امتحان السجن (1)

  • الدرس الثامن : شرح الآيات 35 - 40
  • 2020-12-05

امتحان السجن (1)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيِمِ الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
أيها الإخوة الكرام: مع الدرس الثامن من لقاءات سورة يوسف، ومع الآية الخامسة والثلاثين من السورة، وهي قوله تعالى:

ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ
(سورة يوسف: الآية 35)

أيها الكرام: يوسف عليه السلام كما أسلفنا في اللقاءات الماضية مرَّ بامتحاناتٍ ثلاثة، هذه الامتحانات عنوانها امتحانات الشدة أو امتحانات العسر.
الامتحان الأول: في الجب.
الامتحان الثاني: في القصر، يوم رَاوَدْتُهُ امرأة العزيز عَنْ نَفْسِهِ.
الامتحان الثالث: في السجن الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن.
هذه امتحانات الشدة أو العسر أو الضيق، والصبر فيها واجب، والصبر فيها مطلوب، ثم يوسف عليه السلام بعد ذلك جاءه امتحان التمكين في الأرض، مكُنَّ له في الأرض، جاء اليسر، جاء الرخاء، جاء الفرج، والإنسان بحاجةٍ للصبر في الشدة وفي الرخاء، في الضيق وفي الفرج، عند اليسر وعند العسر، لا بد له أن يصبر في كل حال، الإنسان أحياناً يصبر في إدبار الدنيا عنه، لكنه لا يصبر عند إقبال الدنيا عليه، يصبر على الفقر لكنه لا يصبر على الغنى، وهل الغنى يحتاج إلى صبر؟ نعم، الغنى يحتاج إلى صبر، كم من إنسانٍ جاءه المال فأطْغَاه! كم من إنسانٍ أنفق أمواله في الحرام! لم يصبر على المال، فالصبر على فقد المال مطلوب، والصبر على كثرة المال مطلوب، الصبر على الضعف مطلوب، والصبر على القوة مطلوب، كم من إنسانٍ في القوة طغى وبغى ونسي المُبتدى والمُنتهى؟ فنحن بحاجةٍ إلى أن ننجح في اختبار الشدة وفي اختبار الفرج، في اختبار العُسر وفي اختبار اليُسر.
يوسف عليه السلام بعد أن نجح في الاختبارات الثلاث وصبر في الشدة، جاءه اليُسر فصبر في اليسر أيضاً كما سيأتي معنا، هنا بدأ امتحانه الثالث امتحان السجن.

قرار سجن سيدنا يوسف بعد براءته
(ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ)، (ثُمَّ): تُفيد التراخي، أي كان هناك وقتٌ للتداول في المسألة، بعد أن شاع الخبر، وعلم الكثيرون أن امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، لا سيما وأنها وقد اعترفت بذلك فقالت:

أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ
(سورة يوسف: الآية 51)

الطواغيب تعاقب الضعيف لا المسيء
فانتشر الخبر، وتناقشوا في الأمر، وبدأ الأخذ والرد، أخذ ذلك وقتاً، (بَدَا لَهُمْ): أي ظهر لهم، وتبين لهم، (مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ): أي العلامات الدالة على براءة يوسف عليه السلام، إذاً ما الذي ينبغي أن يحصل (مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ)؟ ينبغي أن يعلو قدر يوسف، وأن يُمكَّنَ ليوسف لأنه اتُهم ظلماً وعدواناً، لكن الذي حصل بالعكس (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ)، علموا أنه بريءٌ وسجنوه، هكذا تُدار الأمور عند الطواغيت، وهكذا تُدار الأمور في الغرف الداخلية في القصور، أرادوا أن يُلفلفوا المسألة، أن يطووا الموضوع، لأن الحديث بدأ ينتشر، فلا يُعاقب المسيء عند هؤلاء الطواغيت وإنما يُعاقب الأضعف! فاتجهوا إلى معاقبة الضعيف يوسف عليه السلام لأنه ليس له من يحمي ظهره كما يُقال، وهذا شأن الطغاة في كل عصرٍ وفي كل مصر، فكم من مسجونٍ سُجن بتهمة هو بريءٌ منها؟ لكنه سُجِن ليخُفَت صوته، أو سُجِن لِّئَلَّا يتكلم فيزعجهم، أو يُنغِّص عليهم استمتاعهم بملذات الحياة، فهذا ما حصل مع يوسف عليه السلام، تبينوا براءته (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ) أن يسجنوه، وفي سجنه مواساةٌ لكل بريءٍ يُظلم ويُسجَن إلى يوم القيامة في سجون الظالمين، لأن نبي الله عليه السلام قد سُجِن، فهذه مواساة، البشر كلُّهم ممتحنون بالبلاء وبالرخاء، قال تعالى:

وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
(سورة الأنبياء: الآية 35)

فكل الناس مبتلون، لكن الأنبياء أشدُّ الناس بلاءً، كما قال صلى الله عليه وسلم:

{ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ }

(صحيح الترمذي)

حتى يكون النبي أسوةً للناس من بعده، فيوسف عليه السلام ابتُليَ بهذا الامتحان العظيم، فسُجِنَ ليكون في سجنه تسليةٌ ومواساةٌ لكل إنسانٍ يُسجَنُ ظلماً إلى يوم القيامة.

التفكير بسببٍ لسجن سيدنا يوسف
(ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ): إلى آمدٍ لم يحددوه، ربما هذا الحين حتى ينسى الناس القصة، وينسى الناس ما حصل، وينسى الناس الحديث الذي أُدير في الغرف المغلقة عن تلك المرأة التي تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ، لكن يبدو أنهم مع نسيان الحديث نسوا يوسف في السجن كما يحصل مع الطغاة! فلا همَّ لهم إلا ملذاتهم، وينسون الأبرياء في السجون، نسأل الله السلامة.

وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
(سورة يوسف: الآية 36)

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ): هذه معية، الفتيان دخلا مع يوسف إلى السجن، من الفتيان؟ سيتضح بعد قليل أنهما الساقي والخباز، أو صاحب شراب العزيز وصاحب طعامه، هما من حاشية القصر، لكن يُقال في بعض الروايات _والله أعلم _ والسياق يحتمل ذلك، وهذا من باب الاستئناس فقط، يُقال: إنهما سُجِنا في المسألة نفسِها، أي أنهم لما أرادوا أن يُغلقوا الموضوع، وألا يتكلم الناس به، أرادوا أن يكون دخول يوسف إلى السجن لسبب، فصاغوا سبباً، قيل: إنهم ادعوا أن هناك مؤامرةً تحاك بين يوسف عليه السلام والساقي والخباز داخل القصر لتنفيذ انقلابٍ على العزيز! يُحيكون مؤامرةً للعزيز في قصره، فسُجِنوا جميعاً وبذلك لا يُقال: إن يوسف سُجِن من أجل الحديث الذي أُدير عن مراودة امرأة العزيز له عن نفسه.

رؤيا صاحبي سيدنا يوسف في السجن
العنب هو الذي يُعصرُ فيُصبح خمراً
(فَتَيَانِ): أي شابان في مرحلة الفتوة، (قَالَ أَحَدُهُمَا): هذا الساقي الذي كانت مهمته سقاية العزيز، (قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا)، (أَرَانِي) أي أرى نفسي في المنام، هذا التعبير بهذا المعنى، أرى نفسي في المنام (أَعْصِرُ خَمْرًا) والخمر لا تُعصر، لكن الذي يُعصر هو العنب ليُجعل خمراً وهذا من المجاز، هذا مجازٌ مرسل، علاقته اعتبار ما سيكون فقال: (أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا)، أي باعتبار ما سيكون من أن هذا العنب سيصبح خمراً، وهناك مجازٌ مرسل علاقته ما كان بعكس هذا، كأن يقول أحدهم: شربت البنَّ، والبن لا يُشرب وإنما التي تُشرب هي القهوة التي تُصنع من البن، لكن باعتبار ما كان يُقال: شربت البن، وهناك مجازٌ علاقته المحل، كأن يُقال: ركبت البحر، والبحر لا يُركب، وإنما تُركب السفينة التي تَمْخُر عُبَابَ الْبَحْرِ، فهذا من المجاز، وهو أسلوبٌ لغويٌ من البلاغة.
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) وهنا فائدةٌ شرعية، في ديننا لا يجوز أن تبيع العنب لمن يعصره خمراً، لأن هذا يدخل في باب التعاون على الإثم، قال تعالى:

وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
(سورة المائدة: الآية 2)

أنت لو بعت لإنسانٍ العنب، ثم ذهب وصنع به خمراً فلا إثم عليك، لكن أنت تعلم أنه تاجرٌ يشتري العنب ليصنع منه خمراً، أو أعلمك بذلك، أو أنت تعلم أنه يفعل ذلك، فلا يجوز أن تبيعه العنب لئلا تشترك معه في الإثم، وهذه قاعدةٌ عظيمة، لا ينبغي أن تُعين إنساناً على معصية، لا على ربا، ولا على خمر، ولا على عدوان على أموال الناس، ولا على أي شيءٍ حرَّمه الله تعالى.

التأويل هو مآل الشيء
(وَقَالَ الْآخَرُ): هو الخباز، أو صاحب الطعام الذي يصنع الطعام، (إِنِّي أَرَانِي) أي أرى نفسي في المنام، (أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا) يضع فوق رأسه الخبر، قال: (تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ): تأتي الطيور فتنقر من هذا الخبز، هذه الرؤيا التي رآها، (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ): أي أخبرنا بمآله، بما سيَؤول الأمر إليه، قلنا سابقاً: التأويل هو وقوع الشيء، عاقبة الشيء، مآل الشيء، قال تعالى:

وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ
(سورة آل عمران‏:‏ آية 7‏)

هناك آياتٌ متشابهةٌ في القرآن الكريم لا يعلم تأويلها إلا الله، في القرآن يوجد عندنا تفسير وتأويل، التفسير: من الفَسْر وهو الإبانة والكشف، ما تفسير هذه الآية؟ تُبيِّن معناها لمن لا يعلم، لكن التأويل أعمق، تأتي إلى القضايا الخفية في الآية فتؤوِّلُها، فالتأويل أعمق من التفسير، لأنه يتعلق بمآل الأشياء، بالبعد الذي لا تراه فسُمي تأويلاً.
هذه الرؤيا رأوها في المنام كيف ستقع؟ ما مآلها؟ ما عاقبتها؟ هذا هو التأويل.

