خروج سيدنا يوسف من السجن

  • الدرس العاشر: شرح الآيات 50 - 55
  • 2021-01-16

خروج سيدنا يوسف من السجن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيِمِ الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
أيها الإخوة الأحباب: مع اللقاء العاشر من لقاءات سورة يوسف ومع الآية الخمسين من السورة وهي قوله تعالى:

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
(سورة يوسف)


تذكيرٌ بما سبق:
كما أسلَفْنَا يوسف عليه السلام في السجن كان في آخر مِحْنَةٍ من مِحَنِهِ الثلاث من امتحانات العُسر، يوسف عليه السلام خاض ثلاثة امتحاناتٍ في العسر، الأول في الجُب، والثاني في القصر، والثالث في السجن، وبعد ذلك جاء التمكين، نجح بثلاثة امتحانات وهي من أصعب الامتحانات لكنها امتحانات الأنبياء:

{ قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الناسِ أشَدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ ثم الأمثَلُ فالأمثَلُ، يُبتلى الرَّجُلُ على قَدْرِ دِينِه، -أو قال: على حَسَبِ دِينِه- فإنْ كان صُلبَ الدِّينِ اشتَدَّ بلاؤُه، وإنْ كان في دِينِه رِقَّةٌ ابتُلِيَ على قَدْرِ ذلك، فما يَبرَحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يَمشِيَ، وليس عليه خطيئةٌ }

(أخرجه الترمذي)

في محنة السجن، يوسف عليه السلام كان مُحسِناً، وأوَّل الرؤيا لساقي الملك ولخبَّاز الملك، صاحب طعامه وصاحب سُقياه، ولمّا خرجا من السجن؛ قال يوسف عليه السلام: (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ) للساقي الذي يسقي ربَّه خمراً، وهذا من الأنبياء ليس هو الحال الأمثل؛ أن يطلب النبي شيئاً مِنْ غير لله (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) لَبِثَ يوسف في السجن بِضع سنين، الآن لمّا خرج؛ ورأى الملك رؤيا وهذه الرؤيا حيَّرته لِمَا فيها من رموزٍ غير واضحةٍ له، فلمّا رأى هذه الرؤيا واحتار بتفسيرها طلب من الحاشية من يُعبّرُ له رؤياه فتذكّر السَّاقي بعد أمّة (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) تذكّر الأمر وقال: (أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ)، الآن لمّا جاء إلى يوسف، يوسف عليه السلام مُحسِنٌ رغم كلِّ ما فعلوه به أوَّل الرؤيا فوراً ولم يقل له: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة، بل أوَّل الرؤيا، فرَجَع إلى الملك وأخبره بتأويل الرؤيا وبما قال يوسف عليه السلام، فالملك أُعجِبَ جداً بهذا الرجل الذي يُؤوِّل هذا التأويل الواضح المُرتبط تماماً بالرؤيا التي رآها فهنا: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) أريد هذا الرجل، أريد أن أراه.

رغبة سيدنا يوسف بالحصول على براءته:
أثر التربية الإلهية في نفس سيدنا يوسف
فلما جاءه رسول الملك، ربما يكون الرسول هو السَّاقي نفسه أو بَعَثَ رسولاً آخر مختصاً بهذه المسألة في أن يطلبه للقاء الملك، (فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ) هنا يوسف عليه السلام لم يقبل بعد أن أوَّل الرؤيا، بل أراد أن يُحصِّل براءته، لا يريد أن يعجِّلَ بالخروج من السجن، انظروا إلى أثر التربية الإلهية العظيمة في نفس يوسف، احتاج الأمر سبع سنوات، حتى لا يستعجل الإنسان، احتاج الأمر سبع سنوات، لمّا خرج السَّاقي قال له: (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ) لمّا جاء يقول له: جاء الفرج اخرج، قال له: (ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ) لا أريد أن أخرج، الأنبياء يصطنعهم ربنا جلّ جلاله لنفسه وعلى عينه جلَّ جلاله، فتكون لهم تربيةٌ خاصةٌ جداً جداً جداً، وكلُّنا لنا نصيبٌ من هذه التربية، حتى يصل كلُّ واحد فينا إلى أن يصبح من أولياء الله يحتاج إلى تربية، هذه التربية تأتي حيناً بنقص الأموال، حيناً بأن تطلب من إنسانٍ فيؤدبك الله ويحجب عنك الإجابة حتى ترجع إليه.
منذ يومين كنت مع أخٍ أقام وليمةً لأمرٍ يسّره الله له، فقلت: ما هذا الأمر؟ فقال: سأروي لكم قصتي، فتحدث عن قضية في المحكمة مضى عليها سنتان وهو محقٌّ بها مئةً بالمئة ولكن المحكمة حكمت عليه بالمال، وكان متعلقاً بأشهر المحامين وكان يقول في نفسه كل يوم: القاعدة الرئيسية إذا كنت في أمرٍ عسيرٍ عليك أن تذهب إلى المحامي الأقوى في البلد فهو الذي يربح الدعوى، لا تذهب إلى المحامين البسطاء المتخرجين حديثاً، وكان يعوّل على ذلك كثيراً، فخذله كلُّ المحامين ولم يستطيعوا فعل شيء، إلى أن أدرك خطأه وأدرك أنه تعلَّق تعلُّقاً لا حدود له بالمخلوقين، فتجرَّد لله فرأى رؤيا وألهمه الله سؤالاً ربما لا يسأله أحد، فتبيّن أن الحكم صدر بغياب أحد القضاة وهو مسافر واستخرج ورقةً تبيّن أن هذا القاضي الذي أصدر الحكم لم يكن في البلد وقت إصدار الحكم، ونُقِضَ الحكم ورُفِعَ عنه ما يقارب المليون لمّا تجرّد لله، فالله تعالى يُربِّي عباده.
فيوسف عليه السلام نبيٌّ من أنبياء الله لمّا قال: (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ) (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أنسى الشيطان هذا الرجل السَّاقي أن يذكر يوسف عند ربه (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) الآن لمّا تربى يوسف في هذه السنوات السّبع على أنّه لا ينبغي أن يُتعلّق إلا بالله عزَّ وجلَّ جاءه الآن الرسول ولم يقل له: لقد ذكرتك كما طلبت، جاءه ليقول له: اخرج فالملك يريدك، لكن يوسف عليه السلام الآن متعلِّقٌ بملك الملوك وليس بملوك الأرض فقال له: (ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ) لن أخرج معك حتى تثبُتَ براءتي وحتى أخرج من غير شبهةٍ ومن غير تهمةٍ.

