بداية تمكين يوسف عليه السلام
بداية تمكين يوسف عليه السلام
السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ: بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِه أجمعين. |
مع اللقاء الخامس من لقاءات سورة يوسف ومع الآية التاسعة عشرة من السورة وهي قوله تعالى: |
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ۖ قَالَ يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ ۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(سورة يوسف: الآية 19)
هذه الآية بدأنا بها في اللقاء الماضي، قلنا: السَيَّارَة مثل الكشَّافة الذين يكثرون الكشف فيسمَّون الكشافة أو البائعة الجوالة الذين يكثرون التجوال، السَيَّارَة يكثرون السير فهي قافلةٌ تسير كثيراً فسميت سَيَّارَةً. |
نجاة يوسف عليه السلام من الجب
قال تعالى: (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ) البئر كان في طريق القوافل التجارية (فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ) الوارد هو الذي يرد الماء، قال تعالى: |
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ(سورة القصص: الآية 23)
والوارد يسبق القوم سواءً كان فرداً أو مجموعةً، يسبق القوم ليستطلع الماء وصلاحيته ثم ينادي قافلته أن هلمُّوا فالماء موجودٌ أو صالحٌ للشرب أو غير ذلك، فتأتي القافلة التي معه لترد الماء معه، (فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ) الذي يرد الماء قبلهم (فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ) الدلو الذي يملؤه بالماء من البئر، يبدو أن يوسف عليه السلام تعلق بالدلو لكن السياق القرآني لم يذكر ما الذي حصل، هل ناداه أم تعلق بدلوه؟ تركها مفاجأةً، قال: (فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ۖ قَالَ يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ) وترك لك أن تتخيل ما الذي حصل، هذه فجوة في القصة لها هدف وهو استثارة القارئ، (فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ۖ قَالَ يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ) إذاً تعلق يوسف بالدلو فيما يبدو وخرج إلى هذا الوارد، (قَالَ يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ) يوسف كما تروي الروايات في هذا الوقت كان عمره في التاسعة أو العاشرة أو الحادية عشرة، لسنا بصدد تحديد العمر، لكنه كان في عمرٍ يستطيع أن يخبر عن نفسه والدليل ما رواه لوالده من رؤيا. |
يوسف لم يكن في عمرٍ صغيرٍ لا يستطيع أن يخبر عن نفسه، لو أنهم سألوه: من أنت؟ لأجابهم من أبوك؟ لدلَّهم، ويعقوب معروف، فهو ليس شخصاً عادياً، هو نبي الله، فكان من الممكن أن يسألوه فيدلهم، هو شيء سهل ومنطقي جداً أن يسألوه، لكن الله يدبِّرُ الأمور بتدبيره لذلك قال تعالى: (وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً) هم أخذوه سراً لأنهم لم يتعاملوا وفق العرف المعهود، هذا غلام ينبغي أن تسأل عنه أو تسأله من أنت فيجيبك فتوصله إلى أهله أما أن تأخذه على أنه بضاعة فهذا غريب! |
البضاعة هي ما يعدُّ للتجارة
|
قلنا سابقاً: إن الأمور تجري بالمقادير وإن الله تعالى يُسيِّرُ يوسف ليصل إلى مصر وليصبح بعد حين عزيز مصر ولتكون له المكانة العلية فهذا الذي ينبغي أن يجري، لكن هذا لا يعني أن أفعالهم تلك كانت صحيحةً، فالموقف الصحيح كان يقتضي من هؤلاء أن يسألوا يوسف من أنت ومن أبوك ويعيدوه إلى بيت أبيه، لكنهم فعلوا ما يشبه الاختطاف فاختطفوا هذا الغلام وجعلوه بضاعةً لينتفعوا بثمنه. |
التوحيد لا يعفي من المسؤولية
|
شراء سيدنا يوسف بثمنٍ بخس
قال تعالى: |
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ(سورة يوسف: الآية 20)
شَرَى بمعنى بَاعَ، قال تعالى: |
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ(سورة البقرة: الآية 207)
البخس أي القليل
|
وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا(سورة البقرة: الآية 282)
وفي آيةٍ أُخرى: |
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ(سورة هود: الآية 85)