تأويل القرآن الكريم
وقوع الوعد والوعيد في القرآن الكريم
ما تأويل القرآن الكريم؟ من بعض معاني تأويل القرآن الكريم وقوع الوعد والوعيد في القرآن الكريم، اليوم إذا رأيت مرابياً أخذ قرضاً ربوياً من حرام دون أي ضرورة، تنظر إليه تقول: منذ سنتين أخذ هذا القرض، وهو الآن في حالةٍ جيدة ينعم بسيارتين وربما ببيتين، وافتتح مشروعاً ضخماً بهذا القرض، وأموره ميسرة، أين قوله تعالى:

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا
(سورة البقرة: الآية 276)

نقول لك: ربما لقصر نظرك لم يتضح لك تأويل هذه الآية في هذا الرجل، أو لأن الله عزَّ وجلَّ أمهله، والله يمهل جلَّ جلاله، ومن سننه الإمهال:

{ إِنَّ اللَّه لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ }

(مُتَّفَقٌ عَلَيهِ)

فأنت الآن ترى بعينك، لكن لما يأتِك التأويل، فلا تُكذِّب بآيات القرآن

بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ
(سورة يونس: الآية 39)

التأويل وقوع الوعد والوعيد، لما وعد الله المؤمن بالحياة الطيبة، فتأويل ذلك أن المؤمن ينعم بالحياة الطيبة، ويشعر بذلك بأعماقه مهما عانى من الظروف السيئة، ولما وعد الله البعيد عنه بالمعيشة الضنك فإن من يقترف ما حرَّم الله ويبتعد عن الله سيعيش مَعِيشَةً ضَنكاً مهما رأيت من تنعُّمِه بملذات الحياة الفانية، لكن في قلبه من الضيق ما الله به عليم، هذا هو التأويل.

إحسان سيدنا يوسف في السجن
إحسان سيدنا يوسف لم يتغير
(نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إذاً هناك في القصة فجوة، الفجوة هي مساحةٌ تترك في القصة للمستمع أو للقارئ ليستبين ما جرى خلالها من سياق القصة، فربنا جلَّ جلاله لما قال في مطلع الآية: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ) ما حدثنا عن الحياة في السجن، هذان الفتيان ومعهما من السجناء من معهم قضوا مع يوسف لياليٍ وأياماً، ما الذي رأوه من يوسف؟ الإحسان، ويوسف كان محسناً في السجن، وكان محسناً في القصر، وكان محسناً يوم جُعِل على خزائن الأرض، ويوم مُكِّنَ له في الأرض، لم يتغير إحسان يوسف، فهم لما رأوا من إحسانه اتجهوا إليه، وهذه قاعدةٌ لكل داعية:
أَحْسِنْ إلى النَّاسِ تَسْتَعبِدْ قلوبَهم لطالما استعبدَ الإنسانَ إِحســــــانُ
{ أبو الفتح البستي }
فالإنسان بالإحسان يأتي إليك: وقد قيل: (جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا)
فهم رأوا من إحسانه في السجن ما رأوا، ربما كان يعطي من طعامه لمن ينقصه شيءٌ من طعام، يتودد إليهم، يُفرِّجُ عنهم ضيقهم وكُرُباتهم، وما أشد ما في السجن من كآبة! فيوسف عليه السلام كان محسناً لكل من في السجن، فلما رأوا من إحسانه ما رأوا قالوا: (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) اتجهوا إليه لما رأوا من إحسانه وطلبوا منه أن يُؤَوِّل لهم تلك الرؤيا (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

الإحسان فطرة
وهنا أريد أن أعقب على شيءٍ مهم، الإحسان فطرة، هم لماذا رأوا الإحسان في يوسف، مع أنهما ليسا بمؤمنين، وليسا بموحدين، كما سيتضح في سياق السورة، ليسا من ملة يوسف، لكن كيف علما بإحسانه؟ بالفطرة، الإحسان فطرةٌ في الناس جميعهم، الآن لو أتيت بإنسان من مشرق الأرض وآخر من مغربها على الفطرة السليمة كما خلقهم الله دون أن تدنسهما البيئة من حولهما، كما خلقهما الله، جئت بهما تجد أن بينهما قواسمَ مشتركةً هي قواسم الإحسان، فكلاهما يحب الخير والبر، وكلاهما يجد أن بر الوالدين أمرٌ حسن، وكلاهما يجد أن الصدقة والعطاء وإسعاد الآخرين فيها سعادةٌ للنفس، وكلاهما يجد أن الصدق محببٌ إلى النفوس وأن الكذب تنفر منه النفوس:

فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
(سورة الروم: الآية 30)


اعتدال ميزان الإحسان يكون بأن يعامل الإنسان الناس كما يُحب أن يعاملوه
إساءة الناس سببها اختلال الميزان
إذن ما دام الناس متفقين في مُجملهم على معظم الإحسان، فلماذا نجد كثيراً من الناس يسيؤون مع أن الإحسان فطرة؟ من أسباب ذلك اختلال الميزان، اليوم لما تقول للسارق: أترضى أن يسرق أحدٌ من مالك؟ يقول: لا، لما تقول لمن ينظر إلى عورات الآخرين ويطلق بصره في الحرام: أترضى أن ينظر الناس إلى عوراتك وعورات أهل بيتك؟ يقول: لا، لا أريد ذلك، لا أحب ذلك، إذاً لماذا تنظر إلى عوراتهم؟ لما تسأله السؤال المعاكس تتضح لك الفطرة التي في داخله، وهذا الأسلوب اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا الرجل الذي جاءه بكل جرأة يقول له: ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فبدأ رَسُولُ اللَّهِ يقول: أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ، هذا أسلوب عظيم في التربية.

{ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ، مَهْ، فَقَالَ: ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ قَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ }

(رواه الإمام أحمد)

عامل الناس كما تحب أن يعاملوك
فعندما يختل ميزان الإحسان يُعامل الإنسان الناس بغير ما يُحب أن يُعاملوه به، كنا نقول دائماً: عندما منعك شرع الله عزَّ وجلَّ من أن تنظر إلى عورات الآخرين، فلا تقل: هذا تقيدٌ لحريتي، قل: إن الله عزَّ وجلَّ قد قيَّد حرية مليار إنسانٍ أن ينظروا إلى عورتي، انظر بهذا المنظار، هكذا يعتدل ميزان الإحسان في نفسك، لا تقل: إن الله عزَّ وجلَّ منعني من أموال الناس بالباطل فحسب، قل: منع الله عزَّ وجلَّ الملايين المملينة من الناس من مالي، فالله عزَّ جلَّ منع الآخرين من أن يقتربوا مني، قيَّد حريات الآخرين من ألا تمسَّ عرضي أو مالي أو سمعتي، هكذا ينبغي أن يعتدل ميزان الإحسان، فالقاعدة وإن كانت ليست بحديث، ولكنها صحيحةٌ: (عامل الناس كما تحب أن يعاملوك)، معناها جاء في حديث كما قال صلى الله عليه وسلم:

{ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ }

(صحيح مسلم)

أي أن تفعل مع الناس ما تُحب أن يفعله الناس معك، بهذا يستقر الإحسان بشكله الصحيح، فيوسف عليه السلام كان مُحسناً والإحسان فطرة، لكن بعض الناس يُسيؤون لأن ميزان الإحسان مختلٌ عندهم، فهم يتبعون طباعهم وتحقيق لذاتهم الآنية، دون أن يتبهوا إلى أن هذا الشيء الذي فعلوه يُخالف فطرتهم التي لا تحب هذا الأمر أصلاً لأنفسهم أو لأهليهم.

استثمار سيدنا يوسف للوقت بالحديث عن الإيمان والتوحيد
جديث سيدنا يوسف عن الإيمان والتوحيد
الآن يوسف عليه السلام سوف يستثمر الموقف، سيجيبهما ويطمئنهما أولاً إلى أنه سيُؤَوِّل لهما الرؤيا حتى يطمئنا إلى أن الجواب عنده، ولكن يستثمر الموقف في حديثٍ أهم وهو الحديث عن الإيمان وعن التوحيد وعن الآخرة، لو جاءك إنسانٌ جائع وطلب منك مالاً ليأكل، لو قلت له: اجلس لأحدثك مثلاً عن الآخرة ربما لا يستمع إليك، طمئنه أولاً قل له: هذا المال خذه، أو أطعمه إن كان جائعاً ثم علِّمه، فيوسف عليه السلام بدأ الطمأنة:

قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
(سورة يوسف: الآية 37)

أي أن تأويل الرؤيا حاصل فلا تخافا، لكن يبقى التشويق لينتظرا الجواب، فبدأ الآن بالحديث عن الأهم، وهو قضايا الإيمان والتوحيد والإيمان بالآخرة والإيمان بالله تعالى، بدأ معهما بأن طمأنهما بأن الجواب محقق، وأن ما يقلقكما من شأن هذه الرؤيا جوابه سيصل، لأنهما مشوشان، الرؤيا غريبة ودائماً الذي في السجن، وحريته محتجزة، يصبح أكثر قلقاً، نسأل الله السلامة والعافية، السجن شيءٌ صعب، فيصبح قلقاً على كل شيءٍ لأنه يتهيأ له أشياء، أولاده بعيدون عنه، أهله بعيدون، أقرباؤه، الناس، الأخبار من حوله، فيصبح قلقاً، فطمأنهما ماذا قال لهما؟ (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا) عندي تأويل المنامين، وعندي ما يزيد على ذلك.

العلم اللَّدنِّي يكون بإعلام الله
فأنا أستطيع أن أخبركما بالطعام الذي سوف يأتي إليكما كل يوم، في السجن كل يوم يطبخون طعاماً، الله أعلم بالطعام، فيوسف عليه السلام ينبئهما بما سيأتي من طعام قبل أن يأتي الطعام، اليوم الطعام كذا، لماذا قال: (إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ)؟ هذا باب المشاكلة في اللغة، هذا ليس تأويلاً، اليوم الطعام سيكون خبزاً ولحماً هذا من الإخبار، وليس من التأويل، لماذا قال: (إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ)؟ هذا من باب المشاكلة، هما يريدان تأويل المنام، قال: أنا أنبئكما بالطعام أيضاً وليس المنام فقط، تأويل المنام له مرتكزات، هما رأيا شيئاً وبناءً على الشيء الذي رأياه سيخبرهما بالمعنى، أما الطعام مبهمٌ بشكلٍ كامل، لا يوجد مرتكزٌ نهائياً، سيخبرهما بشيءٍ من عالم الغيب الضيق، طبعاً هل هذا من التنجيم؟ لا، تابع فوراً، قال: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) هذا ليس تنجيماً، ولا ضرباً بالغيب، ولا رجماً بالغيب، ولا كهانة، ولا عرافة، لا، حاشا الأنبياء وإنما هو علمٌ لَدُنِّي، هذا يسميه العلماء العلم اللَّدنِّي من كلمة لَدُن، من قوله تعالى:

وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا
(سورة الكهف: الآية 65)

في حديثه عن الخَضِر يوم التقى موسى عليه السلام، فقال: (مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) فسُمي العلم اللَّدني، قال: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) هذا علمٌ من لَّدُن الله تعالى علَّمني إياه، فهو بإعلام الله، ليس من الكهانة ولا من الرجم بالغيب.
الإيمان بالآخرة موجودٌ في كل الشرائع
(ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) الملة هي الطريقة (لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) هنا دِلالةٌ مهمةٌ على أن الإيمان بالآخرة موجودٌ في كل الشرائع، هو الآن لا يُخاطبهما بشيءٍ لا يعرفان أصله، يقول لهما (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) إذاً هناك أقوامٌ في هذا الزمن كانوا يؤمنون بالله، وقد وصل خبرهم لأن الله تعالى تولى جلَّ جلاله هداية خلقه، فإيصال الحق هذا مما جعله الله عزَّ وجلَّ لزاماً، قال تعالى:

إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ
(سورة الليل: الآية 12)


الربط بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر
فلما قال لهما: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) إذاً الإيمان بالآخرة مرتكزٌ في كل العقائد، والربط بينه وبين الإيمان بالله مرتكزٌ في كل العقائد، كما جاء ديننا الإسلامي الحنيف دائماً بالإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، لأن الإيمان بالله يمنعك من أن تعصي الله لأن الله يراقبك، هو موجودٌ وواحدٌ وكاملٌ، والإيمان بالآخرة يمنعك من أن تؤذي الناس لأن هناك يوماً ستقف فيه بين يدي الله، وستُسوى فيه الحسابات، فالتكامل بين الإيمان بالله واليوم الآخر موجودٌ في كل الشرائع، فقال: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ).

جوهر الحق أن تترك وأن تتبع

وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ
(سورة يوسف: الآية 38)

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي) الآن انظر (تَرَكْتُ) (وَاتَّبَعْتُ) لا بد أن تترك وأن تتبع، أن تترك شيئاً وأن تتبع شيئاً، هذا جوهر الحق أن تترك وأن تتبع، وأن تبدأ بالترك:

فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ
(سورة البقرة: الآية 256)

تتبرأ من الكفر وتتجه إلى الإيمان، تتبرأ من العدوان وتتجه إلى الإحسان، فديننا مبني على هذه المتلازمة، أن تترك شيئاً وأن تتجه إلى شيء، ودائماً الترك قبل الفعل، تَهدِم الخطأ ثم تبني الصحيح، أما إذا بنيت دون أن تهدم فسيكون البناء مشوهاً، لا بد أن تهدم الباطل في الوقت الذي تبدأ فيه ببناء الحق في النفوس، لذلك هذا الصحابي الجليل ضمام بن ثعلبة لما رجع إلى قومه وقد أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم وقف فيهم خطيباً، فقالَ: بئستِ اللَّاتُ والعُزَّى، قالوا: مَهْ يا ضِمامُ، اسكت، اتَّقِ البَرصَ والجنونَ والجُذامَ، هذه آلهة ماذا تقول؟ قالَ: إنَّهُما لا يضرَّانِ ولا ينفعانِ، ثم قال: أشهدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ وأنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ.

{ فاجتمَعوا إليهِ فَكانَ أوَّلَ ما تَكَلَّمَ بِهِ أن قالَ: بئستِ اللَّاتُ والعُزَّى، قالوا: مَهْ يا ضِمامُ، اتَّقِ البَرصَ والجُذامَ، اتَّقِ الجنونَ، قالَ: ويلَكُم إنَّهُما واللَّهِ لا يضرَّانِ ولا ينفعانِ، إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قد بعثَ رسولًا، وأنزلَ عليهِ كتابًا استنقذَكُم بِهِ ممَّا كنتُمْ فيهِ، وإنِّي أشهدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ وأنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، إنِّي قد جئتُكُم من عندِهِ بما أمرَكُم بِهِ، ونَهاكم عنهُ، قالَ: فو اللَّهِ ما أمسَى من ذلِكَ اليومِ وفي حاضرِهِ رجلٌ ولا امرأةٌ إلَّا مسلمًا، قالَ يقولُ ابنُ عبَّاسٍ: فما سمِعنا بوافدِ قَومٍ كانَ أفضلَ من ضِمامِ بنِ ثعلبةَ رضي الله عنه }

(رواه البخاري)

لما هدم في نفوسهم الشرك أو ضعضع الشرك في داخل نفوسهم استجابت نفوسهم للحق، وهذا معنى ما يقوله بعض العلماء: التخلية ثم التحلية، تُخلِّي النفوس من أدرانها ثم تُحلِّيها بالحق وبالخير.
(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي) تركت طريقة الكفر والشرك واتبعت طريقة التوحيد، (آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) يعني هم آباؤه وأجداده، ويسمى الجد أباً.

نفي الشأن أبلغ في النفي
لا يصح بفطرتنا السليمة أن نشرك بالله شيئاً
(مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) (مَا كَانَ لَنَا) تختلف عن قولنا: لَن نُّشْرِكَ، أو نحن لا نشرك بالله شيئاً، (مَا كَانَ لَنَا) معناها ما ينبغي لنا، وما يصح في عقيدتنا، وما يصح لفطرتنا السليمة أن نشرك بالله شيئاً، ففرقٌ بين أن تسأل إنساناً: هل أنت سارق؟ فيقول: لا، أو أن تسأله: هل أنت سارق؟ فيقول لك: ما كان ليَ أن أسرق، ما كان لي أن أسرق أبلغ في النفي، لأنه يقول لك بعبارةٍ أخرى: هذا ليس من شأني، لا يحق لك أصلاً أن تسألني هذا السؤال، وأن تتوهم لثانيةٍ أنني يمكن أن أسرق، وأنا شخصٌ محترمٌ ولي مكانتي، ما كان لي أن أسرق، فهنا (مَا كَانَ لَنَا) ليس من شأن الفِطَر السليمة التي نحملها، والعقول الراجحة التي منحنا الله إياها، والشريعة الغراء التي حملنا إياها، كل ذلك يمنعنا من (أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) وهذه (مِنْ) مع النكرة ( شيء ) تُفيد الاستغراق، استغراق أفراد النوع (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) مهما كان هذا الشيء بسيطاً، ولو كان مالاً، ولو كان درهماً، نحن لا نشرك بالله أي شيءٍ كان، لا صنماً، ولا بشراً، ولا قوةً من قوى الطبيعة، ولا حجراً، ولا مدراً، ولا مالاً، ولا جاهاً، ولا عشيرةً، هل هناك أناس يُشركون قبائلهم وعشرتهم بالله؟ نعم، الذين يقولون:

إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ
(سورة الزخرف: الآية 23)

هؤلاء يُشركون قبيلتهم بالله، ومثلها من يقول اليوم: نحن تربينا على ذلك، نحن نشأنا على ذلك، نحن في عاداتنا التي نشأنا عليها وتربينا عليها البنت لا تَرِث، ويصلي، ويصوم، وقد ينتصر لعادات قبيلته ولا ينتصر لدينه، وهذا موجود حتى يومنا هذا مع الأسف في جاهلية القرن الواحد والعشرين، نحن تربينا أن البنت لابن عمها وأين إذن البِكر؟ والفتاة لا يجوز أن تُنكح إلا بإذنها، أين أحكام الشريعة؟ نعم يُشرك الإنسان أحياناً عاداته بالله، وقد يُشرك ماله بالله، فيبيع دينه من أجل دُرَيْهِمَاتٍ قليلة، فمفهوم الشرك واسع، لذلك قال: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أي مهما كان الشيء بسيطاً لا يمكن أن نُشرك بالله شيئاً.

التوحيد هو أعظم نعم الله
التوحيد فضلٌ من الله
(ذَٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ) التوحيد فضلٌ من الله، هذا من النعم التي ربما تكون نعمةً باطنةً تغيب عن معظم الناس، تقول: الماء نعمة، الطعام نعمة، الصحة نعمة، وأن جعلك الله مسلماً موحداً هذه أعظم نعمة، هذه أعظم من نعمة الماء، ونعمة الهواء، ونعمة الصحة، لأن هذه النعم ستنقطع بالموت، أما نعمة التوحيد ستبقى وتخلد معك إلى أبد الأبدين في سعادةٍ مستمرة (ذَٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا) من أعظم أفضال الله عليك أن جعلك موحداً، فنسَبَ الفضل لصاحب الفضل، قال: (ذَٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ) فالله تعالى جعل التوحيد مبثوثاً في الفِطَرِ السليمة، هذه إشارةٌ إلى الفطرة (وَعَلَى النَّاسِ) التوحيد فطرةٌ في الإنسان، أن يتجه إلى إلهٍ واحد، هو فطرةٌ وعقلٌ قبل أن يكون شرعاً.
(ذَٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) لا يشكرون هذه النعمة العظيمة، نعمة التوحيد، ونعمة الفطرة السليمة التي فُطرت على التوحيد، فيضلُّون ويتبعون الشركاء والعياذ بالله.

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
(سورة يوسف: الآية 39)

(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) الآن بدأ بالتوحيد بالعمق، (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) انظروا إلى هذا الخطاب الودود، هنا يوجد ظرفية (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) كأن تقول: يا صاحب الحج، تكون قد حججت معه، وكأنك تقول: يا صاحبي في الحج، أو تقول: يا صاحب الدراسة.

الدعوة إلى الله أخلاق
هو اتخذهما صاحبين مع أنهما ليسا موحدين، وهذه حكمةٌ عظيمةٌ في التودد إلى من تدعوه إلى الله، في التحبب إليه بأرقِّ الألفاظ:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
(سورة النحل: الآية 125)

انتقِ أحسن الكلمات في الجدال، وادعُ بالحكمة والموعظة الحسنة، المسلمون اليوم يخلطون بين أخلاق السلم وأخلاق الجهاد، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
(سورة التوبة: الآية 73)

الغِلظة تكون للأعداء
هذه في أرض المعركة، أما عندما تجلس في المسجد، أو في بيتك، أو في وطنك، أو في مجتمعك وتدعو الناس إلى الله، فالآية هنا (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) وليست (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) الغلظة في أرض المعركة للأعداء، ولست للأصدقاء، وليست للأُناس الذين لا يُعادونك لكنهم ليسوا على ملتك، فهؤلاء قد تستجلبهم بالكلمة الطيبة، لا تَغلُظ القول، ربنا عزَّ وجلَّ لما أرسل موسى قال:

اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ
(سورة طه: الآية 43-44)

إلى فرعون الذي قال:

مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي
(سورة القصص: الآية 38)

ليس عاصياً وإنما يدعي الألوهية وما قالها أحدٌ قبله، قال: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ) الدعوة إلى الله أخلاق، فهنا يوسف يتحبَّب إليهم (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ).

العقل والفطرة يقتضيان أن تتجه إلى جهةٍ واحدة
(أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) أتحبُّ أن تتخذ عدة أربابٍ كلٌ منهم ربٌ لك وسيدٌ لك وتطيعه وتعود إليه في حاجتك، أم أن العقل والفطرة يقتضيان أن تتجه إلى جهةٍ واحدة؟ وهو يعلم أن الجواب في فِطَرِهما سيكون: بل (اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) ما حاجتنا إلى الأرباب المتفرقين؟ لماذا الأرباب المتفرقون؟ إذا كان الأرباب المتفرقون تعددهم تعدد ذوات يعني كلٌ منهما له ذاتٌ منفصلةٌ عن الآخر، فهم لا يستحقون العبادة، وإذا كان تكراراً فلا لزوم للتكرار، إذا كان الرب الواحد يقوم بكل المهمات التي يقوم بها الرب الآخر في زعم المشركين، فما حاجتنا للتكرار؟ وإذا كان التنوع تنوعَ اختصاصات فهم ليسوا أهلاً للعبادة

إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ
(سورة المؤمنون: الآية 91)

فطرة الحياة وما تقتضي
هذا نقاش منطقي، فقال: (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)؟ لذلك كان العلماء يقولون: اعمل لوجهٍ واحد يكفيك الوجوه كلها، أن تتجه إلى جهةٍ واحدة، هل تصلح في الدنيا شركةٌ بمديرين؟ المدير العام واحد، هكذا طبيعة الحياة أن القرار في النتيجة لواحد، حتى الأسرة لماذا جعل الله القوامة للرجل؟ لأنه لا بد من رُبان للسفينة، في محصلة الأمر هناك رُبانٌ يقود السفينة، وهناك طيارٌ يقود الطائرة، ففطرة الحياة تقتضي أن يكون القرار بيد شخصٍ واحدٍ في المحصلة، الكون بناه الله تعالى على أساس أنه جلَّ جلاله هو وحده المتفرد فيه (أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) واحدٌ: لا شريك له، قهار: بسط سلطته وملكه وجبروته جلَّ جلاله على الخلق كلِّهم، على كل خلقه، هذه صفات الإله، فالآن هو الصمد ترجع إليه في كل حاجاتك، أما أن ترجع إلى أربابٍ متفرقين هذا لا يصح:

{ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ: كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا: لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ }

(رواه ابن ماجه)

أما من يجعل الهموم متفرقة، ويتوجه تارةً يريد أن يأخذ من فلان، وتارةً من فلان، وتارةً يظن الأمر بيد فلان، فهذا يهلك في أودية الدنيا، ولا يصل إلى خير.

لكل اسمٍ مسمى

مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
(سورة يوسف: الآية 40)

(مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ) الاسم له مسمى، فأنا عندما أقول: محمد صلى الله عليه وسلم فله مسمى وهو نبينا صلى الله عليه وسلم، واليوم إذا سميت شخصاً: محمداً فتقول: محمد من دار فلان، من بيت فلان، تنسبه إلى بيتٍ حتى تعرف من محمد، وعندما تقول: طاولة فالطاولة اسمٌ على مسمى، فعندما ينطلق الاسم يأتي في ذهنك فوراً المسمى:
إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا
{ الأخطل }
فأنت عندك صور، أقول لك: فيل، خطر في ذهنك الفيل، كرسي، حظر في ذهنك هيئة الكرسي، فالأسماء لها مسميات، أما إذا قلت: اسم بلا مسمى فهذا لا معنى له، وقد قيل وهذه من الطُرف أن كلمة خنفشار، ونقول: هذا الرجل خنفشاري، ما معنى خنفشار؟ قيل: إن مجموعةً من الناس والأخبار على ذمة رواتها، مجموعة من الناس يعرفون واحداً كان يدعي أنه يعلم كلَّ شيء، والذي يقول: أنا أعلم كل شيءٍ فهو لا يعلم شيئاً، يدعي أنه يعلم كل شيء، فأرادوا أن يُحرجوه ويُظهروا له ضعفه، فقالوا: دعونا نأتي باسمٍ لا مسمى له، ليضع كل واحدٍ منا حرفاً ونجمعهم وننشئ كلمة، فقال الأول: (خ) وقال الثاني: (ن) والثالث: (ف) (ش) (ا) (ر) كانوا ستة رجال، فكل واحدٍ منهم قال حرفاً فجمعوهم فأصبحت خنفشار، فذهبوا إليه وقالوا يا فلان: أتعبتنا كلمةٌ ما علمنا معناها، قال: ما هي؟ قالوا: خنفشار، قال: خنفشار، لا تعلمون ما معنى خنفشار! هذا نباتٌ في الصحراء يعيش على كذا، ثم أنشد لهم بيتاً من الشعر عن الخنفشار وكان شاعراً، والخنفشار لا وجود له وهم أنشؤوا الكلمة من نفسهم، ثم بينوا له جهله وقالوا له: هذه كلمةٌ لا وجود لها فكيف جعلتها نباتاً، فأصبحوا إذا وجدوا إنساناً يتحدث بما لا يعرف يقولون: هذا رجل خنفشاري.
فهنا إن هي (إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم) يشبهون الخنفشاريين، على سبيل المثال: اللات والعزى، من اللات والعزى؟ هذه أنت سميت أسماءً لا وجود لها في الواقع، هذا اسمٌ بلا مسمى، فهنا يقول لهم: إن هي (إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم) أنتم اخترعتم آلهةً ووضعتم لهم أسماءً وهذه الآلهة غير موجودة على أرض الواقع، يعني لا تضر ولا تنفع ولا تعطي ولا تمنع، إن هي (إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ) أي من حجة، ليس لكم حجةٌ من الله عليها، هي لا تصنع شيئاً، ولا تعلم غيباً، ولا تضركم ولا تنفعكم، ولا ترفع قدركم، ولا تعطيكم ولا تمنعكم (مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ).