التواضع والاعتراف بفضل الآخرين:
هنا أريد أن أذكر حديثاً صحّحه أهل العلم ورواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:

{ عَجِبْتُ لصبرِ أَخِي يوسفَ وكَرَمِهِ واللهُ يَغْفِرُ لهُ حيثُ أُرْسِلَ إليهِ ليُسْتَفْتَى في الرُّؤْيا، ولَوْ كُنْتُ أنا لمْ أَفْعَلْ حتى أَخْرُجَ. وعَجِبْتُ لِصَبْرِهِ وكَرَمِهِ واللهُ يَغْفِرُ لهُ أُتِي لِيَخْرُجَ فلمْ يَخْرُجْ حتى أخبرَهُمْ بِعُذْرِهِ، ولَوْ كُنْتُ أنا لبادرتُ البابَ، ولَوْلا الكلمةُ لَما لَبِثَ في السِّجْنِ حيثُ يَبْتَغِي الفَرَجَ من عِنْدِ غَيْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ }

(أخرجه الطبراني)

(ولَوْلا الكلمةُ) وهي قول يوسف عليه السلام: (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ)، لأنه ابتغى الفَرَجَ عند غير لله عزَّ وجلَّ، فلولا كلمته ما لَبِثَ في السجن بضع سنين، لَبِثَ في السجن بضع سنين من أجل كلمةٍ قالها تعلّق بها بغير الله، فانظروا إلى التربية، أولاً النبي صلى الله عليه وسلم أُوذي في الله وما أُوذي أحدٌ مثله، كما جاء في الصحيح:

{ ما أُوذيَ أحَدٌ ما أُوذيتُ في اللهِ }

(أخرجه ابن حبان)

يُعلِّمُنا النبي الكريم أن الأنبياء إخوة
والنبي صلى الله عليه وسلم من أشد الأنبياء إيذاءً، لكن هذا من تواضعه ووفائه لأنبياء الله وتعليماً لنا بالاعتراف بالفضل، النبي صلى الله عليه وسلم هنا يُعلِّمُكَ أن أنبياء الله أخوةٌ يقول: (عَجِبْتُ لصبرِ أَخِي يوسفَ وكَرَمِهِ) ثم يقول عن نفسه: أنا لو جاؤوني ليستفتوني ما كنت أجبتهم، وبأبي هو وبأمي لو جاؤوه واستفتوه لأفتاهم فهو أكرم الخلق صلى الله عليه وسلم، لكن ينظر إلى إخوانه بهذا التواضع، ليُعلِّمنا أن تتواضع لإخوانك وأن تقول: أنت خيرٌ مني، قال تعالى:

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
(سورة البقرة)

لكن الله عزَّ وجلَّ جعل نبيه صلى لله عليه وسلم خاتم الرسل وجعله فوق كل الرسل، فالله تعالى يُفضِّلُ من شاء من رسله، أما نحن فنُؤمن بهم جميعاً من غير تفريق، فيُعلِّمُنا النبي صلى الله عليه وسلم هنا هذه الحقيقة بأن تعترف بالفضل للآخرين وأن تنظر إلى أعمالهم وألا تُنكر ما فعلوه.

