس، ولا تعنيهم تلك القصص التي هي (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) فهؤلاء لن ينتفعوا بتلك السورة، إذاً حددت السورة الشريحة المستهدفة إن صح التعبير، الشريحة المستهدفة هي السائلون الذين يريدون أن يصلوا إلى الحق، فهؤلاء تعنيهم تلك القصة، أما الذين لا يريدون أن يسألوا وأن يتعلموا وأن يصلوا إلى الحقيقة فهؤلاء لا تعنيهم هذه القصة، قال بعضهم: السائلون هنا هم اليهود لأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف، لكن هذه الرواية لا تصح؛ لأن قصة يوسف جاءت في سورة يوسف المكية، وفي مكة لم يكن هناك اختلاطٌ بين المسلمين واليهود حتى يسألوا عن قصة يوسف، فالمقصود بالسائلين هنا هم كلُّ سائل، نحن السائلون، من نزول السورة إلى يوم القيامة كل من يسأل يتعلم لكن الذي لا يسأل لا يتعلم، فهذه الآية فيها مفتاح العلم وهو السؤال، قال تعالى:

فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
(سورة النحل: الآية 43)

وكأن الله يستنهض هممنا بهذه الآية أن نسأل لنتعلم، أن نسأل لنتفقه في ديننا، أن نسأل لنعرف أحكام ديننا، ينبغي أن نسأل، أن نبحث، البحث والسؤال مفتاح العلم (لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ) وقيل: يصح يُوسِف ويُوسَف، لكن في القرآن لم ترد إلا (يُوسُفَ) بجميع القراءات وهذا هو الفصيح الصحيح وهو اسمٌ ممنوعٌ من الصرف للعلمية والعجمة، يعني هو اسم علم لأنه يدل على شخص محدد بذاته اسمه يوسف وأعجمي، قال بعضهم: إنه مأخوذ من الأسف، يؤسف من الأسف، لكن الصحيح أنه أعجمي وليس عربياً، يعني أنَّ الاسم من لغةٍ غير اللغة العربية فلا نفهمه على مقاييس اللغة العربية، (لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ) إذاً هناك عبر وعِظات ودروس سنستنتجها من قصة يوسف مع إخوته عندما نسأل عنها ونستقصي عن عبرها ودروسها.

موقف إخوة يوسف من محبة أبيهم له
الآن:

إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ
(سورة يوسف: الآية 8)

العصبة هي الجماعة
(لَيُوسُفُ) هذه اللام هي لام القسم، تشير إلى وجود قسم محذوف، هم قالوا: واللهِ، أكدوا أشدَّ التأكيد، نقسم والله (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ)، (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) من أخو يوسف؟ قيل: هو بِنيامين أو بَنيامين، والأصح بِنيامين بكسر الباء، هذا الاسم ورد في التفاسير، ربنا عزّ وجلّ لم يطلعنا إلا على اسم يوسف، وفي التفاسير ذكروا أسماء إخوته ولعلها مأخوذة من كتب العهد القديم لكن ما يعنينا لماذا ذكر أخاه؟ أولاً: هذا الأخ مقارب له في العمر، وقيل: يوسف أكبر منه بقليل، وثانياً: أمهما واحدة، فهو أخوه من أمه أما الباقي فهم من أمهاتٍ أخرياتٍ، فهم إخوةٌ من أب، أما هذا فهو أخٌ شقيقٌ لأنه أخٌ من الأم والأب، فلذلك (قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا)، (أَحَبُّ) اسم تفضيل، أي أبونا يحبهما حباً أكثر مما يحبنا، (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) والعصبة هي الجماعة، ومثلها العصابة، والجماعة من عشرة فما فوق، وهؤلاء عشرة إخوة، فهم عصبة، وهم عصبةٌ لأنه يُعصب بهم أي يُشَدُّ بهم، لماذا سميت العصابة التي تشدُّ على الرأس أو على اليد عِصابة؟ يعصب بها الإنسان جرحه أو يده، فالعصبة يعصب بعضهم بعضاً ويشد بعضهم بعضاً فسموا عصبة، وليست العصبة عصبة خيرٍ أو عصبة شرٍّ على وجه التحديد، وإنما تطلق العصبة أو العصابة على المجموعة سواءً كانت مجتمعةً على خيرٍ أو على شرٍّ، وفي الحديث يوم بدر:

{ عن ابن عباس قال: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، قَالَ: نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ ثَلاثُ مِائَةٍ وَنَيِّفٌ، وَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا هُمْ أَلْفٌ، فَاسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، وَعَلَيْهِ رِدَاؤُهُ وَإِزَارُهُ، ثُمَّ قَالَ:(اللهُمَّ أَيْنَ مَا وَعَدْتَنِي؟ اللهُمَّ أَنْجِزْ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلامِ، فَلا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا }

(رواه مسلم)

وهم عصابة خير، جمع خير، لكن في عرف الناس وفي لغتهم أصبح الكثير منهم إذا قالوا: عصابة قصدوا بها المتآمرين في الشر، لكنها لغةً تعني المجتمعين سواءً كان على خيرٍ أو على شرٍّ، فهنا قالوا: (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) مجموعة، كُثر، ندفع وننفع، نحن بمجموعنا نستطيع أن ندفع الشر عن أنفسنا وأن ننفع الآخرين بخيرنا، هذه هي العُصْبَة، فما هذه المفارقة أن يُحِب أبونا يوسف وأخاه أكثر منا! رغم أننا مجتمعين نكون عوناً له أكثر منهما، هما غلامان صغيران أما نحن فعصبةٌ تدفع وتنفع فينبغي أن يكون حبه لنا أعظم من حبه لإخوتنا، لأن الإنسان يحب الشيء الذي ينفعه ويدفع عنه السوء، وهذان لا ينفعانه ولا يدفعان عنه السوء، إنهم يتكلمون بمقاييس أرضية بحتة لا علاقة لها لا بأبوةٍ ولا بحنوٍّ ولا بنجابةٍ في الغلام ولا في ما يتوسم الأب بابنه، يتكلمون بمصالح مادية بحتة (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) لا يعنون أن يعقوب في ضلالٍ في الدين مبين ظاهر واضح، ولو قالوا: إنه ضالٌّ دينياً لكفروا، إن قال قائلٌ عن نبيٍّ من أنبياء الله: إنه ضال فقد كفر والعياذ بالله، ولكنهم قصدوا بالضلال هنا البعدَ عن حقيقة الأمر.

من شأن المفسدين اتهام المصلحين
ومثل ذلك قوله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم:

وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ
(سورة الضحى: الآية 7)

الضلال بمعنى البعد عن حقيقة الأمر
أي وجدك غافلاً عن الأمر، غافلاً عن حقيقة الأمر فهداك إليه، فالضلال ليس دائماً ضلالاً في الدين لكن قد يكون الضلال بمعنى البعد عن حقيقة الأمر وعدم معرفة جوانبه كلها، فيأتي الهدى هنا بمعنى التنبيه على حقيقة هذا الأمر، فقالوا: (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) أي هو غير عالمٍ بما يُصلح أمره وبما يُصلح أمر العائلة وبما يكون فيه قوة العائلة فيحبهما ويقدمهما علينا في الحب والتفضيل، (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (مُّبِينٍ) أي ظاهر وواضح وجلي لا يخفى، وهذا شأن المفسدين دائماً أنهم يتهمون الآخرين بالضلال والبعد عن الحقيقة وأنهم هم الذين يعلمون الحقيقة، هم بعد قليل سيقررون جريمةً يرفضها العقل ويرفضها الشرع ويرفضها المنطق وترفضها الفطرة، فهم سيقررون ضلالاً مبيناً لكنهم بدؤوا فقالوا: (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) هذا شأن المفسدين أنهم يتهمون المصلحين بما ليس فيهم

أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
(سورة الأعراف: الآية 82)

فرعون الذي كان يقتل البنين ويستحيي البنات قال له: قَتَلْتَ نَفْسًا، جاء يتهم موسى عليه السلام بقتل نفسٍ واحدةٍ خطأً وهو قد قتل آلافاً بل مئات الألوف من الأنفس ظلماً وعدواناً وأنفساً طاهرة بريئة وصغيرة لم ترتكب جرماً وجاء يتهمه بقتل نفسٍ خطأً

فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ
(سورة القصص: الآية 15)

كان قتلاً خطأً وليس متعمداً، وفي العصر الحديث وجدنا من قتل آلاف الأنفس يتهم بريئاً ويحاكمه على قتل نفس وهو لم يفعلها، فهذا متكرر في التاريخ.
فهنا (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ) أقسموا (وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا) (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) هذه الواو يسمونها في اللغة العربية واو الحال (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي حالة كوننا عصبةً مجتمعين (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).

