الامتحان الثاني لسيدنا يوسف

  • الدرس السادس : شرح الآيات 23 - 29
  • 2020-09-26

الامتحان الثاني لسيدنا يوسف

السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيِمِ، الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً.
وبعد؛ فمع اللقاء السادس من لقاءات سورة يوسف ومع الآية الثالثة والعشرين من السورة وهي قوله تعالى:

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
(سورة يوسف: الآية 23)


بلوغ يوسف أشده ونجاته من الجب
قبل أن نبدأ بالشرح التفصيلي للآية، يوسف عليه السلام كما مرَّ معنا في نهاية اللقاء السابق (بَلَغَ أَشُدَّهُ) هل كان في عمر الثلاثين أو في الأربعين أو بينهما الله أعلم؟ اكتملت قواه الجسمية وقواه العقلية

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
(سورة يوسف: الآية 22)

فيوسف عليه السلام محسنٌ، اشتُهر بإحسانه في قصر العزيز، حتى الآن لا نعلم وفق سياق السورة من الذي اشتراه وهو في أي قصرٍ موجود؟ لم يأتِ ذكر العزيز، ولكن سيأتي بعد حين، ما زلنا نقرأ السورة - كأننا نقرأ السورة لأول مرَّة - لا ندري في أي مكان يحصل الذي يحصل حتى الآن

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ
(سورة يوسف: الآية 21)

من الذي اشتراه؟ حتى الآن لا نعلم، الآن يوسف عليه السلام سيخوض امتحاناً جديداً، الامتحان الأول كان مع إخوته في الجب يوم كان غُلاماً

يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ
(سورة يوسف: الآية 19)

الغُلَام أقصى ما يكون أربعة عشر عاماً، يبدو أنه كان في التاسعة، العاشرة، الله أعلم، هذا امتحان كان في هذا الوقت المبكر من حياته.

بين امتحان الجب وامتحان القصر
الفرق بين صبر الاضطرار وصبر الاختيار
والآن سيخوض امتحاناً أكبر في شبابه لو سألنا أي الامتحانين أصعب امتحان الجب أم امتحان القصر؟ في ظاهر الأمر امتحان الجبِّ أصعب لأنه كان هناك احتمال الموت، مع كيد من الإخوة، وقسوة على النفس، لكن في الحقيقة وفي واقع الأمر امتحان القصر أشدُّ من امتحان الجبِّ، لأن امتحان الجب كان صبره صبرَ اضطرار، بينما امتحان القصر سيكون صبره صبرَ اختيار، وفرقٌ كبير بين أن تصبر اضطراراً أو تصبر اختياراً، فإذا مات للإنسان قريب فسيصبر الآن، أو بعد ساعة، أو بعد يوم، أو بعد يومين، أو بعد شهر، سيصبر صبر اضطرار، وهل تستطيع أن تفعل شيئاً آخر سوى الصبر! لذلك قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:

{ إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى }

(رواه البخاري)

لأن الكل سيصبر بعد ذلك، فيوسف عليه السلام لما ألقي في الجب، لم يكن له خيار آخر إلا الصبر، لكن المؤمن يصبر من اللحظة الأولى، وغير المؤمن يتأخر في البدء بالصبر، لكن هو صبر اضطرار لا بدَّ منه، أما عندما يكون يوسف في القصر وتأتي امرأة العزيز لتراوده عن نفسه وتغلِّق الأبواب وتدعوه إلى المعصية ثم يصبر وكان بإمكانه أن يفعل، هذا اسمه صبر اختيار وصبر الاختيار أعظم من صبر الاضطرار، فهذا الامتحان أصعب، ذاك الامتحان ظاهر من الله عزَّ وجلّ بشكل كامل ما ترك له اختياراً هكذا أراد الله، فصبر، أما هنا فالله تعالى أعطاه الاختيار ترك له حرية الاختيار فلما صبر عن المعصية ارتقى عند الله عزَّ وجلّ هذا الرقي، فعملياً يوسف عليه السلام كان امتحانه هذا هو الامتحان الأصعب في حياته، وهو أن يصبر عن المعصية في هذه الظروف التي كانت تحيط به.

الأسباب التي تدعو سيدنا يوسف للوقوع في المعصية
وقد ذكر المفسرون من الأسباب التي تدعو يوسف عليه السلام لارتكاب المعصية الشيء الكثير هناك أسباب كثيرة تدعوه للمعصية أولاً: الأمان، (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ)، ثانياً: هو عبد في عرف المجتمع وهي سيدته، ولا مصلحة لها بأن ينفضح الأمر، هي تكتم وليس هو، وهي تدعوه في قصرها في بيتها وليس بعيداً عنها أو تريد شيئاً في بيته هو فيخاف الانكشاف، هي ستتولى عملية التعتيم والكتم إذ ليس لها مصلحة في الفضيحة، فالأسباب التي كانت تدعو يوسف عليه السلام ليقع في المعصية كثيرة، لكنه لم يقع، هذا صبر يوسف عليه السلام.

