حادثة مكر النسوة بامرأة العزيز ومكرها بهن
حادثة مكر النسوة بامرأة العزيز ومكرها بهن
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيِمِ، الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، وبعد مع اللقاء السابع من لقاءات سورة يوسف، ومع الآية الثلاثين من السورة، وهي قوله تعالى: |
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(سورة يوسف: الآية 30)
ما زلنا في الامتحان الثاني، يوسف عليه السلام كانت له امتحانات؛ امتُحن بالشدة ثلاثة امتحانات، ثم امتُحن بالرخاء امتحانات أخرى. |
أنواع امتحانات الإنسان
الإنسان يُمتحن بالشدة ويُمتحن بالرخاء، يُمتحن بالشر ويُمتحن بالخير: |
وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ(سورة الأنبياء: الآية 35)
الامتحان سنة الحياة
|
كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ(سورة العلق: الآية 6-7)
هو يشعر باِسْتِغْنَائِهِ عن الله في زعمه، رغم أن الإنسان في كل لمحةٍ، وفي كل طرفة عينٍ، مفتقرٌ إلى الله عزَّ وجلّ في أبسط شيء، في شربة ماءٍ يشربها، أو في شربة ماءٍ يُخرجها، لكن الإنسان ينسى (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) يظن نفسه مستغنياً عن الله، لكنه في قبضة الله عزَّ وجلّ، فالامتحانات متنوعة. |
امتحانات الأنبياء كثيرة
يوسف عليه السلام عنده امتحاناتٌ في الرخاء، وامتحاناتٌ في الشدة، والأنبياء غالباً ما يمتحنون بكثيرٍ من الامتحانات بخلاف عموم البشر، لأنهم أسوة، والأسوة لا تتحقق إلا عندما يكون للنبي مواقفُ متعددةٌ في الحياة، بحيث يجد الفقيرُ في سيرته ما يتأسى به، ويجد الغنيُّ في سيرته ما يتأسى به، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان أعظم أسوة: |
لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ(سورة الأحزاب: الآية 21)
امتحانات الإنسان محدودة
|
{ عَنْ سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ }
(رواه الترمذي)
(أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبِيَاء، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ)، لأنهم قدوة، والقدوة يبتلى بكل أنواع الابتلاءات. |
امتحانات سيدنا يوسف
يوسف عليه السلام مرَّ بامتحاناتٍ ثلاث قبل أن يُمكَّن في الأرض، ويمتحن بالتمكين، قبل أن يُمتحن بالتمكين مرَّ بامتحاناتٍ ثلاث، ما هي؟ |
الامتحان الأول: كان امتحان الجب، يوم ألقاهُ إخوته في الجب، وقد مررنا على هذا الامتحان، وكان امتحاناً قاسياً، وقد قالوا: |
وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـدِ{ طَرَفة بن العبد }
عندما يكون من يظلمك قريباً منك، أخٌ لك، فظلمه أشد وقعاً على نفسك من ظلم الغريب، هذا امتحان ابتليَ به، وهو امتحان الجب، وكانت مادته أن أقرب الناس إليه قد أراد أن يتخلص منه. |
الامتحان الثاني: والذي نَحْنُ بِصَدَدِهِ، والذي تحدثنا عنه، وهو امتحان العفة والطهارة: |
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ(سورة يوسف: الآية 23)
ثم سيُمتحن في السجن، امتحان الجب، وامتحان القصر، وامتحان السجن، وفي جميع الأحوال نجح في الامتحان، فمُكِّن له في الأرض، وخرج من السجن إلى القصر بامتحانٍ جديد، وهو امتحان التمكين، فكان في العسر وفي اليسر، وفي الفرج وفي الشدة، ناجحاً في الامتحان، الامتحان الثاني هو امتحان القصر، كيف انتهى امتحان القصر؟ بعد أن جاء الشهود كما أسلفنا، وتبين من خلال الشهادة أن قميصه قد (قُدَّ مِن دُبُرٍ)، فهي التي كانت تُرَاوِدهُ عَنْ نَفْسِهِ، وهي التي كانت تمنعه من الخروج، وهو الذي كان يفرُّ منها هارباً، فتبين ذلك. |
خروج الحديث من القصر
