عودة إخوة سيدنا يوسف إلى أبيهم وبقاء بنيامين في مصر

  • الدرس الثالث عشر: شرح الآيات 81 - 87
  • 2021-09-04

عودة إخوة سيدنا يوسف إلى أبيهم وبقاء بنيامين في مصر

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين.


إغفال القرآن الكريم التفاصيل في القصص القرآنية:
وبعد: مع اللقاء الثالث عشر من لقاءات سورة يوسف، ومع الآية الواحدة والثمانين من السورة وهي قوله تعالى:

ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
[ سورة يوسف]

القرآن الكريم يغفل في القصة كثيراً من التفاصيل
الآن هذا الرجل الأكبر في إخوته، كبيرهم، ويقال إن اسمه شمعون كما في التاريخ والله أعلم، وقلت سابقاً: إن القرآن الكريم يغفل ذكر الأسماء، أصحاب الكهف ما أسماؤهم؟ لا نعلم، ما أعدادهم؟ لا نعلم، إخوة يوسف ما أسماؤهم؟ لا نعلم، القرآن الكريم يغفل في القصة كثيراً من التفاصيل، ولا يبرز من التفاصيل إلا ما يخدم القصة، إغفاله للتفاصيل؛ تفاصيل الأسماء، والأمكنة المحددة، والأزمنة المحددة لسببين، السبب الأول في القصص القرآني حتى لا ينشغل الإنسان بالتفاصيل ويترك العبرة، وفي القصص غير القرآني يغرق بالتفاصيل، تقرأ رواية من أربعمئة أو خمسمئة صفحة الحدث كله يأخذ عشر صفحات، يغرق بالتفاصيل وبالوصف لأن غايته الإمتاع الأدبي، وغايته أن يسليك، تأخذ وقتاً في القراءة، القصص القرآني عنصر الإمتاع موجود، الإنسان فينا يقرأ سورة يوسف يستمتع بهذه القصة ويتغذى بها، لكن ليس الهدف الرئيس من القصص القرآني تحقيق الإمتاع، وإنما تحقيق الهدى، وتحقيق الدلالة والهداية إلى الله، وتحقيق العبرة:

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
[ سورة يوسف]

فالقصص من أجل العبرة لا من أجل الإمتاع، فإذا كثرت التفاصيل خرجت القصص عن الهدف الذي جاءت به، وانشغل الناس بالتفاصيل، هذا السبب الأول.
أراد الله للقصة أن تكون قانوناً إلى يوم القيامة
السبب الثاني في أن القرآن الكريم يغفل التفاصيل في القصة أن الناس عندما يقرؤون القصة بتفاصيلها يخيل إليهم بعقلهم الباطن من غير أن يشعروا أن هذه القصة وقعت وانتهت ولن تعود، وكأنها تعني أفرادها فقط، أي ربنا يتكلم عن هؤلاء الناس ولا يتكلم عنا نحن، فالقصة لا تستمر كقانون إلى يوم القيامة، لكن الله عز وجل أرادها أن تكون قانوناً إلى يوم القيامة، أي بكل عصر وبكل مصر يمكن أن يقع إنسان في امتحان السجن، ويمكن أن يقع آخر بامتحان الجب، ويمكن أن يقع ثالث في كيد الأخوة، ويمكن أن يقع رابع في مكر امرأة العزيز، أو امرأة قوية تدعوه للمعصية.

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: سَبْعَة يظِلُّهمُ الله في ظِلِّهِ يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه: الإمامُ العادلُ، وشابّ نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه مُعَلَّق بالمسجد، إذا خرج منه حتى يعودَ إليه، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا على ذلك وتفرَّقا عليه، ورجل دَعَتْهُ امرأة ذاتُ مَنْصِب وجمال، فقال: إني أخافُ الله ـ رب العالمين ـ ورجل تَصدَّق بصدقة فأخْفاها حتى لا تعلم شمالُهُ ما تُنْفِقُ يمينه، ورجل ذَكَرَ الله خاليا ففاضت عيناه }

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ومالك]

بكل مكان وزمان يمكن أن يتعرض مجموعة من الناس يعبدون الله للضغوط وللأذى، ويفرون كما فعل أصحاب الكهف، فلو ذكرت أسماؤهم لتوهمنا من حيث لا نشعر أن القصة خاصة بمن حصلت معهم، لكن القرآن الكريم أراد أن تبقى قانوناً إلى يوم القيامة، عندما قال ربنا عز وجل:

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
[ سورة الأنبياء]

يقول تعالى:

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ (88)
[ سورة الأنبياء]

انتهت القصة، قال: (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) إلى يوم القيامة، القصة قانون وليست أفراداً وأحداثاً وأزمنة وقعت وانتهت.