المراودة مطالبةٌ مع المخادعة
الخداع الذي رافق المراودة
نأتي إلى الآية: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا) رادَ، يَرُود، أي جاء وذهب، المراودة هي المطالبة، يطلب شيئاً لكن برفقٍ، وبلينٍ، وبتُؤْدَة، لا يطلب بقسوة، يطلب برفق، وهذه امرأة العزيز تريد أن توقع به وأن تقع معه في الفاحشة فيحصل أن تطالبه برفق وبلين لأن مثل هذه الأمور نسأل الله السلامة لا تحصل إلا بالرفق واللين فهي طالبته برفقٍ وبلين، لماذا قال الله تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ) عن نفسه؟ هذا اسمه في اللغة العربية التضمين، ضمَّن الباري جلَّ جلاله الفعل راودته معنى خادعته ليحمل معنى المخادعة إذاً المراودة هنا ترافقها مخادعة تريد أن تخدعه وأن تحتال عليه لتوقعه في فخِّ المعصية، فهي مطالبة مع المخادعة وقال: (الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا) للإشارة إلى أن هذا من داوعي الوقوع في المعصية لأنه في بيتها (الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا) وليست هي في بيته وإنما هو في بيتها فهي تطلب منه.
(عَن نَّفْسِهِ): أي خادعته عن نفسه وطلبت منه الوقوع في المعصية، الآن المروادة كما قلنا هي المطالبة بلين، تراوده عن نفسه، تخادعه، تحاول أن توقعه، بيدو أن مرحلة المراودة استمرت زمناً، يوسف عليه السلام تعرض لهذه المراودة في القصر مراراً وتكراراً، تحاول كل حين أن توقع به وأن تسمعه كلاماً ليفهم المغزى منه بأنها تريده.

تهيئة الجو للمعصية
الإشارة إلى مستوى القصور في ذلك الوقت
لكن الآن (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ) الآن صرنا في موقف محدد (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ) حان وقت المعصية بعد فترة مراودة (وَغَلَّقَتِ) فيها المبالغة، لم يقل: غَلَقَت ولا أغلقت، وإنما قال: (وغَلَّقَتِ) فأغلقت الباب ربما بمفتاح ثم أغلقته بمفتاحٍ آخر أو بالغت في إغلاقه بحيث لا يستطيع فتحه أو وضعت شيئاً أمام الباب بحيث لا يمكن دفعه (غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ) للدلالة على أنها هيأت الجو الآمن، ولم يقل: الباب إنما قال: (الْأَبْوَابَ) وهذا يدل على القصور الفارهة التي كان يعيش بها أمراء ووزراء مصر في ذلك الزمن لأن الوزير أو القوي أو ذا الشأن في المجتمع في عُرف الناس لا تستطيع أن تصل إليه من بابٍ واحد فتفتح الباب وتدخل عليه، وإنما تدخل إلى غرفة ثم إلى غرفة ثم إلى غرفة، هكذا شأن القصور فهي أبواب، وقيل في بعض التفاسير: هي سبعة أبواب، كان هناك سبعة أبواب، فهي غَلَّقَت كلَّ الأبواب الموصلة إلى غرفة المعصية التي أعدتها للإيقاع بيوسف عليه السلام.
(وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ): (هَيْتَ لَكَ) فيها قراءات (هَيْتَ) هي قراءة حفص وغيره وقرئت: (هِيتَ لك) (هِئتُ لك) بمعنى تهيأت لك، يعني أعددت نفسي لك أما (هَيْتَ لَكَ) فاسم فعل أمر بمعنى: هلمَّ، تعال، أقبل، (هَيْتَ لَكَ) أقبل، الآن انتقلت من المراودة إلى المصارحة، المراودة فيها طلب بلين، برفق، بتؤدة، بتلميح، تسمعه ما تريد، أما عندما قالت له: (هَيْتَ لَكَ) فقد أعلنت رغبتها في الوقوع في المعصية أي أقبل، وهلمَّ، وتعال إلى المعصية.

معنى مَعَاذَ اللَّهِ
اللجوء إلى الله والاحتماء به
(قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ) أي أعوذ معاذاً بالله، ما معنى أعوذُ؟ العرب تقول: أطيبُ اللحمِ عُوَّذُهُ، أي ما كان ملاصقاً للعظم، أطيب اللحم ما كان ملاصقاً للعظم، كلما كان اللحم قريباً من العظم كان أطيب من البعيد، لماذا يقال: أطيبُ اللحمِ عُوَّذُهُ؟ لأنه احتمى بالعظم حتى التصق به، ونحن عندما نقول: أعوذ بالله أو كما قال يوسف: (مَعَاذَ اللَّهِ) أي ألتجئ إلى الله وأحتمي به، شدة القرب، قريب جداً من المولى جلَّ جلاله، أحتمي به، ألتصق به، فأنت عندما تعوذ بالله فقد التجأت إلى القوي ليحميك من الشر والتجأت إلى القوي ليدفع عنك الضر، والتجأت إلى القوي ولُذت به، هناك لاذَ وعاذَ، قالوا: لاذَ ليأتيك بالنفع، وعاذَ ليدفع عنك السوء والضر والمعصية، فأنت التجأت إلى القوي جلَّ جلاله عوذاً ولوذاً، لذت به، وعذت به، فنحن عندما نقرأ القرآن

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
(سورة النحل: الآية 98)

الجأ إلى الله، اقترب من الله، احتمِ به، وابتعد عن الشيطان الرجيم، فقال: (مَعَاذَ اللَّهِ) إذاً يوسف عليه السلام يعلمنا أن أعظم ما تواجه به المعصية أن تلتجئ إلى الله في ساعة المعصية.