الآن بدأ هذا الحديث يُدار في المدينة، كيف خرج الحديث من القصر؟ لا نعلم، لم يُخبرنا القرآن كيف خرج، لكن ظاهر الأمر أن الذين علموا هم أربعة؛ عزيز مصر، وزوجته التي راودت، ويوسف، والشاهد الذي من أهلها، لعله الشاهد، لأنها هي ليست لها مصلحةٌ بخروج الخبر، زوجها ليس له مصلحةٌ بخروج الخبر، فكما قلنا: إن أصحاب القصور لا يخافون من الفعل بحد ذاته غالباً، وإنما يخافون من انتشار الفضيحة، لذلك طَوَوْا الموضوع، وقال: |
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ(سورة يوسف: الآية 29)
لكن الأمر لم ينتهِ هنا، لعل هذا الشاهد كلَّم امرأته فرضاً، والسر إذا أعطيَ للمرأة غالباً ما ينتشر، أخبرها بما حصل في القصر، فخرج السرُّ وشاع، طبعاً نحن لا نجزم بهذا، لكن لعله كذلك كما قال بعض المفسرين، المهم أن الخبر بدأ ينتشر، وبدأت نسوة المدينة يتناقلن خبر امرأة العزيز مع فتاها يوسف. |
انتشار الخبر في المدينة ومن قام بنشره
|
(وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ):(الْمَدِينَةِ) كما قلنا توجد بها الوزارة، هناك قرية وهناك مدينة، (الْمَدِينَةِ) هنا بال التعريف للإشارة إلى المدينة المعهودة في ذاك الزمن، مدينة في مصر. |
بداية الحديث عن العزيز في القصة
(امْرَأَتُ الْعَزِيزِ): الآن أول مرَّة نعرف أين يوسف، نحن حتى الآن وفق سياق القصة لا نعرف أين يوسف، يوسف في مكانٍ ما: |
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ(سورة يوسف: الآية 21)
من الذي اشتراه من مصر؟ ومن امرأته؟ لا نعرف، الآن أول إشارة، وهذا من باب التشويق في القصة، الآن مع انتشار الفضيحة ينشُر لك اسم القصر، ومن هو في هذا القصر. |
ما من إنسانٍ إلا ويُغلَب
|
الحب يكون في طاعة الله عز وجل
(وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ): وقد بينا معنى المراودة من المفاعلة، وهي أنها تطلب منه بلطفٍ أن يواقعها، أو أن يقع معها في الفاحشة، والعياذ بالله. |
الحب يمر بمراحل
|
{ لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي، وَقَدِ اتَّخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا }
(صحيح مسلم)
الخليل هو الله. |
مرَّ رجلٌ على رجلٍ قد جلس بجوار قبرٍ، وهو يبكي ويبكي، فقال له: ما يبكيك؟ قال: مات حبيبي، فقال له: لو أحببت حبيباً لا يموت؟ فإذا أحب الإنسان حبيباً لا يموت، فلا يحتاج إلى البكاء، وهذا لا يعني أن المؤمن لا يبكي على فقد الأحباب، فكلنا كذلك، وهذا رسول الله سيد الخلق بكى على فراق ابنه وقال: |
{ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ }
(رواه البخاري)
وما كان من القلب والعين فمن الله، رحمةٌ من الله، وما كان من اليد كمن يضرب نفسه، أو اللسان من يعترض ويَتسخَّط، فمن الشيطان، عند الحزن ما يكون من اليد واللسان فهو من الشيطان، وما يكون من حزن القلب ودمع العين فهو من الرحمن، هذا هو المقياس، فالإنسان يحزن لفقد الأحباب ويُحب، وقد يُبالغ أحياناً في حبه لوالده، أو لوالدته، أو لزوجه، أو لأولاده، ولكنه لا يتعلَّق إلا بالله عزَّ وجلّ، وهذا يعقوب خير درسٍ لنا؛ لما تعلق بيوسف عليه السلام أذهب الله يوسف، فتعلَّق بأخيه، فأذهبه الله أيضاً، لا تُعلِّق القلب إلا بالله، احزن لكن ضمن الحدود، هكذا يعلمنا القرآن الكريم. |
الضلال المبين والضلال البعيد
هنا قال: (تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) لم يقل: إنا لنظنُّ أنها، قال: (إِنَّا لَنَرَاهَا) فالرؤيا دليل، وكأنهم يشاهدون ضلالها بأم أعينهم، للمبالغة في ضلالها. |
الضَلَال: هو البعد عن الطريق المستقيم. |
الضلال هو البعد عن الطريق المستقيم
|
الغاية الحقيقة للنسوة من الحديث عن القصة
هل هؤلاء النسوة فعلاً كُنَّ غيورات عليها؟ الجواب جاء في الآية التي بعدها كشفهن المولى جلَّ جلاله: |