الله تعالى هو خالق الخير وخالق الشر تقديراً:
هنا هذا الرجل كبيرهم قال: (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ) هو نوى ألا يرجع إلى أبيه:

فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
[ سورة يوسف]

الإنسان ينسب الشيء إلى ذاته
الأرض هنا مصر، سيبقى في مصر، يعقوب كان في أرض كنعان قال: (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ) يعقوب (يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) حقيقة، هذا الذي حصل معنا (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) طبعاً الآن (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) ما قالوا إن أخانا سرق، لأن الإنسان من طبيعته من غير أن يشعر عندما يريد أن يحصّل شيئاً لذاته من خير، أو من منفعة، أو من مصلحة، ينسب الشيء إلى ذاته، وعندما يكون هناك شر ينسبه إلى غيره، حتى الناس للأسف يفعلون ذلك مع الله عز وجل، يفعلون ذلك مع الله، مع البشر عندما أرادوا في بداية القصة أن يأخذوا أخاهم ليوقعوا به، ما أرادوا أن يوقعوه قالوا:

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
[ سورة يوسف]

فلما توهموا أنه وقع في السرقة، ما قالوا إن أخانا سرق، قالوا: (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) صار ابنه، بعد أن كان يوسف أخاهم، أخوهم يوسف أرادوا أخذه، وتحقيق مصلحة لهم بإبعاده عن أبيه، فالإنسان من غير أن يشعر ينسب الخير لنفسه، وينسب الشر للناس، فإذا نجحت تجارته يقول لك: هذا جهدي، وعرق جبيني، وكله بكدي، وما لأحد فضل عليّ، لكن يوم يخسر في تجارته يقول لك: أنا كنت أحسن تاجر لكن الظروف كانت صعبة، وكورونا لم تدع لأحد شيئاً، ويأتي بكل الأعذار والمبررات التي تبرئ ساحته، هذه طبيعته، لكن الإنسان لا ينبغي أن يكون ذلك، المؤمن موضوعي، المؤمن ينسب من الخير ومن الشر لنفسه وينسب للآخرين من الخير ومن الشر بالمقدار الصحيح، فيقول لك: أنا أخطأت في كذا، وأصبت في كذا، الناس كيف يفعلون ذلك مع الله عز وجل؟ قال:

أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)
[ سورة النساء]

أي عندما تصيبهم السيئة: (يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) فماذا رد عليهم الله؟ (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) لماذا تنسبون السيئة لله وتنسبون الحسنة لأنفسكم؟ ثم قال:

مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)
[ سورة النساء]

كيف تستوي الآيتان؟ في الآية الأولى: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الحسنة والسيئة، ثم قال فيما بعد:(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) لأن السيئة في الأصل سببها الإنسان ثم تقع تقديراً من الله، أما الحسنة فمن الله عز وجل بالسبب والنتيجة، مثلاً أصاب الإنسان سيئة.

وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
[ سورة المائدة]

السيئة تبدأ من نفسك
فالسيئة تبدأ من نفسك عندما تخالف منهج الله تعالى، ثم تأتي عقوبة من الله والتقدير من الله (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) تقديراً، لأنه لا يقع شيء في الكون إلا بتقدير الله، لكن سبب السيئة من نفسك أنت، من خطأ ارتكبته.
مثلاً سيارة، مصنعة بأحدث تصنيع، وأحدث ماركة، وفيها كل متطلبات السلامة، وإنسان قادها بسرعة جنونية في طريق متعرج، فسقطت في الوادي، فتحطمت وأصبحت كتلة حديد، فجاء شخص جاهل وقال: ما أسوأ هذه الشركة التي صنعت السيارة، فنقول له: هذه السيئة ليست من الشركة، هذه من السرعة الجنونية التي قدت فيها السيارة.
(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) أي على الإنسان دائماً أن ينسب السوء إلى ذاته، وينسب الإحسان إلى الله، لذلك عندما قال تعالى على لسان الجن:

وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)
[ سورة الجن]

ما قالوا: وأنا لا ندري أشر أراده الله بمن في الأرض، مع أن الله أراده، لكن قالوا(أُرِيدَ) حتى لا ينسبوا الشر إلى الله، لذلك في الدعاء النبوي: " والشر ليس إليك " أي لا ننسبه إلى الله، لكنه يقع بقدر من الله، فالله هو خالق الخير وخالق الشر تقديراً فيقع ابتداء من الإنسان.