أفكار ومقترحات إخوة يوسف للتخلص منه

اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ
(سورة يوسف: الآية 9)

خياران بنتيجة واحدة
الآن المقترحان هما القتل أو الطرح أي الرمي في أرضٍ موحشةٍ، والمصير في الثانية هو الهلاك، فالخياران يصبان في مجالٍ واحدٍ، فهو إن قتل مباشرةً أو أُلقِيَ، طُرحَ في أرضٍ لا أحد فيها فالنتيجة أنه سيموت، فهم أجمعوا أمرهم على الجريمة (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا) وجاءت أرضاً نكرةً للدلالة على أن هذه الأرض موحشة لا شيء فيها يعينه على الحياة، في الأولى نسبة الموت مئة بالمئة في القتل، وفي الثانية تسعٌ وتسعون بالمئة، فالنتيجة واحدة إما مباشرة القتل أو التسبب بالموت (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا).
(يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) يصبح وجه أبيكم خالياً لكم، يتفرغ لكم ولا يحجزه عنكم شيء، يصبح الآن متقرباً إليكم وحدكم لأنه ليس هناك من يشغله عنكم من هذين الأخوين، هم ظنوا بسوء فهمٍ وتقديرٍ منهم ظنوا أنه إذا خلا وجه أبيهم لهم خلا قلبه لهم، ولكن لم يعلموا أن القلب شيء والوجه شيءٌ آخرٌ، فقد يواجهك إنسانٌ بوجهه ويخلو لك بوجهه وقلبه معلقٌ بغيرك، فالعبرة ليست في أن يخلو وجه الإنسان لك بل أن يخلو قلبه لك، فهم قالوا: (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) ظناً منهم أنه إذا اتجه إليهم بوجهه فقد اتجه إليهم بقلبه، لكن الأحداث أثبتت بعد حين أنه لم يخلُ لهم وجه أبيهم وإنما بقي قلبه معلقاً بهذا الغلام سنواتٍ وسنواتٍ حتى ابيضت عيناه حزناً على فقيده، فلا هم أصابوا خيراً ولا خلا وجه أبيهم لهم، لم يستفيدوا، يتخيل المجرم أنه بجريمته سيحصّل خيراً لكنه في محصلة الأمر سيخسر في الدنيا والآخرة، لا يهنأ لقاتلٍ بال، مستحيل أن يهنأ لقاتلٍ بال، فهو معذبٌ في الدنيا قبل الآخرة.

إخوة يوسف لم يكونوا من الأنبياء
لا دليل على نبوة أخوة يوسف
إخوة يوسف قيل: هم أنبياء أو كانوا أنبياء فيما بعد، بعد أن تاب الله عليهم، وقيل: لا، والصحيح الراجح أنهم ليسوا بأنبياء، فالأنبياء لا يفعلون ذلك سواءً قبل نبوتهم أو بعدها فيما أتصور والله أعلم، لا يرتكبون أو لا يفكرون في الجرم، هم لم يجرموا في المحصلة لم يقتلوا، لكن لا يفكرون أصلاً بالقتل ولا يخطر لهم على بال فهم ليسوا بأنبياء، ولا يوجد دليلٌ صحيحٌ صريحٌ على نبوتهم، وإنما قال من قال هذا بأنهم الأسباط في تفسير قوله تعالى:

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ
(سورة البقرة: الآية 136)

قالوا: (الْأَسْبَاطِ) هم اثنا عشر رجلاً هم أولاد يعقوب عليه السلام وهم إخوة يوسف فهم أنبياء، لكن الصحيح من أقوال أهل العلم أنهم ليسوا بأنبياء (وَالْأَسْبَاط) هم من نسل يعقوب لكن لا يشترط أنهم إخوة يوسف عليه السلام.