العبادة بمفهومها الواسع
العبادة هي خضوعٌ و استسلامٌ للمنهج
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) وهذا قصرٌ وحصر، أي ليس (الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)، أي ليس هناك حكمٌ إلا الله، (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) هذا الربط مهم جداً لعلي أوفق لشرحه، هذا من أهم الآيات التي مرت معنا اليوم (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)، (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ما العلاقة بين الأمرين؟ أولاً سأبدأ بالعبادة، العبادة في الأصل بمعناها اللغوي من دانَ، وخضعَ، وذلَّ، فالعبادة هي خضوع، استسلام للمنهج، لماذا أصلي؟ خضوعاً لمنهج الله، فالصلاة عبادة، صحيحٌ مئة بالمئة، لكن بعد حين ألِفَ المسلمون أن العبادة هي الصلاة والصيام والحج والزكاة، ألِفوا فقط، وليس هناك أي دليلٍ شرعي.
العبادة مفهومها واسع جداً جداً جداً، لكنهم قصروها على العبادة الشعائرية، الصدق عبادة، العمل عبادة، كل نشاطٍ تخضع فيه لمنهج الله فهو عبادة، ولو كنت تلعب لعبة كرة قدم مع أصدقائك في الملعب، ما دمت تستر عورتك، وإذا أذن المؤذن أوقفت اللعب وذهبت إلى الصلاة، ولا تسب ولا تشتم أثناء المباراة، ولا تؤذي أحداً، ولا تنتصر لنفسك، وإنما تلعب بودٍّ وحبٍّ مع الآخرين، لعبة كرة القدم عبادة، فالعبادة هي أي عملٍ تفعله وفق منهج الله، إذا دخلت للاستحمام أنت في عبادة، إذا جلست للطعام أنت في عبادة، فالعبادة هي نشاط يُرافق الإنسان في كل ثانيةٍ من ثواني حياته ما دام خاضعاً فيه لمنهج الله، هذا معنى عَبَدَ، ولما نزلت هذه الآيات في مكة المكرمة لم يكن هناك أصلاً عباداتٌ شعائرية، والمسلمون فهموا فيها العبادة بشكلها الطبيعي وهو الخضوع للمنهج، ما يأتيني من الله ألتزمُ به إذاً أنا في عبادة، فقط هذه هي العبادة.

بين الحكم بشرع الله والحكم بالقوانين الوضعية
الحكم في البنوك الربوية
الآن (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)، (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) مادام الإنسان يجد أن الحكم لغير الله فكيف يعبد الله؟ على سبيل المثال، أنا قلت لك: ما الحكم في البنوك الربوية؟ البنوك الربوية القائمة اليوم التي تجري فيها معظم معاملات الناس، أو كثيرٌ من معاملات الناس، فقلت لي: القوانين تُجيزها، القوانين سمحت بالبنوك الربوية، الحُكم لمن في هذه المسألة؟ هذه المسألة من يحكم بها؟ من يحكم بكون الربا حلالاً أم حراماً؟ إذا كان الحكم لله تقول لي: حرام، إذاً أنت تخضع لمنهج الله (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أما لما يكون الحكم لغير الله إذاً تنصرف العبادة لغير الله.
كثيرٌ من الناس اليوم يعبدون القوانين، يعبدون الطواغيت من دون الله، يقول لك: أخذت بحكم القانون، وبحكم الشرع ماذا أخذت؟ أنت لست عابداً لله، أنت عابدٌ للقوانين لأنك حكَّمت القوانين الوضعية، هذا كلام دقيق ومهم جداً، أنا المسلم بغض النظر عن الآخرين، أنا أحتكم لماذا؟ أحتكم لشرع الله عزَّ وجلَّ، بالميراث، بطعامي، بشرابي، بمعاملاتي المالية، بمعاملتي مع زوجي، الحكم لله، فأدين وأخضع لله لأن الحكم له جلَّ جلاله، (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)، (أَمَرَ) جلَّ جلاله (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وهذا أيضاً حصرٌ وقصر.
أكثر الناس في القرآن
قال: (ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي المستقيم الذي تستقيم به حياة الناس هو أن يُحكَّم شرع الله، وأن يرجع الإنسان في معاملاته كلها إلى الله لأن الحُكم لله، فالعبادة هنا ليست بالمعنى الاصطلاحي المحدد الذي يقتصر على الصلاة والصيام والزكاة والحج، وهذه عبادةٌ مطلوبةٌ بلا شك، ولكن هنا الكلام عن عموم المسألة (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي أمر ألا تخضعوا إلا لمنهجه، (ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقيقة المهمة جداً، وقلنا: إن أكثر الناس في القرآن دائماً ليست شيئاً ممدوحاً، قال تعالى: (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) والآن (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) فلا تكن مع أكثر الناس، كن مع القلة الناجية، كن مع :

ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ
(سورة الواقعة: الآية 13-14)

كن مع

وَقَلِيلٌ مَا هُمْ
(سورة ص: الآية 24)

كن مع

وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ
(سورة سبأ: الآية 13)

فإذا كنت مع القليل وأنت على حقٍ فأنت الكثرة وأنت الجماعة، وإذا كان الإنسان على باطل فمهما كَثُرَ من حوله ممن هم على باطلٍ فلن ينفعه ذلك:

وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ
(سورة الزخرف: الآية 39)

الآن بعد ذلك سيُؤوِّل لهم الرؤيا، وسيوضح لهما ما ستؤول إليه الرؤيا التي رأياها، بعد أن بين لهما حقيقةً مهمةً جداً وهي التوحيد، وهو بدأ لهما بالأنفع والأبقى، الرؤيا للدنيا تأويلها كله سيقع في الدنيا وانتهى الأمر، لكنه استثمر الوقت ليعطيهما حقيقة التوحيد، عندما يأتي صاحبا السِّجْنِ يوم القيامة لعلهما استجابا لدعوته أو انتفعا بها، لكن إن انتفعا بها ولو جزئياً فيوم القيامة سيجدان أثر هذا الانتفاع العظيم، فكانا يرجوان تفسير منامٍ فخرجا بالتوحيد، خرجا بأهم من تفسير المنام، بعد أن طمأنهما في البداية الآن سيُؤوِّل لهما الرؤيا في نهاية الحوار، وهذا ما نرجئ الحديث عنه إلى لقاءٍ لاحق.
والحمد لله رب العالمين.