تأكيد أخوة يوسف دعواهم بمؤكدين لعل والدهم يصدقهم:
هنا: (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) نسبوا السرقة إلى ابنه وليس إلى أخيهم (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا) الشهود أن تشاهد، أن تشهد، أن ترى بعينك، وقالوا: لا تشهد إلا بما رأيت، أي الإنسان لا ينبغي أن يشهد إلا بما رأى، وهذا معنى قولنا في الصلاة وخارج الصلاة: أشهد أن لا إله إلا الله، وكأنك تشهد لله، وكأنك ترى وحدانيته رأي العين.
لأن أبا العتاهية قال: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد.
الشهيد شهد شيئاً مختلفاً عن الناس
فأنت حينما تقول: لا تقل: أسمع أنه لا إله إلا الله، ولا تقل: أقول لا إله إلا الله، بل قل: أشهد أن لا إله إلا الله، تشهد له وفق ما رأيت من خلقه، فكل شيء يشهد له بالوحدانية كأنك ترى وحدانيته بعينك، ولما سئُل أحد الشهداء الذين مرت ذكرى وفاتهم قبل أيام لما أُعدم سأله القاضي: ما معنى شهيد؟ قال: الذي يشهد أنه لا ينفعه ولا يضره إلا الله، فانطلق واستشهد في سبيل الله فالشهيد شهد شيئاً مختلفاً عن الناس.
(وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا) الشيء الذي حدث، لا ندري ما وراء ذلك، الآن كلام أخيهم منطقي إلى حد كبير (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا) لا نتهمه بالسرقة (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ) يوجد عندنا شهود، وعندنا غيب، شهادة وغيب، والله تعالى عالم الغيب والشهادة هنا (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا) هذا الشهود، (وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ) هذا للغيب الذي غاب عن أنظارنا، معنى الغيب أي غاب عنك، الشهود شهدته بحواسك، لكن أحياناً يصبح الغيب في مرتبة الشهود، عندما يكون الغيب خبراً صادقاً من الله تعالى، لذلك تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، لأن الشهادة مع أن لا إله إلا الله غيب في معانيه، لكن كل شيء يشهد له فأصبح أهم من الشهادة بالحواس، فهنا لما قال: (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا) هذا حواس، نحن كنا في البلد، ورأينا بأعيننا الصواع يستخرج من رحل أخينا، والناس كلهم قالوا: بنيامين سرق، سمعنا ورأينا بعيننا، أما الغيب فهل هناك أحد دس له الصواع في رحله؟ هل هناك خطأ هو أخذ الصواع ظنه له مع أغراضه لم ينتبه أي هو ما قصد السرقة؟ لا نعلم، هذا غيب، هذا يعلمه الله.
قال: (وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ) أخوهم عاقل ويتكلم بمنطق (وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ) لا نحفظ الغيب، ولا نعلم عنه شيئاً إلا في الحدود التي وصلتنا وهي عالم الشهادة فقط.

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
[ سورة يوسف ]

الصادق لا يستدعي أدلة
الإنسان عندما يتكلم ويخشى أن يكون كاذباً، أو يتكلم كذباً، يحاول مباشرة أن يستدعي الأدلة لصدق كلامه، الصادق لا يستدعي أدلة، يقول لك: حصل كذا، إذا قلت له: أين الدليل؟ يعتبر هذا إهانة له، يقول لك: أنت ابحث عن الدليل وحدك، لا تطالبني بالدليل، أنا شخص صادق، أقول لك: حدث ذلك وانتهى، لا يستجمع أدلة لأنه صادق، أما الذي كذب سابقاً الآن ولو صدق، هم الآن صادقون، لكن يعلمون أن والدهم لن يصدقهم فبمجرد أن يقولوا له: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) أي هات شهوداً (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) هل القرية تسأل؟ القرية في القرآن الكريم هي المدينة الكبيرة، نحن بمفهومنا اليوم عدد السكان إن كانوا عشرين ألف يسمونهم قرية، إذا كانوا أكثر فهي مدينة، يوجد قرية، وناحية، ومدينة حسب التقسيمات الإدارية، بالقرآن الكريم ربنا عز وجل يستخدم القرية، ويستخدم المدينة.

وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
[ سورة يس]

لكن القرية دائماً يستخدمها القرآن لتجمع بشري كبير فيه أخلاط من الناس، يستخدم القرآن القرية، استخدام القرآن للقرية غير استخدامنا البشري.
(وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) مع أن مصر كانت ربما أكبر وأضخم، أكبر من كنعان، لكن سماها قرية، لكن هل القرية تُسأل؟ يذهب إلى القرية يسأل الجدران والبيوت أم من سيسأل؟ أهل القرية، هذا يسمى في اللغة العربية مجازاً، مجاز مرسل علاقته المحل.
(وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) القرية لا تسأل لكن أهل القرية يسألون، لماذا قال: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) ما قال: واسأل أهل القرية؟ كل حدث يحدث في الكون يحتاج إلى فاعل يقوم به، وإلى مفعول به يقع عليه الفعل، يحتاج إلى فاعل يفعله، ومفعول به يقع عليه الفعل، وزمان يقع فيه الفعل، ومكان يقع فيه الفعل، وسبب يؤدي إلى وقوع الفعل، وقوة تنهض بهذا الفعل، ستة أشياء، أي حدث يتم، إذا أكل شخص، أكلَ، هذا حدث، يحتاج إلى فاعل الذي قام بفعل الأكل، وإلى مفعول به الذي هو الطعام، ويحتاج إلى مكان، صار بالبيت أو بالمطعم، ويحتاج إلى زمان، صباحاً، ظهراً، مساء، في الأول من أيلول، أو في العاشر من أيلول، ويحتاج إلى سبب، لو لم يكن جائعاً لما أكل، ويحتاج إلى قوة تنهض بالفعل التي هي اليد، وإلى مطابقة، وعين، وهضم، لتنهض بالفعل، هذا ينطبق على أي حدث يحدث في الكون، وكل هذه الأمور تجري بالحدث، والزمان، والمكان، ومخلوقات الله، وتجري بقدرة الله جل جلاله، لكن عندما يكون أهم شيء بالحدث هو المكان تسأل المكان، وعندما يكون أهم شيء بالحدث الزمان نوجه السؤال للزمان، يكون أهم شيء بالحدث هو الفاعل نوجه إلى الفاعل، هنا أهم شيء بالحدث هو مسرح الجريمة - إن صح التعبير - الذي وقعت فيه، صار هناك أناس، وانتبهوا لوقوع الأمر، وأذن مؤذن بينهم، فوجهنا الخطاب للقرية التي هي مكان الحدث، وليس إلى الفاعل الحدث، أو المفعول به، أو الشاهد على الحدث وجهنا السؤال.
أيضاً: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) كأن الخبر انتشر وطار حتى صارت جدران القرية تعرفه، عندما انتشر الخبر وذاع في القرية بأن بنيامين سرق، لأنه صار على رؤوس الأشهاد جعلهم يحملون بضاعتهم، ويمضون بعدما مضوا أذن مؤذن بينهم، اجتمع الناس، فكأن الخبر قد عمّ وانتشر حتى أصبحت القرية بجدرانها وبيوتها تعرفه (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ) أيضاً (وَالْعِيرَ) العير لا تسأل، ما العير؟ الجمال، النوق، البغال، الحمير، هي واسطة النقل، أيضاً وجه السؤال لواسطة النقل، لأن الحدث جرى في الرحل التي كانت على تلك العير والبعير، انظر إلى البلاغة القرآنية، فقال: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) إنّ حرف مشبه بالفعل يفيد التوكيد، اللام لام التوكيد(لَصَادِقُونَ) فأكدوا بمؤكدين أنهم صادقون فيما يقولون، لأنهم عهد منهم الكذب فأصبحوا بحاجة إلى كل تلك المؤكدات لعل والدهم يصدقهم في دعواهم.

صبر يعقوب على مصابه بلا شكوى لأنه نبي وهو قدوة للبشر:

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
[ سورة يوسف]

يعقوب عليه السلام، والدهم قال: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ) بل حرف إضراب يلغي ما قبله، أي كل ما سمعته منكم لن أصدقه (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ)، الآن يعقوب ببشريته لن يصدقهم، هنا لا يوجد وحي، لأن الأمر حصل، بالنتيجة الأنبياء بشر، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

{ إنما أنا بشر أرضى كما يرْضى البشر، وأغْضَبُ كما يغضب البشر }

[أخرجه مسلم ]

جعل الله الأنبياء بشراً ليكونوا قدوة لكل البشر
والأنبياء جعلهم الله بشراً من أجل أن يكونوا قدوة لكل البشر، لو جعلهم الله ملائكة لما كانوا قدوة لنا، لقال قائل منا: كيف نقتدي بهم؟ هم ملائكة ليس عندهم شهوات ونحن عندنا شهوات، ورغم أنه جعلهم بشراً، بعض الناس اليوم يقول لك: يا أخي أنا لست نبياً، ومن قال لك إنك نبي؟ لكن أنت مأمور بأوامر الشرع كما أُمر الأنبياء، أنت مأمور بالصدق والأمانة، أنت لست نبياً ولن تكون نبياً، لكن أنت مؤمن، والمؤمن يقتدي بالأنبياء، فلم يجعلهم الله ملائكة وإنما جعلهم بشراً، هنا ببشريته قال: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) هم لم تسول لهم أنفسهم، الآن بهذا الحدث لم تسول لهم أنفسهم، قبل ذلك لما جاؤوا على قميص يوسف:

وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
[ سورة يوسف ]

قال الكلام نفسه (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) لكن الآن ببشريته لأنه عهد منهم الكذب قال: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) سولت؛ أي يسرت لكم الوصول إليه، مع أن هذا الأمر لا ترتضيه الفطر السليمة، هذا (سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي يسرت أنفسكم قبول أمر لم يقبله صاحب الفطرة السليمة.
(بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) وكأن يعقوب ما زال ينتظر ابتلاءات أخرى من الله، فيصبر، ليس لي إلا الصبر، وقال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) وقلت لكم سابقاً إن القرآن الكريم قال:

وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)
[ سورة المزمل]

في القرآن وردت كلمة جميل ثلاث مرات، صبر جميل، وصفح جميل، وهجر جميل، الصبر الجميل؛ هو الصبر الذي يكون بغير شكوى، والدليل بعد قليل، قال:

قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
[ سورة يوسف]

أما الذي يقول لك: أنا صابر، وكلما جاءه وفد من الناس يحدثهم عن القصة من الألف إلى الياء، هذا صابر لكن ليس صبراً جميلاً، الصبر الجميل يكون صبراً بلا شكوى، تشكو إلى الله، لا مانع إن أتاك إنسان مؤمن، أخ، تفضي له ما بداخلك، الإنسان يحتاج إلى ذلك، لكن أقصد أنه يشكو دائماً، الحال ضيقة، كلما جاء لعنده شخص مؤمن، غير مؤمن، يشكو له ضيق الحال، يقول لك: أنا صابر، ما هذا الصبر! هذا ليس صبراً جميلاً قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ) عسى؛ فعل للرجاء، يرجو الله (أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) هما اثنان يوسف وبنيامين، فلماذا لم يقل: عسى الله أن يأتيني بهما جميعاً وإنما قال: (بِهِمْ)؟ لأن الثالث كبيرهم الذي قال: (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) صاروا ثلاثة، ويعقوب أب، أي من كان من أبنائه، سواء من كان محسناً أو لم يكن فهؤلاء أولاده، والإنسان لا يستغني عن أولاده، يعقوب نبي مرب، فقال: (أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) أي يوسف، وبنيامين، وشمعون إن صحت الأسماء كما في التاريخ.

الله تعالى عليم حكيم بكل شيء:
(إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)، هنا يصف الله عز وجل باسمين من أسمائه الحسنى وهما العليم والحكيم، وغالباً في القرآن الكريم ما يرتبط اسم العليم بالحكيم، جاء مثلاً:

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
[ سورة الشورى ]

مرة واحدة، لكن معظم القرآن عليم حكيم، أو العليم الحكيم، لماذا يرتبط العلم بالحكمة؟ لأن العلم هو المعرفة بالشيء، بجميع جوانبه، والخبرة أعمق من العلم، الخبير يعلم بواطن الأمور، والعليم يعلم ظواهرها، والله تعالى:

عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
[ سورة لقمان ]

العلم يحتاج إلى حكمة
الحكيم يضع الشيء في موضعه، الآن الإنسان قد يعلم لكنه لا يتصرف بحكمة فليس العلم دائماً يؤدي إلى التصرف الحكيم، كم من إنسان علم مثلاً أن ابنه يرتكب محرماً أو يصاحب أصحاب السوء، لكنه لم يحسن التصرف مع ابنه بعد أن علم ما علم فأدى ذلك إلى أن يستمر الابن في غيه وضلاله، لأن الأب لم يكن حكيماً في معالجة المعلومات التي وصلته، فالعلم لا يكفي، العلم يحتاج إلى حكمة من أجل أن تتصرف بناء على المعلومات بالشكل الصحيح، في الوقت الصحيح، في الزمان الصحيح، في المكان الصحيح.
فالله تعالى عليم حكيم، يعلم الآن في هذه الآية ما الذي حصل، يعلم أين يوسف، ويعلم أين بنيامين، ويعلم أين الثالث شمعون، ويعلم ما الذي جرى تحديداً في القصة الأولى يوم (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) والثانية يوم قالوا (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) كل ذلك يعلمه الله، وهو حكيم في الوقت الذي يفرج عني هذا الهم ويعيدهم إليّ، فأنا أسلم له الأمر، هو حكيم جل جلاله، الآن يعقوب عليه السلام في محنة، ومحنته شديدة ينتظر فرج الله عز وجل، لكن لا ينتظره بالوقت الذي يريده هو، وإنما في الوقت الذي يريده الحكيم جل جلاله (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
[ سورة يوسف]

وتولى عنهم؛ أعرض عنهم، تركهم لأنهم فعلوا ما فعلوا، وأحياناً الخلوة بالله عز وجل أفضل من الاختلاط بالناس.