العدل والمساواة
العدل شيء والمساواة شيءٌ آخر
الأمر الثاني: يوسف عليه السلام عندما كان متعلقاً بابنه يوسف وبأخيه هل كان هذا التعلق لا يرضي الله تعالى؟ هنا تأتي قضية؛ يعقوب عليه السلام نبي معصوم ، لكن هناك فرق بين العدل والمساواة، المساواة تعني أن أعطي كل إنسانٍ مثلما أعطي الآخر، فإذا كان عندي ثلاثة أبناء فأعطي كل ابن مئة دينار، فإن أعطيت واحداً مئة وخمسين والثاني مئة والثالث خمسين فما ساويت بينهم، هل يمكن أن أكون قد عدلت بينهم؟ العدل شيء والمساواة شيءٌ آخر، العدل يقتضي أن تعطي كل شخصٍ ما هو بحاجته، والعدل فوق المساواة، نعم قد نحتاج المساواة في كثير من الأمور حتى في القُبَل، إذا كان عندي ولدان قبَّلت الأول فمن المساواة ومن العدل أن أقبِّل الثاني، قبَّلت الأول وضممته حتى شعر بأنني أحبه والثاني قبَّلته عن بعد، هذا ليس عدلاً وليس مساواةً، الأول عمره تسع سنوات والثاني عمره عشر سنوات هذا بحاجة إلى الحب والحنان مثل الثاني تماماً، فإن قَبَّلت الأول فقَبِّل الثاني، وإن قَبَّلت الأول مع ضم فقَبِّل الثاني مع الضم، الولد يشعر، هذا عدل ومساواة معاً.
لكن أحياناً العدل لا يقتضي المساواة، لديك ابن في الجامعة في السنة الثالثة في الطب ولديك ابن في الصف الأول الابتدائي، فقلت: والله من المساواة والعدل أن أعطي الجميع المبلغ نفسه، فقال طالب الطب: يا أبتِ عندي اليوم امتحان عملي أحتاج إلى مئة دينار من أجل شراء المستلزمات، خذ مئة، فذهبت إلى الصغير في الصف الأول وأعطيته مئة حتى تعدل! هذا ليس عدلاً، هذه مساواة، العدل أن تعطي كل شخصٍ ما يحتاجه، الآن الكبير بحاجة مال، الصغير بحاجة مصروف بسيط ليشتري به حلوى من المدرسة، هذا العدل، فالعدل ليس مساواةً دائماً، العدل أن تعطي كل شخصٍ ما يحتاجه، حتى لا نخلط بين العدل والمساواة.
الميل للصغير أمرٌ فطري
الآن نطبق هذا الموضوع على قصة يعقوب مع يوسف وإخوته: نعم لم يكن هناك مساواة ربما في الميل عند يعقوب عليه السلام، فكان يميل لهذا الصغير لكن هذا شيء فطري وهذا عدل لأنه كان يميل للصغير لأن الصغير بحاجة إلى هذا الميل وهذا الضم، أما أنتم أيها العصبة فقد أصبحتم كباراً لستم بحاجةٍ إلى أن أضمكم وأن أمنع عنكم فقد أصبحتم تمنعون عن أنفسكم، فيعقوب عليه السلام كانت محبته للصغيرين ليست ظلماً منه وإنما كانت وضعاً طبيعياً يفعله كل أب، وقد سُئِل أعرابيٌّ أي أولادك أحبُّ إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر والغائب حتى يرجع، بدأ بالصغير حتى يكبر، الأب ربما يحتاج أن ينتبه إذا كانت الأعمار متقاربة ألا يُفضل الصغير على الكبير وينتبه إلى هذا الأمر حتى لا تقع الغيرة في قلب الكبير، أما يعقوب لديه أولاد أشداء هؤلاء العشرة (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) يذهبون ويعودون ويعملون لم يعودوا بحاجة إلى الرعاية التي يحتاجها يوسف وأخوه، إضافةً إلى ذلك رأى يعقوب من مخايل الذكاء والفهم العميق وهذه الرؤيا التي رآها؛ رأى أشياء منه جعلته يميل إليه، لكن لا يحق لهؤلاء الأولاد الكبار في السن أن يفكروا بهذا المنطق بأن يوسف (أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا) فهو صغير يحتاج ما لا تحتاجونه.