سر الاحتماء بالله عزَّ وجلّ
العفة سببٌ من أسباب الفرج
وهذا المثل قريبٌ مما حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الثلاثة الذين كانوا من قبلنا وسدَّ عليهم الغار وقالوا: لن ينفعكم إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم وجعل كل واحدٍ يدعو الله بعملٍ صالحٍ له أحدهم كان له أبوان شيخان كبيران وكان باراً بهما، والثاني كان له أُجراء وتركوه وغضبوا فثمَّر لهم مالهم وعادوا وأخذوه، الشاهد في الثالث، الثالث كانت له ابنة عم أحب ما تكون إليه فراودها عن نفسها فأبت، رفضت، ثم احتاجت إلى المال فجاء إليها وأعطاها المال في مقابل أن يقع معها في المعصية والعياذ بالله، فلما اقترب منها قَالتْ: اتَّقِ اللهَ وَلاَ تَفُضَّ الْخاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ، لا تقترب مني إلا بعقد أو بكذا، قال: فقمت عنها، يعني تركتها ومضيت، وأنا أشد ما أكون رغبةً، إن كنت قد فعلت هذا الأمر ابتغاء مرضاتك فافرج عنا ما نحن فيه، ثم فرجت الصخرة وخرجوا يمشون كلٌ بعمله، فبعض الأعمال، أو عمل من الأعمال الثلاثة الذي كان سبباً في انفراج الصخرة هو العفة، عندما يكون الإنسان في موطن يستطيع أن يفعل المعصية ولا يؤاخذه أحد ثم يعف ويترك المعصية.
فالعوذ بالله هو كلمة السر، المفتاح، عندما تقترب منك المعصية وتشعر أنها قد أحاطت بك فاستعذ بالله، ليس باللفظ فقط أعوذ بالله وإنما بالقلب وبالفؤاد وبالجوارح وبكل كيانك اتجه إلى الله قل: يا رب أعوذ بك، أنت يا رب احمني هذا سر التوكل على الله، سر الاحتماء بالله عزَّ وجلّ، فقال هنا: (مَعَاذَ اللَّهِ).

الله تعالى هو الذي أحسن مثوانا
المثوى هو مكان الإقامة
(إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) (إِنَّهُ) الهاء يُسميها اللغويون ضمير الشأن، يعني إن الشأن العظيم الذي أريد أن أتكلم عليه أن (رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) هذا ضمير الشأن للدلالة على شيء عظيم (إِنَّهُ) ما هو؟ ما هذا الشأن العظيم؟ (رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ)، قال بعض المفسرين: إنه يقول: (إِنَّهُ رَبِّي) أي عزيز مصر، لأن عزيز مصر قبل قليل الذي اشتراه من مصر، نحن لا نعلم حتى الآن أنه عزيز مصر، بسياق القصة لا نعلم لكن: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) فلما جاءت المعصية قال: (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) فقالوا: هو عزيز مصر، يعني يوسف عليه السلام يقول: (مَعَاذَ اللَّهِ) إذاً الهدف الأول كان هو تقوى الله والعوذ بالله والالتجاء إلى الله وليس حتى لا يسيء إلى مولاه لكن أضاف سبباً آخر وهو أن ربه أي سيده قد أحسن مثواه، لكني أقول والله أعلم كما قال بعض المفسرين: وإن كان الأغلب تقرأ (إِنَّهُ رَبِّي) بمعنى أنه عزيز مصر، لكن الصحيح أن نقول: (إِنَّهُ رَبِّي) الله تعالى (أَحْسَنَ مَثْوَايَ) أكرمني، فيوسف عليه السلام لن ينظر إلى السبب وإنما سينظر إلى مسبب الأسباب، صحيح أن عزيز مصر له يدٌ عليه ومنةٌ عليه يوم قال (لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) لكن من الذي أكرم مثواه حقاً هل هو عزيز مصر أم خالق عزيز مصر؟ وصحيحٌ أن يوسف عليه السلام لا يمكن أن يخون عزيز مصر لكنه في هذه اللحظة عندما التجأ إلى الله تعالى لن يتحدث عن ربٍ إلا عن ربه جلَّ جلاله الذي أكرمه ونجاه من الجب ومن كيد إخوته وجعله في هذا القصر وعاش تلك العيشة فهو توجه إلى ربه جلَّ جلاله، فالصحيح ألا نُؤَوِل ونقول: (إِنَّهُ رَبِّي) عزيز مصر وإنما نقول: ربي هو الربّ جلَّ جلاله الذي رباه وأكرمه ونشَّأه وحماه من كيد إخوته وأوصله إلى القصر هو الخالق الرب جلَّ جلاله فقال: (إِنَّهُ رَبِّي) يقصد إنه الله (أَحْسَنَ مَثْوَايَ) فالله تعالى هو الذي أحسن مثوانا وأحسن إقامتنا وأكرم مثوانا وإقامتنا والمثوى هو مكان الإقامة.