لا يجوز أن تبخس الناس أشياءهم، إن شئت فاشترِ وإن شئت فلا تشترِ، لكن أن تعطيه ثمناً قليلاً لبضاعةٍ قيمتها كبيرة فهذا بخسٌ لا يجوز، وحتى من الأمور المعنوية التي ينبغي ألا نبخس الناس أشياءهم؛ إن رأيت عالماً في مجالٍ معينٍ فلا تبخسه علمه فتقول له: يبدو أن معلوماتك قليلة! (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) لا مالاً ولا مكانةً ولا خبرةً لا ينبغي أن يبخس الإنسان أخاه شيئاً مما آتاه الله تعالى، أي أن يعطيه أقل من قيمته، قد تقول لي: هذه البضاعة بمئة، أقول لك : أشتريها بتسعين، أما أقول لك : بخمسين! فقد بخستك حقك، فالمفاوضة تكون ضمن نطاق محدود حتى في البيع. |
{ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى }
(رواه البخاري)
عنده سماحة في البيع وفي الشراء وفي القضاء وفي الاقتضاء، عندما يطلب حقه فهو سمح، وعندما يُطالب بحقٍّ فهو سمح، وعندما يبيع فهو سمح، وعندما يشتري فهو سمح، أي سهل، أما الآية هنا (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) أي باعوه بأقل من قيمته بكثير، يوسف عليه من علامات الحسن الظاهر ما عليه، وفيه من علامات الحسن التي لا يراها إلا أهل البصيرة ما فيه، من علامات النجابة والذكاء والخلق العالي، فأن يُدفع فيه ثمنٌ فمهما دُفع فهو بخس، لكن حتى في عرفهم يوم دفع هذا الثمن بغلام كان ثمناً بخساً لغلامٍ يباع ويُشترى، ويبدو أنهم قَبِلوا بذلك لأن السارق دائماً يبيع بأي ثمن. |
الثمن كان دراهم معدودة
فهم لما أخذوه وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً هم يبيعون حراً ويبيعون غلاماً قد أخذوه من أهله وكان بإمكانهم أن يصلوا إليه وربما يوسف أخبرهم بل يغلب على ظننا أن يوسف لما خرج من الجب معهم قال: أنا فلان أرجعوني إلى أهلي، وطلب ذلك لأنه غلام واعٍ يستطيع أن يفعل ذلك، لكن لما (أَسَرُّوهُ بِضَاعَةً) وأخفوه عن العيون من أجل أن يبيعوه فأُعطوا به ثمناً بخساً فباعوه ليتخلصوا منه وينجوا من فعلتهم، (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ) الدرهم من المُعرَّب، كلمة ليس أصلها عربياً، فالدراهم جمع درهم وهو ثمن من الأثمان يباع ويشترى به. |
في الدراهم المعدودة إشارةٌ إلى القلَّة
|
تعريف الزهد
الزهد من أعمال القلوب
|
{ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ }
(صحيح مسلم)
فالمتكبر هو الشخص الذي إن جاءه الحق ردَّه وإن ذكر أمامه إنسانٌ غمطه حقه وبخسه حقه ولم يعطهِ حقه فهذا هو المتكبر ولو لبس أخشن الثياب، وأما المتواضع فلو لبس أجمل الثياب فإنه لا يردُّ الحق ولا يبخس الناس قيمتهم ولا أشياءهم، فالكبر في القلب والزهد في القلب، (وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) زهِدوا به فباعوه بثمنٍ بخسٍ من الدراهم المعدودة. |
المشتري هو عزيز مصر
هنا السياق القرآني؛ انتقل الآن يوسف عليه السلام، انتقل من مكانٍ إلى مكانٍ، أين هذا المكان؟ مصر. |
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(سورة يوسف: الآية 21)
المشتري هو رجلٌ من مصر
|
(وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ) والمرأة هنا هي الزوجة، ويطلق في العربية وفي القرآن: يستخدم كلمة امْرَأَتِهِ |
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا(سورة هود: الآية 71)
امْرَأَتُهُ هنا هي زوجته، (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ) وقيل إنَّ امْرَأَتُهُ هنا هي التي تذكرها كتب التاريخ على أنها زليخة والله أعلم باسمها. |
المقصود بالمثوى
المَثْوَى هو مكان الإقامة والاستقرار
|
وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ(سورة محمد: الآية 12)
فالمَثْوَى للنار، أما الجنة فهي مأْوَى وليست مَثْوَى وهذا ليس صحيحاً، فالمَثْوَى والمأْوَى كلاهما يطلق على الجنة وعلى النار وعلى المكان الحسن وعلى المكان القبيح، المأْوَى والمَثْوَى كلاهما يطلق على الشيئين وقد جاء ذلك في كتاب الله فهنا (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) وجاء (وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) وجاء |
وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(سورة آل عمران: الآية 162)
فالمأْوَى يأتي للجنة والنار، والمَثْوَى يأتي للجنة والنار، و(أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) أبلغ من أن أكرميه، لغةً أبلغ من أن تقول: أكرِم فلاناً، أن تقول: أكرم مثواه، فإذا علمت أن والدك قادمٌ من سفر وقد غاب عنك فترةً من الزمن وأُخبرتَ بقدومه بعد يومين فإنك تُهيِّئ مثواه قبل قدومه، فتهيِّئ له السرير وتضع له الفراش الوثير وفوقه الوسائد الناعمة النظيفة وتنظف الغرفة فأنت الآن تكرم مثواه، فما بالك بإكرامه عندما يصل إذا كنت قد أكرمت مثواه فكيف سيكون إكرامك إياه؟! فهذا من المجاز، في الأصل المقصود أن يكرم هو لكن يقال: أكرم مثواه أي أكرم مكان إقامته فهذا أبلغ في إكرامه. |
(أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) يبدو أن عزيز مصر لمح في وجه يوسف الجمال، الجمال واضح، كما ورد في الحديث: |
{ أنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: أُعْطِيَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ شَطْرَ الْحُسْنِ }
(رَوَاه مُسْلِم)
ولمح من حديثه معه كما يبدو مخايل النجابة والذكاء والفطنة، يعني هما أمران معاً الظاهر والباطن، فقال: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا) يعني رجا أن يكون له منفعةٌ من هذا الغلام إذا كبر، (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) ويبدو من السياق ومن بعض الروايات التاريخية أن عزيز مصر لم يكن له أولاد، كان لا ينجب ليس له أولاد، فقال: (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)، هو الآن بِيْعَ على أنه عبد فأن (نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) ولدٌ لعزيز مصر ليس شيئاً سهلاً لذلك قال: (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) يعني إذا رأينا منه ما يدفعنا لذلك إن كبر. |
بداية التمكين
الانتقال من البئر إلى القصر
|
التأويل هو المآل
(وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) التأويل هو المآل أن تعلم مآل الأمر، فلما (رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) بنهاية القصة قال: |
يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا(سورة يوسف: الآية 100)
هي كانت رؤيا ربما قبل أربعين سنة لكن أُوِّلَت لما وقعت، يعني اتضح مآلُها، اتضحت نهايتها |
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ(سورة آل عمران: الآية 7)
في الآيات المتشابهة لا يعلم تأويلها إلا الله، فهنا قال: (وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) المقصود هنا تأويل الأحلام والرؤى التي أبدع فيها يوسف عليه السلام بتعليم الله تعالى إياه، (وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) يعني أنت ترى رؤيا؛ عندما يُعبِّرُها يوسف عليه السلام يقول لك مآلها، كيف ستؤول هذه الرؤيا، قال: |
أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ۖ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ(سورة يوسف: الآية 41)
لما قالوا له: (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ) يعني أعطنا النهاية ما الذي سيحصل؟ فقال: سيحصل كذا وكذا، فأعطاهم المآل هذا هو التأويل |
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ(سورة يونس: الآية 39)
ربنا عزَّ وجلَّ في القرآن قال: |
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا(سورة البقرة: الآية 276)
يمحق الله الربا
|
المؤمن لا يعلم الغيب لكنه يعلم المآلات
لما قال تعالى: |
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً(سورة النحل: الآية 97)
فإذا رأيت المؤمن يعيش في الحياة الطيبة وقد عمل الصالحات فهذا تأويل الآية |
وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا(سورة طه: الآية 124)
التأويل هو أن تعرف المآل
|
قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ(سورة المؤمنون: الآية 99-100)