تبرير المعصية بالعزم على التوبة
(يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) هل هذه توبة؟ التوبة لا تكون بهذا الشكل قال تعالى:

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ
(سورة النساء: الآية 17)

العزم على التوبة ليس مبرراً للمعصية
أما الذي يعزم على فعل منكر أو كبيرة من الكبائر كالقتل ويقول: بعد ذلك أتوب وأصبح صالحاً، فهذا مبررٌ للفعل وليس عزماً على التوبة، وغالب الأمر أن مثل هذا الشخص لا يتوب، غالب الأمر، لأنه في الأصل إنما عقد العزم على المعصية ولكنه لم يعقد العزم على التوبة، وجعل ما يسميه عزماً على التوبة مبرراً بين يدي فعلته حتى يستسيغها ويفعلها دون تأنيب ضمير أو تحرك فطرة (وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) وكم من إنسانٍ يقول مثل ذلك؟ يقول لك: الآن نحن شباب نأخذ راحتنا وإن شاء الله غداً نتزوج ونكون قومًا صالحين أو يقول لك: الآن نحن في نزهة ولا تعقِّد الأمور! على كلٍّ (وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) هذا مبرر لا يعفيهم من المسؤولية ولا يخفف عنهم جرمهم.
هل أخبر يوسف إخوته بالرؤيا التي رآها؟ قال بعضهم: أخبر، وقال بعضهم: لم يخبر، والصحيح أنه لم يخبر، لأنه لم يظهر أي أثر لهذا الإخبار، الذين قالوا: أخبر إخوته؛ استدلوا بأنهم قد حسدوه وحقدوا عليه وبدؤوا يكيدون له، لكن لو نظرنا في سياق الآيات هم ما جاؤوا على ذكر الرؤيا أبداً، هم يتحدثون فقط عن تفضيله هذين الغلامين على باقي الإخوة، فالمشكلة موجودة عندهم في الأصل لا علاقة لها بالرؤيا، يبدو أن يوسف لم يقصَّ عليهم الرؤيا ولم يخبرهم بما رأى، لكن هم قد احتملوا في قلوبهم حسداً عليه مما رأوا من تفضيل والدهم إياه عليهم.

الحل الوسط كما رأى أحد أخوة يوسف

قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ
(سورة يوسف: الآية 10)

إنكار المنكر هو الموقف الصحيح
هذا القائل لم يذكره القرآن الكريم، قيل: هو أكبرهم وقيل غير ذلك والله أعلم، المهم أن هناك رجلاً كان أفضل من غيره فعظُمت في نفسه الجريمة، وكما قلنا: الخياران جريمة، لأن الثاني مهلكة أيضاً؛ في إلقائه في أرضٍ لا شيء فيها، عظمت في نفس هذا القائل تلك الجريمة لكنه لم يجد بُدَّاً من الفعل لأنه رأى أنهم قد أجمعوا أمرهم على فعلتهم فاقترح اقتراحاً يسمى حلاً وسطاً، هل كان هذا الحل الوسط إن صح التعبير منجِّياً له؟ لا، هو ذُكرَ وخُلِّدَ ذِكرهُ بأنه خفف الجريمة، لكن هل هذا هو الموقف الصحيح؟ الجواب طبعاً لا، عندما ترى قوماً قد أجمعوا على فعل جريمة نكراء ينبغي أن تقوم بكل فعل ممكن حتى لو كلفك حياتك من أجل إيقاف تلك الجريمة، أما أن تقول لهم بدلاً من قتله (أَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ) فهذا لا يكفي، هو أفضل منهم فطرةً لا شك، لكن هل هذا الموقف هو الموقف السليم؟ أبداً لا، الموقف السليم أن تنكر المنكر وأن تسعى في إيقاف الجريمة من أولها لا أن تأتي بأشياء مخففة، طبعاً كل ما يجري الآن في القصة وكل ما يجري في الكون يجري بتقدير الله عزَّ وجلَّ لكنه لا يعفي المجرمين من المسؤولية.