الفرق بين النجاح والفلاح
الفلاح هو تحقيق الإنسان للهدف من وجوده
(إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الفلاح شيء والنجاح شيء آخر، قد تقول: نجحت في الامتحان فحُزت ستين بالمئة فنجحت، هذا نجاح، وقد تقول: نجحت في هذا البيت فاشتريته بثمنٍ معتدل وبمكانٍ جيد، هذا نجاح، هذه نجاحات، لكن الفلاح لا يقال إلا عندما يحقق الإنسان مقصده في الحياة، فالله تعالى في القرآن لا يتحدث عن النجاح، بل يتحدث عن الفلاح، فإذا نجح الإنسان في جمع المال ونجح في شراء البيت ونجح في الجامعة ثم استحق النار فهل أفلح؟ لم يفلح

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
(سورة المؤمنون: الآية 1)

الفلاح ليس إلا للمؤمن، فالفلاح أعمّ وأعمق وأوسع أثراً وأطول أمداً من النجاح، النجاحات في الدنيا كثيرة ومحدودة وزائلة أما الفلاح فعميق الأثر طويل الأمد متعلقٌ بآخرتك التي تسعَدُ بها ولو فقدت كل شيء وتشقى إن فقدتها ولو ملكت كل شيء، هذا الفلاح، فقال: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها لسخط الله وعقوبة الله، فلما يقع الإنسان في المعصية فهو ظالم، وأول ما ظلم ظلم نفسه لأنه حرمها من لذة المناجاة وحرمها من القرب من الله وحرمها من الجنة عندما أوقع نفسه في المعصية، وظن أن هذه المعصية تُسعِدُه وهي في الحقيقة تشقيه وأي ظلمٍ أعظم من هذا، فالظلم أن تضع الشيء في غير موضعه، فأنت تظلم حينما تضع شيئاً في غير موضعه، فلو وضعت إنساناً ليس مختصاً في الحاسوب مديراً لمؤسسة مهمتها الحواسيب والشبكات فأنت ظالم لأن هذا ليس موقعه يجب أن تضعه في موقعه، الظلم أن تضع الشيء في غير موضعه، فعندما يُخلقُ الإنسان للجنة فيعرض نفسه لسخط الله وللنار فقد ظلم نفسه، لأنه وضعها في غير الموضع الذي خُلقت له (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) إذاً الظالم قد ينجح لكنه لن يفلح، يمكن أن ترى نجاحاتٍ للظالمين في الأرض، لظالمي غيرهم ولظالمي أنفسهم، قد تجد له نجاحات، تقول لي: ظالم وواقع بالمعاصي والآثام كل يوم والعياذ بالله في مكان للهو لا يرضي الله عزَّ وجلّ وكل يوم يفعل الموبقات لكنه اشترى بيتاً جميلاً وسيارةً وعلاقاته جيدة والناس تحترمه، هذه نجاحات لكنه لن يفلح، الفلاح للمؤمن فقط، (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)، (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).

معنى هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا
الآن:

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ
(سورة يوسف: الآية 24)

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ) هذه الآية مما كثر به الكلام وكثرت حوله التفاسير، وأنا لا أجد مبرراً لكثرة الكلام فيها، وأعجب كثيراً ممن يحار في تفسيرها، وأعجب أكثر من الأقوال التي قيلت فيها، وأرى أنها واضحةٌ وضوح الشمس في رابعة النهار لمن كان يدرك فقط شيئاً يسيراً من اللغة العربية، سأفسرها ثم آتي إلى ما قيل حتى ننقده لكن التفسير الواضح جداً (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) نقطة انتهى، امرأة العزيز هَمَّتْ بيوسف، ما معنى (هَمَّتْ بِهِ)؟ أرادته، الهم فوق الإرادة ودون العزم، الإرادة قد تكون خاطراً في النفس، يريد شيئاً، العزم قصدٌ إلى الشيء، عزمٌ عليه، الهم بينهما، وفي الحديث الشريف:

{ مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً }

(متفق عليه)

الهمّ فوق الإرادة ودون العزم
(هَمَّ بِهَا) يعني لم تخطر في باله فقط بل بدأ بالحراك نحوها ثم خاف الله فامتنع عنها كُتِبَتْ له حَسَنَة، فالهمّ فوق الإرادة ودون العزم، امرأة العزيز (هَمَّتْ بِهِ) هي لم تقع معه في المعصية لأنه رفض قال: (مَعَاذَ اللَّهِ) يوسف موقفه واضح من البداية لم يتردد، يوسف عليه السلام نبي لم يقع منه أي تردد في المسألة، لم يقل سأفعل أو لا أفعل؟ فوراً (قَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الأمور واضحة جداً، لكن هي (هَمَّتْ بِهِ) هَمَّتْ بفعل المعصية معه لكنها لم تفعلها لأنه امتنع، هنا توقفنا (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ).
الآن (وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ) يعني لولا أن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ لهمَّ بها، لكنه رأى برهان ربه فلم يهمَّ بها، هذا التفسير باختصار (وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ)، لقد ساءت حالة المريض لولا أن جاء الطبيب، لولا : حرف امتناعٍ لوجود، امتنع سوء حالة المريض بسبب قدوم الطبيب، وامتنع همّ يوسف بامرأة العزيز بسبب رؤيته برهان ربه، فهو لم يهمَّ بها، يعني (لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ) لهَمَّ بِهَا، فقط، لكنه (رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ) فلم يهمَّ بِهَا، نقطة انتهى.