صبر وكرم سيدنا يوسف:
فيقول: (وعَجِبْتُ لِصَبْرِهِ وكَرَمِهِ) يؤكد على شيئين؛ الحديث هنا على صبر يوسف وعلى كرمِه، الصبر: أن تلبث في السجن، تخيَّل سبع سنوات وقبلها كان هناك سنوات، يوسف أقلُّ شيء لَبِثَ في السجن عشر سنواتٍ أو أكثر مظلوماً متهماً بريئاً، الآن جاءه الفرج وفُتِحَ الباب وقال: الملك يستدعيك، أيُّ صبرٍ يحتاجه الإنسان ليقول له: لن أخرج (ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ) وهو يقول في نفسه ربما الملك يقول لهم: من هذا الرجل الذي أطلبه إلي فيقول (ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ) لا أريده ويعلم أنه يمكن أن يحصل ذلك، فهو صبر على اللَّبث في السجن لأنه يعلم أنه امتحان يجب أن يخوضه.
وأما الكرم فكان عندما جاؤوه يطلبون الفتيا بعد أن آذوه وفعلوا بها ما فعلوا فلم يَضُنَّ عليهم، بل أعطاهم تأويل الرؤيا من أجل أن يضمن لهم المستقبل حتى يصلوا إلى العام الذي يُغاثُ فيه الناس وفيه يعصِرون (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) فكان صابراً كريماً، قد يصبر الإنسان ولا يكون كريماً، يصبر لأنه مضطرٌ للصبر لكنه يقول لك: والله لا أستطيع أن أغفر، قال تعالى:

وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
(سورة الشورى)

الصبر والتسامح صفتا أهل الإيمان
أن تصبر وتُسامح معاً هذه لا يُطيقها إلا أهل الإيمان، فيوسف عليه السلام الآن قال له: (ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) يوسف نَسَبَ لهذا الرسول الرب فقال له: (ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ) ثم قال: (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) فهو لمّا قاسَ الأمر على نفسه فرُّبه هو الله لأنه يَدينُ له بالطاعة أما أنتم فتتخذون أرباباً من دون الله فهذا ربُّك (ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ) ثم قال له: (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) وكأنه أيضاً يشير هنا إلى قضية التوحيد:

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
(سورة يوسف)

فهو ربُّك لأنك تدينُ له، ما مفهوم الرب؟ هو الذي يرجع الإنسان إليه ويدينُ له وهو الذي يظنُّ الإنسان أنه هو من يُعطيه ويمنحه ويَهَبُهُ فيرجع إليه، قال له (ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ).

لا ينبغي أن تُبقي نفسك في موضع الشبهة والتهمة:
إذاً قال له: (ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) حادثة المراودة طويلة، لكن جاء بقصة (النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) لشيئين، الشيء الأول: لأنها حادثةٌ بارزةٌ جداً في القصة، فأن يدخل يوسف والنساء يجرحنَ أيديهنَّ! هذا هو الحديث الذي انتشر أكثر في المدينة من انتشار الخبر الأول وهو مراودتها له، فجاء بالخبر الأكثر انتشاراً.
لا تُبقي نفسك في موضع الشبهة والاتهام
الأمر الثاني: أنّ هذا يُبرّئه أكثر لأن التهمة لم تعد فقط من امرأة العزيز فهؤلاء أصبحنَ أيضاً يراوِدْنَه عن نفسه، والدليل أنه بعد الحادثة كما مرّ معنا قال: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) لم تعد واحدة إنما أصبحت المؤامرة عامة، فلم تعد امرأة العزيز هي من تريد منه أن يُواقعها في المعصية وإنما أصبحت النسوة كلُّهن معها في الشر، فأراد أن يُبرِّئ نفسه من الشرِّ كلِّه فقال له: (ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) الله تعالى يعلم ما كادوه لي ولن أخرج حتى أُبرِّئ ساحتي وأخرج من غير تهمة، وهنا يعلمنا يوسف عليه السلام أنك لا ينبغي أن تُبقي نفسك في موضع الشبهة والتهمة ولو كنت تعرف نفسك بريئاً طاهراً، وهذا مصداقٌ لفعله صلى لله عليه وسلم:

{ كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ مُعْتَكِفًا، فأتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ، ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِيَ لِيَقْلِبَنِي، وَكانَ مَسْكَنُهَا في دَارِ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أَسْرَعَا، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: علَى رِسْلِكُمَا، إنَّهَا صَفِيَّةُ بنْتُ حُيَيٍّ فَقالَا: سُبْحَانَ اللهِ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وإنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُما شَرًّا، أَوْ قالَ شيئًا }

(صحيح مسلم)

الشيطان موجود وقد يوسوس لكما، فالإنسان ينبغي أن يُبرِّئ ساحته دائماً ولو كان يعلم نفسه أنه على حق، ولا يقول: إذا كنت أعلم أنني على حقّ فلا يُهمني الناس، لا يا أخي، تعلم أنك على حقّ وحاول أن تُبرِّئ ساحتك أمام الناس، الآن إن اتهموك ظلماً وبهتاناً فحسبك الله، لكن أن تضع نفسك موضع التهمة ثم تلوم الناس إذا اتهموك فهنا المشكلة، فهذا أيضاً درسٌ من يوسف عليه السلام لا يريد أن يخرج ثم بعد حين يصبح عزيز مصر ومازالت النسوة ومازال الرجال يتهامسون: أترون ذلك العزيز عزيز مصر هذا الذي راوَدَ يوماً امرأة العزيز، فأراد أن يَشِيعَ خبر براءته كما شاعَ خبر تهمته وهذا من حكمة وأدب الأنبياء، فقال: (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ).