حديث الإفك في نهايته كان خيراً للمسلمين لكن من تحدث به لا يُعفى من المسؤولية
عندما انتشر حديث الإفك في المدينة وأصبح الناس يتكلمون في عِرضِ أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وانتشر الحديث في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الذي أشاعه؟ المنافقون وعلى رأسهم زعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول، هذا الذي حصل، الآن ذكر القرآن الكريم هذه القصة، جاء تعقيب القرآن على القصة قال:

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(سورة النور: الآية 11)

خيرات كثيرة في حديث الإفك
الذي حصل ليس شراً، حديث الإفك ليس شراً؟ نعم ليس شراً، هو في ظاهره شر (بَلْ هُوَ خَيْرٌ) لو ذهبت تتلمس مكامن الخير في هذا الحديث لعددت عشرات الحكم وغابت عنك عشرات، يعني من حكم حديث الإفك مثلاً: لو لم يكن له إلا أن ارتفع اسم عائشة وعلم الناس بمكانتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أُنزل في شأنها قرآنٌ يتلى إلى يوم القيامة لكفى، لو لم يكن من ذلك إلا إظهار المنافقين في المدينة الذين كانوا يستترون بين الناس فظهر أمرهم لكفى، لو لم يكن من خيرٍ لهذا الحديث إلا أن أعلم الله الناس إلى يوم القيامة بأن هذا القرآن وحيٌ من الله تعالى وليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لكفى، لأنه لو كان من كلامه لبرأها بعد ساعة لكنه بقي شهراً كاملاً أو أكثر وهو يتألم أشد الألم من حديث الناس في عِرضِ زوجته ولا يملك ما يقوله لهم إلى أن جاء الوحي، خيرات كثيرة في حديث الإفك لذلك قال تعالى: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ) موطن الشاهد (وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) هل لأن حديث الإفك كان في محصلته خيرٌ للمسلمين سينجو الفاعل من العقوبة؟ لا، الفاعل أراد شراً والله أراد خيراً فوظف شره للخير لكنه محاسبٌ على شره وفعلته أمام الله تعالى.

يد الله تعمل وحدها في الخفاء
الآن في قصة يوسف ما الذي يريده الله من كل ذلك؟ يريد الله أن يُلقى يوسف (فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ) وأن (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) وأن ينتقل عبداً ثم يصبح عزيز مصر ثم ينشر الخير في أرجاء الأرض، خير الدنيا وخير الآخرة، أراد الله ذلك، أراد الله أن يتخلى يعقوب عن يوسف عليه السلام مثل ما أراد يوماً أن يتخلى إبراهيم عن ابنه إسماعيل، الله تعالى يصطنع أنبياءه لنفسه، قال في حق موسى عليه السلام:

وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي
(سورة طه: الآية 41)

الإرادة الإلهية تتحكم بكل شيء
فكلما وجد تعلقاً بشيء ما في قلب النبي يفرغه منه، فالله تعالى أراد أشياء من هذه الحادثة وسارت الأمور وفق المشيئة الإلهية والإرادة الإلهية تماماً، وهؤلاء الذين تحركوا في القصة: من تحركوا في الخير أخذوا الخير ومن تحركوا في الشر أخذوا شر أعمالهم، وحرك الله القصة؛ ويد الله تعمل وحدها في الخفاء ولكن الناس لا يعلمون، هذا الذي ينبغي أن نفهمه في كل حدث يحدث في الكون، كل إنسان يريد الخير يأخذ الخير ومن يريد الشر يأخذ الشر، لكن إرادة الله تتحكم في الخيِّرين وفي الشرِّيرين لتوظف كل أفعالهم لتحقيق مشيئة الله التي لها حكمٌ كثيرةٌ، قد نعلم بعضها ونجهل كثيراً منها.