السبب الوحيد الذي منع يوسف من الهمَ بامرأة العزيز
الخوف من الله يمنعك من المعصية
الآن قد تسألني وتقول لي: لماذا البيان الإلهي لم يحسم ؟ ويقول: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ولم يهمّ بها لأنه رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ، وانحسم الموضوع ولم يعد المفسرون يأخذون مناحٍ شتى في الموضوع، لأن الباري جلَّ جلاله يريد أن يقول لك: إن عدم همّهِ بها بسبب الخوف من الله لا لشيءٍ آخر تتوهمه أنت في نفسك، فلو قال لك: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) ولم يهمَّ بها لقلت في نفسك لماذا لم يهمَّ بها؟ هل هو لا يملك شهوةً؟ هل عنده مشكلة عضوية منعته من ذلك؟ أم لم يفعل ذلك حياءً منها لأنه عبدٌ وهي سيدته؟ والعبد غالباً لا يتطلع أصلاً إلى سيدته، ومن القصص المكررة أن يكون لدى عائلة ثرية خادم، وكل الناس على العين والرأس طبعاً، فالخادم عنده في البيت سيدته أو ربة المنزل وبناتها لكنه يتحين الفرص ليرى الخادمة في بيت الجيران لأنه يتطلع إلى شيءِ يشبهه ولا يتطلع إلى ما لا يشبهه، هذه حال الدنيا.
فلو قال الله تعالى: هَمَّتْ بِهِ ولم يهمَّ بها لسأل سائلٌ لماذا لم يهمَّ بها؟ وتوهم متوهمٌ أسباباً وأسباباً لكن المولى أراد أن يقول لك: إن يوسف مثلك شابٌ عنده شهوةٌ يحب النساء كما تحب أنت النساء ولا يمنعه شيءٌ من سيدته فهي التي راودته عن نفسه وهي التي هيأت الأسباب لذلك ليس هناك أي سبب آخر إلا أنه (رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ) فقال لك: (وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ) حتى تدرك لماذا امتنع يوسف عن الهمِّ بها وهو رؤيته لبرهان ربه، الآن إذا جئت إلى التفاسير تجد هذا الذي قلته لك وإن كان قليلاً، الذي تجده أكثر أنه يعني بدأ يميل إليها لكنه (رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ) وفي الإسرائيليات أنه نظر إلى السقف فوجد صورة أبيه يعقوب ينظر إليه، والله ليس نبياً لو أي شخص فينا أراد أن يقع في معصية ورأى والده أمامه لأحجم، هذه من الإسرائيليات، أو قيل نسأل الله العافية: وصل إلى الهمّ بها وجلس ليفعل فعلته والعياذ بالله ثم رأى آيات من القرآن الكريم تظهر أمامه، هذا هو البرهان.

النظر إلى المآلات وعدم التعلق بالأحداث الآنية
لماذا نجعل القرآن طلاسم؟ ما البرهان؟ (لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ) البرهان: هو الحجة، هو الدليل، قال تعالى:

قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ
(سورة البقرة: الآية 111)

أي حجتكم على ما تقولون، هاتوا دليلكم، وقال صلى الله عليه وسلم:

{ الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ }

(أخرجه مسلم)

لا تتعلق باللحظة بل انظر لمآلاتها
أي هي دليلٌ يقدمه العبد لمولاه على أنه يحبه، أنت عندما تدفع صدقةً هذا دليلٌ على محبتك للخالق فتتخلى عن بعض مالك إرضاءً للمولى، فهي برهان، (لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ) ما هو (بُرْهَانَ رَبِّهِ)؟ هو ما آتاه الله تعالى من هذا الذي ذكره الله تعالى قبل قليل (آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً) هذا (بُرْهَانَ رَبِّهِ)، (بُرْهَانَ رَبِّهِ) أنه يرى المآلات ولا يتعلق بالأحداث الآنية المباشرة وإنما ينظر إلى مآلاتها، ما الذي يوقع الناس في الزنا؟ أنهم يتعلقون باللحظة التي هم فيها، اللحظة لحظة نشوة وقضاء شهوة، وقضاء وطر، لكن قلةٌ منهم من يتفكرون في مآلات ذلك وما يخلفه ذلك من سوءٍ على نفسه وعلى أهل بيته وعلى والديه وإن كان متزوجاً على مستقبل أولاده ثم على آخرته وهو الأشد والعذاب الأبقى والعياذ بالله، فهو لا ينظر إلى المآلات، من يتعاطى المخدرات هل نظر إلى المآلات؟ أبداً، نظر إلى اللحظة الآنية فعاشها ثم ندم، من يسرق لو خطر في باله لثانية أنه سيلقى القبض عليه وسيودع في السجن عشرين سنة هل كان أقدم على السرقة؟ هو لم يكن ينظر إلى المآلات، من يقتل نفساً ظلماً وعدواناً يدخل إلى البيت ويقتل إنساناً هل نظر إلى المآل وعلم أن القاتل سيخلد في نار جهنم أو علم على الأقل أنه في الدنيا سيوجد آثرٌ لجريمته وسيقبض عليه وستعلَّقُ مشنقته أمام الناس؟ لم ينظر إلى المآلات.
فبرهان الله تعالى هو حجته ودليله على أن هذه المعصية التي ستقع فيها مآلها إلى الشر والسوء مهما بدا لك ظاهرها منمقاً ومزخرفاً وجميلاً وحسناً، هذا برهان الله فقط لا شيء آخر، لا نحتاج إلى طلاسم في فهم القرآن، فما برهان ربه؟ نظر إلى السقف فوجد صورة أبيه من أين جئنا بهذا الكلام!! قرآن واضح لو كان شيءٌ من ذلك لذكره، قال: (لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ) ولو كان هذا البرهان هو شيءٌ من هذا لفسره النبي صلى الله عليه وسلم عندما أجمله القرآن، لكن القرآن الكريم يتحدث بلسانٍ عربيٍ مبين من الآية الأولى في سورة يوسف قال تعالى:

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
(سورة يوسف: الآية 1)

انظر في العربية ما معنى البرهان؟ الحجة والدليل، فهو وجد حجته على نفسه بأن هذا الذي سيؤديه أو سيفعله سيؤدي به إلى المهالك فأعرض عنه، هذا برهان الله، (لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ).

السوء هو الهمُّ، والفحشاء هي الوقوع بالفعل
(كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) لنُبعِدَ عنه (السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) ما السوءُ وما الفحشاءُ؟ قالوا: السوء هو الهمُّ، والفحشاء هو الوقوع بالفعل، فالله تعالى صرف عنه الأمرين معاً، الفحشاء شيء فاحش، المعصية، الزنا يسمى فاحشة لأنه شيء فاحش، فالفحشاء هي: المعصية وهي الوقوع في الزنا نفسه، ما السوء؟ قال: السوء هو الهمُّ بالمعصية الذي كاد يحصل لولا أن يوسف (رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ) فعصمه الله من هذا الهمّ، فهو لا اقترف السوء بهمّهِ بالمعصية ولا اقترف الفحشاء بوقوعه في المعصية فعصمه الله من الهمِّ ومن الوقوعِ معاً.

العباد والعبيد
كلُّ الناس في الأرض عبيد لله
(إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ): (إِنَّهُ) أي يوسف عليه السلام، (مِنْ عِبَادِنَا): العباد جمع عبد، والعبد يُجمع على عباد ويُجمع على عبيد، وفي الأعم الغالب ولا أقول دائماً في الأعم الغالب تُجمع على عبيد للقهر، وتُجمع على عباد للإحسان، فنحن عباد إحسان وعبيد قهر، كلُّ الناس في الأرض عبيد لله لكن عبيد قهر، من لا يحتاج الله في شُربة ماءٍ يشربها؟ إذاً هو عبد، ولو كان يقول: لا يوجد إله لكنه عبدٌ لله، لأنه يحتاجه في كل شيء فهو لا يخرج عن ملك الله فهو عبدٌ له جلَّ جلاله، لكن نحن إن شاء الله لسنا عبيد قهر، نحن عباد إحسان، اختيار، عبدناه حباً، عبدناه بإحسان، ولم نعبده قهراً فقط، فلا نريد عبودية القهر، وإنما نريد عبودية الإحسان.
(إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ): هناك مُخلِص وهناك مُخلَص، المُخلِص هو الذي يقوم بالفعل خالصاً لوجه الله تعالى الكريم فهو مُخلِصٌ في عمله، أما المُخلَصُ فهو من أخلصه الله لنفسه

وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي
(سورة طه: الآية 41)

فجعله الله تعالى خالصاً له، وهذا لا يكون إلا بعد أن تكون مُخلِصاً فلن تكون مُخلَصاً إلا بعد أن تكون مُخلِصاً، فإذا كنت مُخلِصاً لله في كل عملٍ من أعمالك أخلصك الله لنفسه فصِرت مخلَصاً لله، (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ).

تقييم الأعمال يكون بالنية

وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(سورة يوسف: الآية 25)

الأعمال تُقيَّم بنيتها لا بظاهرها
(وَاسْتَبَقَا الْبَابَ): يوسف وامرأة العزيز، ما زال المشهد مؤلفاً من شخصين، مشهد القصة شخصان، (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ): أي تسابقا للوصول إلى الباب، الظاهر واحد، الفعل واحد، لو كان القصر من قصور اليوم لوجِدَ هناك كاميرات، لو افترضنا الكاميرات تعمل ونظرت في المصورة ورأيتهما يستبقان الباب فالفعل واحد لكن النية مختلفة، فالأعمال تُقيَّم بنيتها لا بظاهرها، قد نشترك بالأفعال ولكننا نختلف بالنوايا، هي كانت تريد باستباق الباب أن تهرب إلى المعصية وهو كان يريد أن يهرب من المعصية فاشتركا في الفعل واختلافا في النية، (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) هو يهرب من المعصية وهي تهرب إلى المعصية، وشتان بينهما عند الله.
(وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ) أمسكت قميصه بعنف، قَدَّتْه: أي جذبته أو شدته، أي بابٍ هذا؟ هي أبواب (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) لعله آخر باب لذلك كانت حريصةً كل الحرص على ألا يفلت منها، (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ) جذبته بعنف حتى شقَّت قميصه أو ظهر أثر يديها عليه من شدة جذبها له حتى لا يُفلت منها، (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ) قلنا قميص يوسف ورد عِدَّة مرَّات، هذه المرَّة الثانية، في المرَّة الأولى :

وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ
(سورة يوسف: الآية 18)


ظهور عزيز مصر
الآن قميصه سيصبح دليل براءته هنا، هنا سيكون دليل براءته لأن الله عزَّ وجلّ يهيئ الأسباب لكشف الجريمة ولتبرئة البريء ولإيقاع المتهم مهما أحكم جريمته، فهي لم تكن تدرك أنها بفعلتها هذه تثبتُ دليل التهمة على نفسها لما (قَدَّتْ قَمِيصَهُ)، (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ): (مِن دُبُرٍ) أي من الخلف، (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) هنا المفاجأة، كان عندنا عنصران في القصة امرأة العزيز وفتاها، الآن دخل عنصر جديد (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) بمفاجأة (أَلْفَيَا) أي وجدا، ألفاه: وجده، (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا): (سَيِّدَهَا): أي زوجها، (لَدَى الْبَابِ): عند الباب، هو يريد أن يفتح الباب وهي تمسك به دخل سيدها فتح الباب ودخل.
إصرار امرأة العزيز على المعصية
هنا امرأة العزيز عندها سرعة مناورة، مباشرةً ابتدأت الكلام، الآن المشهد مريب، فقبل أن يسأل عن شيء بادرته بالكلام لتزيل الوساوس من نفسه في زعمها (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) أوقعت به التهمة (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ) ثم قررت العقوبة (إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) هي لما قالت: (أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) برأته وبرأت نفسها فهي لم تقل: همَّ بهم سوءاً ولا عزم ولا قصد ولا فعل، وإنما قالت: أراد، فهي تُبرئ نفسها قبل أن تُبرئ يوسف لأنها لا تريد أن تقول: إنها قد فعلت المعصية أو هَمَّتْ بها فقالت: (مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) وهي مازالت حتى الآن تحب يوسف وتريد أن توقعه في المعصية، فما قررت له عقوبة القتل أو النفي حتى يبقى في مملكتها فقالت: (إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) إما أن يُجلد أو أن يسجن، لكن ما قررت له قتلاً مع أنه قد يكون من المناسب أو من المتبادر إلى الذهن أو من الطبيعي أن مثل هذا العبد الذي يقوم بهذه المعصية في قصر سيده أن يقتل فوراً لكن قال: (إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ما زالت تضمر في نفسها حباً له وشغفاً به، هذه المعصية عندما تتعلق بالقلب والعياذ بالله، قالت: (إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

براءة سيدنا يوسف
الآن يوسف عليه السلام أراد أن يبرئ نفسه

قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ۚ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
(سورة يوسف: الآية 26)

(قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي) هي التي أرادتني وخادعتني وأرادت الإيقاع بي، الآن دخل إلى المشهد القصصي عنصر رابع (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا) عندما يكون الشاهد من أهل المتهَم يكون ذلك أدعى لقبول شهادته لأنه حريٌ به إن كان من أهلها أن يُداهنها وأن يُداريها وأن يحاول إبعاد التهمة عنها لكنه شهد ضدها هنا فكانت شهادته أبلغ لأنه من أهلها (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا).
دليل براءة سيدنا يوسف
(إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) لأن قميصه إن كان قد (قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ) فهو من مدافعتها له حتى لا يفعل فعلته فهي كانت تردُّه عنها فهي صادقة، وبدأ بها لأنها السيدة ولأنه من أهلها فبدأ بدليل البراءة وليس بدليل الاتهام (فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) هو حتى الآن لم يرَ القميص هو استشير ولما يرَ، وهذا أعظم في الشهادة، هو الآن يحدد المقياس والميزان الذي ستقوم به شهادته قبل أن يرى الدليل بعد قليل (فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ) هو لم يرَ قميصه بعد، (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا) ما الشهادة؟ قال: (إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)

وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ
(سورة يوسف: الآية 27)

(وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ) جُذب من الخلف، (فَكَذَبَتْ) امرأة العزيز، (وَهُوَ) يوسف عليه السلام (مِنَ الصَّادِقِينَ)، الآن:

فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ
(سورة يوسف: الآية 28)

(فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ) القائل هو الشاهد أو زوجها، أحدهما، والله أعلم المتبادر إلى الذهن أنه الشاهد (فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ) الشاهد أو عزيز مصر، أحدهما.