مكانة يوسف في قلب يعقوب لا تزيلها المصائب الجديدة:
(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) كل المصائب التي جاءت بعد يوسف لم تنس يعقوب يوسف عليه السلام، هنا الحادثة الجديدة بنيامين، وشمعون (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) لم يرجع معهم، لكن يعقوب: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) أي يوسف له مكانة في القلب لا تزيلها المصائب الجديدة، أحياناً الإنسان تتجدد عليه المصائب- نسأل الله السلامة- فينسي الجديد القديم، لكن عندما تكون المصيبة القديمة هي أساس المصائب فإنه لا ينسيه شيء إياها، وكم اليوم من حالات نسأل الله عز وجل أن يفرج عن المهمومين من أمهات وآباء فقدوا أولادهم، أو لا يعلمون عنهم شيئاً، مفقودون، يقولون لك: لا نعرف هل هو حي أو ميت، لا ينسيه شيء ذاك الفقد، لكن ربنا عز وجل ينزل من الصبر على قدر البلاء.
(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى) يا؛ أداء نداء، أنا أريد أن أنادي محمداً أقول: يا محمد، هنا لماذا ينادي على الأسف؟ قال: من شدة الأسف والحزن على المصيبة كأن الإنسان يقول: يا همّ تعال فاحضر الآن، أي كأنه ينادي الهم ليأتي إليه لأن المصاب جلل فيستخدم أداة النداء مع الأسف فيقول: يا للمصيبة، يا لحزناه (يَا أَسَفَى).
الحزن الشديد من أسباب ابيضاض العين
(وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ) العين فيها بياض، وفيها سواد، المرأة الحوراء اختلط عندها سواد العين ببياضها، من جمال العين، عندما يبيض سواد العين، أي قد تكون مثل الماء الأبيض، اليوم يقال عنها: الماء البيضاء، بعد التقدم بالعمر، واليوم يثبت العلم من أحد أسباب ابيضاض العين هو الحزن الشديد، والبكاء المستمر، ربنا عز وجل من نعمه دموع العين، لأن دموع العين هي من تعقم العين، الدموع كأنك تعقم العين، هي قطرة معقمة للعين بشكل مستمر، والإنسان يفرز دموعاً بشكل دائم، وإلا لا تتعقم عينه، عندما يرمش يعقم العين كلها بالدموع، لكن عندما يحزن جعل الله تفريغاً للأسى بدمع العين، لكن عندما يكثر من الحزن، والأسف، والبكاء تبيض عينه من الحزن، اليوم يوجد علاج لها ومن كرامة الإنسان على الله تقدم الطب، اليوم عملية بربع ساعة وهو صاح بتخدير بسيط يسحبون العدسة المبيضة ويدخلون عدسة جديدة، حتى إنه يلغي النظارة، ويصبح نظره عشر على عشر، هذا من كرامة الإنسان على الله.
(وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) إذاً لا مانع للإنسان أن يحزن، وأن تدمع عينه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ ما كان من العين والقلب فهو من الله، وما كان من اليد واللسان فهو من الشيطان }

[ حدثه السيوطي]

القلب والعين رحمة، إذا تأثر قلبك فهذه رحمة، إذا دمعت عينك ولو على فراق أخ أو حبيب فهذه رحمة، لأن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم عندما فقد ابنه، قيل له: أتبكي يا رسول الله؟ قال:

{ إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا }

[ صححه الالباني ]

أما اللسان عندما ينطق ويقول عند المصيبة: لماذا حصل ذلك معي وأنا يجب ألا أصاب بذلك؟ ولماذا اختار الله فلاناً ولم يأخذ فلاناً والعياذ بالله؟ هذا من الشيطان، أو تتحرك يده، لطم الخدود، وشق الجيوب كما كانت تفعل النائحات، نسأل الله السلامة، أما العين فحزنها محمود، ولا شيء فيه.
(وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) كظمت قربة الماء، كظمتها؛ أي أغلقتها بإحكام، فالإنسان عندما يصبح كظيماً كأنه قد امتلأ حزناً، وهذا الحزن في داخله لا مخرج له، لكن من رحمة الله أن الدموع مخرج من مخارج الحزن، الإنسان أحياناً يبكي فيستريح من عناء المصيبة التي ألمت به نسأل الله السلامة، ونطلب منه دائماً أن يبعد عنا المصائب، (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ).