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ(سورة يوسف: الآية 31)
المكر في الأصل هو ستر شيء خلف شيء
|
(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) وهي كانت أمكر منهنَّ، وأقدر على إيقاف هذا المكر. |
(أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ): أي أرسلت في طلبهنَّ، وهنا يتضح أنهنَّ النسوة القريبات من القصر، صديقات وصويحبات امرأة العزيز، ولسن نساءً غريبات، وإلا كيف ترسل في طلبهن؟ |
أحكام تتعلق بالاتكاء
(أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً): (أَعْتَدَتْ) أي هيأت، (مُتَّكَأً) هو ما يُتَّكَأُ عليه من الوسائد ونحوها، شيء وثير، وفراش وثير، ومُتَّكَأ وثير ليجلسنَ عليه، ويبدو أن حياة القصور كانت كذلك، في كل عصر هناك طريقة لإظهار الفخامة، فوضعت لهن المُتَّكَأ من أجل أن يجلسن عليه، (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) والشيء بالشيء يذكر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري قَالَ: |
{ عن أَبي جُحَيْفَةَ وهبِ بنِ عبد اللَّه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: إِنِّي لَا آكُلُ مُتَّكِئًا }
(رواه البخاري)
يُكره للإنسان أن يأكل مُتَّكِئاً
|
{ عَنْ أَبِي هُريْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَلسَ جِبْريْلُ إِلَى النبيِّ صلى الله عليه و سلم فَنَظَر إِلى السَّماءِ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ، فَقَالَ لَهُ جِبْريلُ: هَذا المَلَكُ مَا نَزلَ مُنْذُ خُلِقَ قَبْلَ هَذِهِ السَّاعةِ. فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحمَّدُ! أَرْسَلَنِي إِليْكَ رَبُّكَ؛ أَمَلِكًا أَجْعَلُكَ، أَمْ عَبْدًا رسولاً؟ فَقَالَ لَه جِبْرِيلُ: تَواضعْ لِرَبِّكَ يَا محمَّدُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا بَلْ عَبْدًا رَسُولاً" }
(رواهُ ابنُ حبَّان)
اختار العبودية لم يرد أن يكون ملكاً، اختار عبوديته لله عزَّ وجلّ، فالأكل مُتَّكِئاً يناقض العبودية، لأن فيه من الكبر ما فيه، أحد وجوه الكبر اليوم الذي يُظهره من يقود مركبة فارهة جداً، أن يقودها مُتَّكِئاً هذا أحد أنواع الكبر فالاتكاء أثناء عمل معين، أو في حضرة أحد، أو أثناء الطعام دلالةٌ على الكبر. |
وأيضاً من قوله صلى الله عليه وسلم: (لَا آكُلُ مُتَّكِئًا) يعني لا أضعُ الوسائد والمتكأ تحتي، وأمامي، وعلى يميني، وعلى يساري، لو لم يمِل في جلسته، لأن ذلك يؤدي إلى أن يأكل الطعام الكثير، لكنه كما ورد في بعض الروايات يأكل مُسْتَوْفِزاً يعني جالساً جلسة من يريد أن يُنهي طعامه على عجل، حتى لا يأكل كثيراً، وهذا من القواعد الصحيحة التي تُفيد الإنسان. |
(وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا): إذا رجعت إلى هذا العصر تستدل على أنه كان فيه من الفخامة ما فيه، السكاكين كناية عن وجود نوعٍ من أنواع الحضارة الإنسانية في هذا العصر، بطريقةٍ أو بأخرى والله أعلم، مُتَّكَآت وسكاكين، ولعلها قدمت الفاكهة واللحم فهناك شيءٌ يحتاج إلى تقطيع. |
(وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا): فلما بَدأن باستخدام السكاكين، وهي تمكُر بهنَّ وترد على مكرهن. |
(وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) ليوسف عليه السلام (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) فاجئهنَّ (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) فجأةً بهذا المعنى. |
معنى أَكْبَرْنَهُ
اكتشاف أن الشيء في حقيقته مخالفٌ لوصفه
|