إعجاب الملك بسيدنا يوسف:

قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ۚ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
(سورة يوسف)

طهارة النفس وعِفَّتُها أهمُّ من حرية الجسد
الآن قال الملك: (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ يخاطب النسوة، أُعجب بيوسف أيَّما إعجاب وازداد إعجابه به الآن لما رأى من عِفَّته وطهارته، وأنه لا يريد أن يخرج من السجن وأنّ السجن عنده والحرية سواء ما دام متهماً، فالبراءة عنده أهم، أي إن طهارة النفس وعِفَّتُها أهمُّ من حرية الجسد، وهذا لا يُطيقه إلا الصادقون أن تكون القيم أهمَّ عندك من حرية الجسد، وأن تكون طهارة النفس أهمَّ عندك من حرية الجسد، فلسان حال يوسف: أبقى في السجن ولا أخرج وأنا متهم تهمةً باطلةً، فإذاً ازداد إعجاب الملك به وبعِفَّتِه، وهذا درسٌ لكل من يقف على أبواب الحكام والأمراء والسلاطين ويتزلَّف ويبيع دينه ويقول قولاً مخالفاً للحق لإرضائهم، وهو يظنُّ بذلك أنه ينتزع إعجابهم وهو في الحقيقية لا ينتزع إلا احتقارهم له، لأنهم يعلمون نِفاقه وهو يتكلَّم، ويشيرون له بالموافقة وهم يعلمون بأنه يتكلَّم كذباً:

بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ (15)
(سورة القيامة)

فهذا درسٌ للجميع لا تقف بباب أحدٍ إلا بباب الله، جاءه الفرج واللقاء مع الملك وما قال له: والله أقف في خدمتك يا سيدي وأنت قُل لي ومرني بما تشاء.. ولو فعل لربما احتقره الملك وما وافق على أن يجعله عزيز مصر، وحاشاه أن يفعل وهو نبيُّ الله أن يتزلّفَ لأحدٍ من خلقه، فلمّا عزّ بنفسه عزَّ عند الناس، لكن عندما يهون الإنسان أمام نفسه يصغرُ عند الناس ولو أجلُّوه إلى حين، لكنهم يعلمون أنه صغيرٌ وأنه لا قيمة له.
إذاً جَمَعَ الملك النسوة ليتحرّى عن الموضوع وقال: (مَا خَطْبُكُنَّ) والخَطْبُ: هو الأمر العظيم الجلل، فقال: (مَا خَطْبُكُنَّ) لأنّ الأمر أُذيع وانتشر حتى أصبح عامّاً شاملاً فقال: (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ) الملك الآن مقتنع؛ وفي الأصل بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات على براءة يوسف، بدا لهم أن يسجنوه من أجل لَمِّ الفضيحة، فالقصة معروفة، لكن الآن إظهار الحقيقة أمام الناس (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ) يوسف لم نَعلَم عليه؛ لم يقل: ما علمنا عليه سوءاً ولم يقل: ما علمنا أنه سيء، وإنما قُلن: (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ) فهذه نكرة (سُوءٍ) جاءت قبلها مِنْ لتستغرِق أفراد السوء، يعني لم نعلم عليه أيَّ شيءٍ يَسوؤه، ليس فقط أنه لا يُراود امرأةً أو يطلب منها الحرام، لكن أصغر من ذلك، نظرةُ حرامٍ لا ينظرها (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ) أي ليس عنده لا نظرةُ حرام ولا أن يمسَّ من حرام ولا أن يُصافح بحرامٍ مثلاً، ولا ولا ولا إلخ..

اعتراف امرأة العزيز بالحقيقة:
(قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) المعنى: الباطل له حِصَّة والحق له حِصّة لكن في النتيجة حِصَّة الحق أقوى من حِصَّة الباطل، فـ (حَصْحَصَ الْحَقُّ) أي ظهر واستبان وأخذ حصته الكاملة، (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) لم يعد هناك مجالٌ للموارَبة أو للإنكار أو لأي شيءٍ من هذا القبيل، (قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ) وتقول ذلك بمحضر الناس، والواضح من الآيات أن يوسف ليس حاضراً، حتى الآن لم يخرج من السجن كما يذكر البعض أنه أُخرج ليرى المحكمة، والله أعلم لم يكن موجوداً، (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ) وهذا اعترافٌ صريحٌ والاعتراف سيِّدُ الأدلة قالت: (أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) وتؤكِّد ذلك بجُملةِ مؤكدات، المؤكد الأول: هو الجملة الاسمية، والجملة الاسمية في اللغة العربية مؤكدة، غير الجملة الفعلية، إذا قلت: يدرس الطالب، الآكدُ منها أن تقول: الطالب دارسٌ، هذه آكد، ثم إنها أكدتها ب (إِنَّ) وإِنَّ تفيد التوكيد، فإن قلت: السماء صافيةٌ، شيء، وإن قلت: إنَّ السماء صافيةٌ، شيءٌ آخر يُفيد التوكيد، ثم أكدتها ب (اللام) التي تأتي في خبر (إِنَّ) قالت: (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) زيادةً في التوكيد، اعترفت.