حزن يعقوب وبثّ حزنه الشديد إلى خالقه:

قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
[ سورة يوسف]

الحرض هو المشارف على الهلاك
(تَاللَّهِ) قسم، (تَفْتَأُ) أي ما تزال، أي تكرر (تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) حرضاً؛ أي مشارفاً، الحرض؛ هو المشارف على الهلاك، أي وصل لمرحلة قبل الهلاك بقليل (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ) تموت من شدة حزنك على يوسف، والحقيقة أن هذا الرد لا ينبغي، إذا كان إنسان حزيناً ليس من الحكمة أن تقول له: ما هذا الموضوع؟ لا تتعاطف معه، تقول له: والله المصاب كبير، ولكنه تحقق، تخفف عنه بأن تقول له: تعال لنخرج، انزل للعمل، خفف عنه، لكن لا تهون عليه الحدث نفسه، لأن الحدث كبير بالنسبة له.

قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
[ سورة يوسف]

إنما أداة حصر، أي لن (أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) البث؛ ألا تسمعون بالبث الإذاعي، والبث التلفزيوني، الانتشار، البث، يبث؛ أي ينشر، فهذا الشيء البث الذي في داخله، الذي امتلأ به ولا يجوز أن يبثه للناس، لن يبثه للناس، وإنما سيبثه لخالقه، وسيشكو حزنه إلى خالقه (إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) هنا النبوة، البشرية مرت معنا، هنا النبوة، النبوة: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) لأن هناك وحياً، يعقوب عليه السلام يعلم أن يوسف سيعود، الموضوع عنده محسوم بوعد من الله، في الوقت الذي يريده الله، وبرؤيا رآها يوسف ستتحقق.

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
[ سورة يوسف ]

ويعقوب الآن لا يماري في عودة يوسف، لكنه حزين على الفراق، لكنه يعلم أن يوسف ما زال حياً، (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).

الفرق بين التحسس والتجسس:

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
[ سورة يوسف ]

يعقوب يعلم أن يوسف حيّ، والدليل قال لهم: (اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا) يوسف لم يأكله الذئب، تحسسوا من الحس، وجمع حس حواس، والحواس المشهورة خمس حواس، وهناك حواس أخرى يدرسونها اليوم، لكن المشهورة هي الحواس الخمسة، هي السمع، والنظر، والشم، والتذوق، واللمس، التحسس هو أن تعمل حواسك من أجل أن تصل إلى المعلومة، تشغل حواسك كلها، تسمع، ترى، تشم، أن تصل إلى المعلومة فتتحسس، يوجد تحسس وتجسس التجسس يكون فيه تتبع الأخبار السيئة فيقال: جاسوس، ومتجسس، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: ' إِيَّاكُم والظَّنَّ، فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديثِ، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَجسَّسُوا، ولا تَنَافسُوا، ولا تحاسَدُوا، ولا تَبَاغضُوا، ولا تَدَابَروا، وكُونوا عبادَ اللهِ إِخواناً كما أمرَكُم، المسلم أخو المسلم، لا يظلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ. التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا - ويشير إِلى صدره - بِحَسْب امرئ من الشَّرِّ أن يَحْقِر أخاه المسلمَ، كلُّ المسلمِ على المسلم حَرَام: دمُهُ، وعِرْضُهُ، ومَالُهُ. إِن الله لا ينظر إِلى أجسادكم، ولا إِلى صُوَرِكم، ولكن ينظر إِلى قلوبكم وأَعمالكم }

[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي ومالك]

أي لا ينبغي لك أن تتبع الأخبار السيئة عن الناس ولا الأخبار الحسنة، هنا التحسس طبعاً بمعنى آخر، هنا تحسسوا أي ابحثوا بجميع حواسكم للوصول إلى المفقود وهذا مطلوب ولا حرج فيه، لكن تتجسس الناس أي تتبع أخبارهم، هل رفعوا له راتبه؟ هل تحسنت أموره؟ هذا تجسس، التجسس وقع في مصيبة، انفصل من عمله، تجسس (ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَجسَّسُوا) هنا: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) لماذا لم يذكر الثالث هنا؟ الثالث غير مفقود، الثالث ينتظر الفرج حتى يعود، مكانه معروف فلا يحتاج إلى تحسس.