فالمؤمن لا يعلم الغيب لكنه يعلم المآل بإخبار الله تعالى له، المؤمن لا يعلم الغيب لكنه يعلم المآلات بإخبار الله تعالى له بما سيكون فهو يعلم التأويل، فيوسف عليه السلام قال: (وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) فهو يعلم المآلات، ومن المآلات التي يعلمها ومن معجزاته مآلات الأحلام، كلنا إذا فسر حلماً مهما كان عارفاً بهذا فهو تفسيرٌ ظنِّي، لا يوجد اليوم تفسير أحلام قطعي، تقول: لعله كذا، يعني من باب الظن، لكن يوسف عليه السلام لما كان يُؤوِل كانت تقع الرؤيا كما يؤوِّلها تماماً لأنها معجزة له، (وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ). |
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ
الآن العبارة المفصلية الأساسية في سورة يوسف كلها، أنا أقول هذا محور السورة، قال: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) قِلَّةٌ من تعلم أنَّ الله غالبٌ على أمره، كثرةٌ من تظن أن فلاناً أو فلاناً أو دولةً أو دولاً غالبةٌ على أمرها، يظنون ذلك، لماذا؟ لأن عندنا عالَمين: عالم الغيب وعالم الشهادة، عالم الشهادة تراه بعينك فتظن أنه الحقيقة كلها، تظن ذلك، أما الغيب فلا تدركه بحواسك فيغيب عنك، هو غيبٌ غاب عنك فتظن أو تتوهم أنه لن يقع، بخلاف المؤمن الذي يؤمن بالغيب مثل إيمانه بالشهادة أو أعظم، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ). |
المؤمن يعلم أن الله غالبٌ على أمره
|
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(سورة العنكبوت: الآية 4)
كل شيءٍ يتحرك ضمن إرادة الله
كل شيء في الحياة يجري بإرادة الله
|
يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(سورة التوبة: الآية 32)
تخيل إنساناً بكل قوته وجه بصقةً لقرص الشمس ليطفئها كم هو مضحكٌ وساذجٌ! قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) والله (يُتِمَّ نُورَهُ) فالله تعالى بيده الأمر |
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ(سورة الروم: الآية 4)
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ(سورة هود: الآية 123)
الأمر بيده وحده، لا أمر إلا أمره جلَّ جلاله |
وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ(سورة الأنفال: الآية 17)
العقيدة توجِّه الحركة
|
فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ(سورة الكهف: الآية 29)
لكنك عندما تختار أحد الطريقين فأنت الآن تُسيَّر ضمن إرادة الله، أنت لا تفعل شيئاً لا يريده الله فهذه العقيدة بالعكس توجه الحركة لأنها تفهمك أنك جنديٌّ في هذا الكون تتحرك مع الكون كلِّه بإرادة الله تعالى، أما ما يشلُّ حركة الإنسان أن يقال له: أنت مجبر على كل أعمالك ولن تستطيع أن تفعل خيراً والله تعالى أراد بك شراً فستفعل الشر! هذه عقيدة الجبر التي تشلُّ حركة الإنسان أما العقيدة الصحيحة التي تقول: الفعل فعل الله والإنسان يكسب أو يكتسب فهذه عقيدةٌ سليمةٌ توجه حركة الإنسان في الطريق الصحيحة. |
الحكمة والعلم
الآية الأخيرة في هذا اللقاء؛ قال تعالى: |
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(سورة يوسف: الآية 22)
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) يوسف عليه السلام (بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي قوته، الأشُد هي القوة وأصبح قوياً قيل هذا في عمر بين الخامسة والثلاثين والأربعين لأنه في هذا العمر الإنسان يكون في قمة نشاطه وازدياده ثم يبدأ بعدها بالتناقص فيبلغ أشده عندما تكتمل رجولته في جسمه ويكتمل عقله ومحاكمته للأمور (بَلَغَ أَشُدَّهُ). |
يقول عن موسى عليه السلام: |
بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ(سورة القصص: الآية 14)
استوى عقلياً وبلغ أشده جسمياً. |
العلم من غير حكمة يضلُّ صاحبَه
|
تعميم العطاء الإلهي ليشمل كل محسن
قانون جزاء المحسنين
|
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ(سورة الأنبياء: الآية 87-88)
فلا تظن أن هذا الحكم خاصٌّ بيونس عليه السلام وإنما هو لكل من يكون على خطى يونس عليه السلام ويلتجئ إلى الله عند الملمَّات فيجازيه الله تعالى ويجيبه إلى دعائه. |
والحمد لله رب العالمين. |