حقيقةٌ ثابتةٌ لا تتغير:

ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
(سورة يوسف)

يجب أن نفهم قوانين القرآن الكريم
(ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ) أي يوسف (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) قالت: (لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ أتكلم الحقيقة في غيابه، هناك خيانةٌ في الشهادة، وهناك خيانةٌ في الغيب، قالت: (ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) قلت الحق، (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) وهذه العبارة سواءً كانت من كلامها؛ كما يذكر أكثر المُفسرين، أو غير ذلك، لكنها حقيقةٌ وقانونٌ ينبغي أن نفهمه تماماً، الخائن يَكِيد، والكيدُ يفعله دائماً الضعيف ليصل إلى مآربه، لكن الله تعالى لا يهدِي كيد الخائنين، فمهما بدا لك أن الخائن قد وصل إلى مُبتغاه قل: إنَّ الله لا يَهدي كيد الخائنين، كما أنك مهما بدا لك أن المُفسِدَ قد وصل إلى مبتغاه فقل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) يجب أن يكون إيماننا بالقرآن أكثر من رؤيتنا لبعض الوقائع التي تُوهِمُنا بخلاف ذلك، تقول: هذا مُفْسِدٌ لن يُصلِح الله عمله لأنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ، ولَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ، ولا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، هذه قوانينٌ في القرآن الكريم ينبغي أن نفهمها، خائنٌ والله تعالى يهديه لتحقيق كيده معاذ الله!! ربما إلى حيٍن ليتحقق الامتحان، وإلا لو كان لا يُحقق له مبتغاه من اللحظة الأولى لما أقدم خائنٌ على الكيد، ولما أقدم مُفسِدٌ على إفساد، ولما ترك مُحسِنٌ إحساناً يرجو أجره لأن كلَّ شيءٍ محقق، يعني لو كان الله عزّ وجلّ تُحسِن فيأتيك الأجر فوراً بعد دقيقة، كل الناس يحسنون لا حبّاً في الإحسان وإنما حبّاً بالأجر، فالله تعالى يُؤخّر مكافأة المُحسِن ويُؤخّر معاقبة المُسيء لكنه لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ، ولَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ، ولا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ، ولا أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ، ولا أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ هذه سُننه في الأرض.
فقالت:(وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ*ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ)

سبب اعتراف امرأة العزيز:

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ(53)
(سورة يوسف)

هذا أولاً دليلٌ على على أنّ العصر عموماً الذي قلنا: إنه عصر الهكسوس الذي ذهب به الفراعنة وجاء الهكسوس، عصر الرُّعاة، وهذا إعجازٌ قرآنيٌّ لأنه يذكر ملكاً ولم يذكر فرعون لأنه ليس في عصر الفراعنة في مصر، فهذا العصر كان فيه بقايا إيمان، نلاحظ فيه أنّ العزيز والملك وامرأة العزيز تكلَّموا بقضايا فيها بعض الإيمانيات، فهذا يدلٌّ على أنّ هذا العصر كان فيه بعض الإيمانيات.
حبُّ أحدهم يجعلنا نتقرَّب إليه بما يُحبه
الأمر الثاني: قال بعض المفسرين: إنّ امرأة العزيز ما يزال قلبها مُعلَّقاً بيوسف عليه السلام حتى تلك اللحظة، فأرادت أن تستجلب قلبه بما تعلم بأنه يُحبُّه وهو الاعتراف بالخطأ وعدم تبرئة النفس والقول (إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) وهو الإله العظيم جلَّ جلاله مع أنهم كانوا يتخذون الملوك أرباباً من دون الله، ولكن أرادت أن تتقرب إليه بما يُحبه وهذا شأن المحب، فإذا أحبَّ الإنسان شخصاً جعل يتقرَّب إليه بما يُحبه هذا الإنسان، فقالت: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) وهذه حقيقةٌ أيضاً سواءً أيضاً على قول من قال: إنها تتمَّة كلامها، أو على من قال: إنَّ يوسف أجابها (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) فهو قولٌ حقٌّ أكّده القرآن الكريم (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) وهنا أيضاً المؤكدات السابقة نفسُها: (إِنَّ) و(اللام) والجملة الاسمية (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) وأُضيفَ لها توكيدٌ آخرٌ وهو أنها لم تقل: إنَّ النفس لآمرةٌ بالسوء، وإنما قالت: (لَأَمَّارَةٌ) أي كثيرة الأمر، فنفسك لا تأمُرك مرةً فتتركها ولا تستجيب لها فتتركك وتملُّ منك، ولكنها تُعيد الكرة وتُعيدها وتُعيدها ولا تيأس منك إلا بعد أن تعلم أنك لن تُجيبها، لكن تبقى تأمرُ بالسوء، لكن يَخفُّ أمرها عندما ترى أنك مصرٌّ على إيمانك وعلى طاعتك (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي كثيرة الأمر بالسوء، (إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمر:

{ إيهٍ يا ابنَ الخطابِ ! والذي نَفْسِي بيدِهِ ما لقِيَكَ الشيطانُ قطُّ سالكًا فجًّا؛ إلَّا سلَكَ فجًّا غيْرَ فَجِّكَ }

(صحيح الجامع)

لأن عمر شديدٌ في الله فلا يَقوى عليه شيطان، (إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي).