واليوم أحياناً نُحدِّث بعض الإخوة الذين يعيشون في دمشق، وكلنا شوقٌ إلى دمشق، فيقول لك قائلهم: يا أخي دع دمشق جميلةً في ذهنك كما تركتها، ولا تأتِ لترى ما حل بها، دعها في صفائك، في فكرك يوم تركتها، حتى لا ترى اليوم الواقع المأساوي الذي فيها، لذلك كان عند العرب مثلٌ يقول: "أن تَسمعَ بالمُعَيدي خَيرٌ مِن أن تَراه". |
وفي المقابل أحد الأعراب لما سمع عن حلم الأحنف بن قيس قال: فلما رأيته صَغّرَ الخُبرُ الخَبَرَ، الخُبرُ هو المعاينة، خبرته عاينته، صَغّرَ الخُبرُ الخَبَرَ، الخَبَر ظهر صغير جداً أمام المعاينة، فالناس صنفان؛ صنفٌ تسمع عنه ثم تراه فتجده أقل مما وصِف، والعكس صحيح. |
ومن الطُرف التي أرويها أنني مرَّةً كنت مع شيخنا الدكتور راتب النابلسي حفظه الله في نزهة في الساحل السوري، فحدثونا عن نبعٍ في الساحل في أعلى الجبال، نبعٌ عظيم جداً، فحدثْنا الشيخ عنه وأنه جميلٌ جداً، وينبغي أن نزوره، بالفعل النبع في جبالٍ عالية، وقطعنا له مسافات، ليست مسافات طويلة، لكن وعورة الجبال حتى وصلنا إليه، في أعالي جبال كسب، فلما وصلنا إليه فإذا هو كأنك قد فتحت صنبور ماء، وأقل من صنبور، ينزل منه قليلٌ من الماء، هذا هو النبع كله، ليس هناك شيءٌ آخر، فلما رآه الشيخ تكلم بحديثٍ شريفٍ وأنا فهمت مقصوده، تكلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى زيد الخير، فقال له: ما وصِف لي رجل قط فرأيتُه إلا كان دون ما وصف به، إلا أنت يا زيد الخير. |
الجمال جزءٌ يسيرٌ من الرجل
جمال الرجل ليس بصورته فقط
|
(وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ): (حَاشَ لِلَّهِ) أصلها حاشا لله، وحُذفت الألف للتخفيف، وتقال هذه الكلمة لتنزيه الله تعالى، فيقال: (حَاشَ لِلَّهِ)، تنزيهاً لله عزَّ وجلّ عن شيءٍ يصفه به الجاهلون، فيقال: (حَاشَ لِلَّهِ)، وهنا المراد منها التعجب من جمال يوسف. |
الملَك صورة مُتخيلة في الذهن
(وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا) أي ليس يوسفُ بشراً، هذه (مَا) تعمل عمل ليس، (مَا هَٰذَا بَشَرًا) أي ليس هذا بشراً، إذاً ما هذا؟ هو بشر طبعاً، الأنبياء بشرٌ ولولا أنهم بشر لما كانوا سادة البشر، ولكنهم انتصروا على بشريتهم، فكانوا سادة البشر. |
كريم أي لا يشبهه شيء
|
الآن تحصَّل المقصود الذي أرادته امرأة العزيز بمكرها؛ وهو إخضاعهن. |
إذاً (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) لا تعني أنهنَّ قطعن اليد بشكل كامل، ولكن هذا على لغة العرب بمعنى جرحن (أَيْدِيَهُنَّ)، لأنهن أُصِبن بالصدمة والذهول، فلما يذهل الإنسان أول ما يذهل لا يعلم كيف يحرك يديه وهذا يحصل، يحصل أن تكون امرأةٌ تُقطع الخضار أو الفواكه، ثم تشرد في فكرةٍ ما فتتفاجأ وقد جرحت يدها، فهنا (قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أي جرحنها، والدليل لم يقل: فقطعن أو جرحن، قال: (قَطَّعْنَ) دلالة على أن الأمر تكرر من شدة الذهول، (وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ). |
قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ(سورة يوسف: الآية 32)
هنا استغلت الموقف (قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ): (ذَٰا) ليوسف و(كُنَّ) لخطابهن، (فَذَٰلِكُنَّ) أي فهذا يوسف (الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أيتها النسوة (فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي ألحقتُن بي اللوم لأنني شُغِفت به حباً، و(رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ) هذا الذي حصل. |
استمراء المعصية
(وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ) تظهر الآن مكابرة المعصية والجهر بها: |
{ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَيَقُولَ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ }
(صحيح البخاري)
المجاهر والعياذ بالله عندما يجاهر بمعصيته فقد بلغ حد المبالغة في المعصية، واستمراء المعصية، وكأنه لم يعد يجدها شيئاً يستحق اللوم، الإنسان قد يعصي الله عزَّ وجلّ، لكن إذا وصل لمرحلة قال لك: وما الذي فعلته؟! هنا المصيبة، أنا أريد أن أفعل ذلك ماذا تريد مني؟ هذه مصيبةٌ اسمها استمراء المعصية. |
قالت: (وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ): أي بالغ في طلب العصمة، امتنع عني مع المبالغة، يريد أن يعصم نفسه مني، أن يحفظ نفسه من الوقوع معي في الحرام والعياذ بالله، ثم تتابع مكابرةً معاندةً بهيبة امرأة العزيز وهي من هي، وتقول: (وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ) إذاً مازالت مُصرةً على أمره بالوقوع معها في المعصية، وإلا فالسجن يكون له. |
السجن هو حجز حرية الفرد
|
تعامل النبي محمد مع الثلاثة الَّذِينَ خُلِّفُوا
عقوبة السجن في عصر النبي الكريم
|
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ(سورة التوبة: الآية 118)
هذا من أعظم أنواع السجون، ولما حصل التأديب، ونزل الوحي يتوب عليهم، عادوا إلى المجتمع، وعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه درساً في قضية المقاطعة التي تجدي، المقاطعة في الله. |
امتحان القصر فيه صبر اختيار
(لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ): الآن بدأ الدخول في الامتحان الثالث وهو امتحان السجن. |
الصبر في القصر كان صبر اختيار
|
الآن سينتقل إلى امتحان السجن: |
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ(سورة يوسف: الآية 33)
(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) لم يقل: لما تدعوني إليه، قال: (مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) إذاً هؤلاء النسوة اللواتي كنَّ يتظاهرن بالصلاح، بدأن بحركاتٍ، وبغمزاتٍ، وبهمزاتٍ، وبلمزاتٍ، يراودن يوسف عن نفسه فقال: (مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) لم تعد وحدها، يبدو أنه تعرض لمراودةٍ من غيرها، لا سيما بعد أن رأينهُ، (أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) إنسان مُخيَّر بين أن يقع في حرامٍ مع امرأة العزيز، أو أن يسجن، فيختار السجن، هذه الرؤية الصحيحة، أنت من خلال علاقتك بالله ترى: |
وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ(سورة الحديد: الآية 28)
هذا نور. |
الوقوع في المعاصي شقاءُ الأبد
إذا جئت اليوم بمئة شابٍ، وخيرتهم بين الوقوع في معصية، وبين السجن، كم شخصاً منهم يختار السجن؟ الذي يرى بنور الله يختار السجن، لأن السجن وإن كان حبساً للحرية، لكن الوقوع في الحرام هو انطلاقٌ بغير ضوابط، يؤدي إلى شقاء الأبد، أما السجن فهو حبسٌ مؤقت، لكنه لا يحبس نفسه بنار الشهوة إلى الأبد، هذه هي المقارنة والمقاربة. |
الوقوع في المعصية جهل
|
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(سورة يوسف: الآية 34)
(فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) كيف صرف؟ لا ندري، ربما مللن منه، ربما شيوع الأمر جعلهن يخفن من الامتداد في هذا الأمر، حماه الله من الكيد (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ). |
(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) سمع دعاءه، وعلم حاله، سمع دعاءه في أن يصرف عنه كيد النساء اللواتي يردن به الشر، وعلم حاله في الافتقار إلى الله، والاسْتِعْصَامِ بِاللهِ، وطلب العصمة من الله تعالى وحده (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). |
الآن بدء الامتحان الثالث، وهو امتحان السجن، وهذا ما نُرجِئُ الحديث عنه إن شاء الله إلى لقاءٍ آخر. |