حقيقة اتهام المرأة بالكيد في القرآن الكريم
(فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ) الشاهد أو عزيز مصر (قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ) الكيد يفعله الضعيف، لأن الكيد يعني أن تتوصل إلى ما تريد بالاحتيال، القوي لا يكيد، القوي يفعل ما يريد فوراً، من الذي يكيد؟ الضعيف، عندما قال الله تعالى:

إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا
(سورة الطارق: الآية 15-16)

الله تعالى حاشاه أن يكيد، فما معنى (وَأَكِيدُ كَيْدًا)؟ هذا من المشاكلة.

فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ
(سورة البقرة: الآية 194)

وهل رد العدوان عدوان؟ لا، لكن من باب المشاكلة (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ).
(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا) لضعفهم يحتالون ليصلوا إلى مآربهم (وَأَكِيدُ كَيْدًا) أي أُجازيهم على كيدهم وهذا من باب المشاكلة وهو معروفٌ في لغة العرب.
(إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ): المرأة في الغالب ضعيفة فتكيد لتصل إلى ما تريد لأنها ضعيفة (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ): هنا أريد أن أعقب على شيء مهم جداً البعض يذكر في وسائل التواصل من باب الحزورة، يقول: شيءٌ خلقه الله واستعظمه ما هو؟ والجواب: كيد النساء، وأحدهم يقول: انظروا إلى هذه المفارقة في كيد الشيطان قال تعالى:

إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا
(سورة النساء: الآية 76)

وفي كيد النساء قال:

إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ
(سورة يوسف: الآية 28)

الرجل يكيد والمرأة تكيد
فكيد النساء أعظم من كيد الشيطان، وبذلك يريدون أن يثيروا النساء علينا أكثر مما هُنَّ ثائرات! والحقيقة أنه لا هذا ولا ذاك صحيح، الله تعالى لم يستعظم كيد النساء، الذي استعظم كيد النساء هو عزيز مصر، وهو يتحدث عن واقعة عين وهو فعل هذه المرأة التي فعلت، هذا قوله، الله تعالى ما استعظم كيد النساء ولا يستعظم كيداً جلَّ جلاله، لاَ تَقَوِّلُواْ الله تعالى ما لم يقل، المرأة مثلها مثل الرجل، الرجل يكيد والمرأة تكيد، وكل إنسان يقع في حالة ضعف يحتال ليهرب من الواقع الذي هو فيه، وقد يكون كيد المرأة أحياناً أعظم؛ لأنها تشعر بالضعف فتكيد، وهذا موجود في واقعنا، لكن أن نقول: إن الله عزَّ وجلّ يستعظم كيد النساء فهذا ليس صحيحاً! وأن نقول: إن كيد الشيطان ضعيف وإن كيد النساء عظيم ونقارن بينهما ليس ذاك صحيحاً في هذه المقارنة، عزيز مصر أو الشاهد قال: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) هو قال ذلك، والله تعالى أثبت قوله في القرآن الكريم: وكيد النساء كما قلت كثيراً ما يكون عظيماً وأحياناً يفوقه كيد الرجال، (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ).

التستر على خيانة امرأة العزيز وعدم معاقبتها
ونختم بهذا المشهد:

يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ
(سورة يوسف: الآية 29)

(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا) عندنا في اللغة العامية ما يسمى لفلفة الموضوع، غالباً في القصور وفي الأمكنة التي فيها كبار القدر ذو الشأن في المجتمع في عرف الناس، غالباً ما يُسعى دائماً إلى لفلفة الأمور ولا يهمُّ الذي حصل بقدر ما يهمُّ الذي سيحصل بعد ذلك من انتشار، فيخاف الناس في هذه الأماكن على سمعتهم أكثر مما يخافون على دينهم وعلى نسائهم وعلى أعراضهم! الآن اكتشف أن زوجته التي تعيش معه تخونه، الخيانة لله أولاً وأخيراً لكنها الآن تخونه (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا) (يُوسُفُ) أي يا يُوسُفُ، أداة نداء محذوفة، (يُوسُفُ) أي يا يُوسُفُ (أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا) الموضوع اكتمه ولا تتكلم به واتركه أبداً.
نداء الفطرة عند عزيز مصر
(وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) نقطة انتهى، أنت لا تتخيل أن يُلفلف الموضوع بهذا الشكل، تتخيل أنه سيطلقها لكن ليس من المعقول أن عزيز مصر سيطلق زوجته هذا شيء صعب جداً وهذا يحصل في كل زمانٍ ومكان إلى يومنا هذا، تُلفلف الموضوعات التي فيها فضائح لأن السمعة أولى من الدين ومن العرض ومن كل شيء في زعمهم وفي نظرهم، ولماذا قال: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ) هو يعلم أنها مخطئة، في ذلك العصر عزيز مصر ليس مؤمناً ولا مسلماً، هذا نداء الفطرة وبقايا الدين، هو قال لها: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ) لأنه يعلم أن ما جاءت به هو ذنب فطلب منها الاستغفار منه، قال: (إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) وقعت في خطأ وانتهى الأمر بهذا الشكل وما فعل معها شيئاً آخر، والدليل الآيات التي ستأتي وستبين أنها ازدادت إصراراً على رغبتها في الوقوع في المعصية بدليل أنها لم تعاقب في القصر واكتفى زوجها بالقول لها (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ).
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