المغفرة والرحمة وقايةٌ وعلاج:

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53)
(سورة يوسف)

(إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) المغفرة والرحمة من أجمل ما قرأت فيهما أنهما علاجٌ وقائي وعلاجٌ دوائي إن صحَّ التعبير، المغفرة: تقع في الذنب فيغفر الله لك ذنبك، يستره عليك ويمحوه، هذه مغفرة، الرحمة: يملأ قلبك بسكينةٍ تمنعك من الوقوع في الذنب نفسِه مرةً ثانيةً، فالمغفرة هي العلاج والرحمة هي الوقاية، فرحمة الله إذا تجلَّى بها على قلبك منعتك من الوقوع في الذنب، ومغفرته أنك إن وقعت في الذنب جاءك الستر (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

الملك بعد أن رأى براءة سيدنا يوسف:

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
(سورة يوسف)

الآن الملك بعد أن رأى براءته وعِفَّته وطهارته وعِلمه وإحسانه، في المرة الأولى:

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ (50)
(سورة يوسف)

لم يقل: (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي)، بل (ائْتُونِي بِهِ) يُفسّر الأحلام بطريقةٍ عجيبةٍ جميلةٍ رائعة (ائْتُونِي بِهِ) هذا كلُّ ما لديَّ عنه (ائْتُونِي بِهِ)، لكن الآن المرة الثانية (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) لو جاءه في المرة الأولى لمجرَّدِ أن قِيل له: اخرج من السجن، فخرج وهو متهمٌ ثم أصبح الناس يتهامَسون عليه لربَّما الملك ينفرُ منه بعد حين، لكن الآن (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) لم يقل: ائْتُونِي بِهِ من أجل أن يعود كما كان عبداً في القصر وخادماً بل (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أريد أن أجعله خالِصاً لي.
"سُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ الْمُلُوكَ عَبِيدًا بِمَعْصِيَتِهِمْ، وَجَعَلَ الْعَبِيدَ مُلُوكًا بِطَاعَتِهِمْ"
{ امرأة العزيز }
يوسف لا يستخلِصه لنفسه إلا خالقه جلَّ جلاله
دخل السجن مُتهماً خرج منه إلى قصر الملك، خرج من القصر عبداً وعاد إليه أهمَّ من عزيز مصر لأنه سينقذ البلاد الآن، بيده الخلاص، هو فسَّر الحلم والآن سيطبِّق ما فسَّره على أرض الواقع (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) ويوسف لن يستخلصه أحدٌ إلا الله، فهو من عباد الله المخلصين، لكن هذا قول الملك، يظنُّ أنه يستخلِصه لنفسه، لكن يوسف لا يستخلِصه لنفسه إلا خالقه جلَّ جلاله.
(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ) الآن انتقل من السَّماع إلى المُعاينة (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) أخذٌ وردٌّ.

( قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
(سورة يوسف)

(مَكِينٌ) أي أنت في مكانٍ لا يستطيع أحدٌ أن ينالَ منك، محفوظ، (أَمِينٌ) والأمين: أنت مؤتمنٌ على ما نريده منك، بعبارةٍ أخرى هي الخبرة والولاء.

قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
(سورة القصص)

فالقوَّة جزءٌ والأمانة جزءٌ آخر، فهنا يوسف (مَكِينٌ أَمِينٌ) ممكنٌ محفوظٌ ومؤتمن، الأمران معاً.

طلب سيدنا يوسف للولاية:

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
(سورة يوسف)

القحط كان عاماً عند طلب يوسف للولاية
يوسف الآن يطلب ولاية (اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ) وطلب ولايةً محددةً وهي أن يكون مسؤولاً عن القُوت والغذاء (خَزَائِنِ الْأَرْضِ) جمع خِزانة وقال: الأرض لأنه كما سيتضِّحُ لنا بعد قليلٍ أن هذا القحط كان قحطاً عاماً ولم يكن خاصاً فقد جاءه إخوته من مكانٍ آخر، فالقحط عمّ، فيوسف يقول: الأرض بهذا المعنى أو الأرض بمعنى الأرض المعهودة وهي أرض مصر، على الحالتين، (اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ).
(إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) عندي خبرة وعندي أمانة، الأمانة والخبرة، (حَفِيظٌ) أحفظ بخبرتي الأمر، لا أضيع الأموال، لا أهدر المال العام (عَلِيمٌ) عندي خبرةٌ، أمانةٌ وخبرة، كعِلم الحديث؛ في عِلم الحديث يُطلب من كل راوٍ أن يكون ضابطاً، ثقةً، العدالة هي الأمانة، والضبط هو الحفظ (حَفِيظٌ عَلِيمٌ).
(اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) عندنا هنا سؤالان، السؤال الأول: كيف يطلب يوسف الولاية والنبي صلى لله عليه وسلم كما في الصحيح يقول:

{ إِنَّا وَاللَّهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ }

(رواه البخاري)

في قواعد الإسلام أن من يقول لك: اجعلني وزيراً، لا تجعله وزيراً، ائتِ بإنسانٍ تطلب منه فيقول لك: أعفني أرجوك، لأن هذا يكون نظيفاً في الأعمِّ الأغلب، أما الذي يطلب فيغلِبُ أن لديه مآربَ أخرى، ففي قواعد الإسلام أنه لا يُولَّى من طلَب.
الأمر الثاني: أن يوسف يَمْدَحُ نفسه (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) والله تعالى يقول:

فَلَا تُزَكُّوٓا۟ أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ (32)
(سورة النجم)

لا تقل عن نفسك: أنا فلان، حسناً كيف نُجيب على ذلك؟ من أسهل الأجوبة أن نقول: إن هذا شرعة يوسف وشِرَعُ من قبلنا ليست شِرَعَاً لنا، كما قال بعض الناس لما وصلوا إلى الكهف:

قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
(سورة الكهف)

فهل يجوز أن نتخذ مسجداً في ديننا على الأولياء الصالحين؟ كحكمٍ شرعيٍّ لا يجوز، فشِرَعُ من قبلنا ليست شِرَعَاً لنا، هذا أسهل الأجوبة لكن أنا لا أقتنع به حقيقةً، لا أُنكره لكن لا أقتنع به.

عدم طلب الولاية لا يعني الانسحاب وعدم تحمل المسؤولية:
أهمية المبادرة وتحميل المسؤولية في بناء المجتمع
أعتقد أن المسألة أعمق من ذلك، هذه المسألة مسألةٌ مختصةٌ بأعماق النفس فليس لها علاقةٌ فقط بالشريعة، بل لنفهم لماذا طَلَبَ يوسف عليه السلام؟ طائرةٌ وأحد مرضى القلب على متن الطائرة أصابه احتشاءٌ قلبيٌّ حادّ، وبدأ مضيف الطيران أو كابتن الطائرة يُنادي على الناس: إن كان هناك طبيبٌ فليأتِ هذا معروفٌ في الطيران، إن كان هناك طبيبٌ فليأتِ إلينا، فأحد الأطباء جالسٌ فقال في نفسه: لن أطلب هذه الولاية، نقول له: هذا انسحاب من الشأن العام، يوجد خطر، ليست الأمور مستقرَّة، هنا يقول: (اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ) عندي مشكلةٌ جسيمة، عندي سبع سنواتٍ عجافٌ إذا لم نقم بحقِّها كما ينبغي فهناك مشكلة، فيوسف الآن يعرِّض نفسه للخطر، يأتي في وقتٍ عصيب، يريد أن يحمل مسؤولية لا يُنكر أحدٌ أنها مسؤوليةٌ عظيمةٌ يهرب منها الناس، الوقت ليس وقتَ مغانمٍ هنا، الوقت وقت مغارم، فهو يطلب مغرَمَاً هنا ولا يطلب مغنَمَاً، وينبغي أن نقتدي به عندما تجد في منطقة ما يوجد مغْرَم وأنت تستطيع أن تفعل قل: أنا طبيبٌ مختصٌّ بهذا الموضوع، ابتعدوا أنا أريد أن أقوم بالأمر، لا تقل: أنا أنسحب حتى لا أطلب الولاية ولا أُزكِّي نفسي، زكِّ نفسك وعرِّف بنفسك من أنت واقتحم حتى لا يقتحم غيرك فيؤذي، وهذا معنى ينبغي أن نستفيده.