المؤمن بعيد عن اليأس:
لا ينقطع الأمل عند المؤمن لأن الله موجود
(مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا) اليأس انقطاع الأمل، اليأس انقطاع الأمل من الشيء، أنت تقول: يئست من هداية فلان، أي أنا أرى أنه لن يهتدي، يئست من هذه التجارة أرى أن هذه التجارة لن تحقق لي الربح، يئست من هذا العمل، إلى آخره، فاليأس هو انقطاع الأمل، المؤمن ييئس؟ المفترض لا، لا ييئس إلا من ضعف في إيمانه، لا أقول من عدم إيمان، لا، قد يكون مؤمناً لكن يضعف إيمانه فييأس، لكن إذا كانت فيه قوة إيمان إن اشتدت عليه الكروب والخطوب لا ييأس، ما السبب؟ نحن عندنا أسباب، وعندنا مسبب الأسباب، فالمؤمن عندما تنقطع الأسباب الأرضية، مهما انقطعت الأسباب الأرضية لا ينقطع الأمل عنده لأن الله موجود، وهو مسبب الأسباب، أما البعيد عن الله، بالنسبة له كل شيء متعلق بالأسباب الأرضية، إذا قال الطبيب: لا يوجد علاج ييأس، إذا بحث عن زوجة مدة شهرين ولم يجد ييأس، إذا بحث عن عمل وذهب عاد، وذهب وعاد ولم يجد عملاً ييأس، لأنه مرتبط فقط بالأسباب الأرضية، والأسباب الأرضية انتهت بالنسبة له، يقول لك: أنا ما بقي باب إلا وطرقته، لم يبقَ باب لم أطرقه فأنا يئست، أما المؤمن فمازال عنده باب، وهذا الباب لا يراه الناس، وهذا باب الله، فلا ييأس، وهذا معنى (وَلَا تَيْئَسُوا) لأنه مستحيل أن ييأس المؤمن مهما تكاثرت الخطوب، هو يعلم أن هناك باباً يمكن أن يفتح بأي لحظة، والأعمق من ذلك يعلم أن الله عز وجل إن لم يفتح له هذا الباب فإنه لحكمة قد يجهلها، ولخير لا يعلمه، وينتظره عند الله شيء، فالأمل موجود، أي أنت مهما اشتدت الخطوب عليك عندك أمل.

أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
[ سورة القصص]

فهو ينتظر موعود الله مهما انقطعت الأسباب من يديه في الدنيا فمسبب الأسباب موجود، والأمل موجود، والآخرة موجودة، فاليأس ليس موجوداً عند المؤمن بمعنى اليأس المطلق، هو ينزعج، يخاف لحدّ معين، أي يصل إلى مرحلة يكاد.

حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
[ سورة يوسف]

أي الأوضاع صارت صعبة جداً لا ييأس.

اقتران اليأس بالكفر:
(وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) عندنا رُوح، وعندنا رَوح ، الرُّوح بضم الراء تطلق على.

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (85)
[ سورة الإسراء]

الروح هذه القوة التي يضعها الله في الجسد فتحوله إلى نشاط وحركة، وذهاب وإياب، وإذا نزعها عاد كتلة لحم، وعظم هامدة لا حراك بها، من أمر الله، يلقي الروح وينزع الروح جل جلاله، ما هي؟ لا يعرف أحد كنهها، وحتى اليوم الكنه غير معروف، هناك شيء يسحب لا أحد يراه، يخرج ويبرد الجسم وتذهب الروح، هذه الروح.

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
[ سورة الشعراء]

جبريل عليه السلام، أما الرَّوح فشيء آخر، الرَّوح.

فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89)
[ سورة الواقعة]

الرَّوح من الرائحة، إذا كنا جالسين بمكان حار جداً، صيف حار جداً، ولا يوجد هواء نهائياً، وجاءته نسمة عليلة، عندما جاءت يقول لك: تنشطنا، وهذه الريح حركت الأزهار فانطلقت منها الرائحة الجميلة هذه هي الرَّوح.
نفحات الله تأتي بغير مقدمات
(إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) أي نفحة من نفحات الله تأتي بغير مقدمات فجأة وأنت في شدة صمتك وهمك تأتي روح الله بسكينة في قلبك، بفرج من عنده، بحالة لم تكن تتوقعها، يفاجئك الله بما لم يكن يخطر لك على بال، هذه روح الله.
(إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) قرن اليأس بالكفر والعياذ بالله لأن اليائس من روح الله يقول لك: لم يعد هناك أمل، الأمة انتهت، جميعنا انتهينا، لن تقوم لنا قائمة، كأنه يكفر بالله، كأنه يقول: الله غير موجود، والله هو مسبب الأسباب، وهو الذي يفعلها في الوقت الذي يريد، ويعطلها في الوقت الذي يريد، (وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
والحمد لله رب العالمين