احتمال النجاة أكبر في الجُب
الْجُبِّ هو البئر الذي ليس فيه حجارة
(لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ) غيابة: يقال غيابة لكل شيءٍ غاب عنك، فيقال للقبر غيابة وجمعها غيابات لأنه يُغَيَّبُ فيه الميت، وهذا (الْجُبِّ) هو البئر لكن الذي فوهته واسعة وقعره قريب من سطح الأرض، وقيل إن (الْجُبِّ) هو البئر الذي ليس فيه حجارة فهو سيُغيَّب عن العيون (فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ) لكن هذا (الْجُبِّ) مظنة أن يأتي أحدٌ ينتشله منه، مازالت مظنة الهلاك قائمة لم تنتهِ، لكن أصبحت مظنة النجاة أعظم لأنه سيلقى في جُبٍّ على طريق الناس فسيرونه وسيناديهم... إلخ، (وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ) إذاً هذا اقتراح (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) هو الآن يرسم طريق النجاة، في ظنه أنه سيجد يوسف طريقة للنجاة، لكن كما قلنا: ما زال هناك احتمال للهلاك ولكن أصبح طريق النجاة أكثر حظاً (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) ليست السيارة التي تقاد اليوم، لم يكن هناك سيارة! لكن سميت السيارة سيارةً لأنها تسير كثيراً، و(السَّيَّارَةِ) هنا جمع سَيَّار وهو من يسير كثيراً، يسير يكثر السير، حيث تمر قوافل كثيرة من هنا، يكثرون السير من هنا فيسمعون صوته أو يأتون لأخذ بعض الماء فيلتقطونه (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) هو يشكُّ في أنهم سينفذون مقترحه لأنه وجد منهم إجماعاً على القتل، لكن الله عزَّ وجلَّ إرادته نافذة، فيوسف نبي وهذا النبي ستتحق رؤياه في نهاية المطاف فيستحيل أن يُقتل (إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) إشارة إلى الشك في أنهم سيفعلون ذلك لِما رأى من إصرارهم على قتله وإجماعهم الأمر على التخلص منه حتى يخلوَ لهم وجه أبيهم، الآن انتهى المشهد الحواري بين هؤلاء الإخوة، القصة مشاهد، كل مشهد يغلقه القرآن ويفتح مشهداً آخر، الآن أُغلق الستار على مشهد الإخوة وهم يتشاورون ويحيكون المؤامرة، لم يقل لك: هل وافقوا أم لم يوافقوا على اقتراح هذا الأخ الذي ارتأى أن يُلقى يوسف (فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ)، القرآن أغلق المشهد.

إخوة يوسف يطلبون من أبيهم أخذه معهم
الآن في المشهد الآخر يتضح لك إن وافقوا أم لم يوافقوا وهذا من براعة القصة القرآنية، أغلق المشهد هنا فتح المشهد الآخر، الآن المشهد القادم إخوة يوسف يراودون أباهم عن يوسف لأخذه

قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ
(سورة يوسف: الآية 11)

يعقوب لم يتوقع الشر من أخوة يوسف
إشارةً إلى أنهم قد طلبوا ذلك قبل ومنعوا منه، ولعل يعقوب لم يخطر في باله أن يريدوا يوماً شراً بابنه والدليل أنه أرسله في النهاية معهم، لكنه كان لا يأمن عليه معهم لأنهم مشغولون بالجد والكدح والتعب، كأنك اليوم تقول مثلاً لوالدك: ليذهب أخي الصغير معي إلى المعمل؛ أنت في عملك ومشغول في إدارة الأمور فستغفل عنه وربما يخرج فتصدمه سيارةٌ مسرعةٌ، أو ربما ينام في مكانٍ لا تنتبه له بين آلاتٍ خطيرةٍ.....إلخ، المنطق نفسه، فيعقوب لم يخطر في باله أن هؤلاء يمكن أن يصل الشر بهم إلى أن يفكروا في التخلص من يوسف لكنه كان لا يأمن عليه معهم حتى لا يغفلوا عنه في عملهم وهذا ما بينه في الآيات اللاحقة.
(قَالُوا يَا أَبَانَا) هذا النداء فيه استعطاف للقلب فذكروه بآصرة القربى بينه وبينهم، ثم قالوا باستفهام إنكاري (مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ) يستنكرون عليه ذلك، موقفك غريب عجيب أن تمتنع عن إرسال يوسف معنا (وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ) نحن نحبه، ننصح له، نحب ذهابه ليستمتع معنا ويغير من الأجواء التي يعيشها، ليشِب.... إلخ، (وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ) وهنا جاؤوا بأشد أنواع التأكيد (إِنَّا)، و(إِنَّ): حرف مشبه بالفعل يفيد التوكيد، (لَنَاصِحُونَ) اللام لام المزحلقة أيضاً تفيد التوكيد، لم يقولوا: إنَّا له ناصحون، قالوا: (إِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ) توكيد جديد، اللام للتوكيد أيضاً، فأكدوا بكل المؤكدات بأنهم لا يريدون بيوسف إلا خيراً، وقد قالوا: يكاد المريب يقول: خذوني، الذي يحيك مؤامرةً يكون شكله وفعله مريبين للآخرين.