الأحكام الشرعية تُطبَّقُ على مجتمعاتٍ مسلمةٍ ولا تُطبَّقُ في الفراغ:
الأحكام الشرعية ليست منفصلةً عن المجتمع
الأمر الأخير الذي أريد أن أقوله هنا أيضاً في المسألة نفسها: الأحكام الشرعية في الإسلام ليست منفصلةً عن المجتمع، بمعنى أن المجتمع هو الذي بنى الفقه الإسلامي، المجتمع السليم المؤمن هو الذي نفذ الأحكام التي تُطبق، أحكام الشريعة لا تُطبَّقُ في الفراغ، أحكام الشريعة تُطبَّقُ على مجتمعٍ مسلم، اليوم من أسوأ ما يأتينا من فتاوى؛ أنك تجد أحياناًسؤالاً عن حد الردّة، مثلاً، يا أخي حدّ الردّة بغض النظر عن تفاصيله التي لن نخوض بها الآن لأنه ليس وقتها، لكن حدّ الردّة يُطبَّقُ على مجتمعٍ مسلم، حد الردّة هو حمايةٌ لمجتمعٍ مسلم، فإذا كان المجتمع المسلم غير موجودٍ أصلاً، وإذا كان عقل الإنسان محدوداً فمن الطبيعي أن يُنكر حد الردّة لأن فيه إكراهاً على الدين، لأن المجتمع الذي يُطبَّقُ فيه الحكم ليس موجوداً، أما أن يكون عندنا أمةٌ إسلاميةٌ مسلمةٌ حقيقةً بلغت فيها أنها تُطبَّقُ أحكام الشريعة وتصل إلى الحدود التي هي آخر المطاف التي هي السياج الذي يحمي الدين، فالأحكام الشرعية تُطبَّقُ على مجتمعاتٍ مسلمةٍ ولا تُطبَّقُ في الفراغ.
فلما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إِنَّا لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ من سَأَلَهُ) لا نُعطي الولاية من طلبها، في الوقت نفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم مَن مِن أصحابه يُحسِنُ الإدارة، ومن يُحسِنُ الفرائض، ومن يُحسِنُ جمع القرآن، ومن هو أمين هذه الأمة، ومن، ومن.. يعلم خبرات أصحابه ويضع كلَّ شخصٍ في موضعه، عندها يقول:(إِنَّا وَاللَّهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ) لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من يضع كلَّ إنسانٍ في موضِعه ولايضيِّعُ لإنسانٍ عمله، أما عندما تكون في مجتمعٍ يُعيَّنُ الناس بالوسائط وبالرشاوى وتقول لشخص: لا تزكِّ نفسك! لا يا أخي سأزكِّي نفسي وسأقول: أنا خبيرٌ بهذا الموضوع وأنا أريد أن أتسلّمه لأن المجتمع غير متجانس وغير صحيح لتطبيق أحكام الشريعة في الأصل، فلا ينبغي أن نفصِلَ أحكام الشريعة عن الواقع، أحكام الشريعة مبنيةٌ على واقعٍ إسلاميٍّ صحيح، اليوم معظم أمورنا التي نتداول بها أحكام الشريعة نفصلها عن الواقع فنقع في هذا الإشكال.
تخيَّل عندما تريد أن تدرس أي حكمٍ شرعيٍّ أنه كان يُطبَّقُ في مجتمع المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، طبعاً هذا أقوله على مستوى الأحكام الشرعية السياسية العامة والحدود والعقوبات والسياسة الشرعية وليس على مستوى الصلاة والصوم، نحن اليوم نُصلِّي ونصوم وإن شاء الله أمام الله تبرأ ذِمَّتُنا وهذا الذي نريده، لكن عندما أنظر إلى الأعلى للذي أنا غير مسؤولٍ عنه أمام الله عزَّ وجلَّ، وإن كنت أحبُّه وأسعى إليه لكنني لست مسؤولاً عنه، عندما أنظر إلى الأشياء العُظمى لا تنظر إليها على أنك تريد أن تُطبَّقَ اليوم في واقعنا هذا المأساوي الذي نعيشه، انظر إليها على أنها تُطبَّق في مجتمعٍ مسلم، هذا هو الأمر.

سبب طلب سيدنا يوسف للوِلاية:
المسلم شخصٌ حكيمٌ يقود الأمور بشكلٍ صحيحٍ
فهنا يوسف عليه السلام كان مُحقَّاً تمام الحق، بل كان مُطالَباً بما فعل بأنه قال: (اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ) لن أترك أحداً من هؤلاء الشاردين والبعيدين، ثم من زاويةٍ أخرى كيف يُطبِّقُ يوسف دعوته ورسالته، الله تعالى هو الذي فتح له هذا الباب باب الإصلاح وهنا أيضاً شيءٌ مهمٌ جداً؛ كثيرٌ من الدول التي نهضت على يد أشخاصٍ معروفين باتجاههم الإسلامي بدأت بإصلاح دُنياهم، هذا واقع، فأنت عندما تُصلح لهم دنياهم يلتفتون إليك، فيوسف كان هذا طريقه، الطريق الذي فتحه الله ليوسف بالدعوة أن ينجح في حفظ قوت الناس في السنوات السبع العجاف، فيكون ذلك باعثاً لهم إلى النظر إليه على أن المسلم ليس شخصاً عادياً، وإنما شخصٌ حكيمٌ يقود الأمور بشكلٍ صحيحٍ ومؤيَّدٌ من السماء طبعاً فيستجيبون له، فيوسف الآن يريد أن يُؤدي رسالته فإن لم يكن على خزائن الأرض فلن يستطيع أن ينشر دعوته وأن ينشر الحق في الأصقاع، فطلب الوِلاية من أجل أن يصل إلى الهِداية، فقال: (اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) وهنا يقول تعالى:

وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
(سورة يوسف)

وبدأ هنا امتحانه الذي لا يقلُّ عن امتحاناته السابقة ولكنه من نوعٍ آخرٍ، إنه امتحان التمكين بعد امتحانات الاستضعاف، فجاءه امتحانٌ جديدٌ هو امتحان التمكين في الأرض (وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ).
وفي اللقاء القادم إن شاء الله تعالى سنتحدث عن امتحان التمكين وأكتفي بهذا القدر، وأستغفر الله العظيم وأسأل الله لي ولكم السلامة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.