براءة يعقوب وطهر قلبه منعه من الشك
لكن يعقوب نبي لم يعرف الشر! مثل آدم عندما سوَّل له الشيطان أن يأكل من الشجرة، تقول: كيف استجاب آدم؟! لأن آدم لم يعهد أن يكذب أحد، هو يعيش في جنة الله عزَّ وجلَّ، صدق وملائكة مطهرون حوله لم يعهد أن يأتي مخلوق فيقول له:

هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ
(سورة طه: الآية 120)

وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ
(سورة الأعراف: الآية 21-22)

براءة يعقوب تمنعه من الشك
الشيطان اتخذ معه أساليب وآدم لم يعهد ولم يسمع كذباً فاستجاب له، الآن يعقوب نبي؛ قلب طيب أبيض لا يضمر الشر لأحد، لا يحمل الحقد على أحد، ثم هو أب والأب لا يتصور أن يصل الحقد بأبنائه إلى أن يقتل بعضهم بعضاً أو يسيء بعضهم إلى بعض، لكن كلامهم فيه ريبة، لكن براءة يعقوب عليه السلام وطُهر قلبه وأبوته التي تمنعه من الشك في أولاده جعله يستجيب لطلبهم (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ).

إلحاح أخوة يوسف على أبيهم لينالوا موافقته

أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
(سورة يوسف: الآية 12)

إذا عزمت على الطاعة فبادر إليها
هم عزموا وأرادوا التنفيذ فوراً، الإنسان إذا عزم على طاعة ينبغي أن يبادر إليها أما إذا ساورته نفسه بمعصية فينبغي أن يؤخرها، وابن القيم يقول: "أغلق باب التوفيق عن الخلق في سبعة أشياء وذكر منها: عندما أُمِروا بتأخير الذنب فبادروا إليه ولما أُمِروا بالمسارعة إلى التوبة أخروها، فهم فوراً قالوا: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا) وقالوا: (مَعَنَا) هذه معيّة يعني هذا موطن الاطمئنان (مَعَنَا) لن يكون بعيداً عنا.
(غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) (يَرْتَعْ): هذه قراءة حفص، وهناك قراءة (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا نَرْتَعْ) بالنون، كلنا، وهناك قراءة (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا نَرْتَعِ) وكل واحدة لها معنى، المعنى هنا في قراءة حفص (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ) يأكل ما شاء وكيف شاء، والرتع في الأصل يكون للبهائم، بهائم رُتَّعْ، ترتع بمعنى أنها تأكل ما تشاء، وقد يُطلق على الإنسان عندما يتنزه ويفعل ما يحلو له كيف شاء فكأنه رَتَع، أما قراءة (نَرْتَعْ) كلنا سوف نرتع مع بعض، أما قراءة (نَرْتَعِ) من الرعي أي يرعى بعضنا بعضاً، من الرعاية، هذا من علم القراءات.
(أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) اللعب محبب للطفل، اللعب هو شيء لا طائل وراءه لكن قد يكون مباحاً وقد يكون محرماً، وهنا المقصود به اللعب المباح البريء الذي يلعبه الأطفال، الركض، مع الطبيعة يفعل ما يحلو له.
(وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) أيضاً توكيد جديد من إخوة يوسف لينالوا الموافقة من أبيهم (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) أيضاً بلام المزحلقة المؤكدة، سنحفظه مما يمكن أن يُسيء إليه أو يوقع به شراً فنحن معه ننصح ونحفظ، ننصح له ما يسره ويدخل السعادة إلى قلبه، ونحفظه مما يمكن أن يسوؤه، في المرة الأولى قالوا: ناصحون، وفي الثانية حافظون، فهنا كأنهم قد بدؤوا يستميلون قلب والدهم، ولكن ما زال في قلبه ريبٌ وشكٌّ قبل أن يعطيهم الموافقة النهائية، نتحدث عنه إن شاء الله في لقاءٍ قادمٍ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.